والآن علي أن أستقبل دوق النمسا ومن معه لا إكراما لهم، بل قياما بحقوق الضيافة.» قال ذلك وقام لمقابلة ضيوفه وإنزالهم في المكان المعد لهم، أما الملك ريكارد فجلس ينظم شروط المبارزة، وقضى عليها وقتا طويلا يشاور فيه دوق النمسا والسلطان صلاح الدين مرارا، ولما تمت الشروط كتبت بالعربية والفرنسوية، وأمضاها السلطان صلاح الدين والملك ريكارد والدوق ليوبولد، والأول بمقام فيصل في هذه المبارزة، والأخيران بمقام حاميين للمتبارزين على ما اقتضته المبارزة حينئذ، ثم دخل البارون ده فو على الملك ريكارد وقال: «إن الفارس المستعد للمبارزة منتظر أمر مولاه.» فقال له الملك: «أرأيته وهل هو في العدة الكاملة؟» فقال البارون: «نعم، وعليه الدرع البندقية التي عرضت على جلالتك للمبيع.» فقال الملك: «الظاهر أن هؤلاء البنادقة البخلاء باعوها لصلاح الدين.» فقال البارون: «يا حبذا لو كان مولاي يجتنب هذا الكلام، فإن الجميع قد صاروا أعداءنا بسببه، فإذا عادانا البنادقة أيضا فمن يساعدنا على الرجوع بحرا؟!» فقال الملك: «أصبت، ولكن لا تكثر اللوم والتعنيف. والآن أخبرني هل أتيت الفارس بمعرف؟» فقال: «نعم، أتيته بالناسك الكرملي الذي عرفه قبلا لما كان مستعدا للموت.» فقال الملك: «قل للفارس إنني لا أقابله إلا بعد أن يمحو وصمة ذنبه في ميدان النزال، واذهب إلى خيمة الملكة وقل لها أن تستعد لقدومي.» وبعد ساعة من الزمان ذهب الملك إلى خيمة الملكة فوجد أمام بابها واحدا من أشهر المغنين، فقال له: «علام لا تدخل؟» فقال: «لأن هؤلاء الخصيان يقطعونني إربا إربا إذا حاولت الدخول.» فقال له: «هلم معي.» فلما وقع نظر الخصيان على الملك أحنوا رءوسهم ووقفوا كالأصنام، فدخل هو والمغني والتقى هناك بالأميرة جوليا، فقال لها: «ألم تزالي حاقدة علينا يابنة العم؟» فقالت: «ومن يحقد على الملك ريكارد إذا ظهر بمظهره الطبيعي مظهر البسالة والنبالة والكرم.» قالت ذلك ومدت له يدها فقبلها علامة على المصالحة، وقال لها: «لا تظني يا عزيزتي أنني أظهرت ما لا يجب من الصرامة، فإن هذا الفارس قد تعدى واجباته، فهو مذنب شرعا، مهما كان السبب الذي دعاه إلى ذلك، وقد حانت له والحمد لله فرصة يخلع بها ثوب العار عنه ويلبسه للص الحقيقي، وهذا يسرني كما يسرك، ومهما لامني الناس على حدة طبعي، فلا حق لهم أن يلوموني على صرامتي؛ لأنني أقضي بالعدل حينما يجب العدل، وبالرحمة حينما تجوز الرحمة.»
فقالت له: «دع مدحك لغيرك، فقد يعد الناس عدلك جورا ورحمتك هوى.» فقال لها: «وأنت لا تفتخري علينا كأن فارسك خرج من الميدان منصورا؛ لأن كنراد منسرات (هو المركيز) بطل صنديد وقرم عنيد، فما يصيبك إذا قهر هذا الاسكتسي؟» فقالت: «إن ذلك ضرب من المحال؛ لأنني أنا رأيت كنراد يرتجف كالقصبة، فهو مجرم، والمبارزة ليست إلا بقضاء الله، والله يسكب كأس غضبه على رءوس المجرمين. ولو دعيت أنا لمبارزته لما تأخرت.» فقال: «هذا لا ريب فيه؛ لأنني لم أر أعرق منك في نسب بلتنجنت، ولكنني آمل أنك لا تنسين بعد منزلتك عن منزلة هذا الفارس.» فقالت: «ما معنى هذه النصيحة في مثل هذا الوقت؟ فهل تعدني من خفيفات العقول اللواتي يتقلبن مع الأهواء؟!» فقال: «كلا، ولكن أريد منك أن تقولي لي ماذا تكون منزلة هذا الفارس عندك إذا خرج من الميدان منصورا.» فاحمرت خجلا وقالت: «لا تكون منزلته عندي أكثر مما تكون عند الملكة برنغاريا لو حارب باسمها عوضا عن أن يحارب باسم فتاة حقيرة مثلي، وأنت تعلم أن أحقر الفرسان يمكنه أن يحارب باسم أعظم الملكات.» فقال: «ولكن هذا الفارس قد تحمل مشقات كثيرة من أجلك.» فقالت: «وأنا جازيته على قدر طاقتي؛ فكنت أفرح لسرائه وأحزن لضرائه، وهذا كل ما يناله مني.» فقال الملك: «كذا تقول البنات، ولكن إذا أتاهن طالب راغب ولج الطلب قلن: «هذا نصيبنا».» فقالت: «كن مطمئن البال يابن العم، فأنا ليس من نصيبي أن أتزوج بأحد إلا من ملتي ومن منزلتي، والآن أرجوك أن تدعني أسمع صوت المغني، فإنه أطرب لأذني من صوت توبيخك.»
الفصل السادس والعشرون
جرى الاتفاق على أن تكون المبارزة بعد شروق الشمس بساعة لشدة الحر في ذلك الغور. وكان طول ميدان المبارزة مائتي خطوة وعرضه سبعين خطوة، وهو ممتد شمالا وجنوبا لكي لا يتعرض أحد المبارزين لأشعة الشمس أكثر من رفيقه، ونصبوا شرقي الميدان عند منتصفه خدرا للملكة والنساء اللواتي معها لكي يرين المتبارزين والجموع المحتشدة، ولا يراهن أحد فلم ترض الملكة بذلك؛ لأن المرأة تحب أن ترى كما ترى، ولكنها سلمت به مراعاة لعوائد المشارقة. ونصبوا إلى غربيه عرشا للسلطان صلاح الدين، وعلى جانبيه عرشين آخرين؛ الواحد للملك ريكارد والآخر لدوق النمسا.
ورأى الدوق أن عرشه أوطأ قليلا من عرش الملك، فلم يرد أن يجلس عليه وعرف ذلك الملك فتجاهل وقال: «الأجدر بنا أن نبقى على فرسينا.» ولما أشرقت الشمس قام الملك ريكارد ومضى إلى حيث كان الفارس الاسكتسي، ورأى عدة حربه وجلاده، أما الدوق فلم يأت لرؤية المركيز؛ لأنه كان مترنحا بخمر شيراز التي قدمها له السلطان، فأتى رئيس الهيكليين عوضا عنه فمنعه الحرس من الدخول إلى خيمة المركيز وقالوا إن مولاهم قاصد أن يعترف أمام الناسك الكرملي.
فاضطرب الرئيس لما سمع ذلك. ودخل الخيمة غصبا عنهم، فرأى المركيز راكعا أمام الناسك، وقد هم أن يشرع في الاعتراف، فانتهره وقال له: «ما معنى هذا العمل؟! ألا تعلم أنني أنا هنا؟! فعلام لا تعترف لي؟! ثم أمر الناسك أن يخرج من هناك، فقال الناسك للمركيز: «إذا كنت لا تريد أن تعترف لي فأنا أخرج، ولكنني لا أخرج بأمر هذا الرئيس المتغطرس.» فقال المركيز: «كيف العمل؟ اخرج الآن وسنلتقي في وقت آخر.» فخرج الناسك بعد أن تهددهما بالعقاب. وجعل الرئيس يشجع المركيز ويشدد عزائمه، وسر بأنه منعه من الاعتراف عند غيره؛ لأن خفاياهما مشتركة.
ثم جاءت الساعة المعينة للمبارزة، وبوقت الأبواق واصطفت الفرسان حول الميدان، وركب الفارسان ورفعا المغافر عن وجهيهما، ودار كل واحد منهما ثلاث دورات، وكان الفارس الاسكتسي طلق الوجه باسما كأنه ذاهب إلى وليمة، وأما المركيز فكان عابسا مظهرا العظمة والعنفوان، فلم يخف ذلك على الناظرين إليهما، وكان الناسك والكهنة الذين حضروا معه قد أقاموا مذبحا بجانب خدر الملكة، فأتى الفارسان إلى هذا المذبح، وحلف كل منهما على الإنجيل الطاهر أنه محق في عمله وطلب من الله أن ينصر المحق منهما. وحلفا أيضا على أنهما لا يستعملان إلا الأسلحة العادية ولا يستخدمان السحر ولا الطلاسم، ودنا رئيس الهيكليين من المركيز وقال: «تشجع وتشدد وإلا فإن قهرت ونجوت من يد هذا الفارس فلا تنجو من يدي.» وصلى الكهنة وطلبوا من الله أن يقضي بالعدل بين المتبارزين، ثم بوقت الأبواق ونادى المنادي قائلا: «قد أتى الفارس وليم الاسكتسي بالنيابة عن الملك ريكارد ملك إنكلترا الذي ادعى على كنراد مركيز منسرات أنه خانه وأهان شرفه.» ونادى المركيز مبررا نفسه، وقال إنه راض بهذه المبارزة لتزكية قوله، وحينئذ تقدم حاملا الأسلحة، وقدما للفارسين رمحيهما وترسيهما، وكان على ترس الفارس الاسكتسي صورة النمر وسلسلة مقطوعة إشارة إلى أسره، وعلى ترس المركيز صورة أرض كثيرة الأطناف والصخور.
ووقف الفارسان أحدهما قبالة الآخر، وأرخى كل منهما مغفره على وجهه فتغطيا بالحديد، وأحدقت بهما العيون وشخصت إليهما الأبصار، ثم أشار السلطان فبوقت الأبواق وانقض الفارسان أحدهما على الآخر فالتقيا في حومة الميدان، وطعن كل خصمه طعنة ترقص لها عجائز وائل، فاستلقى الفارس رمح خصمه بترسه فتشظى الرمح شظايا صغيرة من سنانه إلى رجه. وتقهقر جواد الفارس سبع خطوات ووقع على عجزه، ولكنه أنهضه حالا فلم ينله مكروه. واستلقى المركيز رمح الفارس بترسه فخرق الترس والدرع والزردية وجرحه جرحا بليغا في صدره وألقاه عن ظهر جواده فوقع يتمرغ بالتراب، ثم استل الفارس سيفه ووقف فوق رأسه وقال له: «اعترف بذنبك!» وكان السلطان صلاح الدين والملك والدوق وغيرهم من الأمراء قد اجتمعوا حول المركيز، وكشفوا الخوذة عن رأسه فنظر إلى السر وليم وقال له: «قد قضى الله بالعدل وأنا المذنب، ولكن في مخيمنا من ذنبه أعظم من ذنبي، فارحموني وأتوني بأحد يعرفني.» فالتفت الملك ريكارد إلى السلطان صلاح الدين وقال له: «علينا بدوائك المشهور أيها السلطان لحفظ حياة هذا المركيز ولو ساعة من الزمان.» فقال السلطان: «إن هذا الرجل لا يستحق أن يحيا، ولكني إكراما لك أستعمل له الدواء.» ثم نادى خدمه وقال: «احملوه إلى خيامكم.» فتقدم الدوق والرئيس وقالا: «لا نريد أن تستعمل له أدوية مسحورة، ولا أن يحمل إلى غير خيامنا.» فالتفت إليهما الملك وقال: «ألا تريدان أن يعالج ويشفى؟» فقال الرئيس: «إذا أراد السلطان أن يعالجه فليكن في خيامنا.» فالتمس الملك من السلطان أن يتنازل إلى ذلك، ثم نادى رجاله وقال: «بوقوا بالأبواق.» ونادوا بشرف إنكلترا والتفت إلى السر وليم وقال له: «هلم أيها البطل إلى حضرة السيدات، فهن أعلم منا بمجازاة الأبطال.» ولما صارا في حضرة الملكة ناداها ونادى الأميرة جوليا، وطلب منهما أن تنزعا أسلحة الفارس بيديهما إكراما لما أظهره من القوة والبسالة، فركع أمامهما وجعلتا تنزعان أسلحته كما أمرهما الملك، ولما نزعتا الخوذة عن رأسه وبان وجهه الصبوح من تحتها قال الملك: «أهذا وجه العبد النوبي أم هو وجه فارس مجهول الحسب والنسب؟ لا وتربة أجدادي ههنا انتهت مدة تخفيك أيها الأمير العظيم، فقد ركعت أمامنا ولا يعرف من أمرك إلا ما اشتهرت به من البسالة والإقدام، فقم مكللا بالمجد والشرف، قم أيها البرنس داود ابن ملك اسكتلندا وولي عهده!»
فاندهش جميع الذين سمعوا هذا الكلام، وكانت الخوذة بيد الأميرة جوليا فسقطت من يدها لشدة دهشتها، فقال الملك: «نعم أيها السادة، إن اسكتلندا وعدتنا أن تنجدنا بهذا الأمير الجليل وبكتيبة من نخبة رجالها، ثم عدلت عن عزمها، فلم يرتض هذا الأمير أن يغمد السيف الذي كان قد وطن نفسه على نجدتنا به، فجمع نفرا من الفرسان وغير اسمه وانضم إلينا في جزيرة صقلية، ثم قتل كل أتباعه ولم يبق معه إلا واحد منهم، وكاد هذا التخفي يجعلنا نقتل أشرف أمير من أمراء أوروبا. لماذا لم تعرفنا بنفسك أيها الأمير؟ أخفت من أننا نغتنم هذه الفرصة ونفتك بك لما بيننا وبين قومك من العدوان؟»
فقال الأمير: «كلا أيها الملك، فإن ذلك لم يخامر فكري قط، ولكن لم تسمح عزة نفسي أن أتخذ نسبي وسيلة للتكفير عن ذنبي، ولا سيما لأنني آليت على نفسي أن أبقى متخفيا إلى أن تنقضي هذه الحرب، ولم أظهر من أنا إلا عند الضرورة الشديدة، وذلك في سر الاعتراف لهذا الناسك.» فقال الملك: «قد فهمنا الآن لماذا كان الناسك يلح علينا أن نحجب دمك، ولماذا قال إننا سنندم ونود لو قطعت يدنا ولم نقتلك. نعم نود أن يقطع رأسنا ولا يقال: «إن ريكارد قتل ولي عهد اسكتلندا لما كان في قبضة يده».»
Bilinmeyen sayfa