فقال: «بلى، ولكن أنا لست من رعايا ملك الإنكليز، وقد أرسلني مجمع الملوك والأمراء والقواد العظام، ولهم وحدهم أرد الجواب.»
فقال البارون: «كن رسول من شئت، أما أنا فلا أدع أحدا يدنو من خيمة الملك ريكارد إلا برضاي.» قال ذلك ودار وجهه وهم بالانصراف، فوقف الفارس في طريقه وقال له: «ألا تعلم أنني فارس مجرب ومن بيت شريف؟» فقال البارون: «كل الاسكتلنديين يدعون بالشرف من طفوليتهم. أما من جهة كونك فارسا مجربا، فهذا لا أنكره عليك.»
فقال الفارس: «قد اعترفت أنني فارس مجرب، فأنا أقسم لك بتربة أجدادي وبالجهاد المقدس الذي أتينا لأجله لننال الفخر في هذه الحياة وغفران الخطايا في الأخرى؛ أنه لا غرض لي إلا شفاء ريكارد قلب الأسد.»
فتخشع البارون ده فو من هذا القسم، وقال له بلطف: «هب يا مولاي أنك مقتنع بصدق هذا الحكيم وأمانته، فهل يجب علي أن أقتنع نفس هذا الاقتناع وأسلم ملكنا لهذا الحكيم في بلاد صناعة التسميم فيها رائجة؟»
فقال الفارس: «يا مولاي، لا دليل عندي على أمانة هذا الحكيم إلا هذا، وهو أن خادمي الذي أبقته لي الحروب من كل رجالي مريض بالحمى المصاب بها الملك، وهذا الحكيم أعطاه دواء منذ ساعتين والآن قد خفت الحمى كثيرا. فلا ريب عندي أنه قادر على شفاء الملك، ولا ريب عندي أيضا بسلامة نيته؛ لأنه مرسل من قبل صلاح الدين الذي لا يرتاب أحد منا في صدق طويته، هذا والحكيم في أيدينا، فلا يعقل أنه يلقي بنفسه في التهلكة وهو قادر أن يخرج من عندنا بأوفر الصلات.»
فأطرق البارون إلى الأرض مترددا بين الشك واليقين، ثم رفع رأسه وقال: «ألا تسمح لي برؤية خادمك؟» فاحمر وجه الفارس خجلا ثم قال: «الأمر إليك يا مولاي، ولكن لا تنس حينما ترى خادمي أن أشراف اسكتلندا وأمراءها لا يعيشون عيشة الترفه مثلكم معاشر الإنكليز.» قال ذلك ومشى أمام البارون كأنه عن غير رضاه.
فلم يرد البارون أن يظهر ما يدل على شماتته بفقر الاسكتلنديين بل قال: «لا كان من يهمه الترفه في هذا الجهاد، ومهما تكن حالنا فنحن أصلح حالا من الشهداء والأبرار الذين داسوا هذه الأرض قبلنا.» وحينئذ بلغ مخيم الفارس فوجده بقعة من الأرض تسع ثلاثين خيمة على عدد رفاقه الذين كانوا معه، وفيها أكواخ حقيرة من أغصان الأشجار، وفي وسطها كوخ أرفع من غيره قليلا، وعليه العلم الاسكتسي. ودخل الفارس هذا الكوخ وتبعه البارون فوجد في الكوخ سريرين: أحدهما سرير الفارس، كما يظهر من الأسلحة الملقاة بجانبه، والآخر سرير خادمه المريض وهو مغطى بثياب الفارس وأرديته. وأمام الباب خادم آخر يضرم النار ويصلح الطعام وبجانبه قطعة كبيرة من لحم الغزال، وهناك كلب من كلاب الصيد رابض على الأرض، وهو أكبر من كلاب الملك ريكارد وأجمل منها منظرا وأجود أصلا. فلما رأى البارون هر عليه بصوت جهير كأنه صوت الأسد، ثم رأى سيده فكف عن الهرير.
وكان الحكيم جالسا بجانب سرير المريض وهو لابس قلنسوة من عمل استرخان، وعيناه تتلألآن في وجهه كأنهما سراجان موقدان. فوقف البارون برهة طويلة لا يسمع إلا زفير المريض وهو نائم. وحينئذ قال له الفارس: «قد مضى على خادمي ستة أيام لم يذق فيها النوم كما أخبرت.» فقبض البارون على يده وقال له: «يظهر لي أن خادمك غير ملتفت إليه الالتفات الواجب.» قال ذلك بصوت عال على جاري عادته، فاستيقظ الخادم وقال لمولاه: «ألا ترى ماء الكليد
1
باردا حلوا بالنسبة إلى الماء الناقع الذي كنا نشربه بفلسطين؟» فقال الفارس للبارون: «ها هو مرتاح في نومه ولذلك يحلم ببلاده ...» وقبل أن يتم كلامه نهض الحكيم ووضع يد المريض على السرير، وكان قابضا عليها يجس نبضها، وأمسك بالبارون والفارس وأخرجهما إلى خارج الكوخ وقال لهما: «أقسمت عليكما بعيسى بن مريم ألا توقظا المريض؛ لأنه إن لم ينم مات لا محالة! فاذهبا الآن وارجعا عند صلاة المساء، فإن نام إلى ذلك الوقت نجا من الخطر وأمكنه حينئذ أن يتكلم معكما.» قال ذلك ورجع إلى مكانه.
Bilinmeyen sayfa