وتمثل له حمديس بك ذاهبا إلى الخارجية للتوسط في تعيينه ثم قال: هذا رأيي ... ما أجمل أن تمضي الحياة كلها ما بين بروكسل وباريس وفيينا.
فاستضحكت قائلة: أو ما بين دمشق وأنقرة وأديس أبابا!
فجاراها في ضحكها، ولكنه قال بدهاء: هذه عواصم لا يذهب إليها من كان حمديس بك قريبه!
وابتسما معا، وقال لنفسه راضيا إن اللبيب بالإشارة يفهم، وحسبه ذلك الآن، أما عن المستقبل فقلبه يحدثه بأن هذه الفتاة لن تذهب من حياته كأنها شيء لم يكن. ومن يعلم؟ إن الجسارة لا تنقصه، بل لعل عيبه أنه جسور أكثر مما ينبغي، واستسلم لتيار أفكاره، حتى انتبه إلى السيارة وهي ترقى الطريق الملتوي الصاعد على هضبة الأهرام، ونزلا عند سفح الهرم الأكبر وهو يقول: الحفائر وراء أبو الهول بفراسخ معدودات.
وسارا سيرا غير يسير، وجعلت أقدامهما تنغرس في الرمال وتقلع بقوة. وكان الوقت أصيلا، والجو باردا، ولكن السماء صفت، وأشرقت الشمس دون حجاب. بدت ملابسه في وضح النهار غير ذات أناقة أو جمال، فقلق، وقال لنفسه ساخرا: «لعلها تسأل نفسها لماذا لا يرتدي حضرة السفير معطفا؟» وبعد مسير ثلث ساعة لاحت منطقة الحفائر تحيط بها الأسلاك الشائكة، فتمتم محجوب: وصلنا.
واقترب الشاب من الخفير وأرسله بورقة إلى مفتش المنطقة، وعاد الرجل وأذن لهما بالدخول، فدخلا، ثم قابلهما المفتش وهو شاب دون الثلاثين، وكان من أصحاب محجوب، فرحب بهما وقال لهما معتذرا: ستريان الأماكن المسموح بزيارتها، وهي التي تم الكشف عنها، ولكني لن أرافقكما إليها لأني مشغول جدا، ولا أظنكما في حاجة إلى دليل (وهنا هز محجوب رأسه موافقا)، حسنا. هاكما معبد الشمس، وهو تابع للمعبد القديم المعروف بمعبد أبي الهول، وإلى جانبه الجزء الخلفي لمقبرة الأمير سنفر ...
وقال محجوب لنفسه: «قضى الله لحكمة يعلمها أن نظل اليوم منفردين، وإذا كانت حكمة الله كلها على هذا المنوال فأنا من المؤمنين!» وأخذ كنزه النفيس إلى معبد الشمس، وهبط أدراجا صنعت حديثا، فوجدا نفسيهما في بهو أرضه في الصوان، وعلى جانبيه صفان من الأعمدة، ولا سقف له، ولم يكن به شيء يروح أو يثير العجب، فألقت الفتاة على ما حولها نظرة تنطق بعدم الاكتراث، ولم يكن محجوب أقل خيبة منها، ولكنه تعمد أن يكبر من شأن رحلته فقال: انظري إلى هذه الأعمدة وكيف قاومت الدهور!
فابتسمت كالهازئة وقالت: وماذا كان عليها لو أنها اندثرت؟
فأشار إلى النقوش على الأعمدة وقال: لو كنا نقرأ الهيروغليفية لعرفنا أمورا تستثير الإعجاب والدهشة. - حقا! - بكل تأكيد، ألم تلمي بتاريخ الفراعنة؟!
فهزت رأسها نفيا؛ وبذلك انتهت زيارة الأثر الأول، وفيما هما يدنوان من المقبرة وراء المعبد سألته تحية: ألا توجد آثار أخرى غير هذه المقبرة؟
Bilinmeyen sayfa