فقال الفارس: «يسرني أن أراكم تحترمون أمر السلطان هذا الاحترام، فقد بلغني أن في الطريق قبائل كثيرة شأنها القتل والنهب.» فقال الأمير: «إذا نابك مكروه من هؤلاء القبائل زحفت عليهم بخمسة آلاف فارس وقطعت دابرهم.» فشكره الفارس، وطلب إليه أن يهديه إلى مكان كان يريد المبيت فيه. فقال الأمير: «أنت ضيف علي، ولا بد من نزولك في خيمة أبي.» فأجابه الفارس: «كلا، فإني عازم أن أبيت عند رجل ناسك في مكان يقال له عين جدي.» فقال الأمير: «أنا أمضي معك إلى هذا الناسك.» فقال الفارس: «أخاف أن تعلم بمقره فلا يسلم من شركم.» فأجابه الأمير: «اعلم يا هذا أن كل من رعى ذمامنا من أهل ذمتنا رعينا ذمامه طبقا لسنتنا، ولكن من حمل الناس على حربنا حملنا عليه بخيلنا ورجلنا، وحكمنا فيه سيوفنا.»
الفصل الثالث
لما ارتاح الفارسان من مشقة الطريق وفرغا من الطعام، ألبسا فرسيهما عدتيهما وتعاونا على لبس سلاحهما، ثم شرب الفارس وقال: «حبذا لو علمت اسم هذا الينبوع؛ لأنني لم أر مثل مائه لتبريد ظمأ العطاش.» فقال الأمير: «اسمه عندنا درة القفر.» فقال الفارس: «نعما، فقد وافق الاسم المسمى.» ثم ركبا فرسيهما وانسابا في تلك الفيافي، وكانت الشمس قد مالت عن الزوال وخفت وطأة الحر. فالتفت الأمير إلى رفيقه وقال له: «سألتني عن اسم الينبوع، أفلا يليق بي أن أسأل عن اسم من شاركني اليوم في السراء والضراء؟!» فقال الفارس: «إن اسمي لا يستحق أن يشهر الآن، ولكن إذا كان لا بد لك من معرفته فهو وليم صاحب النمر الرابض، هذا هو الاسم الذي أدعى به بين الجنود، وأما في بلادي وبين قومي فلي اسم آخر وألقاب أخرى. وأنت من أي قبائل العرب تكون؟ وما هو اسمك بين قومك؟» فأجاب الأمير: «أنا لست من العرب بل من الأكراد، واسمي شيركوه (أي أسد الجبل).»
فتأمله الفارس ثم قال له: «بلغني أن سلطانكم صلاح الدين كردي الأصل أيضا، فهل ذلك صحيح؟» فأجاب الأمير: «نعم، وذلك فضل من الله علينا؛ فقد شرف جبالنا حتى أخرج منها من عقد النصر باسمه. وأنت بكم من الرجال خرجت من بلادك؟» فقال الفارس: «بعشرة فرسان وخمسين راميا، وهذا كل ما بلغت إليه مقدرتي ومعونة أصدقائي، ولكن لم يبق معي إلا رجل واحد والبقية فارقوني قتلا وموتا وهجرا.»
فنظر إليه الأمير متعجبا وقال: «هو ذا خمسة سهام في جعبتي، فإذا أرسلت سهما منها إلى خيامي خرج إلي ألف فارس، وإذا أرسلت سهما آخر خرج إلي ألف آخر، وهكذا إلى السهام الخمسة. وإذا أرسلت قوسي خرج إلي عشرة آلاف فارس. فكيف أتيت بخمسين رجلا لتتغلب على بلاد أنا من أقل حماتها؟! بل كيف تأمن لي دمي في معسكر قومك وأنت لا مال معك ولا رجال؟!»
قال الفارس: «إذا نال الواحد منا رتبة فارس، أو كان من الأشراف ساوى الملك مرتبة في كل شيء إلا الملك. فلو أن ريكارد ملك الإنكليز نفسه أهان فارسا منا، ودعاه ذلك الفارس إلى المبارزة لاضطر أن يبارزه.»
فقال الأمير: «أود أن أرى كيف تعطون الواحد منطقة من جلد ومنخاسين فيتساوى مع ملوك الأرض؟» (أشار بذلك إلى الوسم بسمة الفرسان الذي كان يوسم به أبطال الإفرنج.)
فقال الفارس: «اعلم أنه لا ينال هذه الرتبة إلا من كان حرا باسلا.» فقال الأمير: «أيستطيع بهذه الرتبة أن يرى نساء أسياده وبناتهم؟» أجاب الفارس: «نعم، ويحق لكل فارس أن يهوى أية أميرة كانت، ولو من بنات الملوك، ويقف لها سيفه وشهرته وعواطف قلبه.» فقال الأمير: «يظهر لي أنك علي الهيام، فهل لك أن تبوح لي باسم التي أنت هائم بها؟»
فاحمر الفارس خجلا وقال: «ما الإباحة من مذهبي، وحسبك أن تعلم أني علي الهيام كما قلت، فإذا أردت أن تزيد علما عن الحب والهيام فادخل مخيم الصليبيين تسمع ما يلذ به مسمعك وتر ما يقر به ناظرك:
تر الظبي خاطرات في معالمنا
Bilinmeyen sayfa