فقال الرجل بلهجة من يريد أن يفرغ إلى شيء آخر: تعال مساء إذا شئت.
وغادر المكان مغيظا محنقا، هل يبتلع الترام ما تبقى من نقوده؟ ألا فليذهب البك ومجلسه الاستشاري إلى الجحيم. وأدرك أول وهلة أنه ينبغي أن ينتظر في المدينة حتى العصر - إذا أراد أن يقابل البك - توفيرا لنفقات الانتقال، ثم لم يعد يقاوم الجوع الذي ينهش معدته، فمضى إلى ميدان الأزهار باحثا عن دكان فول! وتناول الطعام الذي داوم على تناوله لثلاثة أسابيع مضت، وانطلق في طريق قصر النيل ليقضي وقت انتظاره الطويل في حدائقه. وكان الجو باردا، والسماء ملبدة بالغيوم! وكان يسير مطرقا مرددا بحقد وغضب: «أهانني الرجل المجرم، أهانني المجرم!» ومع ذلك فهو مرغم على الجري وراءه مرة أخرى! ... هو عدو ما من صداقته بد، وهو بعض الألم الذي تمتحنه به الدنيا. وأمر أصابعه على جبينه المحترق وقال: «لن أبكي، سأحافظ على جبروتي، ومهما بلغ مني الجوع فلن أصرخ مع الجبناء هاتفا: يا رب!» وانتهت به قدماه إلى الحديقة، وراح يمضي الوقت ما بين الجلوس والمشي ضجرا مملولا. وبردت أطرافه، وأحس تعبا في معدته، وتساءل خوفا وفزعا: «ألا يمكن أن تترك هذه الأيام السود آثارا لا تزول أبد العمر؟!» وتجهم وجهه الشاحب، ولاحت في عينيه نظرة قلق محزنة. ومر على انتظاره نصف ساعة، وكان يتمشى في الطريق المحاذي للنيل، لا يدري كيف يؤاتيه الصبر حتى يأزف الموعد، وعلى مقربة من باب الحديقة الأندلسية الخلفي رأى فتاتين تدنوان منهمكتين في الحديث والابتسام، فألقى عليهما نظرة عابرة، فعرف إحداهما؛ كانت تحية حمديس دون سواها! كانت في شغل عنه بصاحبتها! أما هو فقد أحدث ظهورها المفاجئ في نفسه أثرا أي أثر، انقطع حبل أفكاره، نسي أباها ومجلسه الاستشاري، تناسى آلامه وجوعه، وتركز همه في شيء واحد أن يلقاها، ولم يحفل بمظهره، ولا بوجود الفتاة الغريبة، ولم تتحول عيناه عنها في معطفها السنجابي الملتف حولها في أناقة أرستقراطية، ولعلها شعرت بعينيه فنظرت نحوه، وكانت أصبحت على بعد أذرع منه، فاعترض سبيلها - وحنى رأسه تحية، ولاحت الدهشة في وجهها، ثم تورد، وألقت عليه نظرة سريعة، ثم مدت إليه يدها، وقدمت إليه صديقتها، وقدمته إليها، ثم وقفوا ثلاثتهم في شبه ارتباك. لقد اندفع إلى تنفيذ غرضه، ثم لم يجد ما يقوله، ثم عمد إلى الأحاديث التقليدية، فسألها: كيف حال الأسرة الكريمة؟
فقالت برقتها الطبيعية: بخير شكرا لك.
وأنقذه عقله من ارتباكه، فذكره بحفريات الجامعة، فسر لعثوره على موضوع للحديث وقال: هذه فرصة سعيدة تهيأت لي لأذكرك ... أنجز حر ما وعد؟
فقالت مقطبة دهشة: لا أفهم شيئا.
فقال بلهجة تنم عن العتاب: الحفريات ... حفريات الجامعة. - آه ... كلا لم أنس. - متى؟ - متى! - نعم. لنكن عمليين. ما رأيك في عصر الجمعة القادم؟
فترددت قليلا ثم قالت وقد راق لها الاقتراح: حسن. - وفاضل بك؟ - سأخبره ... - لنتفق على موعد. - لا نريد أن نتعبك؛ فسم موعدك. - الساعة الرابعة مساء، أمام محطة الأتوبيس بميدان الجيزة.
وسلموا وافترقوا، واستأنف مسيره. نجاح باهر فاق كل ما تمنى، فصار الحلم موعدا. أجل، لاحظ أن صاحبتها تفحصت منظره بدقة، ولكن ماذا يهم المنظر، أليس أحقر رجل بامرأتين؟ فما بالك إذا كان الرجل محجوب عبد الدائم؟! إذن محتمل جدا أن تمسي العلاقات وثيقة، وليس هذا بالأمر الهين؛ فتحية من ذرائع الحظ التي يرفع بها المجدودين، وهي بعد شيء نفيس أنيق، ومن يعلم ...؟! بيد أنه أدرك أنه لم يعد من الممكن استجداء حمديس بك؛ إذ ليس من المنطق في شيء أن يمد يده اليوم إلى الأب سائلا، وأن يلقى كريمته غدا لقاء المودة والاحترام. ولو فعل لأبى الرجل على كريمته أن تذهب إلى موعد فتى بائس مثله، ولأبت ذلك عليها نفسها الغالية؛ فإما الاستجداء وإما اللقاء، ولكن لم يعد هناك اختيار، أو أنه اندفع إلى الاختيار وهو لا يدري. لقد سد هذا الباب في وجهه ...! ووجد نفسه بعد كل ما بذل من جهد يتساءل متحيرا: ما العمل؟ ... كيف أحصل على النقود؟ وكان يحث الخطى مرتبكا مهموما، ويعمل فكره دون توقف، فذكر الأستاذ سالم الإخشيدي، ولمعت عيناه الجاحظتان فجأة! ... أجل، هذا جار قديم، وهو غير مأمون رضوان أو علي طه، ولن يجد غضاضة في أن يمد له يده، فلماذا لا يقصد إليه؟ يا لها من فكرة، واليوم لم يكد ينتصف بعد، وبينه وبين الوزارة مسير نصف ساعة على الأكثر، فليذهب بغير تردد. وقد ذهب.
16
وسأل عن مكتب الأستاذ سالم الإخشيدي سكرتير قاسم بك فهمي، فقيل له بل مدير مكتبه، ودلوه عليه، ووقف على الباب ساع طويل القامة عريض المنكبين، غزير الشارب، فطلب أن يؤذن له عليه، فغاب الرجل لحظة وعاد يقول بصوت غليظ: «تفضل.» ووجد الحجرة مكتظة بالجالسين نساء ورجالا، وغاب الإخشيدي ومكتبه وراء نصف دائرة من الموظفين يعرضون أوراقهم، ونظر الشاب فيما حوله وتساءل: متى ينفض هذا الحشد من الخلق؟ ... متى تتهيأ له فرصة للكلام؟ وعلا صوت الإخشيدي في الحجرة، ورنت نبراته الدالة على الأمر والسلطان، تلاحظ وتنتقد وتعنف، وأصوات الموظفين تئن بالشرح والتفسير والأعذار، وجعل الموظفون يحملون أوراقهم ويغادرون المكان واحدا إثر واحد حتى فرغ المدير منهم، فانتبه إلى وجود الشاب، ومد يده ودعاه إلى الجلوس، ثم التفت إلى الزوار، وأشعل سيجارة، وأخذ نفسا عميقا، ونفخ الدخان في لذة وارتياح، وقد لاح في وجهه السرور والخيلاء، واختلس محجوب إليه نظرات خاطفة، إنه شبعان وسعيد، ولا شك أنه أفطر زبدة وقشدة وعسلا، تبدو عليه آي الصحة، والاطمئنان إلى كرسيه الكبير، وأحس نحوه مقتا، وتساءل في سره ساخرا: لماذا لا يعلق في حجرته الكبيرة صورة صاحبة العصمة ست أم سالم بجلبابها الأسود الملوث بالتبن؟! وكان الزوار أصحاب حاجات كالعادة، فقدم بعضهم طلبات إعفاء من المصروفات المدرسية، واستشفعته سيدة في ترقية ابنتها إلى الدرجة الخامسة، ورجاه آخر أن ينقل له قريبه إلى القاهرة وقد قضى في الأرياف عشرين عاما من سني خدمته، وسأل شاب أن يؤذن له في مقابلة البك ليهدي إليه مؤلفه عن حياة الطفل حتى الخامسة، وسمع الجميع يدعونه بإجلال واحترام: «سعادة البك.» وهو يجيبهم بتؤدة وكبرياء وغطرسة. وتصبر محجوب في قلق وعذاب حتى يفرغ البك المدير له. وحدثت المعجزة فخلت الحجرة، وتحول الإخشيدي إليه وقال: هكذا أقضي نهاري، ثم أستأنف ليلا في قصر البك!
Bilinmeyen sayfa