وحسن ظنك بالأيام معجزة
فظن شرا وكن منها على وجل
وشأن صدقك عند الناس كذبهم
وهل يطابق معوج بمعتدل
إن كان ينجع شيء في ثباتهم
على العهود فسبق السيف للعذل
اختير رئيس أساقفة صور من بين كل الرؤساء للدخول على الملك ريكارد؛ لأنه كان رجلا جليلا مهيبا، والمسألة ذات بال لا يجسر أحد أن يكلم ريكارد فيها غيره. فدخل عليه وأخبره الأخبار التي قطعت آماله من استرجاع بيت المقدس بالسيف، ومما يناله من المجد والشهرة. وبين له أن صلاح الدين جمع جيوشا لا يحصيها العد، وأن ملوك النصارى قد فترت همتهم وضعفت عزيمتهم، وفي مقدمتهم فيليب ملك فرنسا الذي عزم أن يرجع إلى بلاده حالما يرى ملك الإنكليز قد تعافى، واقتدى به أرل شمبانيا ودوق النمسا. فلا يبقى في دار الحرب إلا الملك ريكارد وبعض المتطوعة، ويبقى أيضا مركيز منسرات ورئيس الهيكليين، وكل منهما يؤثر نفسه ويود أن يبقى في البلاد وحده. فاغتاظ ريكارد في أول الأمر على جاري عادته، ولكنه رأى صدق كلام الأسقف وإخلاص نيته، ولم يخف عليه الأسقف أن حدته (أي حدة ريكارد) كانت من أقوى الأسباب لتفريق كلمة الصليبيين. فلما سمع ريكارد هذا الكلام لاحت على وجهه لوائح الكدر وانكساف البال، وقال لرئيس الأساقفة: «إنني لا أنكر أيها الأب المحترم حدة طبعي، ولكن أنحرم من الفوز في هذه الحرب المجيدة من أجل حدة إنسان واحد؟ لا وتربة أجدادي، فلأرفعن الصليب فوق أسوار أورشليم أو ترفعوه على قبري.»
فقال الأسقف: «يمكنك أن ترفعه فوق أسوار أورشليم ولا تسفك نقطة من دمائنا، فإن صلاح الدين قد وعد أن يسلمنا مدن الساحل ويبيح للجميع زيارة بيت المقدس، ويسمح لنا ببناء حصن متين فيه ويلقبك حامية أورشليم.»
فاندهش ريكارد من هذا الكلام وقال: «أيلقبني حامية أورشليم؟! هذا هو الفوز بعينه! ولكن هل تسميه فوزا إذا نلناه مكرهين وكلمتنا متفرقة؟ وهل يبقى صلاح الدين سلطانا على هذه البلاد؟» فقال الأسقف: «نعم، يبقى قسيما لك في السلطنة إذا شئت أن تصاهره .» فقال ريكارد: «بمن أصاهره؟ أأصاهره بجوليا بلنتجنت؟! أرأيت ذلك في حلم أم أخبرني به أحد؟» فقال الأسقف: «أظن أن الناسك أخبرك به؛ لأنه لما رأى تفرق كلمتنا حاول بكل جهده أن يصالحنا مع صلاح الدين ويجعل شروط الصلح مناسبة لنا.»
فقال ريكارد: «أيحل لنا أن نزوج نسيبتنا برجل من غير ملتنا؟» فقال الأسقف: «لا يكون ذلك إلا بسماح من الحبر الأعظم.» ثم أخذ يخبره عن مصاهرة النصارى والمسلمين في بلاد الأندلس، وعن الفوائد الجمة التي تصدر عن هذه المصاهرة، وجعل يطنب في مدح صلاح الدين، فقال ريكارد: «لو تكلم أحد قبل الآن بهذا الكلام لقطعت رأسه في الحال، أما الآن فلا أرى سببا لامتناعي عن مصاهرة ملك عادل شجاع كريم، يكرم عدوه إذا كان باسلا كما يكرم صديقه، على حين أرى رؤساء النصارى يلتمسون الأسباب لهجر حلفائهم، فاسمح لي أيها الأب المحترم أن أحاول مرة أخرى لم شعث هؤلاء الرؤساء وجمع كلمتهم، فإن نجحت نجحت، وإلا عدنا إلى هذا الحديث، فإنني لا أحب هذه المصاهرة ولا أكرهها. والآن هيا بنا إلى مجمع الأمراء فترى اتضاع ريكارد ولين جانبه.» قال ذلك ونادى خدمه ليعينوه على لبس ثيابه، ثم مضى مع رئيس الأساقفة إلى نادي الأمراء فوجدهم مجتمعين ومنتظرين قدومه، وكانوا قد اغتنموا فرصة غيابه ونددوا بعيوبه كلها وبالغوا فيها ما أمكنهم، واتفقوا على أن لا يحتفلوا به ولا يقوموا له، ولكن لم تطأ رجله باب الخيمة التي كانوا مجتمعين فيها، حتى نهض ملك فرنسا ودوق النمسا إجلالا له، ونهض معهم جميع الحضور وصرخوا: «ليحي ملك إنكلترا، ليحي قلب الأسد.» فتهلل وجهه وحياهم بالسلام، وقال: «أيها الأمراء والرؤساء، أتوسل إليكم أن تسمحوا لي ببضع دقائق أكلمكم فيها بما يخص شخصي الحقير.» ولما قال ذلك سكت الجميع سكوتا تاما فقال: «أيها الأمراء والرؤساء الكرام، أنتم تعلمون أن ريكارد الواقف أمامكم رجل حرب حاد الطباع، يده تسبق لسانه، ولسانه لا يعرف التبجيل، فلا تبطلوا هذا الجهاد المجيد بسبب ما ترونه منه من الخفة والنزق ، ولا تتركوا هذا الشرف الأثيل بسبب ما ترونه فيه من الخطأ وحدة الطباع، وإن كنت قد أسأت إلى أحد منكم فأطلب منه المعذرة والصفح. هل أسأت إليك أيها الملك فيليب؟» قال ذلك ومد يده لملك فرنسا فأجابه: «كلا أيها الأخ، فأنا لم أعزم أن أترك هذا الجهاد إلا لأن أحوال مملكتي تضطرني إلى ذلك.» ثم مد له يده وتصافحا. فتقدم ريكارد نحو دوق النمسا، وقال: «أنت حاقد علي أيها الدوق وأنا حاقد عليك، فلنرفع الأحقاد من بيننا ونتصالح ونتصاف، ونكن يدا واحدة في هذا الجهاد المجيد، وإن كنت قد أخذت علمي فرده إلى مكانه وأنا أعتذر إليك عما صدر مني في ساعة غيظي.» فوقف الدوق أمامه صامتا مطرقا إلى الأرض كأنه لا يستطيع الكلام، وحينئذ تقدم رئيس أساقفة أورشليم، وقال: «إن الدوق قد أنكر هذه التهمة بأعظم الأقسام.» فقال ريكارد: «إذن قد أخطأنا باتهامه ولذلك نلتمس منه الصفح.» قال ذلك ومد له يده لكي يصافحه، فلم يمد الدوق يده! فقال ريكارد: «أيبخل علينا الدوق بالمصافحة في هذا النادي كما بخل علينا بالمناجزة في ميدان النزال؟ ولكننا نغض الطرف عن ذلك ونعد هذه الإهانة جزاء لما بدا منا في حقه ونحن في حدة الغيظ.» ثم حول وجهه عنه والتفت إلى باقي الحضور، ونادى أرل شمبانيا ومركيز منسرات ورئيس الهيكليين، وقال: «هل أسأت إليكم بشيء فأكفر عن ذنبي؟»
Bilinmeyen sayfa