تخرصا وأحاديثا ملفقة
ليست بنبع إذا عدت ولا غرب
لما خرجت الملكة وجواريها من خيمة الملك تبعهن الناسك كما يتبع الظل الشمس، والتفت إلى الملك قبل أن يخرج من باب الخيمة وقال له: «ويل لمن يرفض مشورة الكنيسة ليصغي إلى مشورة أعدائه! فسوف تجني ما جنت يدك.»
فقال الملك: «ليكن كما قلت.» ثم التفت إلى الحكيم وقال له: «أيتجاسر الدراويش على ملوككم كما يتجاسر هؤلاء النساك علينا؟» فقال الحكيم: «الدراويش إما عقلاء وإما مجانين؛ فالعقلاء يعرفون قدر الملوك، والمجانين لا عتب عليهم ولا ملام.» فقال الملك: «أظن أن صاحبنا من النوع الأخير، ولكن ما لنا وله، هات قل لي ما هي طلبتك؟» فقال الحكيم: «ألا تذكر أني نجيت نفسك من الموت؟» فقال: «وأظنك أتيت لتطلب نجاة نفس بنفس.» فقال: «نعم، أتيت لأطلب حجب دم هذا الفارس الذي لم يغو إلا كما أغوي جدنا آدم عليه السلام.» فقال الملك: «أولا تذكر أن آدم مات من أجل غوايته؟» قال ذلك وهو عابس، ثم أظهر البشاشة وقال: «يا للعجب! ماذا جرى حتى اتفقت قوات الأرض وجاءتني تباعا تطلب نجاة هذا الفارس؟!» ثم ضحك حتى استلقى على ظهره وكانت سورة الغيظ قد ابتدأت تنكسر من نفسه. فقال للحكيم: «إني أهبك مهما شئت من الهبات، وأما هذا الرجل فقد حكم عليه بالموت ولن يرد الحكم.» فقال الحكيم: «ليس لي بالهبات من أرب، ولا غرض لي إلا بهذا الفارس.» فقال الملك: «وما غرضك به؟» فقال: «إن الدواء الذي شفاك هو طلسم نطبخه بالصوم ومراقبة الكواكب، ولا بد من أن نشفي به اثني عشر شخصا على الأقل كل شهر، وإلا زالت منه قوة الشفاء وتعرض الطبيب والمريض الأخير الذي داواه به للموت في مدة سنة، وأنا قد شفيت به أحد عشر شخصا هذا الشهر ونجيتهم من الموت، ولا بد لي من نجاة الشخص الثاني عشر وإلا بطل فعله وتعرضت أنا وأنت للموت في سنة من الزمان.»
فقال الملك: «اخرج إلى المعسكر تر مئات من المرضى فاشف من شئت منهم. ومع هذا فلا أرى كيف أن نجاة إنسان من القتل تعد شفاء وتكمل قصتك الملفقة.» فقال: «أتعلم كيف أن جرعة من الماء البارد شفتك من الحمى المحرقة؟ فإن كنت لا تعلم ذلك فلا تنف أمورا لا تعلمها ولا تفهمها ولا تعرض حياتك وحياتي للخطر.» فأجابه الملك قائلا: «لك أن تراقب النجوم والأفلاك وتلبس أقوالك بما شئت من التوريات والاستعارات، أما أنا فلا أخاف من النجوم ولا أرهب من الطلاسم.
والعلم في شهب الأرماح لامعة
بين الخميسين لا في السبعة الشهب
كما قال شاعركم.» فقال الحكيم: «إني لأعجب أيها الملك كيف تنكر فعل هذا الطلسم؟! بل كيف تضن به على المرضى والمشرفين على الموت؟! أويصدق أن الملك الذي يذبح الناس بالألوف لا يستطيع أن يحجب دم إنسان واحد؟! فكأن الله خلقك نقمة للعباد لا رحمة لهم!
فاغتاظ الملك من هذا الخطاب وقال للحكيم: «إنا اتخذناك طبيبا لنا لا مشيرا علينا، فلا تتعرض لما لا يعنيك.» فرفع الحكيم صوته وقال: «أبهذا الجزاء يجازي ملوك الإفرنج من ينجي حياتهم من الموت؟!» فاعلم أيها الملك أنني سأذيع اسمك في المشرق والمغرب، في قصور الملوك وأكواخ الصعاليك وكل مكان يتغنى فيه الناس بمدح الأبطال والأقيال، وأبين لأهل الخافقين إنكارك للجميل ومجازاتك الإحسان بالسيئات.»
فلما سمع الملك ريكارد هذا الخطاب طار عقله وقال له: «ألي تقول هذا الكلام؟!» وقام إليه وهم بضربه. فقال له الحكيم: «اضرب لكي يتزكى وصفي لك بفعلك القبيح.» فأطرق الملك وجعل يتمشى في خيمته ذهابا وإيابا وهو يتنفس الصعداء ثم التفت إلى الحكيم وقال له: «قد اخترت جزاءك، فاذهب وخذ هذا الاسكتسي فقد وهبتك إياه، وليتك طلبت تاجي ولم تطلبه.» ثم أخذ قلما وقرطاسا وكتب سطرين وسلمهما له وقال: «خذه وليكن عبدا لك، ولكن إياك وأن يرى وجهي.» فقال الحكيم: «سمعا وطاعة.» وهم بالخروج فقال له الملك: «هل لك حاجة أخرى فنقضيها؟» فقال: «أطال الله عمر الملك، فقد وفاني وأوفى.» ثم خرج فنظر إليه الملك وهو خارج وقال: «كيف نجا هذا الفارس من العقاب الذي استحقه؟ ولكن لا ندامة في ذلك لأنه شجاع.» ثم نادى البارون ده فو، فدخل ودخل معه الناسك المتقدم ذكره، فالتفت الملك إلى البارون وقال له: «اذهب حالا إلى خيمة هذا الذي يسمونه دوق النمسا، وادخل عليه وهو في بلاطه وبين بطانته وأظهر له ما شئت من الازدراء، وقل له إنه هو سرق العلم بيده أو بأمره، وعليه أن يرده إلى مكانه في ساعة من الزمان ويكون حاضرا وقت نصبه هو وكل خواصه، مكشوفي الرءوس وليس عليهم شيء من حلل الشرف، وعليه أن يركز على الجانب الواحد من العلم علم النمسا منكوسا مهانا، وعلى الجانب الآخر رمحا عليه رأس المشير الأقرب إليه أو الذي ساعده في هذه الفعلة الشنعاء، وقل له إنه إذا فعل كل ذلك ولم يخل بشيء منه قط سامحناه عما بقي من ذنوبه.»
Bilinmeyen sayfa