327

Kahire

القاهرة: نسيج الناس في المكان والزمان ومشكلاتها في الحاضر والمستقبل

Türler

ولا يقتصر عدم وفاء مدن الحلقة على هذه الجوانب السلبية التي قوضت أسس الفكر الذي من أجله صممت وأنشئت، وهو الإسهام في حل مشكلات الإسكان، بل إن تراخي الإدارة المحلية - لأسباب غير معروفة تماما - عن منع الناس من الإنشاء والتعمير على جانبي الطرق السريعة قد أدى إلى اختناق هذه الطرق. فالأملاك على واجهات الطرق تغري بالإنشاءات غير المسموح بها لارتفاع قيمة الأرض بالدرجة التي تدعو للمخاطرة بالمخلفات، ومع شيء من النفوذ والقوة تكتسب المخالفات صفة الأمر الواقع، وتصبح بذلك مصدرا للقياس يقتدى به، وبذلك يتقلص حرم الطريق السريع من 500 متر إلى 50 مترا - وفي أحيان إلى أقل من ذلك! وربما كان من بين أسباب الإغراء أن الإدارات الحكومية تقوم الأراضي بأسعار عالية؛ مما يؤدي إلى قيام المستثمرين بإنشاءات مخالفة، من حيث تجاوز حرم الطريق أو الارتفاعات؛ لتعويض ما قدروه مسبقا من الربح.

والأشد خطرا أن ترى الحكومة في المسافات الفارغة التي تخدمها الطرق السريعة مجالات للإنشاءات الضخمة مثل إدارة التجنيد في الهايكستب ومدينة الهايكستب السكنية، وسوق العبور على طول طريق الإسماعيلية، ولم تكتف بذلك؛ بل زايدت الأجهزة الإعمارية على نفسها بملء الفراغات حول الطرق المحيطة بمدينة العبور بتخصيصات للصناعة، ثم استدارت فأعلنت مزايا كثيرة لبيع غرود الخانكة والصحاري شرقها على طريقي الإسماعيلية والسويس في صورة تجمعات مدن الشروق وبدر. إلى جانب مشروعات التجمع الخامس، وعلى طول الطريق الدائري الجديد من المعادي إلى القطامية والهجانة؛ بل إننا نرى الآن غابات من مباني الطوب الأحمر، غاية في القبح، بدأت تغزو جانبي الطريق الدائري في القطاعات التي اكتملت من مدينة السلام إلى ميت نما، وتحاصر القاهرة من الشمال في جبهة عريضة من مناطق الفقر، ومناطق الصناعة في شبرا الخيمة ومسطرد والمرج وكفر الشرفا ... إلخ. والنتيجة أن الالتحام واقع لا محالة بين واجهات القاهرة الشرقية والشمالية: «المعادي - البساتين - منشأة ناصر - مدينة نصر - مصر الجديدة - النزهة - المطرية وعين شمس - عزبة النخل وشبرا الخيمة»، وبين جبهات الحصار في مواقع المدن الجديدة في: «القطامية والهجانة والقاهرة الجديدة وبدر والشروق والعبور والسلام والعاشر من رمضان»، كل ذلك في صورة تجمع مدن أخطبوطي الأذرع هائل المساحة قد يكون نحيف السكان في مناطق الأغنياء وكثيف السكان في أخرى، تتزاحم فيه الطباقية الاجتماعية والبنية الوظيفية، وتتخلل فيه الإدارة والانضباط. أردنا حل مشكلة القاهرة فأنتجنا قاهرة أضخم حجما وسكانا ومشكلات أعتى وأعصى على الحل بالقياس إلى القاهرة الأصلية!

هل يمكن فك الحصار؟ هذا سؤال صعب له إجابة واحدة تنصرف على ما تم وما لم يتم، وما هو مخطط للمستقبل. ونقطة البدء ببساطة هي أن أي مدينة جديدة نخطط لها يجب أن تنطلق من فرضية أن المدينة تتمركز حول نفسها؛ أي إلى داخلها، وليس إلى المدينة الأم إلا في أضيق الحدود المعروفة عن تراتب مكانة المدن من حيث العدد والقوة الاقتصادية. صحيح إذن أن هناك تراتب المدن، عبرت عنها نظريات الحضرية بأكثر من شكل وأكثر من بنية

6

بحيث تعتمد المدن الأصغر على مدينة أكبر في بعض الوظائف والخدمات. لكن تبقى للمدينة الصغيرة وظيفة هي مبرر قيامها - سواء كان هذا المبرر إنتاجيا أو خدميا أو ترفيهيا. باختصار أن تكون المدينة المنشأة ذات كينونة مستقلة في بنيتها الفيزيقية والسكانية بحيث تقل الحركة اليومية إلى الحد الذي لا تشكل فيه عبئا على الطرق، سواء كان ذلك انتقال العمالة اليومية أو الانتقال السلعي اليومي وحركة التلاميذ والمرضى إلى منشآت مركزية في المدن الكبرى، كل ذلك بقدر مدروس ومحسوب على إسقاطات زمنية معقولة.

وهناك نقطة بداية أخرى ذات قدر كبير من الأهمية. تلك هي أن العادة جرت إلى الفترة المعاصرة على أن يدور تحليل وتصنيف المدن حول «عظم» المدينة دون «الأنسجة والعضلات المحركة ». فالدارج أن مخطط أي مشروع حضري يركب على المسح الطبيعي للمكان بصورته القائمة دون حساب مدخلات التغير الذي يطرأ على البيئة فجأة، كالأمطار السيلية في الوديان الجافة لعشرات السنين. ثم يضاف شكل المدينة ومحاور حركتها بناء على الوظيفة المقترحة. كل ذلك ضمن أطر وقيم معروفة لدى المخططين هي أشبه بجداول اللوغارتمات أو «استامبة» كليشيه المجاورات السكنية كأننا في أمريكا أو أوروبا! وفعلا يمكن الحصول على مخطط متميز دون الإشارة إلى المجتمع إلا في صورة عددية وإطار دخل الأفراد.

ولكن ليس هذا هو كل المطلوب؛ فالإنسان، محرك النشاط ومصدر الوظائف، هو نفسه مستهلك نواتج التفاعل بين أنشطته وحركته في المدينة، سواء كانت تلك الحركة للعمل أو استهلاك الخدمات الأساسية وخدمات الترفيه والثقافة. والإنسان ليس نمطي السلوك والطبائع، ولا يتحرك ضمن قوالب سلوكية موحدة. باختصار هناك بعد ثقافي يحيل المجموع إلى فرادى، والمجتمع إلى مجموعات متعددة، وليس الغرض أن يدرس المخططون الأبعاد الثقافية للمجتمع الذي يمكن أن يحيل «الماكيت» إلى لوحة حية. إنما الغرض أن نترك مساحة ما لروح المبادأة والإبداع في كل حي من أحياء المدينة، يقوم المجتمع من خلالها بإعطاء «الحي» الصبغة واللون الذي يحس من خلاله بوجوده وتوحده مع مسكنه ومدينته؛ أي يصبح منتميا إلى المكان الجديد.

فالممارسة الحالية والتي تكررت كثيرا تجعل المقيم الجديد يعيش في قالب غريب عن اعتياداته وسلوكياته، بل غريب أيضا عن خصوصياته، وربما أيضا عن تسانده الاجتماعي الذي درج عليه في بيئته السابقة. إنه يحس داخل بنايات «علب الكبريت» أنه محاصر في لوح كالح نمطي لعمائر الواحدة تلو الأخرى وشوارع الواحد وراء الآخر. أين الدكاكين الصغيرة وعلاقة الجيرة والمقاهي الشعبية التي يجد فيها المكدود راحته، ويعلم فيها الأخبار، ويصبح من خلالها ممارسا للحياة الاجتماعية؟ لهذا نجد الناس يحولون بعض الشرفات إلى أعشاش للطيور الداجنة أو أجزاء من المساحات الخضراء بين العمائر إلى ملاعب أو مشرب للشاي ومنتدى للاجتماع المحلي، وأين مجال حركة النساء في هذا الخضم؟ هذه كلها مساحات مطلوب من المخططين أن يتركوها لإبداع المجتمع، ووضع لمساته الحياتية الخاصة. فتتحول القوالب إلى مدينة أو حي له شخصيته.

أما الممارسة الحالية التي تقسم المدن إلى مناطق لمستثمرين، كل يعطي شكلا لحي قد يكون في أجواء ومناخات غير مصرية كالحدائق وأحواض السباحة المشتركة التي تعطي الانطباع كأننا في أمريكا أو أوروبا ذات المناخ المعتدل لممارسة حياة خارج البيت، مع أن خارج البيت عندنا لا يشغل سوى ربع السنة مجزأ بين أيام شتاء دافئة وربيع غير خماسيني وخريف غير قائظ، والأرباع الثلاثة غالبها حر هجير ووهج يدفع الناس إلى داخل البيوت وإلى ملاذ التكييف للقادرين. هذا فضلا عن أن هذه المخططات تكاد أن تلغي الخصوصية حتى بين المثقفين والأغنياء؛ لأن الخصوصية ما زالت سمة مجتمع له جذور ضاربة في التاريخ .

وبإيجاز فإن المدينة هي التقاء المجتمع البشري بالتركيب المادي للأبنية والطرقات؛ مما يجعل المدينة كائنا حيا، ينمو ويمرض، ويحتاج إلى توازن مع البيئة، وإلى انضباط كي لا يفرط أو ينفرط.

Bilinmeyen sayfa