الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
قضية منزل فرنتشايز
قضية منزل فرنتشايز
تأليف
جوزفين تاي
ترجمة
أمنية طلعت
مراجعة
محمد يحيى
الفصل الأول
كانت الساعة الرابعة في مساء يوم من فصل الربيع، وروبرت بلير يفكر في العودة إلى المنزل.
لم يكن المكتب ليغلق بابه حتى الساعة الخامسة، بالطبع. لكن عندما تكون أنت فرد عائلة بلير الوحيد، في مكتب بلير وهيوارد وبينيت، فستعود إلى المنزل وقتما تعتقد أنك تشاء العودة إليه. وعندما يرتبط أغلب عملك بالوصايا، وإجراءات نقل الملكية، والاستثمارات، فيصبح الإقبال على خدماتك محدودا في ساعة متأخرة من وقت ما بعد الظهر. وعندما تعيش في قرية ميلفورد، حيث يخرج آخر طرد بريد في الساعة الثالثة وخمس وأربعين دقيقة، فإن اليوم يفقد أي زخم كان قد اكتسبه مدة طويلة قبل الساعة الرابعة.
لم يكن كذلك محتملا أن يرن هاتفه. فأصدقاؤه في لعبة الجولف ربما وصلوا في تلك اللحظة بين الحفرة الرابعة عشرة والسادسة عشرة. ولا أحد سيوجه إليه دعوة على العشاء؛ لأن الدعوات على العشاء في ميلفورد لا تزال تكتب باليد ثم ترسل بالبريد. والعمة لين لن تتصل به لتطلب منه السمك في طريق عودته إلى المنزل؛ لأن عصر اليوم هو موعدها نصف الشهري مع السينما، وربما أنها في تلك اللحظة قد مر عليها عشرون دقيقة من الفيلم، إذا صح القول.
لهذا جلس هناك، في هذا الجو الداعي إلى الخمول في مساء أحد أيام فصل الربيع بقرية صغيرة ينصب فيها سوق على نحو منتظم، محدقا في آخر رقعة من ضوء الشمس على مكتبه (وهو مكتب من خشب الماهوجني مطعم بنحاس أصفر كان جده قد صدم العائلة لما أحضره إلى المنزل من باريس) وفكر في العودة إلى المنزل. في تلك الرقعة من ضوء الشمس تستقر صينية شاي، وقد جرت العادة في مكتب بلير وهيوارد وبينيت أن الشاي ليس مجرد صينية معدنية مطلية بالإينامل الأسود، وأي كوب من المطبخ. في الساعة الثالثة وخمسين دقيقة بالتمام من كل يوم عمل كانت الآنسة تاف تحمل إلى مكتبه صينية مطلية يغطيها مفرش أبيض أنيق، عليه فنجان شاي من الخزف الصيني المنقوش بنقش أزرق، وعلى طبق من نفس نوعية الفنجان، قطعتان من البسكويت؛ بسكويت بيتي بير في أيام الاثنين والأربعاء والجمعة، وبسكويت دايجستف في أيام الثلاثاء والخميس والسبت.
وبينما هو يتأمل الأمر في تلك اللحظة، بذهن شارد، فكر كم أنه جسد استمرارية مكتب بلير وهيوارد وبينيت. حيث يتذكر وجود طقم الخزف الصيني هذا منذ زمن بعيد. والصينية التي، لما كان صبيا صغيرا، كان يستخدمها الطاهي في المنزل حتى يحمل فيها الخبز من المخبز، ثم انتشلتها أمه الشابة وأحضرتها إلى المكتب لتحمل عليها الفناجين المنقوشة بنقش أزرق. أما المفرش فقد جاء بعد سنوات مع قدوم الآنسة تاف. الآنسة تاف هي نتاج وقت الحرب؛ فهي أول سيدة تجلس على مكتب في مكتب محاماة شهير في ميلفورد. وقد مثلت الآنسة تاف ثورة شاملة من حيث إنها نحيفة عزباء لها شخصية جادة وغير لبقة. لكن المكتب قد صمد في وجه الثورة بدون عناء، والآن، بعد ما يقرب من ربع قرن، لا يمكن تصور أن الآنسة تاف، النحيفة الموقرة ذات الشعر الرمادي، قد مثلت أي تأثير واسع النطاق. وكان، في الواقع، الإخلال الوحيد الذي أخلته بالنظام الروتيني العتيد هو تقديم مفرش للصينية. في منزل الآنسة تاف لا يوضع طعام قط مباشرة على صينية؛ إذا استدعى الأمر، لا يقدم أي كعك أبدا مباشرة على طبق؛ فلا بد من وضع مفرش صينية أو منديل مائدة. لهذا نظرت الآنسة تاف شزرا إلى الصينية العارية. بل وقد ارتأت، علاوة على ذلك، أن النقش المطلي على الصينية مشتت، وغير مثير للشهية، و«غريب». ومن ثم في أحد الأيام أحضرت مفرشا من المنزل؛ كان أنيقا، بلا نقش عليه، وذا لون أبيض، باعتباره مناسبا لشيء عرضة للتآكل. ووالد روبرت، الذي كان قد أبدى إعجابه بالصينية المطلية، نظر إلى المفرش الأبيض النظيف فأثر فيه توافق شخصية الآنسة تاف الشابة مع مصالح المكتب، فظل المفرش باقيا، وصار الآن جزءا لا يتجزأ من حياة المكتب مثله كمثل صناديق حفظ الوثائق، واللوحة النحاسية، والزكام السنوي الذي يصيب السيد هيزيلتاين.
في الوقت الذي وقعت عيناه على الطبق الأزرق حيث وضع البسكويت، انبعث في صدر روبرت شعور غريب مرة أخرى. لم يكن لهذا الشعور أي علاقة بقطعتي بسكويت دايجستف؛ على الأقل، ليست علاقة مادية. إنما كانت له علاقة بحتمية روتين تقديم البسكويت؛ الحقيقة الراسخة بأن بسكويت دايجستف يقدم يوم الخميس والبيتي بير يوم الإثنين. حتى السنة الأخيرة أو ما يقاربها، لم يكن يرى عيبا في هذه الحقيقة أو كونها راسخة. لم يرد قط أي حياة أخرى سوى هذه الحياة؛ هذه الحياة اللطيفة الهادئة في المكان الذي قد نشأ فيه. وظل لا يسعى إلى أي حياة أخرى. لكن لمرة أو مرتين مؤخرا، جالت بخاطره فكرة غريبة، لم يعهدها؛ خاطرة عارضة، وعفوية. إن جازت صياغتها إلى أقرب معنى ممكن، فهي: «هذا كل ما ستحصل عليه في حياتك». ومع هذه الخاطرة يأتي ذلك الانقباض اللحظي في صدره. على الأغلب انفعال هلع؛ مثل اعتصار القلب ألما عند تذكر ما قد يثيره في صدره موعد طبيب أسنان عندما كان في العاشرة من عمره.
ضايق وحير هذا الشعور روبرت، الذي عد نفسه شخصا سعيدا ومحظوظا ، وناضجا في تلك اللحظة. لم اقتحمته هذه الخاطرة الغريبة وأثارت هذا الانقباض المحير تحت أضلعه؟ ماذا كان ينقصه في حياته ومن المفترض أن يفتقده رجل؟
أهي الزوجة؟
لكن كان بإمكانه أن يتزوج لو أراد ذلك. على الأقل هو يظن أنه يقدر؛ كان في المنطقة الكثير من الفتيات العازبات، ولم يظهرن دلائل على عدم الإعجاب به.
أهي الأم المخلصة؟
لكن أي إخلاص ربما منحته أم لن يكون أعظم مما قدمته إليه العمة لين؛ العمة لين العزيزة المتيمة.
أهي الثروة؟
ما الشيء الذي اشتهته نفسه من قبل وعجز عن شرائه؟ وإن لم يكن هذا هو مفهوم الثروة، فهو لا يعلم ما هو مفهومها.
أهي الحياة المثيرة؟
لكنه لم يكن يرغب أبدا في أي إثارة. لا توجد إثارة أعظم مما يمنحه يوم صيد أو التعادل في لعبة الجولف عند الحفرة السادسة عشرة.
فماذا إذن؟
ما سبب خاطرة «هذا كل ما ستحصل عليه في حياتك»؟
ربما، ظن، وهو جالس يحدق في الطبق الأزرق حيث وضع البسكويت، بأن المسألة تحديدا هي ميول منذ الطفولة بأن «ثمة شيء مبهر سيحدث غدا» تظل لاشعوريا داخل المرء ما دامت هي قابلة للتحقيق، وفقط بعد سن الأربعين، عندما يصبح من غير المحتمل إشباع هذه الميول، تقحم نفسها في العقل الواعي؛ كقطعة مفقودة من الطفولة تصرخ لتلفت الانتباه إليها.
بلا شك هو، روبرت بلير، يأمل من أعماق قلبه أن تستمر حياته على ما هي عليه إلى أن يفارق الحياة. كان قد علم منذ أيام المدرسة أنه سينتقل إلى العمل في مكتب المحاماة وسيرث والده في يوم من الأيام؛ كما نظر بشفقة حانية إلى الشباب الذين لم يكن لديهم وظيفة في الحياة جاهزة من أجلهم، ولم يكن لديهم في انتظارهم قرية ميلفورد، العامرة بالأصدقاء والذكريات، ولا دور في استمرار التقاليد الإنجليزية مثلما أسهم مكتب بلير وهيوارد وبينيت.
غاب أي وجود لعائلة هيوارد عن المكتب في أيامنا هذه، لم يكن هناك أي وجود لأحدهم منذ عام 1843، لكن فتى يافعا من عائلة بينيت كان يشغل الغرفة الخلفية في هذه اللحظة. وكلمة يشغل هي التوصيف الدقيق؛ إذ كان مستبعدا أنه يؤدي أي عمل؛ كان اهتمام نيفيل الرئيسي في الحياة هو كتابة قصائد على مستوى من الأصالة والإبداع ليس بوسع أحد أن يفهمها غيره. استنكر روبرت القصائد لكنه تغاضى عن الخمول؛ إذ عجز عن نسيان أنه حين شغل الغرفة نفسها كان يقضي وقته في ممارسة التسديد بعصا الجولف في المقعد الجلدي ذي الذراعين.
انزلق ضوء الشمس بعيدا عن حافة الصينية وقرر روبرت أنه حان موعد الانصراف. إذا انصرف الآن فبإمكانه أن يسير إلى المنزل عبر هاي ستريت قبل أن يحيد ضوء الشمس عن رصيف الجانب الشرقي؛ فإن السير عبر هاي ستريت في ميلفورد لا يزال أحد الأشياء التي تمنحه متعة حقيقية. ليس لأن ميلفورد كانت واحدة من الأماكن الجميلة. فلربما تضاعف هذا الجمال حتى مائة مرة في أي مكان في جنوب نهر ترينت. إنما السر في أناقتها الطبيعية التي صورت جمال الحياة في إنجلترا في آخر ثلاثمائة عام. بداية من المنزل العتيق المحاذي مع الرصيف الذي يضم مكتب بلير وهيوارد وبينيت، الذي أنشئ في السنوات الأخيرة من عهد تشارلز الثاني، ينساب هاي ستريت جنوبا بميل بسيط - الطوب الجورجي، والخشب والجص الإليزابيثي، والحجر الفيكتوري، والزخارف الجصية على طراز عهد الوصاية على العرش - متجها إلى القصور الإدواردية المتوارية خلف أشجار الدردار عند طرفه الآخر. هنا وهناك، بين الألوان الوردية والبيضاء والبنية، تظهر واجهة من الزجاج الأسود، بارزة بحدة مثل رجل حديث العهد بالثراء في حفل يرتدي ثيابا مبالغا فيها، لكن الطرز الأنيقة للمباني الأخرى حدت من قبحها. حتى الأعمال التجارية المتعددة كانت قد تعاملت برفق مع ميلفورد. صحيح أن البازار الأمريكي ذا اللونين القرمزي والذهبي قد وقف مختالا بوعده البراق بعيدا عند جهة الجنوب، ووجه إهانات يوميا إلى الآنسة ترولاف التي تدير مقهى على الطراز الإليزابيثي في الجهة المقابلة بدعم من مخبوزات أختها وسمعة آن بولين. لكن مصرف ويستمنستر، بتواضع غير معهود منذ أيام الاقتراض بفوائد باهظة ، قد واءم مبنى ويفرز هول بما يتماشى مع احتياجاته من دون حتى ولو لمسة من الرخام؛ وآل سول، متعهدو بيع الأدوية بالجملة، قد استحوذوا على مبنى ويزدم العتيق واحتفظوا بواجهته الطويلة المذهلة كما هي.
كان شارعا صغيرا أنيقا، مبهجا، وحيويا، تميزه أشجار الليمون المقلمة التي تنمو من الرصيف؛ وقد أحبه روبرت بلير.
كان قد ضم قدميه أسفل منه تأهبا للقيام، عندما رن هاتفه. في بقاع أخرى من العالم، يفهم المرء أن الهواتف صممت حتى ترن في المكاتب الخارجية، حيث يرد أحد المرءوسين على هذا الشيء ويستفسر عن طلبك ثم يخبرك أن تتكرم بالانتظار لحظات وسوف يجري «تحويلك» ثم تصبح على اتصال بالشخص المراد التحدث إليه. لكن هذا ليس في ميلفورد. لا شيء من هذا القبيل قد يسمح به في ميلفورد. ففي ميلفورد إذا اتصلت هاتفيا بجون سميث فأنت تتوقع أن يرد عليك جون سميث شخصيا. لذا عندما رن الهاتف في مساء أحد أيام فصل الربيع داخل مكتب بلير وهيوارد وبينيت، فإنه رن على مكتب روبرت ذي الخشب الماهوجني المطعم بالنحاس الأصفر.
دائما، بعد ذلك، كان روبرت يتساءل ماذا كان سيحدث لو أن الهاتف قد رن متأخرا بدقيقة واحدة. في غضون دقيقة واحدة، ستين ثانية لا وزن لها، كان سيأخذ معطفه من الشماعة في الردهة، وينظر نظرة سريعة على الغرفة المقابلة ليخبر السيد هيزيلتاين بأنه سينصرف الآن ثم يخرج إلى ضوء الشمس الشاحب ويسير بعيدا عبر الشارع. وكان السيد هيزيلتاين سيجيب على هاتفه عندما رن ويخبر السيدة بأنه قد انصرف. وهي كانت ستغلق الهاتف وتحاول الوصول إلى شخص آخر. وكل ما أعقب ذلك كان سيصبح بالنسبة إليه مجرد مثار اهتمام نظري.
لكن الهاتف رن في الوقت المناسب؛ فمد روبرت يده وأمسك بسماعة الهاتف.
سأل صوت سيدة: «هل هذا هو السيد بلير؟»؛ شعر بأنه صوت نسائي رنان لشخص عادة واثق من نفسه، لكنه صار في تلك اللحظة صوتا لاهثا أو متعجلا. وتابعت: «الحمد لله، يسرني كثيرا أني لحقت بك. كنت أخشى أن تكون قد انصرفت في نهاية اليوم. سيد بلير، أنت لا تعرفني. اسمي شارب، ماريون شارب. وأعيش مع والدتي في منزل فرنتشايز. ذلك المنزل الذي على طريق لاربورو، كما لعلك تعرف.»
قال بلير: «أجل، أعرفه.» كان يعرف ماريون شارب بالنظر، كما عرف كل فرد في ميلفورد والمنطقة. فهي سيدة طويلة، نحيفة، لها بشرة داكنة، تبلغ من العمر أربعين سنة أو ما يقارب ذلك، لديها ولع شديد بالأوشحة الحريرية اللامعة التي أبرزت سمرتها الغجرية. وتقود سيارة قديمة بالية، تطل منها كل صباح بينما تجلس والدتها العجوز ذات الشعر الأبيض في الخلف، منتصبة الظهر وديعة وغير منسجمة وهي تبدي اعتراضا بشكل أو بآخر في صمت. ويبدو الشكل الجانبي للسيدة شارب العجوز مثل لوحة أم ويسلر، وعندما تستدير بوجهها كاملا، ويتكون لديك انطباع عن عينيها الذكيتين، الشاحبتين، اللامباليتين، مثل عيني النورس، تصبح أشبه بعرافة. امرأة عجوز مزعجة.
تابع ذلك الصوت قائلا: «أنت لا تعرف من أنا، لكني رأيتك في ميلفورد، ويبدو أنك إنسان ودود، وأنا أحتاج إلى محام. أقصد، أحتاج إلى محام الآن، في هذه اللحظة. إن المحامي الوحيد الذي تعاملنا معه في لندن - أقصد، مكتب محاماة لندني - وهو في الواقع ليس محامينا الخاص. لقد توارثنا التعامل معه بوصية فقط. لكني الآن في مأزق وأحتاج إلى دعم قانوني، فتذكرتك وظننت أن بإمكانك ...»
بدأ روبرت حديثه قائلا: «إن كان الأمر له صلة بسيارتك ...» إن كلمة «في مأزق» في ميلفورد يقصد بها أحد الأمرين: إما نزاع تجاري، أو مخالفة لقوانين المرور. وحيث إن القضية تخص ماريون شارب، فربما كان الخيار الأخير، لكن ذلك لن يمثل فارقا؛ فالقضيتان لا تمثلان مصدر اهتمام على الأرجح لمكتب بلير وهيوارد وبينيت. كان سيحيلها إلى كارلي، الشاب الألمعي عند الطرف الآخر من الشارع، الذي يستمتع بالدعاوى القضائية وذاع صيته بقدرته على إخراج الشيطان بكفالة من الجحيم. (قال شخص ما، ذات ليلة في فندق روز آند كراون: «أخرجوه بكفالة!» ثم أضاف قائلا: «كان سيفعل أكثر من ذلك. كان سيجمع توقيعاتنا جميعا على شهادة جيني من أجل الوغد العجوز.») «إن كان الأمر له صلة بسيارتك ...»
قالت، بنبرة غامضة، وكأنه قد استعصى عليها في عالمها الحالي أن تتذكر ما كانت تلك السيارة: «سيارة؟» ثم أردفت قائلة: «آه، فهمت. لا، الأمر ليس له أي صلة بمثل ذلك. المسألة أكثر خطورة من ذلك بكثير. إنها شرطة سكوتلاند يارد.» «سكوتلاند يارد!»
بالنسبة إلى ذلك المحامي والرجل الوقور الريفي، روبرت بلير، فإن سكوتلاند يارد غريبة مثل غرابة زانادو، أو هوليوود، أو الهبوط بالمظلات. وبصفته مواطنا صالحا، كانت علاقته مستقرة مع الشرطة المحلية، وهناك انقطعت صلته بالجرائم. أقرب مرة كان قد سبق له أن ذهب إلى سكوتلاند يارد كانت ليلعب الجولف مع ضابط شرطة محلي؛ رجل دمث الخلق كان يلعب مباراة متأنية، ومن وقت لآخر بعد أن وصل إلى الحفرة التاسعة عشرة، كان يتوسع في الحديث عن أمور حمقاء قليلا بشأن عمله.
قال الصوت سريعا: «لم أقتل أي أحد، إن كان ذلك ما تفكر فيه.» «المسألة هي: هل من المفترض أنك قتلت أحدا؟» بصرف النظر عن الشيء المفترض أنها قد ارتكبته، فهذه القضية من نصيب كارلي بلا شك. فلا بد أن يقصيها نحو كارلي. «لا، القضية ليست قتلا على الإطلاق. من المفترض أني اختطفت شخصا ما. أو احتجزته، أو شيء من هذا القبيل. ليس بوسعي أن أشرح لك عبر الهاتف. على أي حال أحتاج إلى شخص الآن، في الحال، و...»
قال روبرت: «لكن لا أظن أني الشخص الذي تحتاجين إليه على الإطلاق.» ثم تابع قائلا: «لا أعرف أي شيء عمليا عن القانون الجنائي. ومكتبي غير مؤهل للتعامل مع قضية من ذلك النوع. الرجل الذي تحتاجين إليه ...» «لا أحتاج إلى محام جنائي. أحتاج إلى صديق. شخص يقف بجانبي ويضمن ألا يجري معاملتي على نحو غير عادل. أقصد، أن يخبرني بما لا أحتاج إلى الإجابة عنه إن كنت لا أرغب في ذلك، شيء من ذلك القبيل. لا تحتاج إلى تدريب في الجرائم حتى تفعل هذا، أليس كذلك؟» «لا، لكن من الأفضل أن توكلي محاميا معتادا على قضايا الشرطة. محاميا ...» «ما تحاول أن تخبرني به أن هذا «ليس مجال اختصاصك»؛ هكذا الأمر، أليس كذلك؟»
قال روبرت سريعا: «كلا، بالطبع كلا.» ثم تابع قائلا: «أشعر بصراحة تامة أنك ستكونين أكثر حكمة ...»
فقاطعته قائلة: «أتدري بم أشعر؟» ثم أردفت قائلة: «أشعر وكأني شخص يغرق في نهر لأنه لا يستطيع سحب نفسه إلى الضفة، وبدلا من أن تبسط إلي يدك، تشير إلى أن الضفة الأخرى أفضل كثيرا أن أتحرك إليها.»
سادت لحظة صمت.
ثم قال روبرت: «بل على العكس، بإمكاني أن أقدم إليك خبيرا ينتشلك من النهر؛ خبيرا أفضل بالمقارنة بشخصي القليل الخبرة، أؤكد لك. بنجامين كارلي لديه معرفة واسعة في الدفاع عن أشخاص متهمين أفضل من أي أحد بين هنا و...» «ماذا! ذلك الشاب الضئيل البغيض ذو البدلات المقلمة!» ارتفع صوتها العميق وهي تقول ذلك وانفجر، ثم تبع ذلك لحظة صمت أخرى. ثم قالت بصوتها المعتاد: «أعتذر إليك، كان ذلك سخيفا مني. لكن اعلم، عندما اتصلت بك للتو لم يكن لظني فيك أنك الأكثر براعة في تلك الأمور» (ظن روبرت بداخله: «لم يكن لذلك، بالفعل») «إنما لأني كنت في مأزق وأردت نصيحة شخص يشبهني. وأنت تشبهني. يا سيد بلير، أرجوك أن تأتي. أحتاج إليك الآن. يوجد أفراد من شرطة سكوتلاند يارد في المنزل هنا. وإذا شعرت أنك لا تريد الانخراط في هذه القضية، بإمكانك دائما أن تحيله إلى شخص آخر فيما بعد؛ أليس كذلك؟ لكن ربما لا يوجد أي شيء لتنخرط فيه رغم كل ذلك. إذا تكرمت بالمجيء إلى هنا وأن «تباشر مصالحي» أو أيا كان ما تسميه، لساعة واحدة، فربما ينتهي الأمر برمته في سلام. أثق أن هناك خطأ في مكان ما. ألا يمكنك أن تتكرم وتفعل ذلك من أجلي؟»
على العموم ظن روبرت بلير أن ذلك في وسعه. فهو دمث الخلق لدرجة تمنعه من رفض أي مناشدة مقبولة - وهي قد منحته مهربا إذا وجد الأمور صعبة. وهو، في واقع الأمر، وكما خطر في باله في تلك اللحظة، لم يرد أن يلقي بها إلى بن كارلي. رغم حماقتها بشأن البدلات المقلمة، تبين له وجهة نظرها. إذا كنت قد ارتكبت فعلة وأردت أن تنجو منها، فإن كارلي بلا شك هو هبة من الله لك؛ أما إذا كنت متحيرا ومتورطا وبريئا، فربما شخصية كارلي المتعجرفة لم يتوقع منها أن تصبح ملجأ فوريا لطلب المساعدة.
رغم كل ذلك، تمنى وهو يضع سماعة الهاتف لو أن المظهر الخارجي الذي يظهر به أمام العالم كان منفرا - ليكن كالفين أو كاليبان، لم يكن يبالي، ما دامت النساء الغريبات سيمتنعن عن الارتماء بأنفسهن في حمايته عند وقوعهن في مأزق.
فتساءل وهو يتجه إلى مرأب السيارات في سين لين حتى يستقل سيارته: تحت أي نوع محتمل من المآزق قد يصنف «الاختطاف»؟ هل هناك في القانون الإنجليزي مثل هذه الجريمة؟ ومن ربما تهتم باختطافه؟ أهو طفل؟ طفل يرجى من ورائه الحصول على مال؟ رغم ضخامة المنزل على طريق لاربورو فإنهما أعطتا انطباعا بأن ليس لديهما سعة من المال. أم أنه طفل ظنا أنه تلقى «معاملة قاسية» من أوصيائه الشرعيين؟ ذلك ممكن. كان للسيدة العجوز وجه متعنت، إذا سبق له رؤية وجه مثله من قبل، أما ماريون شارب نفسها فكانت تبدو كما لو أن العصا هي عكازها الطبيعي إن لم تكن العصا قد عفا عليها الزمان. حقا، كان مرجحا أنه عمل إنساني أحمق. الاحتجاز «بنية منع الآباء، الأوصياء، وخلافهم، من الاحتفاظ بالطفل». تمنى لو أنه تذكر تفاصيل أكثر عن قضية هاريس وويلشير. لم تسعفه الذاكرة أن يسترجع إن كانت جناية، مع فرض أشغال شاقة في المستقبل القريب، أم أنها مجرد جنحة. فقضية كقضية «الاختطاف والاحتجاز» لم تكن قد لطخت ملفات مكتب بلير، وهيوارد، وبينيت منذ ديسمبر 1798، عندما اختطف سكوير ليسوس، تحت تأثير نبيذ الكلاريت الموسمي، الآنسة جريتون على حصانه من حفل في منزل جريتون وسار بها بعيدا وسط السيول الجارفة، ولم يكن هناك شك على الإطلاق، بالطبع، في دافع ذلك السيد لارتكاب ذلك الحادث.
آه، حسنا؛ كانا بلا شك على استعداد الآن للاستماع لصوت العقل نتيجة لفزعهما من اقتحام شرطة سكوتلاند يارد لخططهما. هو نفسه كذلك أفزعه بدرجة ما وجود شرطة سكوتلاند يارد. أكان الطفل ذا شأن إلى هذه الدرجة حتى ينتفض له المركز الرئيسي لشرطة لندن؟
في مكان ما في سين لين، وجد نفسه في مواجهة الحرب المعتادة، لكنه حرر نفسه. (إن المتخصصين في أصول اللغة، في حالة أنه أثير فضولك، يذكرون أن كلمة «سين» ما هي إلا تحوير لكلمة «ساند» أي، الرمال، لكن أهل ميلفورد بكل تأكيد أعلم بهذا الأمر؛ قبل أن تبنى مساكن البلدية تلك على المروج المنخفضة وراء القرية كان هذا الزقاق يفضي مباشرة إلى ممشى العشاق في الغابة.) عبر الزقاق الضيق وقف، وجها لوجه في عداوة أزلية، إسطبل محلي لتأجير الخيول أمام أحدث مرأب سيارات في القرية. كان يبث المرأب الرعب في الخيول (هكذا ادعى إسطبل الخيول)، ويسد إسطبل الخيول الطريق دائما بحمولات التبن والعلف وأشياء أخرى من هذا القبيل (هكذا ادعى المرأب). علاوة على ذلك، المرأب كان يديره بيل برو، الذي عمل ضمن فيلق المهندسين الكهربائيين والميكانيكيين الملكيين سالفا، وستانلي بيترز، الذي عمل سالفا في سلاح الإشارة الملكي؛ أما مات إليز العجوز، الذي عمل ضمن كتيبة فرسان الملك سالفا، فقد اعتبرهما نموذجا ممثلا لجيل أجهز على سلاح الفرسان وارتأى أنهما عار على الحضارة.
في الشتاء، عندما كان روبرت يصطاد، سمع جانب سلاح الفرسان من القصة؛ ولبقية العام استمع إلى جانب سلاح الإشارة الملكي، بينما كانت سيارته تمسح، أو تشحم، أو تزود بالوقود، أو تحضر له. وقد أراد سلاح الإشارة اليوم أن يعرف الفرق بين القذف والتشهير، وما قد يندرج على وجه الدقة تحت بند التشهير بشخص. أيعد تشهيرا أن تقول على إنسان بأنه كان «سمكريا يعمل مع علب صفيح ولا يمكنه تمييز حبة الجوز من ثمرة البلوط»؟
قال روبرت في عجالة، وهو يدير المحرك: «لا أعرف يا ستان. علي أن أمعن التفكير.» فانتظر حتى أعادت ثلاثة خيول مستأجرة متعبة طفلين بدينين وسائسا من جولة العصر (قال ستانلي في الخلفية: «أتفهم ما أقصده؟») ثم انطلق بالسيارة قاصدا هاي ستريت.
وعند الطرف الجنوبي من هاي ستريت اختفت المتاجر تدريجيا لتظهر منازل سكنية ترتكز عتبات أبوابها على الرصيف، ثم المنازل التي تتراجع مسافة خطوة فتظهر أروقة تفضي إلى أبوابها، ثم القصور بحدائقها ذات الأشجار، ثم، على نحو مفاجئ تماما، الحقول والريف المفتوح.
كان ريفا زراعيا؛ أراضي تضم عددا لا حصر له من الحقول المحاطة بسياج من الشجيرات، وعددا محدودا من المنازل. ريف خصب، لكنه مهجور، بإمكان المرء أن يسافر قاطعا ميلا وراء ميل دون أن يلتقي بأي كائن بشري. ريف هادئ آمن لم يطرأ عليه تغيير قط منذ حروب الوردتين، حقل مسور وراء حقل مسور آخر، وخط أفق يختفي في خط أفق آخر، دون توقف لهذا المنوال. كانت أعمدة خطوط الهاتف والبرق فقط هي التي تكشف عن سمت القرن.
بعيدا فيما وراء الأفق كانت تقع مدينة لاربورو. تشتهر لاربورو بالدراجات، والأسلحة الصغيرة، ومسامير القصدير، ومتجر كوان كرانبيري صوص، وكثير من البشر الذين يعيشون متلاصقين جنبا إلى جنب في منازل من طوب أحمر قذر؛ لكن يوجد بين بعض منها مساحات خالية في حنين قديم إلى العشب والأرض. لم يكن هناك في ريف ميلفورد ما يجذب جنسا من البشر يريد مع عشبه وأرضه كلا من المعالم التي تستحق المشاهدة ومقاهي الشاي، وعندما تصبح لاربورو في إجازة فإنها تصير على قلب رجل واحد متجهة إلى الغرب نحو التلال والبحر، فيظل الامتداد العظيم للريف في الشمال والشرق مهجورا وهادئا ونظيفا مثلما كان في الأيام التي كان يستخدم فيها شعار النبالة «صن إن سبليندور». كانت «كئيبة»، وهكذا أنقذت من تلك اللعنة.
على بعد ميلين على طريق لاربورو كان يقع المنزل المعروف باسم فرنتشايز، والذي كان قائما على جانب الطريق، وبجواره كابينة هاتف على نحو مفاجئ. في الأيام الأخيرة من عهد الوصاية على العرش كان رجل قد اشترى الحقل المعروف باسم فرنتشايز، وبنى وسطه منزلا أبيض تماما، ثم أحاط كل شيء بسور متين مرتفع من الطوب به بوابة مزدوجة كبيرة، بارتفاع السور، في منتصف الأرض المحاذية للطريق. لم يكن يشبه أي شيء في الريف. فلم يظهر في الخلف مباني المزرعة، ولا بوابات جانبية، ولا حتى في الحقول المحيطة. أما الحظائر فبنيت خلف المنزل وفقا لتلك الحقبة الزمنية، لكنها كانت داخل حدود السور. كان المكان فريدا، ومنعزلا، كلعبة طفل ملقاة على جانب الطريق. وقد سكنه بقدر ما كان بإمكان روبرت أن يتذكر مدة طويلة رجل عجوز؛ ومن المحتمل أنه الرجل العجوز نفسه، لكن حيث إن سكان منزل فرنتشايز كانوا يتسوقون دائما في هام جرين، تلك القرية التي تقع على جانب لاربورو ناحيتهم، فلم يكونوا قد شوهدوا قط في ميلفورد. وبعد ذلك أصبحت ماريون شارب ووالدتها تشكلان جزءا من مشهد التسوق الصباحي في ميلفورد؛ ولهذا ظن الناس أنهما قد ورثتا منزل فرنتشايز عندما توفي الرجل العجوز.
تساءل روبرت كم سنة قد أمضتاها هناك. ثلاث سنوات؟ أربع سنوات؟
كان من الصعب الاعتقاد بأنهما كانتا جزءا من الكيان الاجتماعي لميلفورد. كانت السيدة وارن العجوز، التي اشترت أول قصر من القصور المستظلة بأشجار الدردار في نهاية هاي ستريت منذ نحو خمسة وعشرين عاما على أمل أن يكون الهواء في الداخل أفضل لالتهاب مفاصلها عن هواء البحر، لا يزال يشار إليها «تلك السيدة التي من وايمث». (بالمناسبة، كانت من مدينة سوانيج الساحلية.)
ربما أن سيدتي عائلة شارب، أيضا، لم تكونا قد سعتا إلى إقامة أي تواصل اجتماعي. كان لديهما حس غريب بأنهما مكتفيتان بذاتهما. لكن سبق له أن رأى الابنة مرة أو مرتين في ملعب الجولف، تلعب (من المفترض بصفتها ضيفا) مع الطبيب بورثويك. لم يختلف ضربها للكرة مسافة طويلة عن أي رجل، واستخدمت رسغها البني النحيل كلاعب محترف. وكان ذلك كل ما عرفه روبرت عنها.
وعندما توقف بسيارته أمام البوابة المزدوجة الحديدية الطويلة، وجد سيارتين أخريين كانتا متوقفتين هناك بالفعل. لم يحتج الأمر سوى إلى نظرة واحدة على السيارة الأقرب - كانت عادية للغاية، وفي غاية الأناقة، والسرية - كي يحدد هويتها. وتساءل وهو يخرج من سيارته، في أي دولة أخرى من العالم تكلف قوة الشرطة نفسها عناء أن تتحلى بالأدب والهدوء؟
ولمحت عيناه السيارة الأخرى، فتبين له أنها سيارة هالم؛ المحقق المحلي الذي لعب معه تلك المباراة المتأنية في ملعب الجولف.
وقد جلس داخل سيارة الشرطة ثلاثة أشخاص: السائق، وفي الخلف سيدة في منتصف العمر وشخص آخر بدا أنه إما طفلة أو فتاة صغيرة. نظر السائق إليه بنظرة الشرطة الفاترة، الشاردة، الفاحصة، ثم سحب نظرته، لكن الوجهين في الخلف لم يتمكن من رؤيتهما.
كانت البوابة المزدوجة الحديدية الطويلة مغلقة - لم يكن في وسع روبرت أن يتذكر أنه قد رآها مفتوحة قبل ذلك - ثم دفع روبرت أحد جانبي البوابة الثقيلين فاتحا إياها بفضول واضح. كانت الزينة الحديدية للبوابة الأصلية مغطاة؛ للحفاظ على الخصوصية وفق الطراز الفيكتوري، بألواح مسطحة من حديد الزهر؛ والجدران كانت مرتفعة للغاية لدرجة تحول دون رؤية أي شيء بالداخل؛ لذلك لم يكن قد رأى منزل فرنتشايز قط، باستثناء رؤية السطح والمداخن من مسافة بعيدة.
كان شعوره الأول هو خيبة الأمل. ليس لأن حال المنزل يعكس أن مصيبة قد حلت، رغم وضوح ذلك؛ لكن لقبحه التام. فإما أنه قد بني في حقبة متأخرة كثيرا حتى حرمته من أن يأخذ حظه من الجمال المميز لإحدى الحقب، أو أن من بناه كان ينقصه أن يتحلى بنظرة رجل معماري. فقد استخدم نمط العصر، ولكن بدا واضحا أن ذلك النمط لم يكن مألوفا له. كل شيء كان يعيبه خطأ صغير: النوافذ في حجم غير صحيح بفارق نصف قدم، وبنيت في مكان غير مناسب بفارق لا يزيد كثيرا؛ المدخل عرضه غير صحيح، درجات السلم بارتفاع غير صحيح. وبذلك فالنتيجة الأخيرة بدلا من الشعور برضا مقبول عن الحقبة التي بني فيها، كان للمنزل نصيب من نظرة تحديق قاسية. نظرة معادية متسائلة. أثناء سيره عبر الفناء حتى يصل إلى الباب الكئيب، أدرك روبرت بأي شيء قد ذكره: كلب أفاقه فجأة من نومه قدوم رجل غريب، فاستند على رجليه الأماميتين، غير مستقر في داخله ما إذا كان عليه الهجوم أم الاكتفاء بالنباح. فكان يحمل التعبير نفسه كمن يقول ماذا تفعل هنا؟
قبل أن يتمكن من دق الجرس انفتح الباب، ولم تفتحه واحدة من الخدم، بل ماريون شارب.
قالت وهي تمد يدها لتسلم عليه: «رأيتك قادما.» ثم تابعت قائلة: «لم أرد أن ترن الجرس لأن والدتي تأخذ غفوة في وقت العصر، وأتمنى أن ننهي هذه المهمة قبل نهوضها. فلا داعي لها أن تعرف أي شيء أبدا عن الأمر. أشعر بامتنان لمجيئك أكبر مما تسعفني به الكلمات.»
غمغم روبرت بكلمات، ولاحظ أن عينيها، التي كان قد توقع أن لها لونا بنيا غجريا لامعا، كانتا في الواقع بلون بندقي باهت. قادته إلى الردهة، ولاحظ وهو يضع قبعته على خزانة أن السجادة المفروشة على الأرض كانت بالية.
قالت، وهي تدفع الباب وتوجهه إلى قاعة استقبال: «الشرطة في الداخل هنا.» كان روبرت يحبذ لو يتحدث معها على انفراد لوهلة، ليحدد وجهته؛ لكن الوقت تأخر كثيرا على أن يقترح ذلك. وكان هذا السبيل الذي أرادته بكل وضوح.
كان هالم يجلس على حافة كرسي مشغول من الخرز، وقد بدا عليه الارتباك. وبجانب النافذة، في أريحية تامة وعلى كرسي غاية في الأناقة من تصميم هيبلوايت، جلس ممثل شرطة سكوتلاند يارد وهو رجل شاب بسيط يرتدي بدلة أنيقة.
أثناء نهوضهما، أحنى كل من روبرت وهالم رأسهما لتحية الآخر.
قالت ماريون شارب: «أنت تعرف المحقق هالم، أليس كذلك؟» ثم تابعت قائلة: «وهذا هو ضابط التحريات جرانت، من مقر الشرطة المركزية.»
لفت انتباه روبرت كلمة «الشرطة المركزية»، وتساءل. أسبق لها أن تعاملت في آونة ما مع الشرطة، أم أن المسألة هي أنها لم تستسغ النبرة الحادة قليلا لكلمة «سكوتلاند يارد»؟
صافحه جرانت، وقال: «يسرني مجيئك، يا سيد بلير. ليس من أجل الآنسة ماريون شارب فقط وإنما من أجلي.» «من أجلك؟» «لم يكن بوسعي أن أستكمل الإجراءات كما ينبغي حتى تحصل الآنسة ماريون على شكل من أشكال الدعم؛ دعم بصفة ودية إن لم تكن قانونية، لكن إن كان قانونيا، كان أفضل كثيرا.» «أتفهم ذلك. وما هي التهمة التي توجهونها إليها؟»
بدأ جرانت الحديث قائلا: «نحن لا نوجه إليها أي تهمة ...»، لكن ماريون قاطعته. «من المفترض أني اختطفت شخصا ما وأوسعته ضربا.»
قال روبرت، مصدوما: «أوسعته ضربا؟»
قالت، بشيء من الاستمتاع بفداحة الجريمة: «ضربتها ضربا مبرحا.» «ضربتها؟» «فتاة. خارج البوابة في سيارة الآن.»
قال روبرت، محاولا أن يعيد الحديث إلى مجراه الطبيعي: «أظن من الأفضل أن نبدأ من بداية الأحداث.»
قال جرانت، بلطف: «ربما من الأفضل أن أتولى توضيح الأمر.»
قالت الآنسة ماريون: «أجل. من فضلك افعل ذلك. إنها قصتك في نهاية الأمر.»
تساءل روبرت إن كان جرانت قد أدرك نبرة السخرية. واستعجب كذلك، قليلا، من الهدوء الذي قد يحتمل السخرية من أحد أفراد سكوتلاند يارد وهو جالس على أحد أفضل الكراسي لديها. لم تبد هي هادئة أثناء حديثها على الهاتف، بل كانت مندفعة، يغلب اليأس عليها. ربما كان حضور شخص حليف لها هو ما قد شد من أزرها؛ أو ربما كانت قد استجمعت قوتها.
بدأ جرانت حديثه بأسلوب رجال الشرطة المقتضب قائلا: «تحديدا قبل عيد الفصح، فتاة تدعى إليزابيث كين، كانت تعيش مع وصييها بالقرب من مدينة إيلزبري، ذهبت لقضاء إجازة قصيرة مع عمة لها متزوجة وتعيش في مينشيل، وهي ضاحية من ضواحي لاربورو. ذهبت بالحافلة، لأن الحافلات على خط لندن-لاربورو تمر بمدينة إيلزبري، وتمر أيضا بضاحية مينشيل قبل أن تصل إلى لاربورو؛ وبذلك كان بإمكانها النزول من الحافلة في مينشيل ثم ستصبح في منزل عمتها بعد السير لمدة ثلاث دقائق، بدلا من دخول لاربورو وقطع الطريق إيابا مرة أخرى لو كانت فضلت أن تسافر بالقطار. وفي نهاية أحد الأسابيع تلقى وصياها - السيد وين وزوجته - بطاقة بريدية منها تفيد بأنها تقضي وقتا ممتعا وتنوي البقاء. ففهما ما قالته على أنها تقصد البقاء مدة إجازتها المدرسية، وهو ما يعني قضاء ثلاثة أسابيع أخرى. وعندما لم تظهر قبل اليوم الذي من المفترض أن تعود فيه إلى المدرسة، ظنا أنها فقط تتهرب من المدرسة فكتبا خطابا إلى عمتها حتى تعيدها. أما العمة، فبدلا من التوجه إلى أقرب كابينة هاتف أو مكتب برقيات، فقد فجرت الخبر إلى السيد وين وزوجته في خطاب بريدي، بأن ابنة أخيها قد غادرت في طريقها للعودة إلى إيلزبري منذ أسبوعين. كان تبادل الخطابين قد استغرق تقريبا أسبوعا آخر، وبهذا فإنه عند الوقت الذي ذهب فيه الوصيان إلى الشرطة للإبلاغ عن الفتاة كانت هي قد صارت مفقودة منذ أربعة أسابيع. فاتخذت الشرطة الإجراءات المعتادة لكن قبل أن تشرع في الإجراءات ظهرت الفتاة. كانت تسير متوجهة إلى منزلها بالقرب من إيلزبري في ساعة متأخرة من إحدى الليالي وهي لا ترتدي سوى فستان وحذاء، وتظهر في حالة إنهاك تام.»
سأل روبرت: «كم عمر الفتاة؟» «خمسة عشر. ستة عشر تقريبا.» فانتظر لحظة حتى يرى إن كان روبرت لديه أي أسئلة أخرى، وبعد ذلك يكمل. (كان هذا كتقدير من رجل قانون لرجل قانون أيضا، هذا ما ظنه روبرت وامتن له، وهو أسلوب يشبه الأسلوب الرصين لسيارة الشرطة التي تقف متخفية عند البوابة.) ثم أردف قائلا: «قالت إنها تعرضت إلى «خطف» في إحدى السيارات، لكن كان ذلك كل ما تحصل عليه أي شخص من معلومات منها خلال يومين. ثم دخلت في حالة شبه غائبة عن الوعي. وعندما تعافت، بعد نحو ثمانية وأربعين ساعة، بدءا في معرفة قصتها منها.» «من هما؟» «السيد وين وزوجته. الشرطة أرادت ذلك، بالطبع، فكانت تزداد انفعالا عند أي إشارة إلى الشرطة؛ لذلك كان عليهم أن يحصلوا على القصة بطريقة غير مباشرة. حيث أفادت بأنها بينما كانت تنتظر حافلة العودة عند مفترق الطريق في مينشيل، توقفت سيارة فجأة عند الرصيف تستقلها سيدتان. وسألتها السيدة الشابة، التي كانت تقود السيارة، إن كانت تنتظر الحافلة وإن كان بإمكانهما توصيلها.» «هل كانت الفتاة بمفردها؟» «نعم.» «لم؟ ألم يرافقها أحد لتوديعها؟» «عمها كان في العمل، وعمتها كانت قد ذهبت لتتولى دور الأم الروحية في حفل تعميد.» ثم توقف مرة أخرى حتى يسمح لروبرت بأن يطرح أسئلة أخرى إن كان مهتما. «أخبرتهما الفتاة بأنها كانت تنتظر الحافلة المتجهة إلى لندن، فأخبراها بأن الحافلة قد غادرت بالفعل. ونظرا إلى أنها قد وصلت إلى مفترق الطرق ولم يتبق حينها سوى وقت بسيط، ولم تكن ساعتها دقيقة بالدرجة الكافية، فقد صدقت ما قالتاه. وبالفعل، كانت قد بدأت في التخوف، حتى قبل توقف السيارة، من أن الحافلة قد فاتتها. كانت قلقة حيال الأمر لأن الساعة كانت تقترب من الرابعة، وبدأت السماء تمطر، والجو يزداد ظلمة. وكانت السيدتان متعاطفتين للغاية؛ ولذلك اقترحتا بأنه لا بد أن توصلاها إلى مكان ما لم تتمكن من سماع اسمه، وفيه بإمكانها أن تلحق بحافلة أخرى متجهة إلى لندن خلال نصف ساعة. وافقت بكل امتنان واستقلت السيارة بجانب السيدة الأكبر سنا في المقعد الخلفي.»
طافت صورة في خيال روبرت عن السيدة شارب العجوز، وهي تجلس منتصبة ومخيفة، في مكانها المعتاد على المقعد الخلفي من السيارة. ثم نظر إلى ماريون شارب، لكن وجهها كان هادئا. فهذه قصة كانت قد سمعتها بالفعل. «حجبت الأمطار الرؤية عن النوافذ، وكانت الفتاة تتحدث مع السيدة العجوز عن نفسها أثناء سيرهن في الطريق، وبذلك لم تسترع انتباها إلى المكان الذي يتجهن إليه. وعندما انتبهت أخيرا إلى الأماكن من حولها كان المساء خارج النوافذ قد صار حالكا تماما، وبدا لها أنها قد سافرت مدة طويلة. علقت بشيء عن كونهما في غاية اللطف كي تتوليا توصيلها إلى مكان بعيد عن طريقهما، فقالت السيدة الشابة، متحدثة لأول مرة، إنه قد تصادف أنهن لسن بعيدا عن طريقهما، بل العكس، فلديها متسع من الوقت لتدخل وتحتسي فنجانا من مشروب ساخن معهما قبل أخذها إلى مفترق الطرق الجديد. ارتابت الفتاة من الأمر، لكن السيدة الشابة قالت إنه ليس من المفيد الانتظار عشرين دقيقة في المطر بينما بإمكانها أن تحظى بالدفء، بعيدا عن المطر وتتناول شيئا في العشرين دقيقة تلك ؛ ووافقت الفتاة على أن هذا يبدو منطقيا. في النهاية، نزلت السيدة الشابة من السيارة، وفتحت ما تبين للفتاة بأنها بوابات لدخول السيارات، ثم اتجهت السيارة نحو منزل كان يبدو حالك الظلام لدرجة استحالت معها رؤيته. ثم أخذت الفتاة إلى مطبخ كبير ...»
كرر روبرت: «مطبخ؟» «أجل، مطبخ. وضعت السيدة العجوز قهوة باردة على الموقد لتسخينها، في حين كانت السيدة الشابة تقطع بعض الشطائر. «شطائر من دون الشريحة العلوية» كما وصفتها الفتاة.» «شطائر من أصناف باردة.» «أجل. وبينما هن يأكلن ويشربن، أخبرتها السيدة الشابة بأنه ليس لديهما خادمة في الوقت الحالي وسألتها إن كانت ترغب في العمل خادمة لحسابهما مدة قصيرة. فأجابتها الفتاة بأن لا رغبة لديها في ذلك. حاولا إقناعها، لكنها تشبثت برأيها بأنها لا يمكن أن تقبل بمثل هذا النوع من العمل أبدا. فازداد وجهاهما تجهما أثناء حديث الفتاة، وعندما اقترحا عليها لو أنها تصعد على الأقل وترى مدى أناقة غرفة النوم التي ستحظى بها لو بقيت، أصابتها حيرة شديدة منعتها أن تفعل أي شيء سوى أن ترضخ لاقتراحهما. وتتذكر الفتاة أنها صعدت أول مجموعة من درجات السلم والتي كانت مكسوة بسجادة، والمجموعة الثانية من درجات السلم كان عليها ما وصفته بأنه «شيء خشن» أسفل القدم، وكان ذلك كل ما تذكرته حتى استيقظت في الصباح على سرير منخفض به عجلات في علية ضيقة جرداء. لم تكن ترتدي سوى قميصها الداخلي، واختفى أي أثر لبقية ملابسها. وكان الباب مقفلا، ولم تتمكن من فتح النافذة الدائرية الصغيرة. في جميع الأحوال ...»
قال روبرت، بانزعاج: «نافذة دائرية!»
لكن ماريون كانت هي من بادرت بالرد عليه. فقالت، باهتمام: «نعم. نافذة دائرية في السطح بالأعلى.»
إذ إن آخر ما فكر فيه لما وصل إلى الباب الأمامي لمنزلها منذ دقائق معدودات هو أنه كم أسيء وضع النافذة الدائرية الصغيرة في سطح المنزل، وعندئذ بدا لروبرت أنه ليس تعليقا مناسبا. فترك جرانت مهلة كالمعتاد على سبيل اللباقة، ثم أكمل حديثه. «بعد مدة قصيرة وصلت السيدة الشابة مع وعاء من ثريد الشوفان. رفضت الفتاة تناوله وطلبت إحضار ملابسها وإطلاق سراحها. فقالت السيدة الشابة بأنها ستأكله عندما يشتد عليها الجوع بما يكفي ثم انصرفت، وتركت ثريد الشوفان. وظلت الفتاة وحدها حتى المساء، عندما أحضرت السيدة نفسها الشاي على صينية مع كعك طازج وحاولت إقناعها بأن تجري محاولة للعمل كخادمة. فرفضت الفتاة مرة أخرى، ولمدة عدة أيام، طبقا لروايتها، استمر هذا الإقناع والترهيب بالتناوب، بين السيدتين. بعد ذلك توصلت الفتاة إلى أنه إن كان بوسعها كسر النافذة الدائرية الصغيرة، فربما تتمكن من التسلل إلى الخارج على السطح، المحصن بسور منخفض، ثم لفت انتباه أحد المارة، أو أحد التجار الزائرين، إلى مأزقها. ولسوء الحظ، لم يكن لديها أي أدوات سوى كرسي، وقد نجحت فقط في شرخ الزجاج قبل أن تعترضها السيدة الشابة، في غضب عارم. فانتزعت الكرسي من الفتاة وأوسعتها ضربا به حتى انقطعت أنفاسها. فانصرفت السيدة، وهي تحمل الكرسي معها، وظنت الفتاة أن ذلك كان نهاية العقاب. في غضون دقائق معدودات عادت السيدة الشابة ومعها ما تظن الفتاة أنه كان سوطا للكلب فضربتها به حتى أغشي عليها. في اليوم التالي ظهرت السيدة العجوز وهي تحمل في يدها مجموعة من ملاءات الفراش وقالت إنها إذا لم تكن ترغب في العمل فعلى الأقل يمكنها الخياطة. وإن امتنعت عن الخياطة، فلا طعام لها. لكنها كانت شديدة العناد وامتنعت عن الخياطة ولهذا لم يقدم طعام لها. في اليوم التالي هددت بالضرب مرة أخرى إن امتنعت عن الخياطة. لذلك رتقت الفتاة بعض الملاءات وقدم لها يخني للعشاء. ظل هذا الاتفاق قائما بعض الوقت، لكن إن كانت خياطتها غير متقنة أو غير كافية، فإنها تضرب أو تحرم من الطعام. وذات مساء أحضرت لها السيدة العجوز الوعاء المعتاد من اليخني وانصرفت تاركة الباب غير مقفل. فانتظرت الفتاة، وفي ظنها أنه فخ سينتهي بها إلى ضرب آخر، لكنها في النهاية جازفت بالخروج إلى العتبة. ولم تسمع أي صوت، فنزلت عبر درجات السلم التي من دون سجاد. ثم نزلت إلى درجات السلم الثانية ووصلت إلى العتبة الأولى. صار بوسعها في تلك اللحظة أن تسمع السيدتين تتحدثان في المطبخ. فتسللت ونزلت عبر آخر درجات من السلم وهرعت إلى الباب. لم يكن مقفلا فأسرعت إلى الخارج كما هي في جنح الليل.»
سأل روبرت: «وهي ترتدي قميصها الداخلي؟» «نسيت أن أذكر أنهما قد أعادتا لها فستانها بدلا من القميص الداخلي. حيث لم يتوفر بالعلية أي مصدر تدفئة، ومع تركها بلا شيء سوى قميص داخلي فكان مرجحا لها أن تموت.»
قال روبرت: «إن كانت حقا قد حبست بالعلية.»
وافقه المحقق بلطف: «إن كانت، على حد قولك، قد حبست في العلية.» ومن دون أن يترك مهلته المعتادة على سبيل اللباقة أردف قائلا: «وهي لا تتذكر كثيرا مما حدث بعد ذلك. وتقول، إنها سارت مسافة كبيرة في الظلام. اتضح أنه طريق سريع لكن لم تقابل أي سيارات أو بشر عليه. ثم، على طريق رئيسي، بعد مدة، رآها سائق شاحنة في ضوء المصباح الأمامي فتوقف ليوصلها. كانت منهكة بشدة، لدرجة أن النعاس غلبها في الحال. أفاقت من نومها لما حملت لتقف على قدميها على جانب الطريق. كان سائق الشاحنة يسخر منها ويقول بأنها تشبه دمية من نشارة الخشب فقدت الحشو بداخلها. بدا أن الوقت لا يزال في وقت الليل. فقال سائق الشاحنة إن ذلك هو المكان الذي قالت إنها تريد النزول فيه، ثم قاد الشاحنة منصرفا. وبعد قليل تعرفت على الناصية. حيث تبعد مسافة تقل عن ميلين من منزلها. سمعت عقارب الساعة تعلن عن الحادية عشرة. وفي مدة وجيزة قبل منتصف الليل وصلت إلى منزلها.»
الفصل الثاني
سادت فترة صمت قصيرة.
فقال روبرت: «أهذه هي الفتاة التي تجلس في سيارة خارج بوابة منزل فرنتشايز حاليا؟» «أجل.» «أعتقد أن لديك أسبابا لإحضارها إلى هنا.» «صحيح. عندما تعافت الفتاة بالدرجة الكافية استدعيت إلى الشرطة لتدلي بروايتها. ثم دونت على نحو مختزل مثلما أدلت بها، ثم قرأت النسخة المكتوبة ووقعت عليها. في تلك الإفادة أمران ساعدا الشرطة كثيرا. ها هما المقتطفان ذوا الصلة: «لما قطعنا مسافة بعض الوقت مررنا بحافلة تحمل اسم ميلفورد على لافتة مضيئة. لا، لا أدري أين تقع ميلفورد. لا، لم أزر ميلفورد قط.»
هذا هو المقتطف الأول. والآخر هو: «من نافذة العلية، كان بإمكاني أن أرى سورا عاليا من الطوب في منتصفه بوابة حديدية ضخمة. كان يوجد طريق على الجانب الآخر من السور؛ لأني رأيت أعمدة خطوط الهاتف والبرق. لا، لم يكن بوسعي ملاحظة أي حركة سير عليه لأن السور كان مرتفعا للغاية. فقط بعض أسطح الأحمال المنقولة على الشاحنات في بعض الأحيان. ولا تسعك الرؤية عبر البوابة حيث ثبتت ألواح حديدية عليها من الداخل. وداخل البوابة هناك مسار للسيارات يسير في اتجاه مستقيم قليلا ثم ينقسم إلى مسارين يشكلان دائرة تفضي إلى الباب. لا، لم تكن حديقة، إنما هي مجرد عشب. أجل، أظن أنها أرض عشبية. لا، لا أتذكر أي شجيرات؛ مجرد عشب ومسارات.»»
أغلق جرانت مفكرته الصغيرة التي كان يسرد منها. «على حد علمنا - وعلاوة على إجراء بحث دقيق - لم يستوف أي منزل آخر يقع بين لاربورو وميلفورد وصف الفتاة، باستثناء منزل فرنتشايز. يزيد على ذلك، أن منزل فرنتشايز يستوفي الوصف في كل تفاصيله. وعندما رأت الفتاة السور والبوابة اليوم كانت على يقين بأن ذلك هو المكان، لكنها لم تر ما داخل البوابة إلى الآن، بالطبع. وكان لا بد أن أشرح للآنسة ماريون شارب أولا، وأرى إذا كان لديها استعداد لمواجهتها بالفتاة. وطلبت بما يحق لها ضرورة حضور شاهد قانوني.»
قالت ماريون شارب، وهي تلتفت إلى روبرت: «هل تستعجب أني أردت مساعدة عاجلة؟» ثم تابعت قائلة: «هل بإمكانك أن تتخيل كابوسا سخيفا أكثر من ذلك؟»
قال روبرت: «إن رواية الفتاة قطعا هي مزيج لا مثيل له في غرابته بين أمور واقعية وأخرى غير منطقية. أدرك أن الخادمات المنزليات غير متاحات بسهولة، لكن أيمكن لأحد أن يتوقع إقناع خادمة بالعمل لديه بحبسها قسرا، ناهيك عن ضربها وتجويعها.»
وافقه جرانت في الرأي، وعيناه ثابتتان لا تحيدان عن عيني روبرت متحاشيا النظر إلى ماريون شارب: «لا يوجد شخص سوي يفعل ذلك، بكل تأكيد.» ثم أضاف قائلا: «لكن صدقني في أول اثني عشر شهرا لي في الشرطة واجهت عشرات الأحداث يستحيل تصديقها أكثر من ذلك. فلا حد للمبالغات في تصرفات البشر.» «أتفق معك، لكن من المحتمل أن المبالغة هي في سلوك الفتاة تحديدا. ففي نهاية الأمر، تبدأ المبالغة من طرفها هي. فهي الشخص الذي ظل مفقودا لمدة ...» ثم توقف مستفسرا.
فأجابه جرانت: «شهر واحد.» «لشهر واحد، ولا يوجد دليل على أن سير الحياة في منزل فرنتشايز قد حاد عن نظامه السائد مطلقا. ألا يمكن للآنسة شارب أن تقدم دليلا على وجودها في مكان آخر يوم الحدث الذي نحن بصدده؟»
قالت ماريون شارب: «كلا لا يمكن.» ثم أضافت: «إن ذلك اليوم، طبقا للمحقق، هو الثامن والعشرون من مارس. هذا قد مضى عليه كثيرا، وأيامنا هنا تختلف اختلافا طفيفا، إن لم يكن لا تختلف على الإطلاق. قد يصبح مستحيلا تماما لنا أن نتذكر ما كنا نفعله في الثامن والعشرين من مارس، وأكثر شيء مستبعد أن يتذكر أحد نيابة عنا.»
سأل روبرت: «وخادمتك؟» ثم تابع قائلا: «إن الخدم لهم طرقهم لتمييز سير الحياة في المنزل بدرجة مذهلة في أغلب الأحيان.»
فقالت: «ليس لدينا خادمة.» ثم أردفت قائلة: «نحن نجد صعوبة في أن نبقي خادمة هنا؛ فمنزل فرنتشايز يقع في مكان ناء.»
وللحظة بدا أن الأمور ستصبح مريبة فسارع روبرت بتوضيحها. «هذه الفتاة - لا أعرف اسمها، بالمناسبة.» «إليزابيث كين، وهي مشهورة باسم بيتي كين.» «صحيح، حقا؛ أخبرتني بالفعل به. معذرة. هذه الفتاة - هل لنا أن نعرف أي تفاصيل عنها؟ أعتقد أن الشرطة أجرت تحريات عنها قبل أن تقبل الكثير من قصتها. لماذا تعيش مع وصيين وليس والدين، على سبيل المثال؟» «هي طفلة يتيمة فقدت والديها في الحرب. لقد أجليت إلى ضاحية إيلزبري وهي طفلة صغيرة. لم يكن لديها إخوة، فأسكنت مع أسرة وين، التي كانت قد وهبت طفلا يكبرها بأربع سنوات. بعد قرابة اثني عشر شهرا قتل الوالدان، على إثر الحرب، وأصبحت أسرة وين، التي أرادت دائما أن تكون لها ابنة وأغرمت بالطفلة كثيرا، سعيدة بضم الطفلة إليها. واعتبرتهما الطفلة والديها؛ نظرا إلى أنها لا تذكر أبويها الحقيقيين.» «مفهوم. وماذا عن سجلها الدراسي؟» «ممتاز. فهي فتاة هادئة تماما، بشهادة الجميع. جيدة في إنجاز الفروض المدرسية، لكن ذكاءها لم يكن مميزا. لم تتسبب في أي نوع من المشكلات، سواء في المدرسة أو خارجها. «صادقة بشدة» كانت الجملة التي استخدمتها المعلمة في وصفها.» «وعندما ظهرت في النهاية عند منزلها، بعد مدة غيابها، أكان هناك أي أثر للضرب الذي تعرضت له كما كانت قد أدلت في قصتها؟» «أجل. قطعا. فحصها طبيب أسرة وين في ساعة باكرة من صباح اليوم التالي، ويفيد تقريره بأنها تعرضت لضرب مبرح في أماكن متفرقة. وبالفعل، كانت لا تزال بعض الكدمات واضحة بعدها بمدة كبيرة عندما أدلت بأقوالها أمامنا.» «هل يوجد أي تاريخ مرضي عن إصابتها بصرع؟» «لا؛ لقد فكرنا في ذلك في بداية الاستجواب. وأود ذكر أن أسرة وين متزنة للغاية. أصابها حزن شديد، لكنهم لم يحاولوا تهويل الأمر، أو السماح للفتاة بأن تصير هي محور الاهتمام أو الشفقة. بل استقبلوا الأمر بطريقة تستحق الإعجاب بها.»
قالت ماريون شارب: «وكل ما تبقى هو أن أتلقى مصيري بهذه اللامبالاة المثيرة للإعجاب.» «لعلك تدركين موقفي، يا آنسة شارب. لم تكتف الفتاة بوصف المنزل الذي تقول إنها حبست فيه؛ بل وصفت ساكنتيه، ووصفتهما بدقة شديدة. «امرأة عجوز نحيفة لها شعر أبيض ناعم، لا ترتدي قبعة لكن ملابس سوداء؛ وسيدة شابة، نحيفة طويلة ومتجهمة كالغجريين، لا ترتدي قبعة وإنما وشاحا زاهيا من الحرير حول رقبتها.»» «هذا صحيح. ليس بإمكاني التفكير في أي تعليل لذلك، لكني أتفهم موقفك. وأظن الآن أنه من الأفضل إحضار الفتاة، لكن قبل أن نفعل ذلك أود قول ...»
انفتح الباب دون أن يصدر صوتا، فظهرت السيدة شارب عند عتبة الباب. وقد بدا الشعر الأبيض القصير حول وجهها غريب المظهر حيث وقفت أطرافه منتصبة؛ إذ إن الوسادة قد جعلتها تبدو هكذا، فأصبحت تشبه عرافة أكثر من أي وقت مضى.
دفعت الباب وراءها وتفحصت الحاضرين باهتمام ماكر.
قالت، وهي تصدر صوتا يشبه نقيق دجاجة من الحلق: «ها!» ثم أضافت قائلة: «ثلاثة رجال غرباء!»
قالت ماريون، بينما نهض الثلاثة واقفين: «اسمحي لي أن أقدمهم إليك يا أمي.» «هذا السيد بلير، من مكتب بلير وهيوارد وبينيت - ذلك المكتب الواقع في المنزل الجميل في بداية هاي ستريت.»
بينما كان روبرت ينحني احتراما، حدقت السيدة العجوز فيه بعينيها اللتين تشبهان عيني النورس.
وقالت: «يحتاج إلى تغيير بلاطه.»
كانت الملاحظة صحيحة، لكن ذلك لم يكن الترحيب الذي كان قد توقعه.
أراحه قليلا أن ترحيبها بالسيد جرانت كان أكثر بعدا عن التقليدي. بعيدا عن اندهاشها أو اضطرابها من حضور شرطة سكوتلاند يارد في قاعة الاستقبال بمنزلها في عصر أحد أيام الربيع، اكتفت بأن تقول له بصوتها الجاف: «عليك ألا تجلس على ذلك المقعد؛ بدنك ثقيل للغاية عليه.»
عندما قدمت ابنتها المحقق المحلي رمقته بنظرة، ثم حركت رأسها مسافة بوصة، فمن الواضح أنها أقصته من دائرة الاهتمام. وهذا ما اعتبره هالم، بالحكم من خلال تعبيره، مهينا على نحو غريب.
نظر جرانت إلى الآنسة شارب مستفسرا.
فقالت: «سأخبرها.» ثم تابعت قائلة: «يا أمي، يريد المحقق منا أن نقابل فتاة صغيرة تنتظر في سيارة خارج البوابة. تغيبت الفتاة مدة شهر عن منزلها بالقرب من إيلزبري، وعندما ظهرت مرة أخرى - في وضع يرثى له - قالت إنها حبست على يد شخصين أرادا أن يتخذا منها خادمة لهما. ثم حبساها عندما رفضت، وانهالا عليها ضربا وحرماها من الطعام والشراب. وقد أدلت الفتاة بأوصاف دقيقة للمكان والشخصين، وقد تصادف أن الأوصاف تنطبق عليك وعلي بما يدعو إلى العجب. وكذلك على منزلنا. كما تدعي أنها قد حبست في العلية ذات النافذة الدائرية في منزلنا.»
قالت السيدة العجوز، وهي تجلس بحرص على أريكة أنيقة: «أمر مثير للاهتمام بدرجة كبيرة.» ثم أضافت قائلة: «وبم ضربناها؟» «سوط كلب، حسبما فهمت .» «هل لدينا سوط كلب؟» «لدينا شيء من الأشياء التي «نقود» بها، حسب ظني. ويمكن استخدامها كسوط عند الضرورة. لكن القصد هو أن المحقق يريد منا أن نقابل هذه الفتاة، حتى يمكن لها التأكيد إذا ما كنا نحن من احتجزناها أم لا.»
سأل جرانت: «هل تمانعين يا سيدة شارب؟» «على العكس تماما، أيها المحقق. أتطلع إلى المقابلة على أحر من الجمر. أؤكد لك أنه أمر لا يتكرر في كل عصر أن أذهب إلى فراشي امرأة عجوزا شاحبة، ثم أستيقظ كوحش كاسر.» «إذن إن تسمحي لي، فسأحضر ...»
أومأ هالم ليتولى دور المرسال، لكن جرانت هز رأسه. بدا واضحا أنه أراد أن يشهد اللحظة الأولى من رؤية الفتاة لما هو خلف البوابة.
أثناء خروج المحقق وضحت ماريون شارب لوالدتها سبب حضور بلير. وأضافت: «إنه لطف فوق العادي منه أن يأتي عقب إخطاره بمدة قصيرة وبهذه السرعة»، فاستشعر روبرت مرة أخرى تغييرا في عيني العجوز اللامعتين ذواتي اللون الفاتح. في رأيه، أن السيدة شارب كانت قادرة تماما على ضرب سبعة أشخاص مختلفين بين الفطار والغداء، وفي أي يوم من الأسبوع.
قالت، بلا تعاطف: «أنا مشفقة عليك سيد بلير.» «لم يا سيدة شارب؟» «أعتقد أن برودمور بعيدة قليلا عن مجال اهتمامك.» «برودمور!» «الاضطراب العقلي للمجرمين.»
قال روبرت، رافضا أن ترهبه: «بل أجده مثيرا للغاية.»
حينها ظهر عليها شعور مفاجئ بالتقدير؛ شيء أشبه بخيال ابتسامة. وانتاب روبرت شعور غريب بأنها أعجبت به فجأة؛ لكن إن كان الأمر هكذا فهي لم تبد أي اعتراف صريح بذلك. فقالت بصوتها الحاد: «أجل، أتوقع أن وسائل الترفيه في ميلفورد نادرة وبسيطة. ابنتي تسير وراء كرة من المطاط حول ملعب الجولف ...»
قاطعتها الابنة قائلة: «لم تعد مطاطا يا أمي.» «لكن في مثل سني لا توفر ميلفورد حتى ذلك النوع من الترفيه. أكتفي بأن أسكب مبيدا على الأعشاب الضارة - شكل قانوني من السادية يعادل إغراق البراغيث. هل تغرق البراغيث لديك، يا سيد بلير؟» «لا، بل أسحقها. لكن لي أخت اعتادت على مطاردتها بقالب صابون.»
قالت السيدة شارب، باهتمام حقيقي: «صابون؟» «أظن أنها تصفعها بالجانب الناعم فتلتصق بها.» «يا له من شيء مثير! أسلوب لم أره من قبل. لا بد أن أجربه في المرة التالية.»
بأذنه الأخرى سمع أن ماريون كانت تتعامل بلطف مع المحقق المنبوذ. كانت تقول: «أنت تؤدي دورا رائعا للغاية، أيها المحقق.»
كان مدركا لشعور يأتيك عند اقتراب نهاية حلم، عندما يصبح الاستيقاظ قريبا، وأن لا شيء من الأحداث اللامنطقية يعنيك في شيء؛ لأنك ستعود إلى العالم الواقعي بعد قليل.
كان هذا مضللا؛ إذ إن العالم الواقعي أقبل من الباب مع عودة المحقق جرانت. وقد دخل جرانت أولا، حتى يصبح في وضع يمكنه من ملاحظة تعبيرات وجوه جميع الأطراف المعنية، وأبقى الباب مفتوحا حتى تدخل الشرطية والفتاة.
نهضت ماريون شارب ببطء، وكأن من الأفضل أن تواجه أي شيء ربما سيقبل عليها، لكن والدتها ظلت جالسة على الأريكة وكأنها شخص يعير أذنا واعية، وجلست جلسة مثل تلك التي تنتمي للعصر الفيكتوري مع ظهر مستو كما كانت وهي فتاة صغيرة، ويداها مسترخيتان بثبات في حجرها. حتى شعرها غير المصفف لم يستطع أن ينتقص من انطباع أنها سيدة الموقف.
كانت الفتاة ترتدي معطفها المدرسي، وحذاء مدرسيا أسود له كعب سميك قصير ذا طابع طفولي؛ ولذلك بدت أصغر سنا مما سبق أن توقعه بلير. لم تكن فارعة الطول، ولا جميلة بكل تأكيد. لكن كان لها - ما الكلمة المناسبة التي تعبر عنها؟ - طلة جذابة. كان لعينيها لون أزرق داكن، وتبدوان متباعدتين في وجه من النوع الذي تنتشر الإشارة إليه بأنه وجه له شكل القلب. تلون شعرها بلون بني فاتح، وكان ينتشر على جبهتها في خط بديع. أدنى كل عظمة من عظام الوجنتين تجويف طفيف، آية على طابع الحسن، أضفى على وجهها جاذبية وإحساسا بالتعاطف. كانت شفتها السفلية ممتلئة، لكن ثغرها منمنم. وكذلك كانت أذناها. فهما صغيرتان للغاية وأقرب ما تكونان إلى رأسها.
رغم كل ذلك، فهي نوع مألوف من الفتيات. ليس من النوع الذي قد يجذب انتباهك وسط جمع من الناس. وليست مطلقا واحدة من الفتيات المثيرات. فتساءل روبرت كيف ستصير هيئتها في ثياب أخرى.
وقعت نظرة الفتاة أولا على السيدة العجوز، ثم انتقلت ببصرها إلى ماريون. لم تكن نظرتها تحمل شعورا بالمفاجأة ولا بالانتصار، ولم تعكس كثيرا من الاهتمام.
ثم قالت: «أجل، هاتان هما السيدتان.»
سألها جرانت: «ألا يساروك شك في ذلك؟»، ثم أضاف قائلا: «إنه اتهام خطير، كما تعرفين.» «لا، ليس لدي شك. كيف لي أن أشك في ذلك؟» «هاتان السيدتان هما من قاما بحبسك، وتجريدك من ملابسك، وإجبارك على رتق الملاءات، وضرباك بالسوط؟» «أجل، هاتان هما السيدتان.»
قالت السيدة شارب العجوز: «كذابة مذهلة»، فنطقتها بنبرة وكأن أحدا يقول: «تشابه مذهل.»
قالت ماريون: «تقولين إننا أخذناك إلى المطبخ لنشرب قهوة.» «صحيح، فعلتما ذلك.» «هل لك أن تصفي المطبخ؟» «لم أنتبه كثيرا له. لكنه مطبخ كبير - أرضيته من الحجر، حسب ظني - وبه صف من الأجراس.» «وما نوع الموقد؟» «لم ألحظ الموقد، لكن الوعاء الذي سخنت فيه السيدة العجوز القهوة كان مطليا بطبقة زرقاء شاحبة من الإينامل وله حافة لونها أزرق داكن وأجزاء مقشرة عديدة حول الحافة السفلية منها.»
قالت ماريون: «أشك إن وجد مطبخ في إنجلترا ليس به وعاء مثل هذا بالضبط.» ثم أضافت قائلة: «لدينا ثلاثة منه.»
قالت السيدة شارب: «هل الفتاة عذراء؟»، بنبرة قليلة الاهتمام كما لو كانت لشخص يسأل: «هل هذه من ماركة شانيل؟»
أثناء التوقف المباغت الذي أحدثه هذا السؤال لاحظ روبرت وجه هالم المصدوم، وتدفق الدم الساخن في وجه الفتاة، وحقيقة أنه لم يصدر اعتراض من الابنة مثل كلمة «أماه!» مثلما كان يتوقع، بلا وعي منه، لكن على نحو مؤكد. فتساءل إن كان صمتها هو موافقة ضمنية أو أنها بعد زمن من العيش مع السيدة شارب صارت محصنة من الصدمات.
قال جرانت باستنكار هادئ: إن تلك النقطة غير ذات صلة بالموضوع.
قالت السيدة العجوز: «أتظن ذلك؟» ثم أردفت قائلة: «لو كنت قد تغيبت عن منزلي مدة شهر لكان ذلك أول شيء أرادت أمي أن تعرفه عني. على أي حال. الآن بعد أن تعرفت الفتاة علينا، ماذا تنوي فعله؟ إلقاء القبض علينا؟» «لا، أبدا. الإجراءات بعيدة عن ذلك في الوقت الراهن. أريد أن أصطحب الآنسة كين إلى المطبخ والعلية، حتى يمكن التحقق من صحة وصفها. إن كان صحيحا، فسأرفع تقريرا عن القضية إلى رئيسي وسيقرر هو في اجتماع الخطوات الأخرى الواجب اتخاذها.» «حسنا. أكثر إجراء احترازي رائع، أيها المحقق.» ثم نهضت للوقوف ببطء. وتابعت قائلة: «آه، حسنا، إن كنت ستسمح لي فسأعاود الذهاب إلى نومي الذي قطع.»
قال جرانت من دون سابق تفكير، متفاجئا وقد خرج عن رباطة جأشه: «لكن ألا ترغبين في الحضور بينما تعاين الآنسة كين المكان ... حتى تسمعي ال...» «لا يا عزيزي.» ثم هندمت ثيابها السوداء مع شيء من العبوس. وعلقت بحدة: «إنها تتجعد لتصنع خطوطا دقيقة.» ثم تابعت قائلة: «لم يبتكر أحد إلى الآن خامة لا تتجعد.» وأضافت: «ليس لدي أدنى شك أن الآنسة كين ستتعرف على العلية. وبالفعل، سأندهش لدرجة لا يصدقها عقل إن أخفقت.»
شرعت السيدة العجوز في التوجه ناحية الباب، ومن ثم ناحية الفتاة؛ ولأول مرة تبرق عينا الفتاة بتعبير. حيث ارتسم على وجهها انفعال حذر. فتقدمت الشرطية خطوة للأمام، في إجراء احترازي. وواصلت السيدة شارب حركتها المتمهلة حتى توقفت على بعد ياردة تقريبا من الفتاة، وبذلك صارتا وجها لوجه. ولخمس ثوان كاملة ساد صمت وهي تتفحص وجه الفتاة باهتمام.
قالت، في النهاية: «أما بالنسبة إلى الشخصين المتورطين بالضرب، فلسنا على علم بهما بكل أسف.» ثم تابعت قائلة: «أتمنى أن أتعرف عليك بشكل أفضل قبل انتهاء هذا الأمر يا آنسة كين.» استدارت إلى روبرت وانحنت احتراما له. ثم قالت: «إلى اللقاء يا سيد بلير. أتمنى أن نظل محل اهتمام في نظرك.» متجاهلة بقية الحاضرين، انصرفت خارج الباب الذي أمسكه هالم مفتوحا من أجلها.
ساد شعور واضح بخيبة الأمل الآن بعد أن أصبحت غير موجودة معهم، وأشاد روبرت بها مع إعجاب متحفظ. فلم يكن إنجازا يستهان به أنها خطفت الاهتمام من البطلة الغاضبة.
سأل جرانت: «يا آنسة شارب، هل لديك أي اعتراض على أن تعاين الآنسة كين الأماكن المعنية من المنزل؟» «بالطبع لا. لكن قبل أن نمضي أود أن أؤكد على ما كنت سأقوله قبل حضور الآنسة كين. ويسعدني حضور الآنسة كين لتسمعه الآن. وهو ما يلي. على حد علمي أنا لم أر قط هذه الفتاة من قبل. ولم أتول توصيلها إلى أي مكان، ولا في أي مناسبة. ولم يأت بها إلى المنزل هنا أحد سواء أنا أو والدتي، ولم تحبس هنا. أود أن يفهم ذلك بكل وضوح.» «حسنا، يا آنسة شارب. مفهوم أن موقفك هو الإنكار التام لرواية الفتاة.» «إنكار تام منذ البداية وحتى النهاية. والآن، أتأتون لمعاينة المطبخ؟»
الفصل الثالث
ذهب جرانت والفتاة برفقة روبرت وماريون شارب لمعاينة المنزل، بينما هالم والشرطية انتظرا في قاعة الاستقبال. عند وصولهم عند عتبة الطابق الأول، بعد أن تعرفت الفتاة على المطبخ، قال روبرت: «قالت الآنسة كين إن المجموعة الثانية من درجات السلم كان يغطيها «شيء خشن»، لكن السجادة نفسها لا تزال على السلم في الأعلى بداية من مجموعة درجات السلم الأولى.»
قالت ماريون: «تصل فقط حتى المنعطف.» ثم أردفت قائلة: «الجزء «الظاهر» فقط. أما بعد الزاوية فتوجد حصيرة من اللباد. أسلوب فيكتوري من أجل التوفير. في أيامنا هذه إذا كنت فقيرا فإنك تشتري سجادا أقل تكلفة وتستخدمه على كامل السلم. لكن تلك السجادة لا تزال منذ الأيام التي كان يعتنى فيها برأي الجيران. لذا كانت السجادة القيمة تفرش فقط في الموضع الذي يمكن للزوار رؤيته وليس أكثر من ذلك.»
كانت الفتاة محقة أيضا فيما يخص المجموعة الثالثة من درجات السلم. فكان سطح درجات السلم القصيرة المؤدية إلى غرفة السطح غير مفروش.
أما العلية ذات الأهمية البالغة، فكانت حجرة مربعة صغيرة منخفضة، بها سقف يميل إلى أسفل على الجوانب الثلاثة؛ تماشيا مع سقف القرميد في الخارج. كان مصدر ضوئها الوحيد هو النافذة الدائرية المطلة على الواجهة . وهناك مساحة قصيرة من القرميد تنحدر من أسفل النافذة إلى السور الأبيض المنخفض. كانت النافذة مقسمة إلى أربعة ألواح زجاجية، ويظهر على لوح من الأربعة شرخ واضح بشدة. فلم تكن قد صممت لتفتح مطلقا.
وكانت العلية خالية تماما من أي أثاث. جرداء على نحو غير طبيعي، فظنها روبرت مخزنا؛ لكونها مناسبة بدرجة كبيرة ويسهل الوصول إليها.
قالت ماريون، وكأنها تجيبه: «كانت هناك أشياء مخزنة هنا عندما أتينا في البداية، لكن لما وجدنا أننا سنظل من دون خدم أغلب الوقت تخلصنا منها.»
التفت جرانت إلى الفتاة بهيئة مستفسرة.
قالت وهي تشير إلى الزاوية البعيدة عن النافذة: «الفراش كان في تلك الزاوية.» ثم تابعت قائلة: «وإلى جانبه كانت خزانة الأدراج الخشبية. وفي هذه الزاوية خلف الباب ثلاث حقائب سفر فارغة: حقيبتان وصندوق أمتعة ضخم ذو سطح مستو. وهناك كان الكرسي لكنها أخذته بعد أن حاولت كسر النافذة.» أشارت الفتاة إلى ماريون دون أي انفعال، كما لو أنها غير حاضرة. وأضافت: «هنالك حاولت كسر النافذة.»
بدا لروبرت أن الشرخ أكبر وأقدم من أن يكون منذ أسابيع قليلة مضت، لكن هذا لا ينفي وجود شرخ.
عبر جرانت إلى الزاوية البعيدة ومال إلى معاينة الأرضية الجرداء، لكن الأمر لم يحتج إلى معاينة عن قرب. حتى من المكان الذي كان يقف فيه روبرت بجانب الباب، تمكن من ملاحظة آثار عجلات على الأرض حيث كان الفراش.
قالت ماريون: «كان السرير هناك.» ثم تابعت قائلة: «وهو أحد الأشياء التي تخلصنا منها.» «ماذا فعلت به؟» «دعني أتذكر. أوه، أعطيناه إلى زوجة راعي البقر في مزرعة ستابلس. فابنها الأكبر صار كبيرا على أن يشارك غرفة مع الآخرين أكثر من ذلك فنقلته في غرفتهم العلوية. نحن نشتري حاجاتنا من منتجات الألبان من مزرعة ستابلس. لا يمكنك أن تراها من هنا، لكنها تبعد عنا بأربعة حقول فوق الربوة.» «أين تحتفظين بصناديق الأمتعة الإضافية يا آنسة شارب؟ ألديك مخزن آخر؟»
لأول مرة تبدو ماريون مترددة. «لدينا صندوق كبير مربع للأمتعة ذو سطح مستو ، لكن أمي تستخدمه لتخزين الأشياء بداخله. عندما ورثنا منزل فرنتشايز وجدنا في غرفة نوم أمي خزانة قيمة للغاية، فبعناها، واستخدمنا صندوقا كبيرا بدلا منها. ووضعنا فوقه غطاء من القماش المطبوع. أما حقائب السفر الخاصة بي فهي في خزانة الملابس على عتبة المجموعة الأولى من السلم.» «آنسة كين، هل تتذكرين شكل هاتين الحقيبتين؟» «أجل. حقيبة من جلد بني بها شيء أشبه بقفل عند الزوايا، والأخرى كانت مغطاة بقماش له طابع أمريكي وبها أحزمة.»
حسنا، كان وصفا دقيقا بما يكفي.
تفحص جرانت الغرفة وقتا أطول قليلا، وتفحص المشهد من النافذة، ثم استدار لينصرف.
وسأل ماريون: «هل لنا أن نرى الحقائب التي في الخزانة؟»
قالت ماريون، لكنها بدت حزينة: «بكل تأكيد.»
عند العتبة في الأسفل فتحت باب الخزانة وتراجعت إلى الخلف حتى تسمح للمحقق بالنظر فيها. بينما أفسح روبرت لهما الطريق لمح نظرة انتصار عفوية على وجه الفتاة. فتبدل كثيرا وجهها الهادئ، الطفولي نوعا ما لدرجة صدمته. كان شعورا وحشيا، همجيا، قاسيا. وغير مناسب على وجه فتاة المدرسة الخجول التي كانت فخرا لوصييها ومعلميها.
داخل الخزانة أرفف عليها ملاءات المنزل، وفي الأسفل أربع حقائب. حقيبتان متسعتان، إحداهما من ألياف مضغوطة والأخرى من جلد غير مدبوغ؛ أما الحقيبتان الأخريان: فإحداهما من جلد بقر بني وبها زوايا محمية، والأخرى حقيبة قبعات مربعة يغطيها قماش ويزينها مجموعة كبيرة من شرائط بألوان متعددة في المنتصف.
سأل جرانت: «أهاتان هما الحقيبتان؟»
أجابت الفتاة: «أجل، هاتان هما الحقيبتان.»
قالت ماريون، بغضب مفاجئ: «لن أزعج أمي مرة أخرى في وقت ما بعد الظهر هذا.» ثم تابعت قائلة: «أقر أن صندوق الأمتعة في غرفتها كبير وله سطح مستو. ظل هناك مدة ثلاث سنوات متواصلة.» «عظيم يا آنسة شارب. حان دور المرأب الآن، من فضلك.»
أسفل المنزل في الجهة الخلفية، حيث كان الإسطبل قد تحول إلى مرأب للسيارات منذ مدة طويلة، وقفت المجموعة الصغيرة وتفحصت السيارة الرمادية القديمة المتهالكة. قرأ جرانت بصوت عال الوصف غير المتخصص الذي أدلت به الفتاة عن السيارة ، كما هو مقيد في إفادتها. انطبق الوصف، لكن بلير ظن أن هذا الوصف قد ينطبق على نحو مماثل على آلاف السيارات في طرق بريطانيا حاليا. كان دليلا لا يعتد به على الإطلاق. قرأ جرانت الوصف: «إحدى العجلات كانت مطلية بدرجة لون مختلفة عن بقية العجلات الأخرى وتبدو كأنها ليست منها. والعجلة المتباينة كانت الأمامية في الجهة المواجهة لي أثناء وقوفها عند الرصيف.»
في صمت، نظر الأربعة إلى الدرجة الرمادية الأكثر قتامة في العجلة الأمامية القريبة. فاتضح أنه ليس هناك ما يقال.
قال جرانت بعد مدة، وهو يغلق مفكرته ويضعها في مكانها: «شكرا جزيلا لك يا آنسة شارب، أبديت احتراما جما وتعاونا؛ ولهذا فأنا ممتن لك. هل بإمكاني أن أتواصل معك عبر الهاتف في أي وقت خلال الأيام القليلة القادمة، حسب ظني، إذا أردت التحدث إليك باستفاضة؟» «أوه، بكل تأكيد أيها المحقق. لا نية لدينا للذهاب إلى أي مكان.»
إذا كان جرانت لمس منها فهمها النبيه، فهو لم يظهر ذلك.
سلم الفتاة إلى الشرطية وانصرفتا دون إلقاء نظرة إلى الخلف. ثم استأذن هو وهالم للانصراف، فكان هالم لا يزال يحمل شعورا بالاعتذار على انتهاك الخصوصية.
وقد خرجت ماريون إلى الردهة برفقتهما، تاركة بلير في قاعة الاستقبال، وعندما عادت كانت تحمل صينية عليها نبيذ الشيري وكئوس.
قالت، وهي تضع الصينية وتبدأ في صب النبيذ: «لن أطلب منك البقاء لتناول العشاء، فجزء من السبب أن «عشاءنا» عادة ما يكون في غاية التواضع وليس كما تعتاد مطلقا. (هل تعلم أن الطعام الذي تعده عمتك ذائع الصيت في ميلفورد؟ لدرجة أني قد سمعت به.) والجزء الآخر من السبب هو لأن ... حسنا، لأنه كما قالت أمي، أن برودمور بعيدة قليلا عن مجال اختصاصك، كما أتوقع.»
علق روبرت: «دعنا نتحدث عن هذه المسألة.» ثم أضاف قائلا: «أنت تدركين أن الفتاة لديها ميزة كبيرة عليك، أليس كذلك؟ أقصد، من حيث الأدلة. إن لها مطلق الحرية أن تصف تقريبا أي شيء يروق لها على أنه جزء من منزلك. إن حدث ووجد هناك بالفعل، فهذا دليل قوي في صالحها. إن حدث ولم يوجد هناك، فلن يؤخذ كدليل لصالحك؛ وسيقتصر الاستنتاج على أنك قد تخلصت من ذلك الشيء. إذا لم تكن الحقائب، على سبيل المثال، هناك، فبإمكانها أن تدعي أنك قد تخلصت منها لأنها كانت في العلية وصارت بذلك موضعا للوصف.» «لكنها وصفتها، من دون أن تراها من قبل.» «تقصدين أنها وصفت حقيبتين. إن كانت حقائبك الأربعة هي طقم من مجموعة حقائب متناسقة، فهناك احتمال واحد من بين خمسة أن تصيب. لكن لأن ما حدث أنك تمتلكين حقيبة من كل نوع متداول فصارت الاحتمالات متساوية.»
أمسك بكأس الشيري الذي قد وضعته بجانبه، ثم شرب شربة واحدة، وأذهله أن مذاقه باهر.
ابتسمت قليلا إليه وقالت: «صحيح أننا نقتصد، لكن ليس في النبيذ.» فاحمر وجهه قليلا، وتساءل إن كان ذهوله بدا واضحا لتلك الدرجة. «لكن هناك أمر العجلة المختلفة في السيارة. كيف عرفت بها؟ إن ترتيب الأحداث بأكمله غريب. كيف عرفت عني وعن والدتي، وعن هيئة المنزل؟ فبوابة منزلنا لا تترك مفتوحة مطلقا. حتى وإن فتحتها - رغم أني لا أتخيل ما بإمكانها أن تفعله في ذلك الطريق المهجور - حتى وإن فتحتها وتطلعت إلى ما في الداخل فليس لها أن تعرف شيئا عني وعن والدتي.» «أليس من المحتمل أنها أقامت صداقة مع إحدى الخادمات؟ أو البستاني؟» «لم يعمل لدينا بستاني قط؛ لأنه لا يوجد أي زرع سوى العشب. ولم تعمل لدينا أي خادمة منذ عام. وهي مجرد فتاة من المزرعة تأتي مرة في الأسبوع لتباشر أعمال النظافة الشاقة.»
قال روبرت بتعاطف: إن المنزل أكبر من أن تديره من دون مساعدة. «صحيح؛ لكن أمرين ساعداني. أني لست من النساء المتباهيات بمنزلهن. وكذلك من الرائع أن يصبح لدينا منزل خاص بنا لدرجة أن لدي استعدادا لغض الطرف عن مواضع التقصير. السيد كرول العجوز كان ابن عم والدي، لكننا لم نعرفه على الإطلاق. كنت أنا ووالدتي نعيش قبل ذلك دوما في بنسيون بمنطقة كينزينجتون.» تحركت إحدى زوايا فمها لأعلى بابتسامة ساخرة. «لك أن تتخيل كم كانت والدتي معروفة بين النزلاء.» ثم اختفت الابتسامة. «رحل والدي عن الدنيا وأنا في سن صغيرة للغاية. كان واحدا من أولئك المتفائلين بأن يصيروا أثرياء عن قريب. ولما وجد ذات يوم أن مضارباته لم تكن قد ادخرت له في الغد ما يكفي حتى لرغيف خبز، انتحر وترك أمي تواجه الحياة.»
شعر روبرت بأن ما قيل يفسر حال السيدة شارب إلى حد ما. «لم أكن مؤهلة لأمتهن مهنة، وبهذا انقضت حياتي في وظائف لا وزن لها. ليست في أعمال منزلية - أكره الشئون المنزلية - لكن في المساعدة في الأعمال التجارية التي هي من شأن النساء المنتشرة في كينزينجتون. صناعة أغطية المصابيح، أو تقديم مشورة عن الإجازات، أو الزهور، أو التحف. عندما توفي السيد كرول كنت أعمل في مقهى - أحد المتاجر التي تقدم قهوة صباحية على أخبار القيل والقال. أجل، إنه صعب قليلا.» «ما هو الصعب؟» «أن تتخيلني وسط فناجين الشاي.»
احتار روبرت الذي لم يعتد أن يقرأ ما يدور بخلده - فالعمة لين عجزت عن تتبع العمليات الذهنية لأي أحد حتى إن شرحت لها. لكنها لم تكن تفكر فيه. «كنا قد بدأنا في الشعور بالاستقرار والراحة والأمان، عندما حدث هذا.»
ولأول مرة منذ أن طلبت منه المساعدة يشعر روبرت بحماسة الانحياز إلى طرف دون الآخر. قال: «كل ذلك بسبب زلة فتاة تريد تقديم دليل غياب.» ثم أضاف قائلا: «لا بد أن نكتشف تفاصيل أكثر عن بيتي كين.» «بوسعي أن أخبرك بأمر عنها. إنها فتاة شهوانية.» «أذلك مجرد حدس نسائي؟» «لا. ليس بي كثير من طابع النساء ولا حدس لدي. لكني لم أعرف أحدا قط - رجلا كان أو امرأة - له مثل لون العين هذا، ولم يكن شهوانيا. ذلك اللون الأزرق القاتم المعتم، مثل الكحلي الباهت - إنه أمر لا يمكن الخطأ فيه.»
ابتسم روبرت إليها بسماحة. إذ إن لها طابعا نسائيا واضحا في نهاية الأمر.
أضافت: «أرى أنك لا تأخذ الأمر بجدية لأنه يتصادف أنه لا يتوافق مع منطق المحامين.» ثم تابعت: «انظر إلى أصدقائك من حولك، وتأكد.»
قبل أن يمنع نفسه تذكر جيرالد بلانت، صاحب فضيحة ميلفورد. بكل تأكيد كان لجيرالد عين زرقاء مائلة إلى الرمادي. وكذلك آرثر ووليس، النادل في مطعم ذا وايت هارت، الذي كان يدفع ثلاثة أنواع مختلفة من النفقات أسبوعيا. وكذلك ... تبا لها، ليس لها الحق أن تطلق تعميما سخيفا مثل هذا، وأن تشعر أنها على حق!
قالت ماريون: «من الرائع أن نخمن ما فعلته بالفعل أثناء ذلك الشهر.» ثم تابعت قائلة: «تنتابني سعادة غامرة أن شخصا ما قد أوسعها ضربا. على الأقل شخص في هذا العالم قدرها حق قدرها. أتمنى أن أقابله يوما ما، حتى أصافحه.» «تصافحينه؟» «مع تلك العينين من المؤكد أنه «رجل».»
قال روبرت، متأهبا للانصراف: «حسنا، أشك كثيرا إن كان لدى جرانت دعوى يريد عرضها على المحكمة. ستصبح كلمة الفتاة أمام كلمتكما، من دون أي داعم آخر للطرفين. ستؤخذ إفادتها ضدك؛ فهي مفصلة للغاية، ومستندة إلى أدلة ظرفية. وضدها قد يكون عدم احتمال حدوث ما ورد في صلب إفادتها. لا أظن أنه قد يأمل في الحصول على حكم من المحكمة.» «لكن الاتهام موجود، سواء عرض القضية على المحكمة أم لا. ولا تقتصر المسألة على بقائها في ملفات سكوتلاند يارد. عاجلا أم آجلا، اتهام كهذا سينتشر حوله اللغط. ولن يريحنا أن يظل الاتهام دون كشف الحقيقة.» «ستكشف الحقيقة، إن كان علي أن أفعل أي شيء بشأنها. لكن أعتقد أن علينا الانتظار يوما أو يومين لنرى ما تنوي سكوتلاند يارد فعله في هذا الشأن. لديهم إمكانيات للوصول إلى الحقيقة أفضل كثيرا مما هو محتمل أن يكون لدينا على الإطلاق.» «أن يقال هذا من محام، فتلك إشادة مؤثرة عن نزاهة الشرطة.» «صدقيني، ربما كان الحق فضيلة، لكن سكوتلاند يارد اكتشفت منذ أمد طويل أنه أصل من أصول مهنتها. فلن يجديهم نفعا أن يرضوا بأي شيء أدنى من ذلك.»
قالت، وهي ترافقه إلى الباب: «إذا رفع القضية إلى المحكمة، وحصل على حكم ، فماذا قد يعني ذلك لنا؟» «لست واثقا إن كان السجن عامين أم سبعة أعوام مع الأشغال الشاقة. أخبرتك أني شخص لا يعول عليه في الإجراءات الجنائية. لكني سأبحث في الأمر.»
قالت: «أجل، افعل هذا من فضلك.» ثم أضافت: «فهناك فرق شاسع بينهما.»
توصل في قرارة نفسه إلى إعجابه بنبرة السخرية التي اعتادت عليها. لا سيما أمام تهمة جنائية.
قالت: «إلى اللقاء.» ثم تابعت قائلة: «لطف منك أنك جئت إلى هنا. لقد هونت الأمر علي كثيرا.»
وروبرت، الذي تذكر إلى أي مدى كاد أن يلقي بها نحو بن كارلي، خجل من نفسه وهو يخطو خطواته نحو البوابة.
الفصل الرابع
سألت العمة لين، وهي تفتح منديل السفرة الخاص بها وتسويه على حجرها المكتنز: «أكان يومك حافلا يا عزيزي؟»
كان هذا سؤالا منطقيا لكن لا يقصد منه شيء. كان أشبه كثيرا بمدخل للعشاء مثل بسط منديلها، ومثل الحركة الاستكشافية بقدمها اليمنى وهي تحدد موضع مسند القدم الذي عوض عن قصر رجليها. لم تتوقع أن تسمع إجابة؛ أو على وجه الدقة، هي لم تع أنها قد سألت السؤال، فلم تستمع إلى إجابته.
رفع روبرت بصره عن المائدة ونظر إليها بلطف مقصود أكثر من المعتاد. بعد ذهابه لتلك الزيارة غير المخطط لها في منزل فرنتشايز، كان الحضور الهادئ للعمة لين باعثا على الراحة، فنظر بوعي جديد إلى الجسد الصغير الثابت ذي الرقبة القصيرة والوجه الوردي المستدير والشعر الرمادي اللامع الذي بدا متجعدا من دبابيس الشعر الكبيرة. عاشت ليندا بينيت حياة حافلة بوصفات الطعام، ونجوم الأفلام، والأطفال المعمدين، والأسواق الخيرية للكنيسة، فوجدت فيها حياة مثالية. كانت السعادة والرضا تحيطان بها مثل العباءة. كانت تقرأ صفحة المرأة في الجريدة اليومية (كيف تصنعين وردا للعروة من قفازات قديمة من جلد الماعز؟) ولا تقرأ شيئا غيرها على حد علم روبرت. من حين لآخر عندما تعيد الصحيفة التي كان روبرت قد تركها هنا أو هناك في مكانها الصحيح، قد تتوقف لتطالع العناوين الرئيسية وتعلق عليها. («رجل ينهي صوما دام اثنين وثمانين يوما» - إنسان أحمق! - «اكتشاف نفط في البهاما» - هل أخبرتك أن الكيروسين قد ارتفع بنسا، يا عزيزي؟) لكن كانت تعطي انطباعا بأنها لا تصدق بتاتا أن العالم الذي تتناوله الصحف قائم على أرض الواقع. فالعالم في عين العمة لين يبدأ بروبرت بلير، وينتهي في نطاق عشرة أميال منه.
سألت، بعد أن فرغت من حسائها: «ما الذي أخرك الليلة إلى هذا الحد يا عزيزي؟»
بناء على خبرته الواسعة، أدرك روبرت أن هذا السؤال هو صيغة مغايرة من سؤال: «أكان يومك حافلا، يا عزيزي؟» «كان علي الذهاب إلى منزل فرنتشايز - ذلك المنزل على طريق لاربورو. كانوا في حاجة إلى استشارة قانونية.» «هل هم أولئك الناس غريبو الأطوار؟ لم أعرف أنك تعرفهم.» «لا أعرفهم. لقد أرادوا فقط مشورتي.» «أتمنى أن يدفعوا لك أتعابك مقابلها، يا عزيزي. فهم لا يحتكمون على أي مال مطلقا، كما تعرف. كان الأب منشغلا بأعمال لها علاقة بالاستيراد - فول سوداني أو شيء من هذا القبيل - وتمادى في شرب الخمر حتى مات. وتركهن من دون بنس واحد، يا لهما من مسكينتين! كانت السيدة شارب العجوز تدير بنسيونا في لندن لسد احتياجاتهن، والابنة عملت كخادمة في جميع الأعمال المنزلية. كانتا ستصبحان في الشارع مع أثاثهن، لولا موت الرجل العجوز في فرنتشايز. أمر قدري!» «عمة لين! من أين علمت بتلك الحكايات؟» «لكنها حقيقية، يا عزيزي. حقيقية تماما. نسيت من أخبرني - شخص ما كان قد أقام في الشارع نفسه في لندن - لكنه من مصدر مباشر، على أي حال. أنا لست الشخص الذي ينقل ثرثرة فارغة، كما تعرف. هل هو منزل جميل؟ كنت أتساءل دائما عما بداخل تلك البوابة الحديدية.» «لا، قبيح نوعا ما. لكن لديهن قطع أثاث أنيقة.»
قالت، وهي تنظر برضا إلى صوان السفرة الأنيق والكراسي الجميلة الموزعة أمام الحائط: «لكنه ليس مصونا مثل أثاثنا، أثق في ذلك.» ثم تابعت قائلة: «قال القس البارحة لو لم يكن هذا المنزل يبدو واضحا أنه منزل، لظنه الناس معرضا.» بدا أن الإشارة إلى القسيس ذكرتها بشيء. «بالمناسبة، هل لك أن تتحلى بصبر جميل مع كريستينا خلال الأيام القليلة المقبلة. أظن أنها ستعمد إلى «الخلاص» مرة أخرى.» «مسكينة يا عمة لين، يا له من أمر ممل لك. لكني كنت أخشى منه. كان يوجد اليوم «اقتباس» على طبق فنجان الشاي الذي أتناوله في الصباح الباكر. «أنت يا الله الذي رآني» على حلية بلون وردي، بتصميم بديع لزنابق عيد الفصح في الخلفية. هل ستغير كنيستها مرة أخرى، إذن؟» «أجل. يبدو أنها قد اكتشفت أن الميثوديين «منافقون»؛ لهذا ستذهب إلى أولئك «المعمدانيين» الذين فوق مخبز بنسن، ولا بد أن تعمد إلى «الخلاص» في أي يوم من الآن. كانت تصدح بتراتيل طوال الصباح.» «لكنها تفعل ذلك دوما.» «ليس بتراتيل «سيف الرب». ما دامت تلتزم بتراتيل «تيجان اللؤلؤ» أو «طرق من الذهب» فأعرف أن كل شيء على ما يرام. لكن بمجرد أن تبدأ تراتيل «سيف الرب» أعرف أنه سيحين دوري لأخبز عما قريب.» «حسنا، حبيبتي، تجيدين الخبز تماما مثل كريستينا.»
قالت كريستينا، وهي قادمة بطبق من اللحم: «أوه، لا، هي لا تجيده.» وهي كائن رقيق كبير البنية له شعر منسدل غير مهندم وعين شاردة. «شيء واحد فقط تصنعه عمتك لين أفضل مني، يا سيد روبرت، وهو كعك الصليب الحار، وذلك ليس إلا مرة واحدة في السنة. لذا! إن لم ألق تقديرا في هذا المنزل، فسأمضي إلى حال سبيلي.»
قال روبرت: «كريستينا، حبيبتي! تعرفين جيدا أن لا أحد قد يتخيل هذا المنزل من دونك، وإن تركته فسأتبعك حتى نهاية العالم. من أجل فطائر الزبدة التي تصنعينها، إن لم يكن لسبب آخر. هل بإمكاننا أن نتناول فطائر الزبدة غدا، بالمناسبة؟» «فطائر الزبدة هو طعام لا يقدم لمذنبين غير تائبين. علاوة على أني لا أظن أن لدي زبدة. لكننا سنرى. في هذه الأثناء، يا سيد بلير، راجع نفسك، وكفاك رجما بالحجارة.»
تنهدت العمة لين تنهيدة رقيقة عندما انغلق الباب وراءها. وقالت متأملة: «عشرون سنة.» ثم أردفت قائلة: «لن تتذكرها عندما قدمت أول مرة من ملجأ أيتام. كانت في الخامسة عشرة من عمرها، طفلة مشاغبة مسكينة ذات جسد نحيل للغاية. أكلت رغيفا كاملا مع الشاي، وقالت إنها ستصلي من أجلي طوال حياتها. وأظن أنها وفت، كما تعلم.»
شيء أشبه بدمعة لمع في عيني الآنسة بينيت الزرقاوين.
قال روبرت بنزعة مادية قاسية: «أتمنى أن تؤجل الخلاص إلى أن تصنع فطائر الزبدة.» ثم أضافت: «هل استمتعت بفيلمك؟» «حسنا عزيزي، عجزت عن نسيان أنه كان له خمس زوجات.» «من الذي له؟» «كان له يا عزيزي. الواحدة تلو الأخرى. جين دارو. في رأيي، أن تلك البرامج البسيطة التي يذيعونها ثرية بالمعلومات لكنها مضللة بعض الشيء. كان طالبا، كما ترى. أقصد في الفيلم. شابا يافعا ورومانسيا. لكني ظللت أتذكر زوجاته الخمس، فكدرن علي وقت العصر. يأسرك النظر إليه أيضا. يقولون إنه جعل زوجته الثالثة تتدلى من نافذة الطابق الخامس من الرسغين، لكني حقا لا أصدق ذلك. أحد الأسباب أنه لا يبدو قويا بالدرجة الكافية. يبدو كأنه كان يعاني من مشكلة في الصدر وهو طفل. تلك النظرة الشاحبة والرسغان النحيلان. ليس قويا بما يكفي ليدلي أي أحد. وقطعا ليس من الطابق الخامس ...»
استمر هذا المونولوج اللطيف، طوال تناول طبق البودينج؛ فشرد روبرت بانتباهه وتفكيره نحو منزل فرنتشايز. اتضح عليه ذلك وهما ينهضان من المائدة ويتجهان إلى غرفة الجلوس لاحتساء القهوة.
كانت تقول: «إنه ثوب لا يوجد لجماله مثيل، لو أن الخادمات تعي ذلك.» «ما هو؟» «المئزر. لقد عملت كخادمة في القصر، كما تعرف، وكانت ترتدي تلك الهلاهيل السخيفة من قماش الموسيلين. إنه جذاب للغاية. هل سيدتا منزل فرنتشايز لديهما خادمة، بالمناسبة؟ لا؟ حسنا، لا يدهشني ذلك. لقد حرما آخر خادمة عملت لديهما من الطعام، كما تعرف. أعطتاها ...» «عجبا، يا عمة لين!» «أؤكد لك. في الإفطار كانت تحصل على بقايا الخبز المحمص الذي تناولاه. وعندما كانتا تتناولان بودينج الحليب ...»
لم يسمع روبرت الجريمة المنكرة التي نتجت عن بودينج الحليب. بالرغم من عشائه الشهي، انتابه من دون مقدمات شعور بالتعب والإحباط. إذا كانت العمة لين لم تر ضررا من تكرار تلك القصص السخيفة، فماذا قد تفعله الثرثرة الفعلية في ميلفورد مع أخبار عن فضيحة حقيقية؟ «بمناسبة الحديث عن الخادمات - السكر البني نفد يا عزيزي؛ لذا عليك أن تحصل على قطع لهذه الليلة - وبمناسبة الحديث عن الخادمات، فإن الخادمة الصغيرة لكارلي قد أوقعت نفسها في مأزق.» «تقصدين أن شخصا آخر قد أوقعها في مأزق.» «نعم، آرثر ووليس، نادل مطعم ذا وايت هارت.» «ماذا، ووليس مرة أخرى!» «أجل، الأمر أبعد من أن يكون حقا مجرد مزحة، أليس كذلك؟ لا يسعفني التفكير في سبب أن الرجل لا يتزوج. ربما يصير الأمر أقل تكلفة بكثير.»
لكن روبرت لم يكن يصغي إليها. عاد بذهنه إلى قاعة استقبال منزل فرنتشايز، حيث سخر منه بأسلوب لطيف على حساسيته القانونية تجاه التعميم. عاد إلى القاعة البائسة ذات الأثاث الذي انطفأ لمعانه، حيث تلقى الأشياء على كراس ولا يكلف أحد نفسه عناء حملها.
وحيث لا أحد، كما خطر في باله الآن، يلاحقه بمطفأة السجائر.
الفصل الخامس
مضى بعدها ما يزيد على أسبوع عندما دس السيد هيزيلتاين رأسه النحيل الصغير الشائب من باب روبرت ليخبره بأن المحقق هالم حضر في المكتب ويود مقابلته لحظة.
إن الغرفة في الجهة المقابلة من الردهة التي يمارس فيها السيد هيزيلتاين سلطته على الكاتبين كان يشار إليها دائما باسم «المكتب»، رغم أن غرفة روبرت والغرفة الصغيرة خلفها التي يشغلها نيفيل بينيت، على الرغم من سجادها وخشبها الماهوجني كانتا مكتبين أيضا بصورة واضحة. خلف «المكتب» توجد غرفة انتظار رسمية، وهي غرفة صغيرة مضاهية لغرفة بينيت الشاب، لكنها لم تكن معروفة قط لدى موكلي بلير وهيوارد وبينيت. يدخل الزائرون إلى المكتب ليعلنوا عن مجيئهم، ويظلون غالبا هناك يثرثرون حتى يفرغ روبرت لمقابلتهم. كانت «غرفة الانتظار» الصغيرة قد هيأتها الآنسة تاف منذ مدة طويلة لكتابة خطابات روبرت فيها، بعيدا عن تشتيت الزائرين وشمشمة ساعي المكتب.
عندما كان السيد هيزيلتاين قد انصرف بعيدا ليستقدم المحقق، لاحظ روبرت بدهشة أنه كان قلقا كما لم يكن قلقا من قبل منذ أن كان في أيام شبابه يقترب من قائمة نتائج الامتحانات المثبتة على لوحة. أكانت حياته هادئة للغاية لدرجة أن معضلة تخص غريبا قد تكدرها إلى هذا الحد؟ أم كان الأمر أن عائلة شارب ظلت لا تغيب عن فكره خلال الأسبوع الماضي لدرجة أنها لم تعد من الغرباء؟
هيأ نفسه لأي شيء سيخبره به السيد هالم، لكن ما اتضح من عبارات هالم الحذرة أن شرطة سكوتلاند يارد قد أفهمته أنها لن تتخذ أي إجراءات بناء على الأدلة الحالية. لاحظ بلير عبارة «أدلة حالية» وخمن المراد منها بدقة. فهم لن يعدلوا عن النظر في القضية - وهل عدلت سكوتلاند يارد عن النظر في أي قضية من قبل؟ - فهم يراقبون الأمور في هدوء وحسب.
فكرة أن سكوتلاند يارد خاصة تراقب الأمور في هدوء لم تكن مطمئنة في ظل تلك الملابسات.
قال: «أعتبر أن هذا يعني أنه ينقصهم دليل مؤيد.»
قال هالم: «لم يتمكنوا من اقتفاء أثر سائق الشاحنة الذي أوصلها.» «هذا لم يكن مفاجئا لهم.»
وافقه هالم: «أجل»، ثم تابع قائلا: «لن يخاطر أي سائق بالطرد من عمله بالاعتراف أنه أوصل شخصا ما. لا سيما إن كانت فتاة. إن مديري شركات النقل صارمون للغاية بخصوص هذا الأمر. وعندما يتصل الأمر بقضية فتاة تعرضت لمأزق بشكل أو بآخر، وعندما تصبح الشرطة هي المسئولة عن الاستجواب، لن يقر رجل في قواه العقلية بأنه قد رآها من قبل.» ثم أخذ السيجارة التي قدمها روبرت إليه. وقال: «كانوا في حاجة إلى ذلك السائق.» ثم أضاف قائلا: «أو شخصا مثله.»
قال روبرت، متأملا: «أجل.» ثم أضاف قائلا: «ما انطباعك عنها، يا هالم؟» «الفتاة؟ لا أعرف. طفلة لطيفة. بدت صادقة تماما. كما لو أنها واحدة من بناتي.»
كانت هذه، كما أدرك بلير، عينة معبرة مما سيواجهونه إذا وصل الأمر إلى قضية منظورة أمام المحكمة. في نظر كل رجل ذي مشاعر طيبة، قد تبدو الفتاة في منصة الشهود مثل ابنته. ليس لأنها كانت شريدة، لكن من أجل السبب الوجيه الذي يثبت أنها ليست كذلك. معطف المدرسة الوقور، الشعر البني الفاتح، الوجه الصغير الخالي من أي زينة وطابع الحسن الجذاب أسفل عظمة الوجنتين، والعينان المتباعدتان البارزتان - كان ذلك هو ما يتمناه أي وكيل نيابة في الضحية.
قال هالم، وهو لا يزال يفكر في الأمر: «مثلها مثل أي فتاة في عمرها.» ثم تابع قائلا: «لا شيء يؤخذ ضدها.»
قال روبرت بذهن شارد، وعقله لا يزال يفكر في الفتاة: «إذن، أنت لا تحكم على الأشخاص من لون أعينهم.»
علق هالم باندهاش: «ماذا! كيف لي ألا أفعل ذلك؟!» ثم أردف قائلا: «صدقني، درجة بعينها من درجات الأزرق الفاتح تدين رجلا، بالنسبة إلي، قبل أن يفتح فمه. جميعهم كذابون لهم مظهر خداع.» توقف ليأخذ نفسا من سيجارته. «وميالون إلى القتل، أيضا، خطر ذلك في بالي، رغم أني لم ألتق بكثير من القتلة.»
قال روبرت: «لقد نبهتني.» ثم أردف قائلا: «في المستقبل سأنأى بنفسي عن أصحاب العيون ذات اللون الأزرق الفاتح.»
ابتسم هالم ابتسامة عريضة. «ما دامت محفظتك معك، فلا داعي للقلق. جميع أكاذيب أصحاب العيون الزرقاء الفاتحة من أجل المال. ولا يلجئون إلى القتل إلا عندما تتعقد الأمور بسبب أكاذيبهم. ليس لون العيون هو علامة القاتل الحقيقي، إنما وضعها.» «وضعها؟» «أجل. لها وضع مختلف. أقصد العينين. تبدوان وكأنهما تنتميان لوجهين مختلفين.» «ظننتك لم تكن قد قابلت كثيرا من تلك العيون.» «لا، لكني قرأت سجلات القضايا كافة وتفحصت الصور. أدهشني دوما أنه لا يوجد سجل عن جرائم القتل يذكر ذلك، فهذا كثيرا ما يحدث. تباين وضع العينين، هذا ما أقصده.» «بهذا فهي بالكامل نظرية من وضعك.» «نتاج ملاحظتي الشخصية. هذا صحيح. عليك أن تجربها في وقت ما. فهي مذهلة. لقد وصلت إلى مرحلة أني أفتش في العيون الآن.» «أتقصد في الشارع؟» «لا، ليس تماما بهذا القدر من السوء. لكن في كل قضية قتل جديدة. أنتظر الصورة، وعندما تصل أفكر: «ها هي! ألم أقل لك؟!»» «وعندما تصل الصورة والعينان متماثلتان بدقة؟» «فذلك ربما تقريبا ما يطلق المرء عليه دائما حادث قتل عارض. هذا النوع من القتل الذي ربما يقوم به أحد في ظل ظروف معينة.» «وعندما تفحص صورة القس المبجل نيذر دمبليتون الذي يهديه الأبرشيون الممتنون هدية احتفالا بعامه الخمسين من الخدمة المتفانية، وتلاحظ أن وضع عينيه متباين بدرجة كبيرة، ما الاستنتاج الذي ستخلص إليه؟» «أن زوجته ترضيه، وأطفاله يطيعونه، وراتبه يكفيه لسد احتياجاته، ولا شأن له بالسياسة، وتربطه علاقات طيبة مع أصحاب الشأن المحليين، ومسموح له بأن يحصل على نوع الخدمات التي يرغب فيها. في الواقع، لم يكن لديه قط أدنى حاجة إلى قتل أحد.» «يبدو لي أنك تجمع بين الشيء ونقيضه دون مشكلة.»
قال هالم بامتعاض: «ها!» وأضاف قائلا، وهو يهم بالانصراف: «لا أفعل سوى أني أضيع ملاحظات الشرطة الدقيقة على عقل قانوني. ظننت أنك كمحام ستسر ببعض النصائح المجانية عن الحكم على أشخاص غرباء تماما.»
أشار روبرت قائلا: «كل ما تفعله هو تشويه عقل بريء. لن أستطيع أبدا أن أتفقد موكلا جديدا من الآن فصاعدا، من دون أن يسجل عقلي الباطن لون عينيه وتطابق وضعهما.» «حسنا، وهو المطلوب. إنه الوقت المناسب كي تعرف بعض الحقائق عن الحياة.»
قال روبرت، مستعيدا رزانته: «أشكرك على مجيئك لتخبرني عن قضية «فرنتشايز».»
قال هالم: «الهاتف في هذه المدينة لا يقل سرية عن المذياع.» «على أي حال، شكرا لك. لا بد أن أخبر السيدتين شارب في الحال.»
عندما غادر هالم المكان، رفع روبرت سماعة الهاتف.
لم يكن بوسعه، مثلما قال هالم، التحدث بحرية عبر الهاتف، لكنه كان سيقول إنه سيذهب لرؤيتهما في الحال وإنه يحمل أخبارا سارة. ذلك سيزيل عنهما الهم. وكذلك - بعد أن نظر في ساعته - كان هذا هو الوقت المحدد لموعد الراحة اليومي للسيدة شارب، وبهذا ربما كان على أمل أن يتفادى مقابلة التنين العجوز. وعلى أمل أيضا أن يتحدث على انفراد مع ماريون شارب، بكل تأكيد؛ لكنه أبقى تلك الفكرة غير المتبلورة في باله.
لكن لم يتلق ردا على اتصاله.
بمساعدة عامل السنترال الضجر والمتبرم اتصل بالرقم خمس دقائق كاملة، من دون نتيجة. فالسيدتان شارب لم تكونا موجودتين بالمنزل.
بينما كان لا يزال منشغلا مع عامل السنترال، دخل مكتبه نيفيل بينيت مرتديا بدلته غير المعتادة التي من صوف التويد، وقميصا ذا لون وردي، ورباط عنق بنفسجي. تساءل روبرت للمرة المائة، رامقا إياه بنظرة من فوق سماعة الهاتف، ماذا سيصبح مصير مكتب بلير وهيوارد وبينيت إذا أفلت في النهاية من قبضة بلير المحكمة لينتقل إلى يدي هذا الفتى الشاب من آل بينيت. هو يعلم أن ذلك الشاب له عقل ذكي، لكن ذكاءه لن يأخذه بعيدا في ميلفورد. فالناس في ميلفورد تتوقع من الرجل أن يقلع عن التحلي بشخصية الطالب الجامعي عند بلوغه سن التخرج. لكن لم يتضح أي دليل على قبول نيفيل للعالم خارج نطاق دائرته. كان لا يزال يدهش ذلك العالم بنشاط، ولكن بلا وعي منه. وملابسه خير شاهد.
لم تكن المسألة هي رغبة روبرت في أن يرى الفتى مرتديا بدلات نمطية بلون أسود وقور. إذ إن بدلته هو شخصيا رمادية من صوف التويد، وموكلوه القرويون كانوا سينظرون بريبة إلى ملابس «المدينة». («ذلك الشاب الضئيل البغيض ذو البدلات المقلمة»، هكذا قالت ماريون شارب في تلك اللحظة العفوية على الهاتف عن محام يرتدي ثياب أهل المدينة.) لكن كان هناك نوعان مختلفان من البدل المصنوعة من التويد، ونيفيل بينيت كان ممن يفضلون النوع الثاني. النوع الثاني على نحو مبالغ فيه تماما.
قال نيفيل، عندما شعر روبرت باليأس ووضع سماعة الهاتف: «روبرت، لقد انتهيت من أوراق نقل كالثورب، وفكرت في الانطلاق إلى لاربورو عصر اليوم، إن لم يكن لديك شيء تريد مني أن أفعله.»
سأل روبرت نيفيل الذي كان قد خطب، على الطريقة الحديثة غير الرسمية، الابنة الثالثة لأسقف لاربورو: «ألا يمكنك أن تتحدث إليها على الهاتف؟» «الأمر لا يخص روزماري. فهي في لندن مدة أسبوع.»
قال روبرت، الذي كان يشعر بالاستياء لفشله في التحدث إلى السيدتين شارب في الوقت الذي تلقى فيه أخبارا سارة لهما: «اجتماع للاحتجاج في ألبرت هول، على ما أظن.»
قال نيفيل: «لا، في جيلدهول.» «وما الموضوع هذه المرة؟ أهو عن تشريح الحيوانات الحية؟»
قال نيفيل، وقد بدا عليه أنه يتحلى بقدر كبير من الصبر الجاد: «فكرك قديم في بعض الأحيان لدرجة فظيعة.» ثم أردف قائلا: «لا أحد يعارض تشريح الحيوانات الحية في تلك الأيام باستثناء بعض غريبي الأطوار. موضوع الاحتجاج هو الاعتراض على رفض الدولة لمنح اللجوء إلى الوطني كوتوفيتش.» «أظن أن ذلك الوطني المزعوم «مطلوب» على وجه السرعة في بلده.» «من أعدائه؛ صدقت.» «من الشرطة؛ لارتكاب جريمتي قتل.» «لتنفيذ أحكام بالإعدام.» «هل أنت من أتباع جون نوكس يا نيفيل؟» «يا إلهي، لا. ما علاقة ذلك بالأمر؟» «كان يؤمن بمنفذي الإعدام الذين نصبوا أنفسهم لذلك. صارت الفكرة «مندثرة» قليلا في هذا البلد، حسبما أفهم. على أي حال، إن كان الاختيار بين رأي روزماري عن كوتوفيتش ورأي الفرع الخاص لسكوتلاند يارد سآخذ برأي الفرع الخاص.» «الفرع الخاص لا يفعل سوى ما تمليه عليه وزارة الخارجية. الجميع يعلم ذلك. لكن إن بقيت وأوضحت لك تداعيات قضية كوتوفيتش، فسأتأخر عن الفيلم.» «أي فيلم؟» «الفيلم الفرنسي الذي سأذهب لمشاهدته في لاربورو.» «أظن أنك تعرف أن أغلب تلك التفاهات الفرنسية التي تلهث خلفها الطبقة المثقفة البريطانية هي أفلام متوسطة المستوى في بلدها؟ دعنا من ذلك. هل تعتقد أن بإمكانك التوقف مدة قصيرة لتضع رسالة في صندوق رسائل منزل فرنتشايز أثناء مرورك به؟» «ربما. كنت أريد دائما أن أرى ما بداخل ذلك السور. من يعيش فيه الآن؟» «سيدة عجوز وابنتها.»
كرر نيفيل، وقد انتبهت أذناه تلقائيا: «ابنتها؟» «ابنة في منتصف العمر.» «آه. حسنا، سأحضر معطفي فحسب.»
اقتصر ما كتبه روبرت على أنه قد حاول التحدث إليهما، وأن عليه أن يذهب في مهمة لساعة أو أكثر، لكنه سيعاود الاتصال بهما عندما يتسع له الوقت، وأن سكوتلاند يارد لم تحل القضية للمحكمة؛ إذ ليست هناك قضية، وقد أقرت بذلك.
دخل نيفيل سريعا وهو يحمل معطفا مريعا ذا أكمام بخياطة مائلة فوق ذراعه، وانتزع الخطاب ثم اختفى قائلا: «أخبر العمة لين أني ربما أتأخر. فقد دعتني على العشاء.»
ارتدى روبرت قبعته الرمادية الوقورة ثم اتجه إلى فندق روز آند كراون لمقابلة موكله، وهو مزارع عجوز، وآخر رجل في إنجلترا يعاني من نقرس مزمن. لم يحضر الرجل العجوز حتى تلك اللحظة، وروبرت، الهادئ للغاية كالعادة، ذو النفس السمحة المتساهلة، كان يشعر بنفاد صبره. لقد تغير نمط حياته. قبل الآن، كانت الأحداث على القدر نفسه من الإثارة؛ وقد كان ينتقل من حدث لحدث آخر من دون استعجال ولا انفعال. أما الآن فهناك بؤرة اهتمام، والباقي يدور حولها.
جلس في الردهة على أحد المقاعد المكسوة بقماش قطني مطبوع، ونظر إلى مجلات بالية على طاولة القهوة بجانبه. كانت المجلة الوحيدة ذات العدد الجديد هي مجلة «ذا ووتشمان» وهي مجلة أسبوعية، فأمسكها على مضض، وهو يفكر مرة أخرى كيف أن الملمس الجاف للورق أزعج أطراف أصابعه، وأن حوافها المسننة ضرست أسنانه. كانت تتضمن المجموعة المعتادة من الشكاوى، والقصائد، والتحذلق المعرفي؛ مع منح مساحة كبيرة من المساحة المخصصة للاحتجاج إلى حما نيفيل المستقبلي، الذي أفرد لنفسه ثلاثة أرباع عمود متحدثا عن العار الذي يصم جبين إنجلترا؛ لرفضها منح اللجوء إلى الوطني الهارب.
توسع أسقف لاربورو منذ مدة طويلة في الفلسفة المسيحية لتشمل المعتقد القائل بأن ضحايا الظلم والاضطهاد هم على حق دائما. كان معروفا بدرجة كبيرة وسط ثوار البلقان، ولجان الإضراب البريطانية، والسجناء القدامى في المؤسسات العقابية المحلية. (الاستثناء الوحيد للأمر الأخير هو صاحب السوابق العتيد، باندي براين، الذي استهان بالأسقف الصالح استهانة شديدة، واحتفظ بمودته من أجل مدير السجن؛ الذي يرى أن دموع العين ليست سوى قطرات ماء، والذي كشف عن عدم صحة أكثر رواياته المؤثرة بدقة سريعة وعقلانية.) قال السجناء القدماء بعطف، ليس هناك أي شيء لن يصدقه الأسقف العجوز؛ فبإمكانك دائما المبالغة في الحديث.
وجد روبرت أن الأسقف في العادة مسل بدرجة ما، لكنه لم يكن اليوم إلا مزعجا. حاول قراءة قصيدتين، لم يفهم أيا منهما، فألقى المجلة مرة أخرى على المنضدة.
سأل بن كارلي، بينما يقف إلى جانب كرسي روبرت ويومئ برأسه نحو مجلة «ذا ووتشمان»: «هل وقعت إنجلترا في الخطأ مرة أخرى؟» «مرحبا كارلي.»
قال المحامي الضئيل، وهو يقلب المجلة في احتقار بأصابعه المتسخة بالنيكوتين: «ماربل آرتش للأثرياء.» ثم سأله قائلا: «أتود تناول مشروب؟» «شكرا لك، لكني في انتظار السيد وينيارد العجوز. إنه يتحرك بصعوبة، في هذه الأيام.» «لا، أيها الرجل المسكين. إنها خطايا الآباء. من السيئ أن تعاني من خطيئة لم ترتكبها! رأيت سيارتك خارج منزل فرنتشايز منذ أيام قلائل.»
قال روبرت: «أجل»، وتعجب قليلا. كان على غير عادة بن كارلي أن يكون صريحا. وإن كان قد رأى سيارة روبرت، فإنه قد رأى أيضا سيارتي الشرطة. «إذا كنت تعرفهما، سيصبح بوسعك أن تخبرني بشيء كنت أريد دائما أن أعرفه عنهما. هل الشائعة صحيحة؟» «شائعة؟» «هل هما ساحرتان؟»
قال روبرت باستخفاف: «هل من المفترض أن تكونا هكذا؟»
قال كارلي، وعيناه السوداوان اللامعتان تستقران لحظة على عيني روبرت عن قصد، ثم تستمران في النظر عبر الردهة في تفحصهما السريع المعتاد: «ثمة تأييد قوي لهذا المعتقد بين أهل الريف، حسبما أفهم.»
فهم روبرت أن الرجل الضئيل كان يعرض عليه، ضمنيا، معلومات ظن أنها ربما ستفيده.
قال روبرت: «آه، حسنا، منذ أن دخلت وسائل الترفيه إلى الريف مع السينما، فليباركها الله، وضع حد لمطاردة الساحرات.» «لا تصدق ذلك. قدم مبررا مقنعا إلى هؤلاء الريفيين الحمقى وسيطاردون الساحرات بأقصى ما أوتوا من قوة. إنهم مجموعة من المنحطين أخلاقيا بالفطرة، إذا أردت رأيي. ها قد وصل رجلك العجوز. حسنا، سأراك لاحقا.»
كانت واحدة من المزايا الرئيسية في روبرت أنه كان يبدي اهتماما صادقا بالناس ومشكلاتهم؛ لهذا أنصت إلى القصة غير المترابطة للسيد وينيارد العجوز بلطف حاز به على امتنان الرجل العجوز - ونتيجة لهذا اللطف أضاف العجوز، رغم عدم علم روبرت بذلك، مائة جنيه إلى المبلغ المخصص أمام اسمه في وصية المزارع العجوز - لكن بمجرد انتهاء مهمتهما اتجه مباشرة إلى هاتف الفندق.
كان هناك أناس كثيرون في انتظار الحديث عبر هاتف الفندق؛ لهذا قرر أن يستخدم هاتف المرأب في سين لين. من المفترض أن المكتب قد أغلق الآن وعلى أي حال هو يقع على مسافة بعيدة. فتواردت أفكاره وهو يعبر الطريق بخطوات مسرعة أنه إذا اتصل من هاتف المرأب، فسيجد سيارته بالقرب منه إذا طلبت - إذا طلبتا منه الحضور والاستفاضة في مناقشة القضية، وهو أمر محتمل للغاية، بل من المؤكد أنهما ستطلبان ذلك - أجل، بالطبع سترغبان في مناقشة ما بوسعهما فعله لدحض رواية الفتاة، سواء أكانت القضية ستحال للمحكمة أم لا - وقد شعر بالارتياح للغاية؛ بسبب الأخبار التي أتى بها هالم لدرجة أنه لم يكن قد فكر في ...
قال بيل برو، وهو يسحب جسده الكبير عبر باب المكتب الضيق، وقد كان وجهه الدائري الهادئ مرحبا وخاليا من التعبير: «مساء الخير يا سيد بلير.» ثم أردف قائلا: «أتريد سيارتك؟» «لا، أريد استخدام هاتفك أولا، إن أمكن لي.» «بالتأكيد، تفضل.»
ستانلي، الذي كان أسفل سيارة، أخرج وجهه المشاكس وسأل: «هل حصلت على أي معلومات؟» «ولا معلومة واحدة، يا ستان. لم أراهن في سباق الخيل منذ شهور.» «لقد خسرت جنيهين على حصان يقوم بأعمال المزرعة يدعى برايت بروميس. هذا نتيجة أن تضع جل ثقتك في الخيل. في المرة التالية التي تحصل فيها على معلومات ...» «في المرة التالية التي سأراهن فيها سأخبرك. لكن سيظل الرهان على الخيل.»
قال ستانلي، وهو يختفي تحت السيارة مرة أخرى: «ما دام ليس حصان مزرعة ...»، واتجه روبرت إلى المكتب الصغير المضيء ثم أمسك بسماعة الهاتف.
كانت ماريون من أجابت الهاتف، وبدا صوتها مرحبا ومسرورا. «لا يمكنك أن تتخيل مدى الارتياح الذي بعثته رسالتك فينا. كنت أنا وأمي نجمع نسالة الحبال طيلة الأسبوع الماضي. هل لا يزال المساجين يجمعون تلك النسالة، على أي حال؟» «لا أظن. إنهم يخضعون لشيء أكثر إيجابية في الوقت الحالي، حسبما أفهم.» «علاج مهني.» «تقريبا.» «لا أعتقد أن أي أعمال حياكة إجبارية قد تقوم شخصيتي.» «على الأرجح سيجدون لك شيئا أكثر ملاءمة. فإنه يتنافى مع الفكر الحديث أن تجبر سجينا على فعل أي شيء لا يرغب هو فيه.» «تلك هي المرة الأولى التي أسمعك فيها تتحدث بسخرية لاذعة.» «هل كنت لاذعا؟» «كمادة أنجوستورا خالصة.»
حسنا، لقد تطرقت إلى موضوع الشرب؛ ربما ستقترح الآن أن يحضر لتناول بعضا من نبيذ الشيري قبل العشاء. «يا لوسامة ابن أخيك، بالمناسبة!» «ابن أخي؟» «الشخص الذي أحضر الرسالة.»
قال روبرت بنبرة فاترة: «إنه ليس ابن أخي.» لم تبدو العمومة أنها تضيف على العمر عمرا؟ ومن ثم أضاف: «هو ابن ابن عمي. لكن يسرني أنه حاز على إعجابك.» هذا لن يفي بالغرض؛ كان عليه أن يتولى هو زمام الأمور. «أود مقابلتك بعض الوقت حتى نناقش ما بوسعنا فعله لتسوية الأمور. حتى نجعل الوضع أكثر أمانا ...» ثم انتظر الرد. «أجل، بكل تأكيد. ربما بإمكاننا أن نجري زيارة إلى مكتبك في صباح يوم ما عند ذهابنا للتسوق؟ ما طبيعة الشيء الذي بإمكاننا أن نفعله، في رأيك؟» «نوع من التحريات السرية، ربما. لا يمكنني مناقشة الأمر على الهاتف.» «أجل، بالطبع لا يمكنك. هل من المناسب أن نأتي يوم الجمعة صباحا؟ هذا يوم التسوق الأسبوعي بالنسبة لنا. أم أن يوم الجمعة يوم حافل بالنسبة إليك؟»
قال روبرت، متقبلا خيبة أمله على مضض: «لا، الجمعة سيناسبني تماما.» ثم أردف قائلا: «هل يناسبكما أن تأتيا عند الظهر؟» «لا بأس، هذا مناسب تماما. الساعة الثانية عشرة بعد يوم غد، في مكتبك. إلى اللقاء، وأشكرك مرة ثانية على دعمك ومساعدتك.»
أنهت المكالمة، بكل حزم وسلاسة، من دون الثرثرات التمهيدية المعتادة التي قد توقعها روبرت من النساء.
سأل بيل برو أثناء خروجه إلى ضوء النهار الخافت داخل مرأب السيارات: «هل لي أن أجلبها لك؟» «ماذا؟ آه، السيارة. لا، لن أحتاج إليها الليلة، شكرا لك.»
انطلق في جولته المسائية المعتادة عبر هاي ستريت، محاولا بصعوبة ألا يشعر بالتجاهل. لم يكن حريصا على الذهاب إلى منزل فرنتشايز في المرة الأولى، وكان قد أبدى تردده بصورة واضحة تماما؛ وهي كانت تتجنب بتلقائية تكرار نفس الملابسات. ولأنه قد حدد موقفه من أمرهما على أنه مجرد مهمة عمل، يرجى حلها في مكتب، بصفة غير شخصية. لذا، هما لن يجعلاه ينخرط مجددا في الأمر أكثر من ذلك.
حسنا، فكر، وهو يرتمي في مقعده المفضل إلى جانب المدفأة في غرفة الجلوس ويفتح الجريدة المسائية (التي طبعت ذلك الصباح في لندن)، أنه عند قدومهما إلى المكتب يوم الجمعة بإمكانه أن يفعل شيئا حتى يسند الأمر على أساس شخصي. حتى يمحو ما ترسخ في الذاكرة عن ذلك الامتناع البغيض الذي أبداه في المرة الأولى.
إن هدوء المنزل العتيق خفف عنه. كانت كريستينا قد اختلت بنفسها في غرفتها يومين، منهمكة في الصلوات والتأمل، والعمة لين كانت في المطبخ تعد العشاء. وهناك خطاب مبهج من ليتيس، أخته الوحيدة، التي كانت قد قادت شاحنة عدة سنوات أثناء حرب دموية، فوقعت في حب رجل كندي طويل هادئ، وكانت تعكف الآن على تربية خمسة أطفال شقر أشقياء في مقاطعة ساسكاتشوان. أنهت خطابها قائلة: «تعال لزيارتنا قريبا يا عزيزي روبين، قبل أن يشب الأطفال الأشقياء وقبل أن تنمو الطحالب حولك مباشرة. أنت تعلم كم أن العمة لين خطر عليك!» كان بإمكانه أن يسمعها وهي تقول هذه الكلمات. فهي والعمة لين لم تكونا على وفاق قط.
كان يبتسم، مسترخيا وغارقا في الذكريات، عندما بدد هدوءه وسلامه اقتحام نيفيل.
سأله نيفيل بحدة: «لم لم تخبرني بأنها هكذا؟!» «من هي؟» «تلك السيدة التي من عائلة شارب! لم لم تخبرني؟»
قال روبرت: «لم أتوقع أنك ستقابلها.» ثم أردف قائلا: «كل ما كان عليك فعله هو أن تلقي الخطاب عبر الباب.» «لم يكن في الباب فتحة لألقيه عبرها؛ لهذا دققت الجرس، وكانتا قد عادتا للتو من المكان الذي كانتا فيه. على أي حال، لقد كانت هي من أجابت.» «ظننت أنها تغفو في وقت ما بعد الظهر.» «لا أظن أنها تنام أبدا. فهي لا تمت إلى السلالة البشرية بصلة على الإطلاق. إنها جسد مدمج من النار والمعدن.» «أعلم أنها سيدة عجوز فظة للغاية، لكن لا بد أن تلتمس لها الأعذار. لقد تعرضت لظروف صعبة ...» «عجوز؟ عمن تتحدث؟» «عن السيدة شارب العجوز، بكل تأكيد.» «لم أر من الأساس السيدة شارب العجوز. أتحدث عن ماريون.» «ماريون شارب؟ وكيف عرفت أن اسمها ماريون؟» «هي من أخبرتني. إن الاسم يليق بها، أليس كذلك؟ لا يمكن لها أن تكون أي شيء سوى ماريون.» «يبدو أنك أصبحت تألف المعارف على الأبواب بدرجة ملحوظة.» «أوه، لقد قدمت لي الشاي.» «الشاي! ظننتك متعجلا بشدة لمشاهدة الفيلم الفرنسي.» «لن أتعجل بشدة قط لأفعل أي شيء عندما تدعوني سيدة مثل ماريون شارب على الشاي. هل لاحظت عينيها؟ لكنك بالطبع لاحظت. فأنت محاميها. تلك الدرجة المذهلة من اللون الرمادي المائل إلى البندقي. والنمط الذي يستقر به حاجباها أعلاهما، مثل أثر فرشاة لرسام نابغة. إنهما حاجبان يشبهان الجناح. لقد ألفت قصيدة عنها في طريق عودتي إلى المنزل. أتود سماعها؟»
قال روبرت في حزم: «لا.» ثم أردف قائلا: «هل استمتعت بالفيلم؟» «لم أذهب لمشاهدته.» «لم تذهب لمشاهدته!» «أخبرتك بأني احتسيت الشاي مع ماريون بدلا من ذلك.» «تقصد أنك قضيت «وقت ما بعد الظهر» بأكمله في منزل فرنتشايز!»
قال نيفيل بأسلوب حالم: «أظنني كذلك، لكن، قسما بالله، لا يبدو أن الوقت قد تعدى سبع دقائق.» «وماذا حدث لتعطشك إلى السينما الفرنسية؟» «لكن ماريون هي ذاتها فيلم فرنسي. حتى أنت لا بد أن تدرك هذا!» فزع روبرت عند سماع «حتى أنت». ثم تابع قائلا: «لم تكترث بالخيال، إذا كان بإمكانك أن تكون مع الواقع؟ الواقع. هذه هي الصفة المناسبة تماما لها، أليس كذلك؟ لم أقابل قط أي أحد حقيقي مثل ماريون.» «ولا حتى روزماري؟» كان روبرت في حالة تعرفها العمة لين بأنها حالة «ضيق». «يا إلهي، روزماري حبيبة، وسأتزوجها، لكن ذلك شيء مختلف تماما.»
قال روبرت، في وداعة مصطنعة: «حقا؟» «بالطبع. من المستحيل أن يتزوج الرجال نساء مثل ماريون شارب. فهذا الزواج سيكون أشبه بالزواج بجان دارك. كفر بكل تأكيد أن تفكر في الزواج بمثل هؤلاء النساء. لقد تحدثت عنك بكل لطف، على أي حال.» «كان ذلك لطفا منها.»
كانت النبرة جافة للغاية حتى إن نيفيل قد أدرك مغزاها.
سأل، متوقفا لينظر إلى ابن عمه في تشكيك متفاجئ: «ألم تعجبك؟»
كان روبرت قد توقف برهة حتى يعود إلى حالة روبرت بلير اللطيف، المتساهل، المتسامح؛ فهو الآن في حالة رجل متعب لم يتناول عشاءه بعد، ويعاني من ذكرى إحباط وتجاهل.
قال: «في نظري، ماريون شارب ليست إلا امرأة أربعينية نحيفة تعيش مع أم عجوز فظة في منزل قديم قبيح، وتحتاج إلى استشارة قانونية عن قضية مثل أي شخص آخر.»
لكن حتى الكلمات وهي تخرج منه أراد أن يوقفها، كما لو أنها كانت خيانة لصديق.
قال نيفيل في تسامح: «لا، ربما أنها ليست على هواك.» ثم تابع قائلا: «كنت دائما تفضلهن أغبياء قليلا، وشقراوات، أليس كذلك؟» قيل ذلك من دون إضمار خبث، كما لو أن شخصا يذكر حقيقة بسيطة. «لا أتصور لم عليك أن تفكر هكذا.» «جميع النساء اللاتي كدت تتزوجهن كن من ذلك الصنف.»
قال روبرت في عناد: «أنا لم «أكد أتزوج» أي واحدة قط.» «هذا ما تظنه. لن تعرف أبدا كم كادت مولي ماندرس أن توقع بك.»
قالت العمة لين، وقد جاءت ووجهها محتقن من الطهو وتحمل صينية عليها نبيذ الشيري: «مولي ماندرس؟» ثم تابعت: «إنها فتاة سخيفة. تخيلت أنك تستخدم لوح الخبز لعمل فطائر البان كيك. وكانت تنظر لنفسها دائما في مرآة جيبها الصغيرة.» «أنقذتك العمة لين تلك المرة، أليس كذلك، يا عمة لين؟» «لا أعرف عم تتحدث يا عزيزي نيفيل. كفاك سيرا حول بساط المدفأة، وضع قطعة حطب في النار. هل أعجبك الفيلم الفرنسي، يا عزيزي؟» «لم أذهب. لقد احتسيت الشاي في منزل فرنتشايز بدلا من ذلك.» ثم رمق روبرت بنظرة، بعد أن علم الآن أن رد فعل روبرت يحمل المزيد أكثر مما يبدو للعين. «مع هاتين المرأتين الغريبتين؟ عم تحدثتم؟» «عن الجبال ... موباسان ... الدجاج ...» «الدجاج يا عزيزي؟» «أجل؛ عن الشر المكثف في وجه دجاجة عند النظر إليها عن قرب.»
نظرت العمة لين نظرة غامضة. ثم التفتت إلى روبرت، وكأنها تنظر إلى أرض ثابتة. «هل علي أن أزورهما يا عزيزي، إن كنت ستتعامل معهما؟ أو أطلب من زوجة القس أن تزورهما؟»
قال روبرت، بنبرة جافة: «لا أظن أن علي إلزام زوجة القس بأي شيء لا رجعة فيه هكذا.»
نظرت بريبة لوهلة، لكن مهام المنزل محت الأمر من عقلها. وقالت: «لا تتلكأ كثيرا في شرب الشيري وإلا سيفقد ما لدي في الفرن مذاقه. الحمد لله، كريستينا ستنزل غدا مرة أخرى. على الأقل آمل هذا؛ فأنا لم أعرف أبدا أن خلاصها يستغرق أكثر من يومين. ولا أعتقد حقا أني سأزور هاتين السيدتين في فرنتشايز يا عزيزي، إذا كان الأمر سيان عندك. بخلاف أنهما غريبتان وغريبتا الأطوار بشدة، فهما يخيفانني بصراحة تامة.»
أجل؛ كانت تلك عينة من رد الفعل الذي قد يتوقعه عندما يتصل الأمر بالسيدتين شارب. كان بن كارلي قد بذل جهدا عظيما ليخبره بأنه، إذا حدثت مشكلة مع الشرطة في منزل فرنتشايز، فلن يمكنه الاعتماد على هيئة محلفين منصفة. وكان لزاما عليه أن يتخذ إجراءات لحماية السيدتين شارب. وعندما يراهما يوم الجمعة، سيقترح عليهما إجراء تحريات خاصة، مستعينين بمحقق مدفوع الأجر. إن ضغط العمل على الشرطة شديد للغاية - وهذا هو الحال عقدا أو أكثر - وثمة احتمال أن تصبح تحريات رجل واحد يعمل بترو أكثر نجاحا مما قد توصلت إليه التحريات التقليدية والرسمية.
الفصل السادس
لكن بحلول يوم الجمعة كان الوقت قد تأخر كثيرا على اتخاذ إجراءات لضمان سلامة ساكنتي منزل فرنتشايز.
كان روبرت قد أخذ بعين الاعتبار عمل الشرطة بجد واجتهاد، والانتشار البطيء للإشاعات، لكنه لم يكن قد أخذ في حسبانه صحيفة «أك-إيما».
كانت صحيفة «أك-إيما» أحدث نموذج من الصحف الصفراء يدخل الصحافة البريطانية من الغرب. كانت تعمل بمبدأ أن دفع ألفي جنيه كتعويض هو ثمن زهيد مقابل تحقيق مبيعات قيمتها نصف مليون جنيه. عناوينها الرئيسية كانت أكثر سوادا، وصورها أكثر إثارة، وفحواها أكثر حماقة عن أي جريدة مطبوعة حتى الآن في الصحافة البريطانية. وقد أطلق عليها مجتمع الصحافة في فليت ستريت اسما خاصا به - وهو من لفظ واحد لا يصلح للنشر - لكنه لم يتمكن من إيقافها عن الصدور. كانت الصحافة دائما هي الرقيب على نفسها، فتقرر المسموح به وغير المسموح به وفقا لمبادئ من تقديرها الحكيم وذوقها الرفيع. إذا قررت مطبوعة «وضيعة» ألا تنصاع لتلك المبادئ، فليس هناك قوة قد تجبرها على الانصياع لها. في غضون عشر سنوات كانت صحيفة «أك-إيما» قد تجاوزت بنصف مليون جنيه صافي المبيعات اليومية لأفضل الصحف مبيعا في الريف إلى الآن. في أي عربة سكك حديدية داخل إحدى الضواحي تجد سبعة من بين عشرة أشخاص يقصدون عملهم في الصباح يقرءون صحيفة «أك-إيما».
وكانت هي صحيفة «أك-إيما» التي فجرت قضية فرنتشايز.
كان روبرت قد خرج مبكرا إلى الريف في تلك الجمعة صباحا ليلتقي بسيدة عجوز على فراش الموت أرادت أن تغير وصيتها. كان هذا إجراء تكرره بمعدل مرة كل ثلاثة أشهر وطبيبها لم يخف حقيقة أنها في رأيه «سوف تعيش حتى تبلغ من العمر مائة عام». لكن بكل تأكيد لا يسع محاميا أن يخبر موكلا استدعاه على وجه العجلة في الساعة الثامنة والنصف صباحا أن يتوقف عن التصرف بحماقة. لهذا كان روبرت قد أخذ بعض نماذج الوصية الجديدة، وأحضر سيارته من مرأب السيارات، وقادها إلى الريف. ورغم صراعه المعتاد مع الطاغية العجوز الراقدة بين الوسادات - التي لم يكن ممكنا أبدا إفهامها حقيقة بسيطة، وهي أنها لا يمكن أن تهب أربعة أنصبة يساوي نصيب الواحد منهم الثلث - فإنه استمتع بأجواء الريف المنعشة. ودندن لنفسه في طريق العودة، متطلعا إلى رؤية ماريون شارب في غضون أقل من ساعة.
كان قد قرر أن يغفر لها إعجابها بنيفيل. ففي نهاية الأمر، لم يكن نيفيل قد حاول قط دفعها إلى كارلي. فلا بد للإنسان أن يكون منصفا.
أسرع بالسيارة داخل المرأب، وركنها بالقرب من مجموعة الخيول الصباحية التي تغادر إسطبل الخيول، وعندئذ، متذكرا أن اليوم قد تجاوز أول يوم في الشهر، سار نحو المكتب لدفع فاتورته إلى برو، الذي يدير العمل المكتبي. لكن ستانلي هو من كان داخل المكتب؛ يقلب في حافظات الأوراق والفواتير بيديه القويتين في طرف ساعديه النحيلين على نحو مثير للدهشة.
قال ستانلي، وهو يرمقه بنظرة شاردة: «لما كنت في سلاح الإشارة الملكي، اعتدت الظن بأن ضابط الإمداد والتموين كان محتالا، لكني لست واثقا للغاية من ذلك الآن.»
قال روبرت: «هل هناك شيء ضائع؟» ثم تابع قائلا: «جئت لدفع فاتورتي. عادة ما تكون جاهزة لدى بيل.»
قال ستانلي، وهو يقلب بإبهامه: «أتوقع أنها في مكان ما هنا أو هناك. ألق نظرة.»
أمسك روبرت، الذي اعتاد على أوضاع المكتب، بأوراق غير مرتبة ألقاها ستانلي، حتى تعتلي الطبقات المعتادة المنظمة التي نسقها بيل في الأسفل. وعندما أزال الكومة غير المرتبة كشف عن وجه فتاة؛ صورة لوجه فتاة في إحدى الصحف. لم يتعرف عليها في الحال لكنها ذكرته بشخص ما ثم توقف ليتطلع إليها.
قال ستانلي في انتصار، مستخرجا ورقة من أحد المشابك: «وجدتها!» كوم ما تبقى من أوراق غير مرتبة على المكتب، وبهذا انكشفت أمام نظر روبرت الصفحة الأولى كاملة من تلك الصحيفة الصباحية «أك-إيما».
متجمدا في مكانه من الصدمة، حدق روبرت فيها.
لاحظ ستانلي، عند التفاته ليأخذ من قبضة روبرت الورق الذي كان يحمله، استغراقه في التركيز فأثنى على ذلك.
قال: «عدد لطيف نوعا ما.» ثم أردف قائلا: «تذكرني بفتاة كنت أعرفها في مصر. لها العينان المتباعدتان نفسهما. كانت فتاة لطيفة. أدلت بأكاذيب مختلقة لا مثيل لها.»
عاد مرة أخرى إلى ترتيب أوراقه، لكن روبرت ظل محدقا.
هذه هي الفتاة.
كتبت الصحيفة ذلك بحروف سوداء كبيرة في أعلى الصفحة، ثم شغل ثلثي الصفحة، أسفل منها، صورة الفتاة. ويليهما، بخط أصغر حجما لكنه لا يزال واضحا، كتبت:
أهذا هو المنزل؟
وأسفل منها صورة فوتوغرافية لمنزل فرنتشايز.
وبعرض الجزء السفلي من الصفحة كتب تعليق على الصورة:
الفتاة تقول نعم: فماذا تقول الشرطة؟
انظر القصة في الداخل.
مد يده وقلب الصفحة.
حسنا، كل التفاصيل كانت مذكورة، فيما عدا اسم السيدتين شارب.
أنزل الصفحة، ثم نظر مجددا إلى الصورة الصادمة في الصفحة الأولى. في البارحة كان فرنتشايز منزلا محصنا بأربعة أسوار عالية، متواريا عن الأنظار، متفردا في ذاته، حتى إن ميلفورد لم تعرف كيف كان يبدو. أما الآن، فقد أصبح محطا للنظر عند كل كشك لبيع الكتب، وعند كل منضدة لبائع صحف من مدينة بينزانس إلى بينتلاند. فواجهته المستوية المنفرة أبرزت براءة هذا الوجه الذي ظهر فوقه.
كانت صورة الفتاة تبرز رأسها وكتفيها، فبدت أنها صورة مأخوذة في استديو تصوير فوتوغرافي. شعرها كان يبدو أنه مصفف ليليق بمناسبة ما، وكانت ترتدي ما يبدو أنه فستان حفل. كانت تبدو من دون معطفها المدرسي ليست أقل براءة، ولا أكبر عمرا؛ لم تكن هكذا. بحث عن الكلمة التي قد تعبر عما يفكر فيه. كانت تبدو أقل ... حشمة، ألم تكن كذلك؟ فمعطف المدرسة قد منع المرء من التفكير فيها بوصفها امرأة، مثلما تفعل ثياب الراهبات تماما. خطر بباله حينها، أنه قد يكتب بحث كامل، عن الصفة الواقية التي تضفيها معاطف المدرسة. واق بالمعنيين: درع واق وزي تمويهي. والآن نظرا إلى أن معطف المدرسة غير موجود، فقد صارت أنثى بدلا من مجرد فتاة.
لكنها لا تزال ذات الوجه الصغير، الطفولي، الجذاب على نحو مثير للشفقة. إن تعابير الوجه العفوية، مع العينين المتباعدتين، والشفاه المحمرة المكتنزة التي تضفي على فمها انطباعا بطفل محبط جعل شكلها بأكمله مثيرا للإعجاب. ليس أسقف لاربورو وحده الذي سيصدق الرواية التي ستدلي بها صاحبة ذلك الوجه.
وجه سؤالا إلى ستانلي: «هل لي أن أستعير هذه الصحيفة؟»
قال ستانلي: «خذها.» ثم تابع قائلا: «حصلنا عليها لتسلينا في استراحتنا الصباحية. لا شيء بها.»
اندهش روبرت. وسأل، مشيرا إلى الصفحة الأولى: «ألا تجد في هذا شيئا مثيرا للاهتمام؟»
ألقى ستانلي نظرة على الوجه المصور. «ليس إلا أنها ذكرتني بتلك الفتاة في مصر، وأكاذيبها وكل شيء بشأنها.» «لهذا لم تصدق تلك القصة التي أدلت بها؟»
قال ستانلي، بازدراء: «ما رأيك أنت؟!» «أين كانت الفتاة في ظنك، إذن، طوال هذا الوقت؟»
قال ستانلي: «إن كنت أتذكر ما أظن أني أتذكره عن فتاة البحر الأحمر، فسأقول بالتأكيد - أوه، لكن بكل تأكيد - إنها قضت تلك الآونة في العربدة»، ثم انصرف لمباشرة أحد الزبائن.
حمل روبرت الصحيفة، وانصرف في وقار. على الأقل رجل واحد في الشارع لم يكن قد صدق القصة؛ لكن ذلك بدا راجعا لذكرى قديمة بقدر ما كان راجعا لحالة تشكك حالية.
رغم أن ستانلي قد قرأ القصة بوضوح جلي من دون قراءة أسماء الشخصيات المعنية، أو حتى أسماء الأماكن، فليس إلا عشرة بالمائة من القراء فعلوا الشيء نفسه (طبقا لما توصل إليه مشروع ماس أوبزرفيشن)، أما التسعون بالمائة الآخرون فسيكونون قد قرءوا كل كلمة، وسيناقشون القضية في تلك اللحظة بدرجات متفاوتة من الاستمتاع.
عند وصوله إلى مكتبه وجد أن هالم كان يحاول الوصول إليه عبر الهاتف.
قال روبرت للسيد هيزيلتاين العجوز، الذي كان قد أطلعه على آخر المستجدات لدى وصوله، وكان واقفا في تلك اللحظة عند باب غرفته: «ادخل وأغلق الباب من فضلك.» ثم أضاف قائلا: «وألق نظرة على هذا.»
أخذ روبرت سماعة الهاتف بيد واحدة، ووضع الصحيفة أمام السيد هيزيلتاين مباشرة باليد الأخرى.
لمسها العجوز بيده الصغيرة الدقيقة، وكأنه يرى وثيقة غريبة لأول مرة. ثم قال: «هذه هي الصحيفة التي أسمع عنها كثيرا.» ثم أولى تركيزه إليها، كما كان سيفعل مع أي وثيقة غير مألوفة.
قال هالم، عندما اتصل به: «صار كلانا في موقف حرج، أليس كذلك؟!» ونقب في مفرداته عن أوصاف تتناسب مع صحيفة «أك-إيما». أنهى حديثه، منشغلا بطبيعة الحال بوجهة نظر الشرطة: «وكأن الشرطة لم يكن لديها ما يكفيها من عمل دون وجود هذه الصحيفة الصفراء في أعقابها!» «هل علمت أي أخبار جديدة من سكوتلاند يارد؟» «لم يتوقف جرانت عن المكالمات منذ الساعة التاسعة صباح اليوم. لكن ليس بوسعهم أن يفعلوا شيئا. ليس أمامك سوى أن تبتسم ابتسامة عريضة وتتقبل الأمر. دائما ما تكون الشرطة محط نقد. لا شيء بوسعك أن تفعله، حتى، إذا وصلت الأمور إلى ذلك.»
علق روبرت: «هذا صحيح. لدينا صحافة حرة راقية.»
ذكر هالم بضعة أمور أخرى عن الصحافة. وسأل: «هل علمت السيدتان بالأمر؟» «لا أظن ذلك. أثق تماما أنهما ربما لا يطلعان في العادة على صحيفة «أك- إيما»، ولم يسنح الوقت لأصحاب النفوس الطيبة أن يرسلوها إليهما. لكن لديهما موعد هنا في غضون عشر دقائق، وسأعرض عليهما الصحيفة حينها.» «إن كان لي أن أشعر بالأسف على تلك المرأة المتسلطة العجوز، فستكون هي تلك اللحظة.» «كيف حصلت «أك-إيما» على القصة؟ أظن أن الوالدين - أقصد الوصيين على الفتاة - كانا معارضين بشدة لمثل هذا النشر.» «يقول جرانت إن أخا الفتاة استشاط غضبا من امتناع الشرطة عن اتخاذ أي إجراء، فذهب إلى صحيفة «أك-إيما» من تلقاء نفسه. فهم بارعون في الحملات الدفاعية. ««أك- إيما» ستتأكد من فعل الشيء المناسب!» عرفت ذات مرة أن إحدى تلك الحملات قد دخلت في يومها الثالث.»
عندما أنهى المكالمة ظن روبرت أنه إذا كان هناك ضرر لكلا الطرفين، فهو على أقل تقدير ضرر متكافئ. فالشرطة بلا شك ستضاعف جهودها من أجل العثور على دليل مؤكد؛ وعلى الجانب الآخر فإن نشر صورة الفتاة يعني للسيدتين شارب أن ثمة أملا ضعيفا أن يقر شخص ما، في مكان ما، ويقول: «ليس ممكنا لهذه الفتاة أنها كانت في منزل فرنتشايز في ذلك التاريخ المعلن؛ لأنها كانت في المكان الفلاني».
قال السيد هيزيلتاين: «قصة صادمة يا سيد روبرت. وإن جاز لي القول فإن المقال صادم تماما. هجومي إلى أقصى درجة.»
قال روبرت: «ذلك المنزل هو منزل فرنتشايز، حيث تعيش السيدة شارب العجوز وابنتها؛ وهو المكان الذي ذهبت إليه منذ بضعة أيام، إن كنت تتذكر؛ لأقدم لهما استشارة قانونية.» «أتقصد أن هاتين موكلتان لدينا؟» «أجل.» «لكن يا سيد روبرت، هذا بعيد عن مجال اختصاصنا.» جفل روبرت من الخوف الذي لمسه في صوته. «هذا بعيد تماما عما نعتاد عليه - في الواقع خارج عملنا المعتاد تماما - فنحن لسنا مختصين ...»
قال روبرت، بفتور: «أعتقد أننا مختصون في الدفاع عن أي موكل ضد صحيفة مثل «أك-إيما».»
نظر السيد هيزيلتاين إلى الصحيفة الصفراء الصادمة على المنضدة. كان يواجه بكل وضوح الاختيار المعضل بين موكل جان وصحيفة مخزية.
سأل روبرت: «هل صدقت قصة الفتاة عندما قرأتها؟»
قال السيد هيزيلتاين ببساطة: «لا أفهم كيف لها أن تختلقها.» ثم أضاف قائلا: «إنها قصة مفصلة تماما، أليس كذلك؟»
أضاف روبرت قائلا: «هي كذلك، حقا. لكني رأيت الفتاة في الأسبوع الماضي عندما استدعيت إلى منزل فرنتشايز لتتعرف عليه - كان ذلك هو اليوم الذي انصرفت فيه على عجالة بعد الشاي مباشرة - ولا أصدق كلمة مما تقولها الفتاة. ولا كلمة واحدة»، وسره أنه تمكن من قولها لنفسه بصوت عال وبوضوح، وأنه تأكد أخيرا أنه صدق ذلك. «لكن كيف من الممكن لها أن تتصور منزل فرنتشايز بأي شكل من الأشكال، أو تعرف كل تلك التفاصيل، إن لم تكن قد ذهبت إلى هناك؟» «لا أعرف. ليس لدي أدنى فكرة.» «أكثر مكان اختياره مستبعد، بكل تأكيد؛ منزل ناء، متوار عن النظر، على طريق مهجور، في بلدة ريفية لا يزورها الناس كثيرا.» «أعرف ذلك. لا أعلم كيف تم هذا، لكن أثق أن القصة كلها مختلقة. إن الاختيار ليس بين روايتين، إنما بين طرفين. أثق تماما أن السيدتين شارب عاجزتان عن ارتكاب تصرف أحمق مثل ذلك. وفي الوقت نفسه لا أصدق أن الفتاة عاجزة عن اختلاق رواية مثل تلك. هذا ما قد يحتمله الأمر.» ثم توقف برهة. وأضاف مستخدما مع الموظف العجوز كنيته في الطفولة: «ليس عليك سوى أن تثق في حكمي على هذا الأمر، يا تيمي.»
سواء أكان بسبب مناداته باسم «تيمي» أو بسبب الجدال، بدا واضحا أن السيد هيزيلتاين لم يعد لديه اعتراض آخر ليبديه.
قال روبرت: «سترى المجرمتين بنفسك؛ لأني أسمع صوتيهما في الردهة الآن. بإمكانك أن تحضرهن إلى هنا، إذا تكرمت.»
انصرف السيد هيزيلتاين صامتا إلى مهمته، وقلب روبرت الصحيفة على وجهها حتى يصبح الخبر المؤذي نسبيا بشأن «هروب فتاة إلى الخارج» هو كل ما تقع عليه أعين الزائرتين.
كانت السيدة شارب، مدفوعة بحماسة جاءتها متأخرا من أجل اللقاء، قد ارتدت قبعة على شرف المناسبة. كانت شيئا مسطحا من الساتان الأسود، وأوحى الانطباع العام بشخص حاصل على درجة الدكتوراه. ذلك الانطباع الذي لم يكن قد ذهب هباء كان واضحا من نظرة الارتياح التي اعتلت وجه السيد هيزيلتاين. بدا واضحا تماما أنها لم تكن من الموكلين الذين قد توقعهم؛ بل، على الجانب الآخر، كانت من الموكلين الذين اعتاد عليهم.
قال روبرت إليه، عندما رحب بالزائرتين: «لا تنصرف»، ثم قال للسيدتين: «أود أن أقدم لكما أقدم فرد في المكتب؛ السيد هيزيلتاين.»
كان مناسبا أن تتحلى السيدة شارب باللطف؛ فكانت وهي لطيفة تشبه فيكتوريا ريجينا إلى أقصى درجة. بدا السيد هيزيلتاين أكثر ارتياحا؛ فأعلن استسلامه. وبهذا انتهت المعركة الأولى لروبرت.
عندما صاروا على انفراد لاحظ روبرت أن ماريون كانت تنتظر حتى تقول شيئا.
قالت: «شيء عجيب حدث صباح اليوم». وتابعت: «فقد ذهبنا إلى مقهى آن بولين لنشرب قهوة - نفعل ذلك بصفة متكررة - وكانت هناك منضدتان شاغرتان، لكن ما إن رأتنا الآنسة ترولاف حتى أمالت الكراسي سريعا على المنضدتين وقالت إنهما محجوزتان. كنت سأصدقها لو لم تبد مرتبكة للغاية. أنت لا تظن أن الشائعات بدأت تحدث أثرا، أليس كذلك؟ وأنها فعلت ذلك لأنها سمعت بعض الشائعات؟»
قال روبرت، بأسف: «لا، لأنها قرأت إصدار هذا الصباح من صحيفة «أك-إيما».» ثم قلب الصحيفة لتظهر الصفحة الأولى منها. «أعتذر كثيرا لكما على تلك الأخبار السيئة. ليس عليكما سوى أن تطبقا فمكما وتتقبلاه، كما يقول الصبية الصغار. لا أظن أنكما قد رأيتما من قبل هذه الصحيفة الصفراء المؤذية عن قرب. من المثير للشفقة أن تبدأ معرفة الأمر على نطاق شخصي هكذا.»
قالت ماريون في استنكار مؤثر عندما وقعت عيناها على صورة منزل فرنتشايز: «يا إلهي، غير معقول!»
ثم ساد صمت تام بينما كانتا تستوعبان محتويات الصفحة الداخلية.
قالت السيدة شارب أخيرا: «أعتقد أنه لا يحق لنا الحصول على تعويض مقابل أخبار على هذه الشاكلة؟»
قالت روبرت: «بتاتا.» ثم أردف قائلا: «جميع الإفادات صحيحة تماما. والأمر كله متعلق بالإفادات ولا يوجد تعليق عليها. حتى وإن كان هناك تعليق - ولا أشك أن التعليق سيأتي لا محالة - لم توجه أي تهم وبذلك فالقضية ليست أمام القضاء. فلهم مطلق الحرية أن يعلقوا إذا شاءوا.»
قالت ماريون: «الأمر برمته يتلخص في تعليق ضمني خطير.» ثم أضافت قائلة: «إن الشرطة أخفقت في أن تؤدي واجبها. ماذا يظنون أننا فعلنا؟ قدمنا رشوة إليهم؟» «أظن أن الاقتراح المطروح هو أن الضحية الضعيفة لها تأثير أقل على الشرطة من الغني الخبيث.»
كررت ماريون، وصوتها يختنق من الاستياء: «غني.» «أي شخص لديه أكثر من ست مدفآت يعد غنيا. دعونا من هذا. إن لم تكن أصابتكما صدمة شديدة تمنعكما عن التفكير، فلتفكرا. نحن متأكدون من أن الفتاة لم تذهب قط إلى منزل فرنتشايز، وأنه لم يكن بوسعها ...» لكن ماريون قاطعته.
سألته: «هل أنت متأكد من ذلك؟»
قال روبرت: «أجل.»
تبدد من عينيها المتحديتين نظرة التحدي، فغضت بصرها.
وقالت بهدوء: «شكرا لك.» «إذا لم تكن الفتاة قد ذهبت إلى هناك مطلقا، فكيف تمكنت من رؤية المنزل؟! لقد رأته بالفعل بطريقة ما. ومن المستبعد تماما الاعتقاد بأنها كانت تكرر فحسب وصفا أعطاه لها شخص آخر ... كيف تمكنت من رؤيته؟ أقصد، بشكل طبيعي.»
قالت ماريون: «بإمكانك رؤيته، حسب ظني، من الطابق العلوي لإحدى الحافلات.» ثم تابعت قائلة: «لكن لا توجد حافلات ذات طابقين على طريق ميلفورد. أو من أعلى شحنة قش. لكنه توقيت غير مناسب من السنة للقش.»
علقت السيدة شارب بصوت محشرج: «ربما كان توقيتا غير مناسب للقش، لكن لا يوجد موسم محدد لبقية حمولات الشاحنات. كنت أرى شاحنات محملة ببضائع مثلها كمثل القش.»
قالت ماريون: «أجل.» ثم أضافت قائلة: «لنفرض أن ما وصل الفتاة لم تكن سيارة، وإنما شاحنة.» «هناك أمر واحد يعارض هذا الافتراض. إن كانت الفتاة أوصلتها شاحنة فعلى الأرجح ستجلس في المقصورة، حتى لو وصل الأمر أن تجلس على ركبة أحدهم. فلم يكونوا ليجلسوها أعلى الحمولة. لا سيما أن الجو كان ممطرا في المساء، كما لعلك تتذكرين ... ألم يأت أحد قط إلى منزل فرنتشايز ليسأل عن الطريق، أو ليبيع شيئا، أو ليصلح شيئا - شخص من المرجح أن الفتاة كانت معه، حتى ولو في الخلف؟»
لكن لم يحدث ذلك؛ فهما واثقتان أنه لم يكن قد أتى أحد، في المدة التي كانت تقضي فيها الفتاة إجازتها. «سنعتبر من البديهي إذن أن ما عرفته عن منزل فرنتشايز كان بسبب وقوفها على ارتفاع عال بما يكفي في ظرف ما لترى من فوق السور. ربما لن نعرف أبدا متى أو كيف، وربما لن نتمكن من إثباته إذا عرفنا بالفعل. ولهذا لا بد أن تكرس جل جهودنا، ليس في إثبات أنها لم تكن في منزل فرنتشايز، وإنما في إثبات أنها كانت في مكان آخر.»
سألت السيدة شارب: «وما فرصة حدوث ذلك؟»
قال روبرت، مشيرا إلى الصفحة الأولى من صحيفة «أك-إيما»: «لدينا فرصة أفضل مما كانت قبل أن ينشر هذا.» ثم تابع قائلا: «في الواقع هذه النقطة المضيئة الوحيدة في هذا العمل الشائن. كان من غير الممكن لنا أن ننشر صورة الفتاة على أمل أن نحصل على معلومات عن الأماكن التي ترددت عليها أثناء ذلك الشهر. لكن الآن بعد أن قاموا بنشرها - أقصد أهلها - فستعود إلينا الفائدة نفسها. نشروا القصة - وهذا من سوء حظنا؛ لكنهم كذلك نشروا الصورة - وإن حالفنا الحظ بأي حال من الأحوال فسيلاحظ شخص ما، في مكان ما، أن القصة والصورة لا تتوافقان. وأن في هذا التوقيت المحدد، كما ورد في القصة، لا يمكن لصاحبة الصورة أن تكون في ذلك المكان المذكور؛ لأنهم يعرفون، بصفة شخصية، أنها كانت في مكان آخر.»
تبدد قليلا الحزن الذي ظهر على وجه ماريون، وكذلك الظهر النحيل للسيدة شارب صار أقل تيبسا. الأمر الذي قد بدا أنه كارثة ربما يصبح، رغم كل هذا، سبيل النجاة لهما.
سألت السيدة شارب: «وماذا في وسعنا أن نفعله بخصوص التحريات الخاصة؟» ثم تابعت قائلة: «أنت تدرك، كما أتوقع، أن نقودنا قليلة، وأعتقد أن التحريات الخاصة هي مهمة تستنزف أموالا طائلة.» «يتجاوز المبلغ عادة المبلغ الذي قد اتفق عليه، لأن من الصعب تحديد ميزانية لها. لكن حتى نبدأ سأذهب، شخصيا، لمقابلة عدة أشخاص من أهلها ممن لهم صلة بالأمر، وسأكتشف، إن أمكن، إلى أي اتجاه يجب أن تستند التحريات. وأكتشف ما المحتمل أنها كانت تفعله.» «هل سيخبرونك بهذا؟» «بالطبع، لا. هم على الأرجح لا يعلمون توجهاتها. لكن إن تحدثوا عنها بأي حال من الأحوال فلا بد لتصور ما أن يتشكل. أتمنى ذلك على أقل تقدير.»
سادت لحظات من الصمت. «أنت طيب بدرجة غير عادية، يا سيد بلير.»
كانت فيكتوريا ريجينا قد عادت إلى طريقة السيدة شارب، لكن ثمة إشارة خفية إلى شيء آخر. يكاد يكون التفاجؤ، وكأن الطيبة لم تكن أحد الأمور التي قد تعرضت لها عادة في الحياة، ولا توقعت أن تتعرض لها. فكان إقرارها اللطيف المتكلف معبرا كما لو أنها قد قالت: «أنت تعرف أننا فقراء، وربما لا نقدر على دفع أتعابك كما ينبغي، ولسنا على الإطلاق من الناس الذين قد تختار أن تمثلهم، لكنك ستحيد عن مجال تخصصك لكي تقدم لنا أفضل خدمة في مقدرتك؛ ولهذا نحن ممتنون لك.»
سألت ماريون: «متي تنوي الذهاب؟» «بعد الغداء مباشرة.» «اليوم!» «كلما أسرعنا كان ذلك أفضل.»
قالت السيدة شارب، وهي تنهض: «لن نؤخرك إذن.» ثم وقفت برهة تنظر لأسفل إلى الصحيفة حيث كانت مفتوحة على المنضدة. وقالت: «استمتعنا بالخصوصية في منزل فرنتشايز مدة طويلة.»
عندما رأى أنهما انصرفتا خارج الباب واستقلتا سيارتهما، استدعى نيفيل إلى غرفته وأخذ سماعة الهاتف ليتحدث إلى العمة لين بشأن حزم حقيبة له.
وجه سؤالا إلى نيفيل: «أظنك لا تطلع أبدا على صحيفة «أك -إيما»؟»
أجاب نيفيل: «أظن أن هذا السؤال هو سؤال بلاغي.» «انظر إلى عدد هذا الصباح. مرحبا عمة لين.» «هل يريد أحد أن يقاضيهم بسبب شيء؟ سيدفع إلينا بمبلغ لا بأس به من المال، إن حدث ذلك. فهم عادة يتوصلون إلى اتفاق بعيدا عن المحكمة. ويخصصون مبالغ من أجل ...» تلاشى صوت نيفيل. فقد رأى الصفحة الأولى التي كانت تحدق إليه من المنضدة.
اختلس روبرت نظرة إليه من فوق الهاتف، ولاحظ بسعادة الصدمة الواضحة على الملامح الشابة الواعدة لابن عمه. فشباب اليوم، كما فهم، يظنون بأنفسهم أنهم لا يهتزون لصدمة، وكان من الجيد معرفة أنهم يستجيبون، مثلهم كمثل أي إنسان آخر، أمام صفعة عادية من الحياة الواقعية. «كوني لطيفة عمة لين، واحزمي حقيبة من أجلي، هل من الممكن ذلك؟ لليلة واحدة ...»
كان نيفيل قد فتح الصحيفة على عجل وأخذ يقرأ القصة في تلك اللحظة. «إلى لندن وسأعود، هكذا أتوقع، لكني لست واثقا. على أي حال، تكفي الحقيبة الصغيرة، وأقل كمية من الأغراض. وليس كل شيء ربما أحتاج إليه، إن كنت تحبينني. المرة السابقة كانت هناك زجاجة من مسحوق الهضم يصل وزنها إلى قرابة رطل، عجبا متى كنت في حاجة إلى مسحوق هضم ... حسنا، ستصيبني قروح إذن ... أجل، سأحضر على الغداء في غضون نحو عشر دقائق.»
قال الشاعر والمفكر، متراجعا عن رغبته في استخدام اللهجة العامية: ««الخنزيرة» اللعينة!» «حسنا، ما رأيك؟» «رأيي! عن أي شيء؟» «قصة الفتاة.» «وهل على الواحد منا أن يكون أي رأي من هذه؟ قصة مثيرة بكل وضوح ترويها مراهقة مختلة؟» «وماذا إن أخبرتك بأن تلك المراهقة هي طالبة هادئة للغاية، عادية، سيرتها طيبة ولا يمكن أن تصفها بأي شيء سوى أنها رائعة.» «هل رأيتها؟» «أجل. كان ذلك سبب ذهابي إلى منزل فرنتشايز الأسبوع الماضي، لأحضر المواجهة عندما أحضرت سكوتلاند يارد الفتاة لتواجههما.» وقال في نفسه: عليك أن تتقبل ذلك، أيها الشاب نيفيل. وأضاف: إنها ربما تتحدث معك عن الدجاج أو عن موباسان، لكنها تلجأ إلي أنا عندما تقع في مأزق. «لتحضر المواجهة محاميا لهما.» «بكل تأكيد.»
شعر نيفيل بالارتياح فجأة. «يا إلهي، حسنا؛ هذا جيد. ظننتك لوهلة ضدها. أقصد ضدهما. لكن هذا جيد. بإمكاننا الانضمام إلى قوات الشرطة لنحبط مسعى هذه ... - فحرك الصحيفة - هذه الدمية الصغيرة.» ضحك روبرت على اختيار نيفيل لهذا الوصف كما هو متوقع منه. «ماذا تنوي فعله حيال الأمر يا روبرت؟»
فأخبره روبرت. «وأنت ستتولى مباشرة العمل نيابة عني أثناء غيابي.» لاحظ أن انتباه نيفيل قد انصرف مرة أخرى إلى «الدمية الصغيرة». فتحرك نحوه لينضم إليه وارتأيا معا أن ذلك الوجه الصغير ينظر في هدوء شديد إليهما في الأعلى.
قال روبرت: «وجه جذاب، على العموم.» ثم أضاف قائلا: «ما انطباعك عنه؟»
قال المولع بالجمال، بحقد دفين: «الشيء الذي أحب أن أستشفه منه هو أنه وجه خبيث.»
الفصل السابع
إن منزل آل وين بالقرب من إيلزبري كان يقع في ضاحية ريفية؛ ذلك النوع من المناطق التي تزحف فيها صفوف من المنازل شبه المنفصلة على حدود حقول لا تزال تحتفظ بطبيعتها النقية؛ فهم واعون ومدركون أنهم دخلاء، أو معتدون بأنفسهم، أو غير مبالين وفقا للصفات التي أطلقها عليهم بناءوها. عاش آل وين في واحد من الصفوف التي تستوجب الاعتذار؛ سلسلة من المنازل المتداعية التي بالطوب الأحمر التي جعلت روبرت يجز منزعجا على أسنانه؛ كانت بدائية للغاية، وشديدة البساطة، وفي غاية البؤس. لكن عندما قاد سيارته في بطء عبر الطريق، باحثا عن رقم المنزل الصحيح، استهواه الحب الذي قد كرس في تزيين تلك الأشياء المؤسفة. لم يكن الحب قد كرس إلى بنائها؛ هذا ليس إلا افتراضا. لكن في نظر كل صاحب منزل، وهو يتملكه، أن المنزل الصغير الأجرد قد أظهر «جماله الكافي» وبعد أن وجده عكف على تزيينه. كانت الحدائق آية صغيرة من الجمال، وكل حديقة تالية هي تجل جديد لم يتصوره قلب شاعر.
لا بد لنيفيل أن يأتي هنا ليشاهد المكان، هكذا فكر روبرت، متهاديا في سيره مرة أخرى عندما التقطت عيناه منظرا بديعا جديدا؛ إذ يوجد هنا شعر أكثر مما كان يوجد طوال الاثني عشر شهرا الماضية في مجلته المفضلة «ذا ووتشمان». فجميع عباراته الشائعة كانت موجودة هنا: الصياغة، والإيقاع، واللون، والإيماءات الكاملة، والتصميم، والتأثير ...
أم أن نيفيل ربما لن يرى سوى صف من حدائق الضاحية؟ ليس سوى ميدوسايد لين، وإيلزبري، مع بعض نباتات متجر وولوورث في الحدائق؟
ربما.
المنزل رقم 39 كان منزلا ذا عشب أخضر منبسط والذي كان محاطا بصخور. ميزه كذلك أن ستائره كانت غير موجودة. كانت لا توجد تلك الشبكة الأنيقة التي تبسط عبر زجاج النافذة، ولا يوجد قماش أبيض معلق على الجوانب. كانت النوافذ مكشوفة للشمس والهواء ومرأى البشر. هذا أدهش روبرت كثيرا بقدر ما أدهش الجيران على الأرجح. فهذا ينذر بحالة من الاختلاف لم يكن قد توقعها.
دق الجرس، متمنيا ألا يبدو بائعا متجولا. كان طالبا للمعلومات؛ إذ إن الدور كان جديدا على روبرت بلير.
أدهشته السيدة وين أكثر مما أدهشته نوافذها. لم يكن - إلا حينما قابلها - قد أدرك الصورة الكاملة التي قد رسمها في مخيلته عن السيدة التي قد تبنت الطفلة بيتي كين وربتها: الشعر الشائب، الهيئة المريحة الهادئة الوقورة، والوجه الرزين العريض الواضح؛ ربما، كذلك، المئزر، أو واحدة من بدلات العمل المزينة بالورود التي ترتديها ربات المنازل. لكن السيدة وين لم تكن تشبه تلك الصورة على الإطلاق. فكانت سيدة نحيفة لطيفة، شابة عصرية، ذات بشرة سمراء ووجنتين متوردتين، ولا تزال تحتفظ بجمالها، ولها زوج من العيون البنية لم ير روبرت مثيلا لهما في لمعانهما وذكائهما.
وعندما رأت شخصا غريبا بدت في موقف دفاعي، فاقتربت من الباب الذي كانت تمسك به في حركة تلقائية وأغلقته قليلا؛ لكن النظرة الثانية بدا أنها بثت الطمأنينة في نفسها. وضح روبرت من هو، فاستمعت إليه دون أن تقاطعه بأسلوب وجده مثيرا للإعجاب تماما. قلة قليلة من موكليه يستمعون من دون مقاطعة؛ رجال أو نساء على حد سواء.
أنهى حديثه قائلا، بعد أن وضح سبب حضوره: «لست مجبرة تماما على التحدث إلي.» ثم أردف قائلا: «لكني أتمنى من أعماقي ألا ترفضي. لقد أخبرت المحقق جرانت بأني سأذهب لمقابلتك عصر اليوم، بالنيابة عن موكلتي.» «حسنا، إذا كانت الشرطة تعلم بهذا ولا تمانع ...» ثم تراجعت إلى الوراء لتسمح له بالمرور بجانبها. «أتوقع أن عليك بذل قصارى جهدك لصالح هاتين السيدتين إذا كنت محاميا لهما. وليس لدينا ما نخفيه. لكن إذا كنت تريد حقا مقابلة بيتي، فأخشى ألا يمكنك ذلك. لقد أرسلناها إلى أصدقاء لقضاء يوم في الريف؛ تجنبا لكل الصخب. أراد ليزلي الخير، لكن ما فعله كان شيئا أحمق.» «ليزلي؟» «ابني. اجلس، من فضلك.» قدمت إليه أحد الكراسي المريحة في غرفة جلوس مبهجة، ومرتبة. «كان غاضبا بشدة من الشرطة لدرجة أعجزته عن التفكير بوضوح - أقصد غاضبا من إخفاقهم في فعل أي شيء عندما بدا الأمر مؤكدا للغاية. كان مخلصا طوال الوقت لبيتي. في الواقع لم يفترقا إلى أن خطب.»
أصغى روبرت بإمعان. كان هذا نوع الشيء الذي قد جاء لسماعه. «خطب؟» «أجل. خطب بعد رأس السنة الجديد فتاة لطيفة للغاية. نحن جميعا مسرورون.» «هل كانت بيتي مسرورة؟»
أجابت، وهي تنظر إليه بعينيها الذكيتين: «لم تشعر بالغيرة، إن كان ذلك ما ترمي إليه.» ثم تابعت قائلة: «أتوقع أنها افتقدت كونها الأولوية الأولى له كما اعتادت، لكنها كانت تتعامل بمنتهى اللطف مع الأمر. هي فتاة لطيفة بلا شك، يا سيد بلير. صدقني. كنت أعمل معلمة قبل الزواج - لم أكن ناجحة للغاية؛ ولهذا السبب تزوجت مع أول فرصة أتتني - وأعرف الكثير عن شأن الفتيات. وبيتي لم تتسبب لي في الشعور بالقلق للحظة.» «صحيح. أعرف ذلك. يحكي الجميع عنها على نحو ممتاز. هل خطيبة ابنك زميلتها في المدرسة؟» «لا، لم تكن من دائرة المعارف والأصدقاء. جاءت أسرتها لتعيش قريبا من هنا والتقى بها في حفل رقص.» «وهل تذهب بيتي إلى حفلات رقص؟» «ليست حفلات رقص البالغين. فهي لا تزال صغيرة للغاية.» «إذن هي لم تلتق من قبل بخطيبته أليس كذلك؟» «صراحة، لم يكن أحد منا قد التقى بها من قبل. فاجأنا بها نوعا ما. لكننا أحببناها كثيرا ولم نمانع.» «لا بد أنه صغير للغاية على الاستقرار، أليس كذلك؟» «أوه، الأمر برمته عبثي، بكل تأكيد. هو في العشرين من عمره وهي في الثامنة عشرة. لكنهما رائعان معا. وكنت عن نفسي صغيرة للغاية عندما تزوجت وغمرتني سعادة بالغة. الأمر الوحيد الذي افتقدته كانت الابنة، وبيتي ملأت تلك الفجوة.» «ما الشيء الذي تريد فعله عندما تغادر المدرسة؟» «لا تعرف. ليس لديها موهبة خاصة تجاه أي شيء بقدر ما ألاحظ. لدي تصور بأنها ستتزوج مبكرا.» «أهذا بسبب جمالها الجذاب؟» «لا، بسبب ...»، وتوقفت وغيرت بوضوح ما كانت ستقوله. «الفتيات اللاتي ليس لديهن ميول محددة يجنحن بشدة إلى الزواج.»
تساءل إذا كان ما أرادت قوله له أي صلة بعيدة بعينيها الزرقاوين المائلتين إلى الرمادي. «عندما أخفقت بيتي في الظهور في الموعد المحدد حتى تعاود الذهاب إلى المدرسة، هل ظننت أنها كانت تتهرب من المدرسة؟ على رغم أنها طفلة فسلوكها حسن.» «أجل؛ كان يزداد شعورها بالملل تجاه المدرسة، وكانت تقول دائما - وهو صحيح تماما - أن اليوم الأول للعودة إلى المدرسة هو يوم بلا فائدة. لهذا ظننا أنها تنتفع من اليوم ولو لمرة. «تجرب الأمر» كما قال ليزلي، عندما سمع أنها لم تكن قد عادت.» «أتفهم ذلك. أكانت ترتدي زي المدرسة في إجازتها؟»
نظرت السيدة وين لأول مرة في ريبة إليه؛ متشككة في دافعه من السؤال. «لا. لا، كانت ترتدي ملابسها المخصصة لعطلة نهاية الأسبوع ... أتعرف أنها لما عادت كانت لا ترتدي سوى فستان وحذاء؟»
أومأ روبرت بالإيجاب. «أشعر أنه من الصعب تصور سيدتين تصل بهما الوضاعة لدرجة أن تعاملا طفلة ضعيفة بتلك المعاملة.» «إذا كان بوسعك مقابلة السيدتين، يا سيدة وين، فربما تجدين أن تصور الأمر لا يزال يزداد صعوبة.» «لكن أكثر المجرمين شرا يبدون أبرياء وغير مؤذين، أليس كذلك؟»
سمح روبرت لذلك بأن يمر مرور الكرام. وأراد أن يعرف عن الكدمات التي بدت في جسد الفتاة. أكانت كدمات جديدة؟ «آه، جديدة تماما. أغلبها لم يبدأ في «تغيير» لونها .»
هذا أدهش روبرت قليلا. «لكن أعتقد أن هناك كدمات أقدم كذلك.» «إن كانت هناك، فإنها قد اختفت كثيرا لدرجة تحول دون ملاحظتها وسط جميع الكدمات الجديدة البشعة.» «كيف تبدو الكدمات الجديدة؟ كضرب بالسياط؟» «يا إلهي، لا. كانت في الواقع قد ضربت في أماكن متفرقة. حتى وجهها الصغير الضعيف. كان أحد فكيها متورما، وكدمة كبيرة وجدت على صدغها الآخر.» «تقول الشرطة بأنها دخلت في حالة هيستيرية لما أوعز إليها بأن تخبر الشرطة بقصتها.» «كان ذلك لما كانت لا تزال مريضة. وبمجرد أن حصلنا على القصة منها وحظيت بوقت راحة طويل، أصبح من السهل بدرجة كافية إقناعها بإعادة سردها على الشرطة.» «أعلم أنك ستجيبين بصراحة عن هذا السؤال يا سيدة وين. ألم يساورك أي شك قط بأن قصة بيتي ربما تكون غير حقيقية؟ أي شك ولو للحظة؟» «ولا للحظة واحدة. ولم من المفترض أن يساورني شك؟ كانت دوما طفلة صادقة. حتى وإن لم تكن، كيف لها أن تختلق قصة مفصلة تفصيلا طويلا مثل تلك من دون أن تكشف؟ سألتها الشرطة كل الأسئلة التي أرادت أن تطرحها؛ لم يكن هناك أي اقتراح قط بعدم قبول إفادتها كما هي.» «عندما أخبرتك بقصتها، هل قصتها بالكامل دفعة واحدة؟» «أوه، لا؛ سردتها على يوم أو يومين. الخطوط العريضة، أولا. ثم أخذت تضيف تفاصيل كلما تذكرتها. تفاصيل مثل أن النافذة في العلية كانت دائرية.» «لم تكن الأيام التي قضتها في غيبوبة قد شوشت على ذاكرتها.» «لا أظن أنها أثرت بأي حال من الأحوال. أقصد، مع نوعية عقل بيتي. فهي تتمتع بذاكرة فوتوغرافية.»
تساءل روبرت في نفسه عما إذا كانت كذلك حقا، وقد انتبهت كلتا أذناه وأصغتا بتمعن. «حتى وهي طفلة صغيرة كان بإمكانها أن تلقي نظرة على صفحة من أي كتاب - كتاب أطفال، بالتأكيد - ثم تكرر أغلب المحتويات من الصور التي اختزنتها في عقلها. وعندما كنا نلعب لعبة كيم - أتعرفها؟ لعبة الأشياء على الصينية - كان علينا أن نقصي بيتي من اللعبة لأنها تفوز دائما. يا إلهي، غير معقول، كانت ستتذكر ما رأته.»
حسنا، تذكر روبرت لعبة أخرى كان الهتاف فيها «ازدد حماسة!» «تقولين إنها كانت دوما طفلة صادقة - والجميع يؤيدك في ذلك - ألم تكن تستمتع بإضفاء طابع رومانسي على حياتها الخاصة، كما يفعل الأطفال أحيانا؟»
قالت السيدة وين، بحزم: «أبدا.» بدت الفكرة أنها لا تستحوذ على اهتمامها. أضافت قائلة: «لم يكن بوسعها ذلك. ما لم يكن الشيء حقيقيا، فلا فائدة منه في نظر بيتي. حتى لعبة حفلات الشاي مع الدمى، لم يكن لها أن تتخيل أبدا الأشياء على الأطباق مثلما يسعد أغلب الأطفال أن يفعلوا ذلك؛ كان لا بد أن تكون الأشياء حقيقية، حتى ولو كان مجرد مكعبات صغيرة من الخبز. عادة كان شيئا أكثر لطفا، بالطبع؛ وكانت طريقة جيدة لطلب مزيد من الأشياء، فكانت دائما طماعة نوعا ما.»
أعجب روبرت بالحيادية التي فكرت بها في ابنتها التي أحبتها كثيرا واشتاقت إليها طويلا. أهي آثار النزعة المتشككة التي تنتهجها معلمات المدرسة؟ على أي حال، هذا أمر أكثر أهمية بالنسبة إلى طفل من الحب الأعمى. من المثير للشفقة أن ذكاءها وتفانيها لم يلقيا تقديرا.
قال روبرت: «لا أريد الاستمرار في موضوع لا بد أنه مزعج لك.» ثم تابع قائلا: «لكن لعل بإمكانك أن تخبريني بشيء عن والديها.»
سألت السيدة وين، متفاجئة: «والديها؟» «أجل. هل تعرفينهما جيدا؟ كيف كانا؟» «لم نعرفهما مطلقا. ولم يسبق لنا رؤيتهما قط.» «لكنك استقبلت بيتي لمدة ... كم كانت؟ - تسعة شهور؟ - قبل أن يقتل والداها، أليس كذلك؟» «صحيح، لكن والدتها كتبت خلال مدة قصيرة بعد أن جاءت بيتي إلينا وأخبرتنا بأن مجيئها لرؤيتها لن يتسبب سوى في إزعاج الطفلة وسيجعلها تعيسة وأن أفضل شيء للجميع سيكون تركها معنا إلى حين تمكنها من العودة إلى لندن. وقالت إن كان من الممكن أن أتحدث إلى بيتي عنها ولو مرة واحدة كل يوم.»
انقبض قلب روبرت شفقة على هذه السيدة المجهولة المتوفاة التي كانت على استعداد أن ينتزع قلبها من أجل طفلتها الوحيدة. يا لهذا الكنز من الحب والاهتمام الذي انهمر أمام بيتي كين، الطفلة اللاجئة! «هل استقرت بسهولة عندما جاءت؟ أو هل بكت من أجل والدتها؟» «بكت لأن الطعام لم يعجبها. لا أتذكر أن بكت من أجل والدتها. أغرمت بليزلي من الليلة الأولى - لم تكن سوى طفلة صغيرة، كما تعرف - أعتقد أن اهتمامها به أنساها أي حزن ربما شعرت به. وكان هو، لكونه يكبرها بأربع سنوات، في عمر مناسب تماما ليشعر بأنه حاميها. ولا يزال كذلك - ولذلك فنحن في هذا المأزق اليوم.» «كيف وقع أمر صحيفة «أك-إيما»؟ أعرف أن ابنك هو الذي ذهب إلى الصحيفة، لكن هل وافقته الرأي في النهاية ...»
قالت السيدة وين بسخط: «يا إلهي، لا». وتابعت: «حدث الأمر قبل أن نتمكن من فعل أي شيء حياله. كنت أنا وزوجي في الخارج لما جاء ليزلي والصحفي - حيث أرسلوا معه رجلا عندما سمعوا قصته، حتى يحصلوا على القصة مباشرة من بيتي - وعندما ...» «وهل أخبرته بيتي بمحض إرادتها تماما؟» «لا أعلم مدى رغبتها. لم أكن هناك. لم أعلم أنا وزوجي أي شيء عن الأمر حتى صباح اليوم، عندما ألقى ليزلي صحيفة «أك-إيما» أمامنا مباشرة. ربما أضيف، في تحد قليلا. لم يشعر بشعور جيد للغاية حيال ما تم الآن. إن صحيفة «أك-إيما»، أود أن أؤكد لك يا سيد بلير، ليست عادة اختيار ابني. لو لم يكن ثائرا ...»
نهض قائلا: «أعرف. أعرف تماما كيف حدث ذلك. وأن «أخبرينا عن مأزقك وسنتأكد من فعل الشيء المناسب» هي حيلة ماكرة للغاية». ثم أضاف قائلا: «كنت في غاية اللطف حقا، يا سيدة وين، ممتن إليك إلى أبعد حد.»
كان واضحا أن نبرة صوته صادرة من القلب أكثر مما قد توقعت؛ ولهذا نظرت إليه في ريبة. بدت أنها تسأل نفسها، مرتبكة قليلا: ماذا قلته ليساعدك؟
سأل أين كان يعيش والدا بيتي في لندن، فأخبرته. وأضافت قائلة: «ليس هناك أي أثر للمبنى الآن. ليس إلا مساحة مفتوحة. من المتوقع أنها ستصبح جزءا من تصميم مبنى جديد؛ لهذا لم يكونوا قد فعلوا أي شيء فيه حتى الآن.»
على عتبة الباب قابل ليزلي صدفة.
كان ليزلي شابا ذا مظهر حسن على نحو استثنائي وبدا أنه غير مدرك كليا لهذه الحقيقة - وهي صفة جعلته محبوبا عند روبرت، الذي لم يكن في حالة مزاجية تسمح له بالنظر إليه بلطف. كان روبرت قد رسم له صورة في مخيلته بأنه من الشخصيات المخربة المندفعة؛ لكن على النقيض كان شابا ضعيف البنية قليلا، طيبا، له عينان صادقتان خجولتان وشعر ناعم غير مهذب. رمق روبرت بنظرة عداوة صريحة عندما قدمته إليه أمه وقد أوضحت مهمته في القضية؛ لكن، كما قد قالت أمه، بدا شيء من التحدي في نظرته؛ كان واضحا أن ليزلي لم يكن ضميره مرتاحا هذا المساء.
قال بنبرة حادة عندما كان روبرت قد عبر بلطف عن استهجانه لتصرفه: «ليس لأحد أن يضرب أختي ثم ينجو من العقاب.»
قال روبرت: «أنا متعاطف مع وجهة نظرك. لكني شخصيا أفضل أن أضرب كل ليلة مدة أسبوعين على أن توضع صورتي على الصفحة الأولى من صحيفة «أك-إيما». لا سيما إذا كنت فتاة صغيرة.»
علق ليزلي قائلا في صميم الموضوع: «لو كنت قد تعرضت للضرب كل ليلة مدة أسبوعين ولم يفعل أحد أي شيء حيال ذلك، لكان ممكنا أن تشعر بسعادة غامرة أن تجد صورتك منشورة في أي صحيفة صفراء إذا كان ذلك سيأتي لك بحقك.» ثم انصرف عنهما إلى داخل المنزل.
استدارت السيدة وين إلى روبرت بابتسامة اعتذار صغيرة، وقال روبرت، مستغلا تلك اللحظة الهادئة لها: «سيدة وين، إذا خطر في بالك في أي وقت أن أي شيء في قصة بيتي لا يبدو صحيحا، فإني آمل ألا تقرري أن أفضل شيء للكلاب النائمة هو تركها على حالها.» «لا تضع أملا على ذلك يا سيد بلير.» «ستتركين الكلاب نائمة، والبريء في معاناته؟» «أوه، لا؛ لم أقصد ذلك. أقصد أمل التشكيك في قصة بيتي. إذا كنت صدقتها منذ البداية، فمن غير المحتمل أن أشك فيها بعد ذلك.» «من يدري. ربما يخطر ببالك يوما ما أن هذا أو ذاك غير «متوافق». تتمتعين بعقل محلل بالفطرة، وربما يعرض لك جزء من العقل اللاواعي عندما يصبح أبعد شيء تتوقعينه. شيء قد أصابك بالحيرة في أعماقك ربما يأبى أن يكتم أكثر من ذلك.»
كانت قد سارت إلى البوابة برفقته، وعندما قال جملته الأخيرة التفت ليودعها. ما أثار دهشته أن شيئا أثير في عقلها وبدا على عينيها عند نطقه بهذه الجملة البسيطة.
كانت غير واثقة رغم كل ذلك.
نقطة ما، في القصة، في الأحداث، ثمة شيء صغير ترك سؤالا في عقلها المحلل المتزن.
فماذا كان هو؟
وعندئذ، وبسبب ما كان يتذكره دائما في تجربته فيما بعد على أنه نموذج مثالي على التخاطر، توقف بينما يخطو داخل سيارته، وقال: «أكانت تحمل أي شيء في جيوبها عندما عادت إلى المنزل؟» «لم يكن لديها سوى جيب واحد؛ ذلك الجيب في فستانها.» «هل كان بداخله أي شيء؟»
ظهر شد طفيف في العضلات المحيطة بفمها. وقالت، بهدوء: «ليس إلا أحمر شفاه.» «أحمر شفاه! إنها صغيرة قليلا على ذلك، أليس كذلك؟» «يا عزيزي السيد بلير، تبدأ الفتيات في تجربة أحمر الشفاه من سن العاشرة. وللترويح عن النفس في يوم ممطر حل ذلك محل ارتداء بعض من ملابس الأم.» «صحيح، ربما؛ متجر وولوورث هو المستفيد الأكبر.»
ابتسمت وودعته مرة أخرى ثم تحركت نحو المنزل عندما سار مبتعدا بسيارته.
ما الذي أثار استغرابها فيما يتعلق بأحمر الشفاه؟ هكذا تساءل روبرت، وهو ينعطف من السطح غير المستوي لميدوسايد لين نحو السطح الممهد الأسود لطريق إيلزبري-لندن الرئيسي. أكان فقط حقيقة تركه مع الفتاة من جانب الشيطانتين في منزل فرنتشايز؟ أكان ذلك ما وجدته أمرا غريبا؟
كم هو مدهش أن القلق الذي ساورها في عقلها الباطن كشف عن نفسه في التو إليه! لم يكن قد عرف أنه سيقول تلك الجملة عن جيوب الفتاة حتى سمع نفسه يقولها. لم يكن ليخطر بباله أبدا، من تلقاء نفسه، أن يتساءل عما كان بداخل جيب فستانها. ولم يكن يخطر بباله على الإطلاق أن الفستان ربما به جيب.
إذن كان هناك أحمر شفاه.
ووجوده كان أمرا أثار استغراب السيدة وين.
حسنا، كانت تلك قشة يمكن إضافتها إلى الكومة الصغيرة التي قد جمعها. إلى حقيقة أن الفتاة كانت تتمتع بذاكرة فوتوغرافية. إلى حقيقة أنها أصبحت محبطة بعد أن حل محلها شخص آخر ليصبح محل اهتمام أخيها دون سابق إنذار فقط منذ شهر أو شهرين. إلى حقيقة أنها تتسم بالطمع. إلى حقيقة أنها كانت تمل من المدرسة. إلى حقيقة أنها كانت تحب الحياة «الواقعية».
إلى حقيقة أن - وقبل كل شيء - لم يعرف أحد في ذلك المنزل ما كان يجول في عقل بيتي كين، ولا حتى السيدة وين الرزينة الحيادية. كان أمرا غير قابل للتصديق تماما أن فتاة في عمر الخامسة عشرة كانت محور حياة رجل شاب ترى أحدا يحل محلها بين ليلة وضحاها من دون أن تبدي رد فعل عنيفا تجاه الموقف. لكن بيتي كانت «تتعامل بمنتهى اللطف مع الأمر».
شعر روبرت أن هذا مشجع. كان ذلك دليلا على أن ذلك الوجه الصغير العفوي لم يكن دليلا مرشدا بأي شكل من الأشكال على شخصية بيتي كين.
الفصل الثامن
كان روبرت قد قرر أن يضرب عصافير كثيرة بحجر واحد بقضائه الليلة في لندن.
في البداية، أراد أن يلجأ إلى شخص يأخذ بيديه ليوجهه. وفي هذه الظروف لن يأخذ أحد بيديه أفضل من صديق المدرسة القديم كيفين ماكديرموت. كان كيفين يعرف الكثير عن الجريمة على أي حال. وبصفته محامي دفاع مشهورا فإن معرفته بطبيعة البشر كانت واسعة ومتنوعة ومميزة.
في الوقت الحالي كان الاحتمال متساويا بين ما إذا كان ماكديرموت سيموت من ارتفاع ضغط الدم قبل بلوغه الستين من عمره، أو سينعم عليه بمقعد في مجلس اللوردات عند بلوغه السبعين من عمره. تمنى روبرت أن يكون الاحتمال الأخير. إذ إنه شديد الولع بكيفين.
كانا في البداية قد انجذب أحدهما إلى الآخر في المدرسة؛ لأنهما كانا «سيتخصصان في القانون»، لكنهما قد أصبحا وظلا أصدقاء لأنهما كان يكمل أحدهما الآخر. بالنسبة إلى الرجل الأيرلندي، فكان اتزان روبرت مثيرا للإعجاب، والاستفزاز، ويصبح - عندما كان متعبا - باعثا على الراحة. أما بالنسبة إلى روبرت، فكان بريق النسب الكيلتي الذي ينتسب إليه كيفين لافتا وآسرا. كان من الواضح أن طموح روبرت هو العودة إلى قريته ومواصلة الحياة كما كانت؛ في حين أن طموح كيفين هو أن يغير كل شيء في القانون كان قابلا للتغيير وأن يحدث أكثر ضجة ممكنة أثناء تنفيذ ذلك.
وحتى الآن لم يكن كيفين قد غير الكثير - رغم أنه قد بذل قصارى جهده بخصوص بعض أحكام القضاة - لكنه قد أحدث ضجة هائلة بأسلوبه السهل، الماكر بعض الشيء. وكان ظهور كيفين ماكديرموت في قضية يزيد خمسين في المائة من قيمتها الصحفية، ويزيد نسبة أكبر من ذلك في أتعابها.
كان قد تزوج - على نحو نفعي لكن مبهج - وامتلك منزلا جميلا بالقرب من قرية وايبريدج ولديه ثلاثة أبناء شجعان، نحفاء، وذوي بشرة سمراء مفعمين بالحيوية مثل أبيهم. لأغراض له في المدينة؛ احتفظ بشقة صغيرة في المنطقة المحيطة بكاتدرائية سان بول، حيث، كما أشار، يصبح «بوسعه توفير إطلالة على تمثال الملكة آن.» ووقتما يأتي روبرت إلى المدينة - وهو ما لم يتمكن روبرت من أن يفعله كثيرا - كانا يتناولان العشاء معا، سواء في الشقة أو في أحدث مكان كان كيفين قد وجد فيه نبيذ كلاريت جيدا. بعيدا عن القانون، كانت اهتمامات كيفين هي الخيول، ونبيذ الكلاريت، وأفلام الحركة من إنتاج وارنر براذرز.
كان من المقرر أن يذهب كيفين الليلة لحضور إحدى حفلات العشاء الخاصة بتجمع للمحامين، هكذا قالت سكرتيرته عندما كان روبرت قد حاول الاتصال به من ميلفورد؛ لكنه كان سيسعده وجود عذر وجيه للتهرب من الحديث في هذا التجمع؛ ولهذا فضل روبرت أن يتجه مباشرة إلى منزل كيفين بعد العشاء، وينتظره.
كان ذلك أمرا جيدا؛ إذا عاد كيفين من العشاء، فسيكون هادئا ومستعدا للاسترخاء في المساء؛ ليس مضطربا ولا في حالة تدل على أن ثلاثة أرباع عقله لا تزال في قاعة المحكمة كما كان في بعض الأحيان.
في هذه الأثناء، كان روبرت سيتصل بجرانت في سكوتلاند يارد ليرى إن كان بوسعه أن يوفر له دقائق معدودات كي يقابله في صباح الغد. لا بد أن يحدد بوضوح في عقله موقفه من سكوتلاند يارد؛ رفقاء المعاناة، لكن في الجهة المقابلة من السور.
في فندق فورتسكيو، ذلك المكان العتيق المنتسب إلى العهد الإدواردي في جيرمين ستريت، حيث كان يقيم دائما منذ أن سمح له بالذهاب بمفرده لأول مرة إلى لندن، رحبوا به بشدة وقدموا له «الغرفة التي قد أقام بها في آخر مرة»؛ غرفة مريحة ضعيفة الإضاءة بها فراش عال وأريكة مخملية بها أزرار، وأحضروا إليه صينية يستقر عليها إبريق شاي بني ذو حجم كبير، وإبريق قشدة فضي على الطراز الجورجي، وما يقارب رطلا من قطع السكر في طبق زجاجي رخيص، وفنجان من خزف الدرسدن مزخرف بنقش من الزهور والقلاع الصغيرة، وطبق بلون أحمر وذهبي من خزف الووستر صنع من أجل «جلالتهما» ويليام الرابع وملكته، وسكين مطبخ محدب بقدر كبير به مقبض بني.
أنعش روبرت كل من الشاي والصينية. فخرج في المساء إلى الشارع وهو يشعر بالتفاؤل على نحو غامض.
إن بحثه عن الحقيقة بشأن بيتي كين أتى به، فقط على نحو شبه واع، إلى المساحة الخاوية التي كان مشيدا عليها المبنى السكني؛ المكان الذي فيه قد مات أبواها على إثر انفجار مدمر لمادة شديدة الانفجار. كانت مساحة نظيفة جرداء، تنتظر الدور المخصص لها في خطة ما. لم يوجد أي أثر يدل على أن أحد المباني كان مشيدا في وقت ما على تلك البقعة. وفي الأرجاء المحيطة، وقفت المنازل التي لم يمسسها سوء بأوجه متعجرفة خالية من التعبير، مثل أطفال يعانون من قصور ذهني كانوا شديدي البلاهة لدرجة أعجزتهم عن استيعاب معنى الكارثة. فهي قد مرت بهم وكان ذلك كل ما عرفوه عنها أو اهتموا به.
على الجهة المقابلة من الشارع الواسع، لا يزال صف من المتاجر قائما كما قد كان بكل وضوح لخمسين سنة أو أكثر. عبر روبرت الطريق نحوها ثم دخل إلى متجر تبغ لشراء سجائر؛ إن أصحاب متاجر التبغ الذين يبيعون أيضا صحفا يعرفون كل شيء.
سأل روبرت، وهو يميل رأسه ناحية الباب: «هل كنت هنا عندما وقع ذلك؟»
سأل الرجل المتورد الصغير البنية، الذي اعتاد كثيرا على تلك المساحة الخاوية وأصبح غير مدرك لوجودها منذ مدة طويلة: «عندما حدث ماذا؟» ثم تابع قائلا: «أوه، الحادثة؟ لا، كنت أقضي مرحلة التجنيد بالخارج. في ووردن.»
قال روبرت إنه يقصد هل كان يزاول تجارته هنا في ذلك الوقت.
أوه، أجل؛ أجل بالطبع كان يزاول تجارته هنا حينها، ومدة طويلة قبلها. لقد تربى في منطقة مجاورة، ثم ورث التجارة عن والده. «ستعرف أفرادا محليين بدرجة كبيرة، إذن. هل تتذكر الزوجين اللذين كانا يعملان في حراسة المبنى السكني؟» «أسرة كين؟ بالطبع أعرفهما. كيف لي ألا أتذكرهما؟ كانا يترددان جيئة وذهابا على هذا المكان طوال اليوم. هو لجرائده في الصباح، أما هي فلسجائرها بعد مدة قصيرة، ثم يعود هو لجرائده في المساء وهي تعود للمرة الثالثة على الأرجح من أجل سجائرها، ثم اعتدت أنا وهو أن نشرب البيرة في حانة قريبة عندما يكون ابني قد انتهى من دروسه ويتولى العمل بدلا مني هنا. أتعرفهما يا سيدي؟» «لا. لكني قابلت شخصا ما منذ أيام قلائل قد تحدث عنهما. كيف دمر المكان بأكمله؟»
شفط الرجل المتورد الهواء من بين أسنانه ليصدر صوتا مزدريا. «مبنى ضعيف. ذلك كل ما في الأمر. ليس إلا مبنى ضعيفا. سقطت القنبلة في المنطقة هناك - هكذا قتل زوجا أسرة كين - كانا في غرفتهما في الطابق السفلي يشعران بالأمان بعض الشيء - وانهار المبنى بأكمله مثله كمثل بيت من الورق. إنه أمر صادم.» أخذ يرتب حافة كومة الجرائد المسائية. ثم قال: «كان من سوء حظها تماما أن تلك الليلة كانت هي الليلة الوحيدة التي قضتها بالمنزل مع زوجها خلال أسابيع، وكان مقدرا للقنبلة أن تسقط.» بدا أنه وجد متعة ساخرة في الفكرة.
سأل روبرت: «أين كانت تذهب عادة ، إذن؟ هل كانت تعمل في مكان ما في المساء؟»
قال الرجل الصغير البنية، باحتقار بالغ: «تعمل! هي!» ثم تذكر قائلا: «أعتذر إليك، صدقا. نسيت لوهلة أنهما ربما كانا أصدقاء ل...»
أسرع روبرت في التأكيد له بأن اهتمامه بأسرة كين كان اهتماما عابرا. كان شخص ما قد تذكرهما بصفتهما حارسين لمبنى سكني، ذلك كل ما في الأمر. إن لم تكن السيدة كين تخرج للعمل في المساء، فماذا كانت تفعل بالخارج؟ «تقضي وقتا ممتعا، بالتأكيد. أوه، أجل، تمكن الناس من قضاء وقت ممتع حتى آنذاك - إذا أرادوا ذلك بالدرجة الكافية وتطلعوا إليه بجد بما يكفي. كين، أراد لها أن ترحل إلى الريف مع صغيرتهما، لكن هل كانت ستفعل ذلك؟ ليست هي من يفعل ذلك! قالت إن ثلاثة أيام في الريف كانت ستقتلها. ولم تذهب كذلك لرؤية الصغيرة عندما قاموا بإجلائها. السلطات، هي من فعلت ذلك. مع باقي الأطفال. في رأيي أنه كان يسعدها أن تتخلص من الطفلة حتى تتمكن من الذهاب إلى حفلات الرقص في الليل.» «مع من كانت ترقص؟»
قال الرجل الصغير البنية باقتضاب: «الضباط.» ثم قال في عجالة: «كان ذلك شيئا مثيرا حقا. لا أقول إن هناك ضررا في ذلك، تذكر هذا.» ثم تابع قائلا: «إنها ميتة، ولا أود أن ألصق بها شيئا وهي ليست هنا حتى تبرئ نفسها منه، إذا كنت تفهم قصدي. لكنها كانت أما سيئة وزوجة سيئة، هذا ما في الأمر ولم يسبق لأحد أن قال أي شيء خلاف ذلك.»
سأل روبرت، مفكرا في المشاعر النبيلة التي كان قد أهدرها على والدة بيتي: «أكانت جميلة؟» «وهي بوجه متجهم، أجل. كانت دائمة الغضب نوعا ما. مما يجعلك تتساءل كيف ربما ستبدو وهي مبتسمة. أقصد وهي مبتهجة؛ وليست ثملة. لم أرها ثملة قط. لم تحصل على بهجتها بتلك الطريقة.» «وزوجها؟» «حسنا، كان في حال لا بأس به، اسمه كان بيرت كين. كان يستحق حظا أفضل من تلك السيدة. كان بيرت واحدا من أفضل الناس. كان شديد الولع بالفتاة الصغيرة . دللها، بكل تأكيد. لم يكن عليها سوى أن تريد الشيء فيشتريه لها، لكنها كانت طفلة لطيفة، رغم كل ذلك. بريئة. متصنعة البراءة. أجل، استحق بيرت الأفضل من الحياة، أكثر من زوجة محبة للمتعة وطفلة تحب من أجل المصلحة. كان واحدا من أفضل الناس، كان بيرت ...» ألقى نظرة متأملة على الطريق عند المساحة الخاوية. ثم قال: «استغرق الأمر منهم أغلب أيام الأسبوع حتى يعثروا عليه.»
دفع روبرت ثمن سجائره ثم خرج إلى الشارع حزينا ومرتاحا في الآن نفسه. حزينا من أجل بيرت كين، الذي كان قد استحق الأفضل؛ لكنه سعيد أن والدة بيتي كين لم تكن هي السيدة التي كان قد تخيلها. طوال الطريق إلى لندن كان يشعر بالحزن على تلك السيدة الراحلة؛ السيدة التي قد كسرت قلبها لمصلحة طفلتها. وقد بدا له أنه شاق على النفس أن الطفلة التي أحبتها حبا جما من المفترض أنها بيتي كين. لكنه تخلص الآن من ذلك الحزن. فوالدة بيتي كين كانت تحديدا هي الأم التي سيختارها لها لو كان القدر بيديه. ومن جانبها بدت تشبه أمها إلى حد كبير. «طفلة محبة من أجل المصلحة.» حسنا، حسنا. وما الذي كانت السيدة وين قد قالته؟ «بكت لأن الطعام لم يعجبها، ولا أتذكر أنها بكت من أجل والدتها.»
ولا من أجل ذلك الأب الذي دللها بإخلاص، على ما يبدو.
لدى عودته إلى الفندق أخذ نسخته من صحيفة «أك-إيما» من حقيبة أوراقه، وأثناء عشائه المنفرد في فندق فورتسكيو تمعن بترو في القصة الواردة في الصفحة الثانية. بدءا من الاستهلال الذي كان بأسلوب قصصي بسيط ... «ذات ليلة من شهر أبريل، عادت فتاة إلى منزلها لا ترتدي شيئا سوى فستان وحذاء. كانت قد غادرت المنزل، تلميذة سعيدة ذكية من دون ...»
وحتى النهاية التي امتلأت بالنشيج، كانت عملا صغيرا فريدا من نوعه. لقد حقق هذا العمل تماما ما كان يصبو إليه. وهو استقطاب أكبر عدد من جمهور القراء على الإطلاق بنفس القصة. بالنسبة إلى أولئك الذين أرادوا خبرا ذا طابع جنسي فقدم لهم تجرد الفتاة من ملابسها، وبالنسبة إلى ذوي الحس المرهف فكان الحديث عن شبابها وسحرها، وإلى المدافعين عن القضايا الإنسانية فكان حالتها البائسة، وإلى الساديين فكانت تفاصيل ضربها، وإلى أولئك الذين يعانون من الكراهية الطبقية فكان وصف المنزل الأبيض الكبير خلف أسواره العالية، وإلى عامة البريطانيين ذوي القلوب الطيبة بوجه عام فكان الانطباع بأن الشرطة، إن لم تكن «خدعت»، فقد تراخت على أقل تقدير، ولم يتخذ الإجراء المناسب.
أجل. كان عملا بارعا.
بالطبع كانت القصة هدية لهم - وهذا يبرر إرسالهم لرجل في الحال مع الشاب ليزلي وين. لكن روبرت شعر بأن صحيفة «أك-إيما» بإمكانها، عندما تريد، أن تنسج قصة جيدة من خيوط مقطعة.
لا بد أنه عمل كئيب يكرس نفسه حصريا لنشر إخفاقات البشر. قلب الصفحات، ملاحظا كيف استخدمت كل قصة على نحو مماثل في جذب الجانب الباعث على الأسى في القارئ. حتى خبر التبرع بمليون جنيه، كما لاحظه، كان قصة عن رجل عجوز شائن ينتقد ما يدفعه من ضرائب على الدخل وليس قصة صبي كان قد خرج من حي فقير بفضل شجاعته وجرأته.
بشيء من الاشمئزاز أعاد ذلك الشيء في حقيبته، ثم أخذ الحقيبة معه إلى منزل ماكديرموت. وجد هناك الخادمة التي لا تعمل بدوام كامل في انتظاره وهي ترتدي قبعتها. كانت السكرتيرة الخاصة بالسيد ماكديرموت قد اتصلت لإخبارها بأن صديقا له سيأتي ومن المفترض أن يسمح له بالمكوث في المنزل والبقاء وحده فيه دون تردد، وقد ظلت فقط حتى تسمح له بالدخول، وكانت ستغادر في تلك اللحظة وتتركه وحده، وكان يوجد ويسكي على منضدة صغيرة بجانب المدفأة، وكانت هناك زجاجة أخرى في الخزانة، لكن ربما، إذا سألتها عن رأيها، سيكون من الحكمة ألا تذكر السيد ماكديرموت بها وإلا سيظل مستيقظا حتى ساعة متأخرة كثيرا، وستقع في مأزق كبير عند إيقاظه في الصباح.
قال بلير، مبتسما إليها: «الأمر لا علاقة له بالويسكي، بل الرجل الأيرلندي بداخله. جميع الأيرلنديون يكرهون الاستيقاظ من النوم.»
هذا أوقفها عند عتبة الباب، مذهولة بوضوح من هذا الرأي الجديد.
قالت: «لا أتعجب من ذلك.» وأضافت: «هذا هو الحال نفسه مع زوجي العجوز؛ فهو أيرلندي. الأمر معه لا علاقة له بالويسكي، بل مجرد عيب أصيل. على الأقل ذلك ما كنت أعتقده دائما. لكن ربما سوء حظه أنه أيرلندي.»
كان مكانا صغيرا مبهجا؛ دافئا ولطيفا، وسيكون هادئا في تلك اللحظة لو سكن ضجيج حركة السيارات في المدينة. صب لنفسه شرابا، ثم ذهب ليلقي نظرة على تمثال الملكة آن، توقف وهلة ليلاحظ مرة أخرى كيف تطفو الكتلة الضخمة للكنيسة بخفة على قاعدتها، متناسبة للغاية، ومتوازنة للغاية، لدرجة أنها تبدو كما لو أن بإمكان أحد أن يرفعها على راحة يده ويهدهدها فيها، ثم جلس واسترخى لأول مرة منذ أن كان قد خرج ذلك الصباح ليلتقي بامرأة مثيرة للغضب كانت تغير وصيتها مرة أخرى.
كان شبه نائم عندما سمع صوت مفتاح كيفين في القفل، ودخل مضيفه إلى المكان قبل أن يتمكن من التحرك.
شد ماكديرموت رقبة روبرت بين إصبعيه بقرصة مؤذية عندما مر خلفه متجها إلى آنية النبيذ على المنضدة. فقال: «إنها البداية، يا رفيقي القديم. إنها البداية.»
سأل روبرت: «أي بداية؟» «تجعد رقبتك الجميلة تلك.»
دلك روبرت رقبته في بطء حيث كان يشعر بالقرصة. قال: «بدأت ألاحظ بالفعل وجود بعض التجاعيد في الجزء الخلفي منها، لما ذكرت الأمر الآن.»
قال كيفين، وعيناه الفاتحتان واللامعتان تنظران في سخرية من أسفل حاجبيه الأسودين: «يا إلهي يا روبرت! ألا يوجد شيء يقلقك، حتى ولو كان ذلك الاحتمال الوشيك بأن تفقد مظهرك الجذاب؟» «أنا قلق نوعا ما حاليا، لكن السبب ليس مظهري.» «حسنا، هل السبب هو مكتب بلير وهيوارد وبينيت؛ لا يمكن أن تكون مسألة إفلاس؛ لهذا أظن أنها امرأة.» «أجل، لكن ليس بالمعنى الذي تقصده.» «أتفكر في الزواج؟ من المفترض عليك، يا روب.» «قلت ذلك من قبل.» «أنت تريد وريثا شرعيا لمكتب بلير وهيوارد وبينيت، أليس كذلك؟» تذكر روبرت أن حقيقة الأجواء الهادئة في مكتب بلير وهيوارد وبينيت كانت دائما تدفع كيفين إلى السخرية قليلا. «ليس هناك ما يضمن بألا يكون الأمر له صلة بفتاة. على أي حال، نيفيل يهتم بذلك الأمر.» «الشيء الوحيد الذي قد تلده السيدة الشابة خطيبة نيفيل هو أسطوانة جراموفون. سمعت أنها كانت شرفت مرة أخرى أحد المنابر منذ أيام قلائل. لو كانت تكسب المال لدفع أجرة القطار فربما لن تكون مستعدة بشدة لأن تتنقل عبر البلاد لكونها من الأقلية المتشبثة برأيها.» جلس بمشروبه. «لست بحاجة إلى أن أسأل إن كنت أتيت في مهمة عمل. من المفترض أنك تأتي بالفعل في بعض الأحيان لتفقد هذه المدينة. أفترض أنك ستغادر مسرعا مرة أخرى في الغد بعد الساعة العاشرة صباحا لمقابلة محامين لموكل ما.»
قال روبرت: «لا، لمقابلة شرطة سكوتلاند يارد.»
توقف كيفين وكأسه في منتصف الطريق إلى فمه. وقال: «روبرت، أنت تقع في الخطأ. ما شأن سكوتلاند يارد ببرجك العاجي؟»
قال روبرت برصانة، متجاهلا هذه السخرية الأخرى عن راحة باله في ميلفورد: «تلك هي المشكلة.» ثم أضاف قائلا: «إنها على عتبة بابي ولا أعلم تماما كيف أتعامل معها. أريد أن أستمع إلى شخص ذكي بشأن الموقف. لا أعلم السبب في أني أسر إليك بالأمر. لا بد أنك متعب من المشكلات. لكنك دائما كنت تحل مسائل مادة الجبر نيابة عني.»
أضاف قائلا: «وأنت دائما كنت تتعامل مع تلك الخاصة بالأسهم، إن كنت أتذكر على نحو صحيح. كنت دائما غبيا فيما يتعلق بالأسهم. ولا أزال مدينا لك بشيء لإنقاذي من استثمار لا جدوى منه. استثمارين لا جدوى منهما.» «اثنان؟» «تمارا وتوبيكا تين.» «أتذكر أني أنقذتك من توبيكا تين، لكن لم يكن لي أي صلة بتركك لتمارا.» «يا إلهي، ألم يكن لك صلة، حقا! روبرت صديقي الطيب، لو كنت قد رأيت وجهك عندما قدمتك لها. أوه، غير معقول، ليس بتلك الطريقة. على العكس تماما. اللطف اللحظي لتعبير وجهك، ذلك القناع الإنجليزي اللعين للاحترام ودماثة الخلق - قال كل شيء. رأيت نفسي وأنا أعيش الحياة أقدم تمارا إلى الناس وأراقب وجوههم وهي تبدو لطيفة. هذا خلصني منها في وقت قياسي. لم أتوقف أبدا عن الامتنان لك. إذن أخرج ما في حقيبة الأوراق.»
لا شيء يفلت من كيفين، هكذا فكر روبرت، وهو يخرج نسخته الخاصة من أقوال بيتي كين إلى الشرطة. «هذه إفادة مقتضبة للغاية. أتمنى أن تقرأها وتخبرني إلى أي مدى ستصدمك.»
أراد أن يرى الصدمة على كيفين، من دون تمهيدات تخفف من حدة الصدمة عليه.
أخذها ماكديرموت، وقرأ الفقرة الأولى بحركة سريعة من عينيه، ثم قال: «أعتقد أن هذه هي الفتاة التي عرضت قصتها «أك-إيما».»
قال روبرت مندهشا: «لم تكن لدي فكرة أن سبق لك أن رأيت صحيفة «أك-إيما».» «يا إلهي، أنا أتعيش على صحيفة «أك-إيما». لا جريمة، لا قضية مشهورة. لا قضية مشهورة، لا كيفين ماكديرموت. أو ليس إلا جزءا منه.» ثم دخل شيئا فشيئا في صمت تام. لأربع دقائق كان مستغرقا كليا لدرجة أن روبرت شعر بأنه في المكان وحده، وكأن مضيفه كان قد انصرف. ثم قال، خارجا من صمته: «همم!» «ماذا إذن؟» «أعتقد أن موكليك في القضية هما السيدتان، وليست الفتاة؟» «بالتأكيد.»
قال كيفين: «الآن أخبرني عن الأمر من جانبك.» ثم استمع.
روى روبرت له القصة بأكملها. زيارته المترددة، مساندته المتزايدة إذ أصبح واضحا أن الاختيار صار بين بيتي كين والسيدتين، قرار شرطة سكوتلاند يارد بألا تمضي قدما في إحالة القضية للقضاء بناء على الأدلة المتوفرة، وزيارة ليزلي المندفعة إلى مقر صحيفة «أك-إيما».
قال ماكديرموت: «وبهذا فإن الآن ستطبق سكوتلاند يارد السماء على الأرض لتعثر على دليل مؤيد يدعم قصة الفتاة.»
قال روبرت، في حزن: «أفترض ذلك، لكن ما أريد أن أعرفه هو: هل تصدق قصة الفتاة أم لا تصدقها؟»
علق كيفين بشيء من الخبث: «لا أصدق أبدا قصة أي أحد. ما تريد أن تعرفه: هل أشعر أن قصة الفتاة يمكن تصديقها؟ وبالطبع أشعر بذلك.» «تشعر حقا بذلك!» «بالفعل. ولم لا؟»
قال روبرت، بغضب أكثر مما كان يقصد: «لكنها قصة عبثية.» «لا شيء عبثي فيها. إن النساء اللواتي يعشن في عزلة يرتكبن أشياء جنونية - لا سيما إن كن سيدات فقراء. منذ أيام قلائل فقط وجدت سيدة مسنة حبست أختها مقيدة بسلسلة في سرير داخل غرفة حجمها ليس أكبر من خزانة كبيرة الحجم. حبستها على ذلك الحال لمدة ثلاث سنوات، وكانت قد جعلتها تقتات على بقايا الخبز والبطاطس والبقايا الأخرى من الطعام التي لم تكن ترغب فيها لنفسها. وقالت، عندما كشف الأمر، إن أموالهما آخذة في النفاد بسرعة شديدة وكان هذا السبيل لديها لتوفير ضرورات الحياة. في الواقع، كان لديها رصيد بنكي جيد تماما، لكنه كان الخوف الذي استحثه انعدام الأمان هو ما دفعها إلى الجنون. تلك قصة لا يمكن تصديقها أكثر بكثير من قصة الفتاة، وعبثية من وجهة نظرك.» «أهي كذلك؟ تبدو لي أنها قصة مألوفة عن الجنون.» «ليس إلا لأنك تعرف أنها حدثت. أقصد أن شخصا كان قد رأى هذه الواقعة بالفعل. افترض، على العكس، أن الشائعة قد انتشرت فحسب، وأن الأخت التي أصابها الجنون قد سمعت بها وحررت ضحيتها قبل أن تجرى ربما أي تحقيقات، وأن المحققين لم يعثروا إلا على سيدتين تعيشان على ما يبدو حياة طبيعية باستثناء طبيعة الاعتلال لإحداهما. ماذا إذن؟ هل كنت ستصدق قصة «التقييد بالسلسلة»؟ أم أنك كنت، على نحو أكثر توقعا، ستسميها «قصة عبثية»؟»
غرق روبرت بدرجة أعمق قليلا في حزنه. «ها هنا سيدتان وحيدتان ولم يترك لهما الأب أي إرث، ومقيدتان بمنزل كبير في الريف؛ إحداهما عجوز لدرجة تعوقها عن أداء أعمال المنزل والأخرى تكره أداءها. ما الشكل الأكثر ترجيحا أن يأخذه جنونهما الطفيف؟ احتجاز فتاة لتعمل كخادمة لهما، بكل تأكيد.»
تبا لكيفين ولعقلية المحامي لديه. ظن روبرت أنه قد أراد رأي كيفين، لكن ما قد أراده هو تأييد كيفين لرأيه الشخصي. «الفتاة التي حبساها هي طالبة لا لوم عليها، وبعيدة بوضوح عن منزلها. من سوء حظهما أن الفتاة بريئة للغاية؛ إذ إنها لم يكتشف أنها كذبت حتى تلك اللحظة، وسيأخذ الجميع كلامها ضد كلامهما. لو كنت أنا في موقع التصرف مثل رجال الشرطة، لكنت جازفت وواصلت النظر في القضية. يبدو لي أنهم فقدوا قدرتهم على الحكم السليم.»
سدد نظرة متلذذة إلى روبرت، الذي تراجع ببطء في كرسيه، ناظرا في يأس إلى أسفل عند قدميه الطويلتين أمام المدفأة. فجلس دقيقة أو دقيقتين مستمتعا بحيرة صديقه.
ثم قال، بعد مدة طويلة: «بالطبع، ربما تذكروا قضية مشابهة، صدق الجميع فيها قصة الفتاة التي ينفطر لها القلب وضللوا تماما.»
قال روبرت، وهو يثني رجليه ويعتدل في جلسته: «مشابهة! متى؟» «في القرن السابع عشر، أو ما شابه. لا أتذكر التاريخ الدقيق.»
قال روبرت، شاعرا باليأس مرة أخرى: «أوه!»
قال ماكديرموت بلطف: «لا أدرى عن أي شيء هذا التعجب». وتابع: «لم تتغير كثيرا خلال القرنين الماضيين طبيعة أدلة الغياب عن مكان وقوع الجريمة.» «أعذار؟» «في حال أن القضية المشابهة اتخذت كدليل مرشد بأي حال من الأحوال، فإن قضية الفتاة تتعلق بغيابها عن مكان وقوع الجريمة.» «إذن أنت تصدق - أقصد أنك تجد أنه من الممكن التصديق - بأن قصة الفتاة هراء تماما؟» «اختلاق محض من أولها لآخرها.» «كيفين، أنت ستتسبب في إصابتي بالجنون. قلت إنك وجدت القصة يمكن تصديقها.» «أجل أجدها كذلك. وأجد أيضا أن من الممكن تصديق أنها كذب في كذب. أنا لست منحازا لأي من الطرفين. أستطيع أن أورد حججا قوية لتأييد كليهما، في أقل مهلة ممكنة. إجمالا، من المفترض أن أفضل العمل محاميا لصالح الفتاة الصغيرة من إيلزبري. ستصبح مذهلة في منصة الشهود، ومن منطلق ما تخبرني به فإن السيدتين شارب لن تمثلا العون الكافي، من حيث الشكل، لتدعيم دفاع المحامي عنهما.»
ومن ثم نهض كي يصب لنفسه مزيدا من الويسكي، باسطا يده الأخرى للحصول على كأس روبرت. لكن روبرت لم يكن في حالة مزاجية تسمح له بالمرح. فهز رأسه رافضا من دون أن يرفع بصره عن المدفأة. كان متعبا وبدأ في الشعور بالغضب من كيفين. لم يكن مصيبا في مجيئه إليه. لو أن رجلا كان قد عمل محاميا في محاكم جنائية بالقدر الذي عمل فيه كيفين، لم يكن لينضح عقله سوى بوجهات نظر، وليس بمزيد من القناعات. كان سينتظر حتى ينتهي كيفين من نصف الكأس الذي يجلس وهو يحمله الآن، ثم يهم بالانصراف. سيصبح من الجيد أن يضع رأسه على وسادة وينسى قليلا أنه مسئول عن مشكلات أناس آخرين. أو على وجه الدقة، عن حلها.
قال كيفين محاورا، وهو يتجرع كمية كبيرة من الويسكي الفاخر: «إني أتساءل عما كانت تفعله طوال ذلك الشهر.»
انفتح فم روبرت ليقول: «فأنت إذن تصدق أن الفتاة مراوغة»، لكنه أوقف نفسه في الحال. فتمرد على الرقص أكثر من ذلك على مزمار كيفين هذا المساء.
وقال: «إذا كنت ستشرب المزيد من الويسكي فوق ما شربته من نبيذ الكلاريت، فإن ما ستفعله لمدة شهر هو محاولة التعافي يا صديقي.» ومما أثار دهشته أن كيفين عاد على الوراء وضحك كتلميذ مدرسة.
وقال مبتهجا: «أوه، يا روب، إني أحبك. أنت جوهر إنجلترا. كل شيء فيك يثير إعجابنا بك وغيرتنا منك. تجلس هناك في غاية الوداعة والأدب، وتسمح للناس باستدراجك، حتى يتوصلوا إلى أنك هر عجوز وأن بإمكانهم فعل ما يروق لهم معك، وعندما يبدءون تحديدا في التباهي بأنفسهم بأن بإمكانهم الهجوم عليك بسهولة، تظهر لهم مخالبك التي لا ترحم!» أمسك كأس روبرت من بين يديه من دون استئذان ثم نهض ليملأه فسمح له روبرت. كان يشعر بأنه أفضل.
الفصل التاسع
كان طريق لاربورو-لندن امتدادا مستقيما أسود اللون في ضوء الشمس، ينبعث منه شرر متلألئ كلما بلغت حركة السير المزدحمة الضوء ثم فقدته مرة أخرى. وفي وقت قريب، كان سيصير كل من المجال الجوي والطرق البرية مزدحمين لدرجة تعجز أي أحد عن التنقل بسهولة، وسيضطر الجميع إلى العودة إلى قطارات السكة الحديدية للسفر سريعا. كان ذلك هو التقدم.
أشار كيفين الليلة الماضية إلى أنه، بفضل تيسر وسائل النقل حاليا، من المحتمل بدرجة كبيرة أن تكون بيتي كين قد قضت شهر إجازتها في سيدني، بولاية نيو ساوث ويلز. كانت فكرة مرعبة. ومن الممكن أنها كانت في أي مكان من شبه جزيرة كامتشاكا إلى بيرو، وكان كل ما على بلير أن يفعله هو شيء صغير؛ وهو إثبات أنها لم تكن في منزل على طريق لاربورو-ميلفورد. لو لم يكن الصباح مشمسا، ولو لم يكن يشعر بالأسف على سكوتلاند يارد، ولو لم يكن كيفين قد سانده، ولو لم يكن يبلي بلاء حسنا وحده إلى حد كبير، لكان قد شعر باكتئاب.
إن الشعور بالأسف على سكوتلاند يارد كان آخر شيء قد توقعه. لكنه كان أسفا. كرست كافة جهود سكوتلاند يارد لإثبات أن السيدتين شارب مذنبتان وأن قصة بيتي كين حقيقية؛ لسبب وجيه وهو أنهم اعتقدوا أن السيدتين شارب مذنبتان بالفعل. لكن ما كانت تشتاق إليه أنفسهم لفعله هو إثبات كذب صحيفة «أك-إيما» فيما يتعلق ببيتي كين، ولم يكن بإمكانهما فعل ذلك إلا بإثبات أن قصتها غير منطقية. أجل، إن قدرا كبيرا من الإحباط كان يسري في تلك الأجساد الضخمة الهادئة في سكوتلاند يارد.
كان جرانت مبهرا بأسلوبه الحكيم تماما - وبدا الأمر أشبه نوعا ما بالذهاب لمقابلة طبيب، ذلك ما خطر في باله حينها - وقد وافق بمحض إرادته تماما على ضرورة إخبار روبرت بأمر أي رسائل قد تثيرها صحيفة «أك-إيما».
وقال، بلهجة تنبيه ودية: «لا تعلق آمالك بشدة على ذلك. مقابل رسالة واحدة مهمة تتلقاها سكوتلاند يارد فإنها تتلقى خمسة آلاف من الرسائل التافهة. إن كتابة الرسائل هي وسيلة تعبير طبيعية «لغريبي الأطوار». وللفضوليين والتافهين، والمنحرفين والحانقين، والمتصنعين بأن ذلك واجب عليهم ...» ««من أجل الصالح العام» ...»
قال جرانت بابتسامة: «لصالحه ولصالح المواطن.» وتابع: «وكذلك للمنحلين بكل وضوح. جميعهم يكتبون رسائل. فهي متنفسهم «الآمن»، كما تعلم. ربما يكونون متطفلين، مستفيضين، بذيئين، مبالغين، يتحدثون عن فكرة واحدة، بقدر ما يشاءون على الورق، وليس لأحد أن يعاقبهم على ذلك. هكذا يكتبون. يا إلهي، يا لها من كتابة!» «لكن هناك فرصة للحصول على معلومة حقيقية ...» «أجل. هناك فرصة. ويجب استخلاصها من بين كل تلك الرسائل، بالرغم من سخافتها. وأي شيء ذو أهمية سينقل إليك، أعدك بذلك. لكني أذكرك بأن احتمال قيام المواطن الذكي العادي بالكتابة هو واحد من بين خمسة آلاف. فهو لا يحب أن يؤخذ ما يفكر فيه على أنه «يقحم أنفه في الأمر» - ولهذا السبب يجلس صامتا في عربة قطار ويفضح الأمريكيين، الذين لا يزالون لديهم اهتمام ساذج بالآخرين - وعلى أي حال فهو شخص مشغول، منشغل بأموره الشخصية، ومن المخالف لفطرته أن يجلس ليكتب رسالة إلى الشرطة عن شيء لا يهمه.»
بهذا كان روبرت قد انصرف مسرورا من سكوتلاند يارد، وأسفا عليهم. على الأقل كان روبرت لديه مسار مباشر سيسلكه. وهو لن ينظر جانبا من حين لآخر ويتمنى لو كان قد سلك المسار الآخر. وعلاوة على ذلك لقد حصل على تأييد كيفين للمسار الذي قد اختاره.
كان كيفين قد قال: «أنا أعني ذلك، عندما أقول لو كنت أنا الشرطة لكان علي أن أجازف بالأمر. إذ إن لديهم قضية مقبولة بما يكفي. كما أن إدانة بسيطة لطيفة هي دائما سبب لارتقاء شخص ما على سلم الترقيات. ولسوء الحظ - أو من حسن حظ المواطن - أن الرجل الذي يقرر ما إذا كان الأمر سيحال إلى القضاء أم لا هو الرجل صاحب الرتبة الأعلى، وهو لا يهتم بأي ترقية سريعة لمرءوسيه. من المذهل أن تكون الحكمة هي نتاج ثانوي للقوانين المنظمة للإدارات العليا.»
كان روبرت، وهو ثمل قليلا من الويسكي، قد سمح للتشاؤم أن يتجاوزه. «لكن دعهم يصلون إلى دليل تأييد واحد، وسيأتون بأمر إحالة للقضاء إلى باب منزل فرنتشايز في وقت أسرع مما يمكنك أن ترفع فيه سماعة الهاتف.»
قال روبرت الثمل: «لن يحصلوا على أي دليل تأييد. لماذا يجب عليهم ذلك؟ كيف يمكنهم أن يفعلوا ذلك؟ ما نريد أن نفعله هو دحض قصة الفتاة بأنفسنا، وبذلك لا تتعرض حياة السيدتين شارب إلى اللعنة طوال الحياة. بمجرد أن أقابل عمتها وزوج عمتها غدا، ربما نحصل على معلومات عامة عن الفتاة حتى نوجد مبررا لنقطة انطلاق التحريات التي سنعمل عليها.»
في تلك اللحظة كان يسرع عبر طريق لاربورو الأسود اللامع في طريقه لمقابلة قريبي بيتي في ضاحية مينشيل؛ هذين الشخصين اللذين كانت قد أقامت لديهما في الإجازة المشهودة. وهما السيد والسيدة تيلسيت. منزل تيلسيت، 93 تشيريل ستريت، مينشيل، لاربورو، وكان الزوج وكيلا متنقلا لصالح شركة لصناعة الفرش في لاربورو ولم يكن لديهما أطفال. كان ذلك كل ما عرفه روبرت عنهما.
توقف لوهلة بينما كان ينحرف عن الطريق الرئيسي في ضاحية مينشيل. كانت تلك هي الناصية التي انتظرت عندها بيتي كين حافلتها. أو قالت إنها انتظرت. لا بد أنها كانت هناك على الجهة الأخرى. إذ لا يوجد أي منعطف جانبي على ذلك الجانب؛ لا شيء سوى الامتداد الطويل لرصيف متواصل بقدر ما يمكن لشخص أن يدركه ببصره في أي اتجاه. إنه شارع مزدحم بما يكفي في هذا الوقت من اليوم؛ لكنه خال بما يكفي، حسب افتراض روبرت، في ساعة غير حافلة بالنشاط في وقت متأخر من وقت ما بعد الظهر.
كان تشيريل ستريت عبارة عن سلسلة طويلة من نوافذ بارزة بزاوية من طوب أحمر متسخ، واجهتها الأمامية تكاد تلامس السور المنخفض من الطوب الأحمر الذي يحيط بها من الرصيف. أما التربة السيئة على جانبي النافذة التي تستخدم كحديقة فلم تكن قد ظهرت عليها أي من مزايا الأرض المزروعة حديثا لميدوسايد لين، بإيلزبري؛ لم ينم بها سوى نباتات رقيقة من كاسر الحجر، وزهور برية هزيلة، وزهور أذن الفأر التي تأكلها فراشة الليل. والاعتزاز نفسه لربات المنازل الملاحظ في تشيريل ستريت لا يختلف عن ذلك الموجود في إيلزبري، بالطبع، ونفس الستائر المتموجة المعلقة على النوافذ؛ لكن إن كان هناك شعراء في تشيريل ستريت لوجدوا متنفسا آخر لأرواحهم غير الحدائق.
عندما دق جرس المنزل رقم 93 - الذي يتعذر تمييزه من المنازل الأخرى بقدر ما تمكن من الملاحظة إلا من خلال رقميه المطليين - بلا جدوى، ثم طرق بابه، اندفعت سيدة من نافذة غرفة النوم بالمنزل المجاور، ومدت جسمها إلى الخارج ثم قالت : «هل تبحث عن السيدة تيلسيت؟»
أجاب روبرت مؤكدا ذلك. «ذهبت لتشتري بقالتها. في المتجر عند الناصية.» «حقا، شكرا لك. إن كان ذلك ما في الأمر، سأنتظرها.» «عليك ألا تنتظر إن كنت تتطلع لمقابلتها في وقت قريب. عليك أن تذهب وتأتي بها.» «فعلا! أستذهب إلى مكان آخر؟» «لا، ليس سوى إلى متجر البقالة، المتجر الوحيد القريب هنا. لكنها تقضي نصف وقت الصباح في الاختيار بين صنفين تجاريين لرقائق القمح. خذ عبوة واحدة بحزم ثم ضعها في حقيبتها وستصبح سعيدة تماما.»
شكرها روبرت وشرع في الانصراف إلى نهاية الشارع، عندما نادته مرة أخرى. «يجب ألا تترك سيارتك. خذها معك.» «لكن المسافة قصيرة بالفعل، أليس كذلك؟» «ربما، لكنه يوم السبت.» «السبت؟» «إجازة المدرسة.» «أتفهم ذلك. لكن لا يوجد شيء بداخلها ...»؛ كان سيقول «عرضة للسرقة»، لكنه عدلها لتصبح «لا شيء بداخلها يمكن نقله.» «يمكن نقله! أها! هذا جيد. كان لدينا أصص زرع للنافذة فيما مضى. والسيدة لافيرتي على الجهة المقابلة من الطريق كان لديها بوابة. السيدة بيدوس كان لديها قائمان خشبيان رفيعان وثماني عشرة ياردة من الحبل لنشر الغسيل. وجميعهن ظنوا أنها أشياء لا يمكن نقلها. إذا تركت سيارتك هناك عشر دقائق فستصير محظوظا لو وجدت هيكلها المعدني!»
لهذا استقل روبرت سيارته واستجاب لنصيحتها، وقادها نحو متجر البقالة. وبينما كان يقود تذكر شيئا، وما تذكره حيره. كان هذا هو المكان الذي كانت فيه بيتي كين في غاية السعادة. هذا الشارع الكئيب بعض الشيء، والمتسخ نوعا ما؛ إحدى متاهات الشوارع التي تشبه بعضها كثيرا. كانت في غاية السعادة لدرجة أنها قد كتبت لتقول بأنها كانت ستمكث فيه ما تبقى من إجازاتها.
ما ذاك الذي وجدته هنا جذابا لهذه الدرجة؟
كان لا يزال يتساءل أثناء سيره نحو المتجر وتأهبه لاستكشاف السيدة تيلسيت من بين زبائن الصباح. لم يكن هناك داع لأي تخمين. فلم يكن بالمتجر سوى سيدة واحدة، واتضح بنظرة واحدة على الوجه الصبور للبقال والعلبة من الورق المقوى في كل يد من يديها، أنها كانت السيدة تيلسيت.
قال البقال مبعدا نفسه للحظة عن تأملات السيدة - فلم يكن الاختيار خاصا برقائق القمح هذا الصباح، بل الصابون المبشور - ومتجها نحو روبرت: «هل لي أن أحضر لك شيئا، يا سيدي؟»
قال روبرت: «لا، شكرا». وأضاف: «أنتظر فقط هذه السيدة.»
قالت السيدة: «أتنتظرني أنا؟» ثم أضافت قائلة: «إن كان لأمر الغاز، فإذن ...»
أسرع روبرت بقول إن الأمر لا علاقة له بالغاز.
قالت، ثم استعدت للرجوع إلى مشكلتها: «لدي مكنسة كهربائية، وهي تعمل بكفاءة.»
قال روبرت إنه قد ترك سيارته في الخارج وسينتظر حتى تنتهي من التسوق، وكان سينسحب مسرعا؛ لكنها قالت: «سيارة! يا إلهي. عظيم، بإمكانك أن توصلني إلى المنزل، ألا يمكنك ذلك، وتنقذني من حمل كل تلك الأشياء. ما الحساب، يا سيد كار، من فضلك؟»
السيد كار، الذي أخذ منها عبوة الصابون المبشور أثناء إبداء اهتمامها بروبرت ثم دسها في حقيبة تسوقها، أخذ النقود منها، وأعطاها الباقي، وتمنى لها يوما سعيدا، ثم رمق روبرت بنظرة شفقة بينما كان يتبع السيدة نحو الخارج إلى سيارته.
كان روبرت قد أدرك أنه من المستبعد للغاية أن يعلق أملا على إيجاد سيدة أخرى تحمل الموضوعية والذكاء اللذين تتمتع بهما السيدة وين، لكن قلبه انقبض عندما فكر في السيد تيلسيت. إذ إن السيدة تيلسيت هي واحدة من النساء اللاتي تكون عقولهن دائما منشغلة بشيء آخر. يتحدثن بابتهاج معك، يتفقن معك في الرأي، يبدين إعجابهن بما ترتديه، يسدين نصيحة لك، لكن انتباههن الحقيقي منصب على ما ستفعلن مع السمك، أو على ما أخبرتهن به فلوري عن الابن الأكبر لميني، أو في أي مكان تركن قائمة الغسيل، أو حتى رداءة الحشو في السن الأمامية على اليمين لديك، فينشغلن بأي شيء، وبكل شيء، عدا الموضوع المطروح.
بدت معجبة بمظهر سيارة روبرت، ودعته إلى الدخول وتناول فنجان من الشاي - إذ بدا واضحا أنها تتناول الشاي في أي وقت من اليوم، وليس في وقت محدد مثل الساعة الخامسة في وقت ما بعد الظهر. شعر روبرت أنه من غير الممكن أن يشرب معها - حتى ولو فنجان شاي - من دون أن يوضح موقفه بصفته محامي الخصم، إذا صح القول. بذل قصارى جهده، لكن كان أمرا مشكوكا فيه إن كانت فهمته؛ كان عقلها بالفعل يقرر بوضوح إذا كانت ستقدم له مع فنجانه من الشاي بسكويت «ريتش تي» أم «ميكسد فانسي». فإن ذكر ابنة أخيها لم يثر أي زوبعة متوقعة في مشاعرها.
قالت: «ذلك الذي حدث، لا يوجد ما يضاهيه في غرابته، أليس كذلك؟» ثم أردفت قائلة: «أن يأخذاها بعيدا ويضرباها. ما الفائدة في ظنهما التي كانت ستعود عليهما من ذلك؟ اجلس، سيد بلاين، ادخل واجلس. أما أنا فسوف ...»
صرخة تقشعر لها الأبدان سمع صداها في المنزل. صراخ عاجل، مجلجل، مستميت استمر، بلا مهلة لالتقاط الأنفاس.
حملت السيدة تيلسيت مشترياتها في حركة غضب. ومدت جسمها قريبا من روبرت بما يكفي لتضع فمها على مسافة قريبة من أذنه. صرخت: «برادي. سأعود سريعا.»
جلس روبرت وتمعن مرة أخرى في المكان المحيط به ثم تساءل لم كانت بيتي كين قد وجدته مستحسنا للغاية. كانت الغرفة الأمامية للسيدة وين غرفة للمعيشة؛ غرفة جلوس دافئة حافلة بنشاط بشري وحركة بشرية. لكن كانت بوضوح «أفضل» غرفة، ولذلك، خصصت للزائرين الذين لم يكونوا على صلة قريبة تسمح لهم بدخول المناطق الخلفية؛ أما الحياة الحقيقية للمنزل فكانت في غرفة ضيقة بالجهة الخلفية. إما المطبخ أو غرفة الجلوس الملحقة بالمطبخ. ورغم ذلك كانت بيتي كين قد اختارت أن تمكث هنا. هل وجدت صديقا؟ فتاة في المنزل المجاور؟ صبيا في المنزل المجاور؟
عادت السيدة تيلسيت في غضون ما يبدو أنه دقيقتان، تحمل صينية عليها الشاي. تعجب روبرت قليلا من سرعتها حتى رأى محتويات الصينية. لم تكن السيدة تيلسيت قد انتظرت حتى تتخذ قرارا، فأحضرت كليهما معا؛ بسكويت «ثين واين» وبسكويت «سويت شورتبريد». على الأقل، فكر، مراقبا إياها وهي تصبه، أن هذه السيدة فسرت أحد الأمور الغريبة في القضية: حقيقة أن أسرة وين كانت قد كتبت لتطلب رجوع بيتي كين في الحال، ولم تكن عمتها قد ركضت إلى مكتب برقيات لإبلاغهما بأن بيتي كانت قد غادرت إلى المنزل منذ قرابة أسبوعين. وبيتي التي كانت قد انصرفت منذ أسبوعين سابقا ربما كانت أقل أهمية بكثير في عقل السيدة تيلسيت من حلوى الهلام التي كانت تبرد على حافة النافذة الخلفية.
قالت السيدة تيلسيت، وكأنها تجيب عن أفكاره: «لم أكن قلقة بشأنها.» وتابعت: «عندما أرسلا خطابا بشأنها من إيلزبري، كنت أعرف أنها ستظهر. وعندما عاد السيد تيلسيت كان منزعجا بشدة حيال الأمر، وهو يسافر بعيدا أسبوعا أو عشرة أيام في كل مرة؛ حيث إنه وكيل لصالح شركة ويكسس، وظل كالمجنون، هكذا كان، لكني قلت تحديدا انتظر وستظهر وهي بخير، وهكذا فعلت. حسنا، كانت تقريبا بخير.» «قالت إنها استمتعت بشدة بإجازتها هنا.»
قالت بذهن شارد، دون أن تبدو راضية كما كان روبرت قد توقع: «أفترض أنها استمتعت.» نظر إليها وتبين له أن عقلها كان منشغلا بشيء آخر. قوة تركيز الشاي الذي قدمته له، إن جاز الحكم عليها من اتجاه عينيها. «كيف كانت تقضي وقتها؟ هل أقامت صداقات؟» «أوه، لا، كانت في لاربورو أغلب الوقت.» «لاربورو!»
قالت، وهي تبدو مرتابة: «أوه، حسنا، عندما أقول أغلب الوقت، فإني أظلمها. ساعدت في المنزل وقت الصباح، لكن في منزل بهذا الحجم ومع اعتيادي على فعل كل شيء بنفسي فليس هناك الكثير لتنجزه. وهي كانت هنا لقضاء الإجازة، ألم تكن كذلك، مسكينة، بعد كل تلك الواجبات المدرسية. ما فائدة كل تلك الواجبات لفتاة صغيرة، لا أدري. ابنة السيدة هاراب في الجهة المقابلة من الطريق تستطيع أن تكتب اسمها بصعوبة لكنها تزوجت الابن الثالث لأحد اللوردات.» ثم أضافت وقد بدا عليها أنها متشككة: «أو ربما كان ابن الابن الثالث.» ثم أردفت: «لقد نسيت الآن. هي ...» «كيف كانت تقضي وقتها في لاربورو؟ إنني أتحدث عن بيتي.» «في مشاهدة الأفلام، عادة.» «الأفلام؟ آه، السينما. فهمت.» «يمكنك أن تفعل ذلك، في لاربورو، من الصباح حتى الليل إذا كانت لديك ميول في ذلك الاتجاه. تفتح السينمات الكبيرة في الساعة العاشرة والنصف ثم تغير أفلامها عادة في منتصف الأسبوع وهناك نحو أربعين منها؛ لهذا يمكنك أن تذهب من واحدة إلى الأخرى حتى يحين وقت العودة إلى المنزل.» «أهذا ما كانت تفعله بيتي؟» «أوه، لا. هي عاقلة تماما، هذا هو حال بيتي. اعتادت الدخول في الوقت الصباحي لأنك تدخل بثمن أرخص من وقت الظهر، ثم تذهب في نزهة بالحافلة.» «نزهة بالحافلة. إلى أين؟» «أوه، أي مكان يأخذها إليه خيالها. تفضل قطعة أخرى من ذلك البسكويت، سيد بين؛ فهي طازجة من العلبة. ذهبت لترى القلعة في نورتون ذات يوم. نورتون عاصمة المقاطعة كما تعرف. الجميع يتخيل أن لاربورو هي العاصمة لأنها كبيرة للغاية، لكن نورتون كانت دائما ...» «ألم تكن تعود إلى المنزل حتى تتناول الغداء؟» «ماذا؟ أوه، بيتي. لا، كانت تتناول غداء خفيفا في أي مكان. دائما ما نتناول وجبتنا الرئيسية في المساء على أي حال، كما ترى، نظرا إلى أن السيد تيلسيت في الخارج طوال اليوم، فكانت هناك دائما وجبة في الانتظار عند عودتها. كان دائما مصدر فخر لي أن أعد وجبة شهية مغذية على المائدة من أجل ...» «في أي وقت قد يكون ذلك؟ السادسة؟» «لا، السيد تيلسيت لا يصل عادة إلى المنزل قبل السابعة والنصف.» «وأظن أن بيتي كانت تعود إلى المنزل قبل ذلك بوقت طويل؟» «على الأغلب كانت تفعل ذلك. تأخرت مرة واحدة لأنها ذهبت إلى حفلة ما بعد الظهر في السينما، لكن السيد تيلسيت أقام الدنيا وأقعدها بسبب ذلك - رغم أني واثقة أنه لم يتوجب عليه ذلك، فأي ضرر قد يصيب المرء في السينما؟ - ومن بعد ذلك كانت تعود إلى المنزل دوما قبله. ذلك عندما يكون هنا. لكنها لم تكن حريصة بالدرجة نفسها أثناء سفره.»
بهذا كانت الفتاة هي سيدة نفسها طيلة الأسبوعين الممتعين. لها مطلق الحرية أن تجيء وتذهب دون سؤال، ولم يقيدها سوى مبلغ المال المخصص للإجازة في جيبها. كانا أسبوعين بريئين، وفي حالة أغلب الفتيات في مثل عمرها فإنه بلا شك كان سيسير اليوم على هذا المنوال. السينما في الصباح، أو الوقوف في النافذة، ثم غداء خفيف، ثم نزهة بالحافلة داخل الريف في وقت بعد الظهر. إجازة سعيدة لمراهقة، والتجربة الأولى للاستمتاع بحرية من دون رقابة.
لكن بيتي كين لم تكن مراهقة عادية. إنها الفتاة التي كانت قد سردت للشرطة تلك القصة الطويلة المفصلة من دون أن ترتجف ولو مرة. الفتاة التي قضت أربعة أسابيع من حياتها بلا سبب يبرر غيابها. الفتاة التي قد انتهى الحال معها بشخص ضربها بلا رحمة. كيف، إذن، قضت بيتي كين تلك الفترة التي كانت فيها حرة بلا رقابة؟ «هل ذهبت إلى ميلفورد بالحافلة، حسب معرفتك؟» «لا، سألوني هم عن ذلك، بالطبع، لكن لم أتمكن من التأكيد أو النفي.» «هم؟» «الشرطة.»
صحيح، بالتأكيد؛ كان قد نسي لوهلة أن الشرطة كانت ستتأكد من كل جملة قالتها بيتي كين بكل ما أوتيت من قوة. «أنت لست من الشرطة، أظنك قلت ذلك.»
قال روبرت مرة أخرى: «لا. أنا محام. موكل عن السيدتين اللتين يفترض بأنهما حبستا بيتي.» «أوه، أجل. أخبرتني بذلك. أعتقد أنهما سيلجآن إلى محام مثلهما كمثل أي شخص آخر، هاتين المسكينتين. من أجل إجراء استجواب من أجلهما. آمل أني أخبرك بالأمور التي تريد معرفتها، سيد بلاين.»
احتسى فنجانا آخر من الشاي على أمل أنها مع الوقت قد تخبره بشيء أراد أن يعرفه. لكن الأمر كان مجرد تكرار لما قيل في تلك اللحظة.
سأل: «هل عرفت الشرطة أن بيتي كانت تقضي اليوم في الخارج بمفردها؟»
فكرت بالفعل في ذلك. قالت: «ليس بوسعي أن أتذكر ذلك. سألوني كيف كانت تقضي وقتها وقلت إنها أغلب الوقت كانت تذهب إلى السينما أو في نزهة بالحافلة، وسألوني إن كنت أرافقها فأجبت - حسنا، علي أن أعترف بأني أخبرتهم بكذبة بيضاء عن ذلك الأمر وقلت إني كنت أفعل ذلك من حين لآخر. لم أرد أن يعتقدوا أن بيتي ذهبت إلى أماكن بمفردها. رغم أن لا ضرر من ذلك بكل تأكيد.»
يا له من عقل!
سأل روبرت بينما كان يستأذن للانصراف: «هل كانت تتسلم أي رسائل أثناء وجودها هنا؟» «من المنزل فحسب. أوه، أجل، كنت سأعرف. كنت دائما أتسلم الرسائل. على أي حال لم يكونوا ليكتبوا رسائل إليها، أليس كذلك؟» «من؟» «تلكما السيدتان اللتان اختطفتاها.»
قاد روبرت سيارته متجها إلى لاربورو وهو يحمل شعورا بالهروب. تساءل إن كان السيد تيلسيت يغيب دائما عن منزله «عشرة أيام في كل مرة»، أم أنه كان قد حصل على وظيفة تتطلب السفر باعتباره بديلا عن الهروب أو الانتحار.
في لاربورو، بحث بلير عن المرأب الرئيسي الخاص بشركة الحافلات لاربورو آند ديستريكت موتور سيرفيسز. طرق باب المكتب الصغير الذي يحرس جانبا واحدا من المدخل، ثم دخل. فوجد رجلا في زي مفتش حافلة كان يقلب في الأوراق على المكتب. رفع الرجل بصره إلى روبرت ومن دون أن يسأل عن أمره استمر في متابعة شئونه.
قال روبرت إنه أراد أن يقابل شخصا قد يعرف معلومات عن خدمة حافلات ميلفورد.
قال الرجل من دون أن يرفع بصره إليه: «جدول المواعيد معلق على الجدار في الخارج.» «لا أريد معرفة المواعيد. فأنا أعرفها. أعيش في ميلفورد. أريد معرفة إن كان سبق لكم تشغيل حافلة ذات طابقين على ذلك الطريق.»
ساد صمت مدة طويلة؛ صمت محسوب ببراعة حتى نهاية اللحظة التي كان روبرت على وشك أن يفتح فيها فمه مرة أخرى.
قال الرجل: «لا.»
سأل روبرت: «أبدا؟»
هذه المرة لم تكن هناك إجابة على الإطلاق. أوضح المفتش أن وقته قد انتهى معه.
قال روبرت: «استمع إلي. هذا أمر مهم. أنا شريك في مكتب محاماة في ميلفورد، وأنا ...»
التفت إليه الرجل. وأضاف عندما ظهر ميكانيكي ضئيل الحجم وراء روبرت في المدخل: «لا يعنيني إن كنت شاه إيران؛ لا توجد أي حافلة ذات طابقين على طريق ميلفورد! وأنت ماذا تريد؟»
تردد الميكانيكي، وكأن المهمة التي كان قد أقبل من أجلها كانت قد كدرها اهتمام أحدث. لكنه تمالك نفسه تماما وبدأ في توضيح الأمر الذي أتى من أجله. «الأمر بخصوص قطع الغيار الخاصة بنورتون. هل ينبغي علي ...»
بينما كان روبرت يقترب متجاوزا إياه إلى خارج المكتب شعر بشد في معطفه فأدرك أن الميكانيكي الضئيل أراد منه أن يبقى حتى يتمكن من التحدث إليه. خرج روبرت وانحنى فوق سيارته، وبعد مدة قليلة ظهر الميكانيكي بجواره. «أتسأل عن الحافلات ذات الطابقين؟ لم يكن بيدي مناقضة كلامه صراحة، كما تعرف؛ في الحالة المزاجية التي هو فيها الآن ربما يكلفني الأمر أن أخسر وظيفتي. أتريد استخدام حافلة ذات طابقين، أو مجرد معرفة إن كان سبق لها أن عملت على هذا الطريق؟ لأنه لا يمكن لك أن تجد حافلة ذات طابقين على ذلك الطريق، ليس للسفر فيها؛ لأن الحافلات على هذا الطريق جميعها ...» «أعرف، أعرف. فهي ذات طابق واحد. ما أردت معرفته إن سبق وكانت هناك حافلة ذات طابقين على طريق ميلفورد.» «حسنا، من المفترض ألا توجد، كما تفهم، لكن مرة أو مرتين هذا العام كنا قد استخدمنا حافلة ذات طابقين عندما تعطلت فجأة إحدى الحافلات القديمة ذات الطابق الواحد. عاجلا أم آجلا ستصبح جميع الحافلات بطابقين، لكن حركة السير في ميلفورد ليست كافية بالدرجة التي تبرر استخدام الحافلات ذات الطابقين؛ لهذا فجميع الحافلات العتيقة ذات الطابق الواحد ينتهي بها الأمر في النهاية على ذلك الطريق وبعض الطرق الأخرى التي على شاكلته. وهكذا ...» «لقد أفدتني كثيرا. هل من الممكن أن تعرف تحديدا متى سارت الحافلة ذات الطابقين على ذلك الطريق؟»
قال الميكانيكي، بقليل من الاستياء: «بالطبع.» وتابع: «في هذه الشركة يسجل كل مرة تبصق فيها.» وأضاف وهو يميل رأسه إلى الوراء ليشير إلى المكتب: «لكن السجلات في الداخل هناك، وما دام هو هناك فلا يمكن فعل أي شيء.»
سأل روبرت عن الساعة التي ربما خلالها يمكن فعل شيء. «حسنا، ينصرف هو في موعد انصرافي؛ في السادسة. لكن بإمكاني الانتظار دقائق معدودات، وابحث في جداول المواعيد عندما ينصرف إذا كان الأمر مهما بالنسبة إليك.»
لم يكن روبرت يدري كيف سينتظر خلال تلك المدة حتى الساعة السادسة، لكن يجب أن ينتظر حتى السادسة. «اتفقنا. سأقابلك في بيل، تلك الحانة التي في نهاية الشارع، في نحو الساعة السادسة والربع. أذلك مناسب؟»
قال روبرت إن ذلك مناسب على نحو مثالي. تماما.
ثم انصرف ليرى ما الذي بوسعه أن يرشو به نادل ردهة فندق ميدلاند ليمنحه بعض الشراب خارج ساعات العمل الرسمية.
الفصل العاشر
قالت العمة لين: «أفترض أنك تعرف ما تفعله، يا عزيزي لكني لا أستطيع منع نفسي من التفكير في أنه من الغريب للغاية الدفاع عن أشخاص مثل هؤلاء.»
قال روبرت بترو شديد: «أنا لا «أدافع» عنهما. بل أنا أمثلهما. وليس هناك دليل أيا كان يثبت أنهما «أشخاص مثل هؤلاء».» «هناك أقوال الفتاة، يا روبرت. لا يمكن لها أن تكون قد اختلقت القصة كلها.» «عجبا، ألا يمكن لها؟!» «ما الفائدة التي قد تعود عليها من سرد أكاذيب كثيرة!» كانت تقف في مدخل باب غرفته تمرر كتاب الصلوات من يد إلى اليد الأخرى وهي ترتدي قفازيها الأبيضين. وأضافت: «ما هو الشيء الآخر الذي من الممكن أنها كانت تفعله إذا لم تكن في منزل فرنتشايز؟»
منع روبرت نفسه من أن يقول: «ستفاجئين!» من الأفضل دائما مع العمة لين أن تتبع الطريق الأسهل.
أرجعت قفازيها برفق إلى مكانهما. «إن كان الأمر مجرد أنك تتصرف بنبل يا عزيزي روبرت، فلا بد علي أن أقول إنك مخطئ. وهل عليك أن تذهب إلى ذلك «المنزل»؟! بالتأكيد ربما تأتيان إلى المكتب غدا. لا يوجد ما يدعو إلى العجلة، أليس كذلك؟ إن الأمر ليس كأن شخصا ما سيقبض عليهما في الحال.» «كان اقتراحي أن أذهب إلى منزل فرنتشايز. إذا اتهمك شخص ما بسرقة أشياء من على نضد متجر وولوورث ولم يكن بإمكانك دحض التهمة، فلا أعتقد أنك ستستمتعين بالسير في هاي ستريت في ميلفورد في وضح النهار.» «ربما لا أحب ذلك، لكني قطعا يجب أن أفعله، وأوبخ السيد هينسيل.» «من هو السيد هينسيل؟» «المدير. هل بإمكانك أن ترافقني إلى الكنيسة أولا ثم تذهب إلى منزل فرنتشايز؛ لقد مضى وقت طويل منذ أن ذهبت إلى هناك يا عزيزي.» «إذا بقيت هنا أطول من ذلك فستتأخرين لأول مرة خلال العشر سنوات الماضية. اذهبي وصلي أن يكون حكمي صائبا.» «سأصلي لك قطعا يا عزيزي. أصلي لك دائما. وكذلك سأزيد عليها صلاة صغيرة لنفسي. كل هذا سيصير في غاية الصعوبة بالنسبة إلي.» «بالنسبة إليك؟» «الآن ما دمت تمثل هاتين السيدتين فلن أستطيع أن أثرثر عن الأمر مع أي أحد. وهذا أمر مثير للجنون تماما يا عزيزي، أن تجلس صامتا وتسمع الجميع يحكي عن حقائق مؤكدة أنت متأكد أنها خاطئة. الأمر يشبه أن تريد التقيؤ لكن عليك تأجيله. أوه، يا عزيزي، لقد توقفت الأجراس، أليس كذلك؟ علي أن آخذ مكانا في مقعد آل براكتس. لن يمانعوا. أنت لن تبقى في ذلك المكان حتى الغداء، أليس كذلك يا عزيزي؟» «لا أعتقد أني سأدعى إلى الغداء.»
لكن استقباله بترحاب في منزل فرنتشايز كان ودودا للغاية حتى إنه شعر بأنه محتمل بدرجة كبيرة أن يدعى في نهاية الأمر. لكنه بالطبع كان سيرفض؛ ليس لأن دجاجة العمة لين كانت في الانتظار، بل لأن ماريون شارب ستكون مرغمة على غسل الصحون فيما بعد. عندما لا يوجد أي أحد هناك فربما كانتا تأكلان من الصواني مباشرة. أو تمكثان في المطبخ، فالجميع عرف ذلك.
قالت ماريون، معتذرة مرة أخرى: «أعتذر عن امتناعنا عن الرد على الهاتف الليلة الماضية. لكن بعد المرة الرابعة أو الخامسة كان الأمر مبالغا فيه. ولم نتوقع أنك تحمل أخبارا في غضون مدة قصيرة. ففي نهاية الأمر لم تكن قد بدأت إلا بعد ظهر يوم الجمعة.» «المتصلون بالهاتف: أكانوا رجالا أم نساء؟» «رجل، وأربع نساء، بقدر ما أتذكر. عندما اتصلت صباح اليوم ظننت أنها كانت بداية الاتصالات مرة أخرى، لكن يبدو أنهم ناموا في ساعة متأخرة. أو ربما أن الشر لا يأتيهم قبل المساء بمدة كبيرة. لقد مثلنا بلا شك حفلة ترفيهية مساء يوم السبت لشباب الريف. لقد احتشدوا في مجموعة داخل البوابة وانهالوا بمضايقات كلامية . ثم وجد نيفيل لوحا من الخشب في المبنى الصغير الملحق بالمنزل ...» «نيفيل؟» «أجل، ابن أخيك. أقصد، ابن عمك. جاء ليقدم ما أسماه زيارة مواساة، وهو ما كان لطفا منه. فوجد لوحا يمكن تثبيته في البوابة ليبقيها مغلقة؛ ليس لدينا أي مفتاح، كما تعلم. لكن ذلك بالطبع لم يمنعهم مدة طويلة. رفع بعضهم بعضا إلى الأعلى على السور، وجلسوا هناك في صف منهالين علينا بالإهانات حتى حان موعد انصرافهم إلى الفراش.»
قالت السيدة شارب العجوز متأملة: «عدم التربية أمر سيء بشدة عند إهانة الآخرين. لا فطنة لديهم على الإطلاق.»
قال روبرت: «وليس لديهم من يقتدون به. لكنهم مستفزون بما يكفي. لا بد أن نرى أي وسيلة حماية يمكننا المطالبة بها من الشرطة. وبالمناسبة سأخبرك بشيء لطيف عن ذلك السور. أعرف كيف تطلعت الفتاة من فوقه.»
أخبرهما عن زيارته إلى السيدة تيلسيت واكتشافه أن الفتاة كانت تسلي نفسها بجولة في الحافلة (أو قالت إنها فعلت ذلك)، ثم عن زيارته بعد ذلك إلى مرأب شركة لاربورو آند ديستريكت موتور سيرفيسز. «في الأسبوعين اللذين كانت الفتاة خلالهما في مينشيل حدث عطل لحافلتين ذواتي طابق واحد كان مقررا لهما السير على طريق ميلفورد؛ في كل مرة كان لا بد أن يستبدل بكل منهما حافلة ذات طابقين. لا يوجد سوى ثلاث ورديات للعمل لكل اتجاه يوميا، كما تعرفان. وفي كل مرة حدث فيها عطل في الحافلة المقرر لها السير كان في وردية عمل منتصف اليوم. وبهذا فهناك مرتان على الأقل خلال هذين الأسبوعين كان ممكنا أنها قد رأت فيهما المنزل والفناء، وأنتما الاثنان، والسيارة، جملة واحدة.» «لكن هل يمكن لأي أحد يمر وهو في الطابق العلوي من الحافلة أن يطيل النظر في الداخل لهذا الحد؟» «هل سبق لك أن سافرت على الطابق العلوي لحافلة على خط الريف؟ حتى عندما تسير الحافلة على سرعة ثابتة تصل إلى خمسة وثلاثين، فإن السرعة تبدو بطيئة. ما يمكنك رؤيته لمسافة بعيدة هو كثير للغاية، ويمكنك رؤيته مدة أطول كثيرا. في الأسفل، يلامس السياج النافذة ويبدو أن السرعة مناسبة لأن الأشياء أصبحت أكثر قربا. هذا أمر. أما الأمر الآخر فهو أنها تتمتع بذاكرة فوتوغرافية.» ثم أخبرهما بما كانت السيدة وين قد قالته.
سألت السيدة شارب: «هل نخبر الشرطة عن هذا؟» «لا. هذا لا يثبت أي شيء؛ ليس إلا أنه يحل مسألة كيف أنها عرفت عنكما. عندما احتاجت إلى حجة لغيابها تذكرتكما، وجازفت بعدم قدرتكما على إثبات أنكما كنتما في مكان آخر. بالمناسبة، عندما تحضرين سيارتك إلى الباب، أي جانب من السيارة يصبح الأقرب إلى الباب؟» «إما أن أحضرها بالقرب من المرأب أو إلى الداخل من الطريق فيصبح الجانب الأقرب من السيارة مجاورا إلى الباب؛ لأنه بهذا يصبح من الأسهل إخراجها.»
قال روبرت على نحو قاطع: «أجل؛ وبذلك فالجانب القريب، ذو الطلاء الأغمق على العجلة الأمامية، يصبح مواجها للبوابة.» ثم تابع قائلا: «تلك هي الصورة التي رأتها. العشب والمسار المنقسم، والسيارة أمام الباب يظهر منها العجلة المختلفة، والسيدتان - كل منهما على حدة - والنافذة الدائرية في العلية. لم يكن عليها سوى أن تنظر إلى الصورة في ذهنها وتصفها. اليوم الذي كانت تستخدم فيه الصورة - اليوم الذي من المفترض أنها كانت قد خطفت فيه - كان منذ ما يزيد على شهر ورأت أنه احتمال مستبعد أن تتمكنا من قول ما كنتما قد فعلتماه أو أين كنتما في ذلك اليوم.»
قالت السيدة شارب: «وأعتقد أن احتمالات معرفة ما قد فعلته أو أين كانت في ذلك الشهر ضعيفة للغاية.» «الاحتمالات ضعيفة، هذا صحيح. وكما أشار صديقي كيفين ماكديرموت الليلة الماضية، فلا شيء يعوق كونها قد كانت في سيدني بولاية نيو ساوث ويلز. لكني بدرجة ما أكثر تفاؤلا اليوم عما كنت عليه يوم الجمعة صباحا. لقد أصبحنا نعرف أمورا كثيرة عن الفتاة الآن.» ثم أخبرهما عن مقابلاته في إيلزبري ومينشيل. «لكن إذا لم تكشف تحقيقات الشرطة عما كانت تفعله خلال ذلك الشهر ...» «إن تحريات الشرطة كرست للتحقق من صحة إفادة الفتاة. فهم لم يبدءوا، مثلما نبدأ، من منطلق أن روايتها غير حقيقية من أولها لآخرها. لقد أخذوا يتفحصونها بدقة شديدة. لم يكن لديهم أي سبب دقيق للشك فيها. كانت لها سمعة نزيهة، وعندما تحدثوا مع عمتها عن كيفية قضاء إجازتها وجدوا أنها قضتها في زيارات بريئة إلى السينما وجولات بحافلة البلدة.»
سألت السيدة شارب: «وكيف تعتقد أنها قضتها؟» «أظن أنها قابلت شخصا ما في لاربورو. وذلك، على أي حال، هو التفسير الواضح. ومن تلك الفرضية أظن أنه يجب علينا أن نبدأ أي تحريات.»
سألت السيدة شارب: «وماذا سنفعل بخصوص توكيل محقق خاص؟» وأضافت: «هل تعرف أحدا؟»
قال روبرت، مترددا: «حسنا، كان قد خطر ببالي أنك ربما تسمحين لي بمواصلة التحريات بنفسي أكثر من ذلك قليلا قبل أن نشرك محققا محترفا في الأمر. أعرف أن ...»
قالت السيدة العجوز، مقاطعة له: «سيد بلير، لقد استدعيت إلى تلك القضية المزعجة من دون إنذار، ولا يمكن أنه كان بمحض إرادتك تماما؛ وكان غاية في اللطف منك أن تبذل قصارى جهدك من أجلنا. لكننا لا يمكن أن نتوقع منك أن تجعل نفسك محققا خاصا لحسابنا. لسنا من الأغنياء - في الواقع نملك أقل القليل لنعيش به - لكن ما دام لدينا مال بأي حال من الأحوال فسندفع مقابل الحصول على الخدمات المناسبة. ومن غير المناسب أن تجعل من نفسك - ما الكلمة اللائقة؟ - مثل سكستون بليك لمصلحتنا.» «ربما هذا من غير المناسب لكن الأمر يروق لي كثيرا. صدقيني، يا سيدة شارب، لم أكن قد خططت لذلك بأي تفكير مقصود لأوفر مالك. فبينما أنا عائد إلى منزلي في السيارة الليلة الماضية، وفي غاية السعادة مما كنت قد حققته إلى هذا الحد، أدركت إلى أي مدى علي أن أبغض التخلي عن مهمة البحث إلى شخص آخر. لقد أصبح الأمر بحثا شخصيا. أرجوك لا تثبطي عزيمتي في مسألة ...»
قاطعته ماريون: «إذا كان السيد بلير مستعدا لمواصلة الأمر مدة أطول قليلا، فأعتقد أن علينا أن نشكره من القلب ونقبل. أعرف تماما بم يشعر. أتمنى لو كان بوسعي أن أبحث بنفسي .» «ليس هناك شك أنه سيحين وقت أحيل فيه البحث إلى محقق مناسب سواء شئت أم أبيت. إذا قادت الخيوط إلى مكان أبعد من لاربورو، على سبيل المثال. فلدي الكثير من الالتزامات الأخرى تمنعني من متابعة البحث في مكان بعيد. لكن ما دام البحث في نطاق قريب منا فإني أريد حقا أن أكون الشخص الذي يتابعه.»
سألت ماريون، باهتمام: «كيف خططت لمتابعة البحث؟» «حسنا، كنت قد فكرت أن أبدأ بالأماكن التي تقدم الغداء الخفيف مع القهوة. أقصد في لاربورو. لسببين، الأول أنه من غير الممكن أن يوجد الكثير منها. والسبب الآخر، نحن نعلم تمام العلم، على أي حال في البداية، أن ذلك كان نوع الغداء الذي تتناوله.»
سألت ماريون: «لم تقول «في البداية»؟» «بمجرد أنها التقت بالشخص الافتراضي «س»، فربما أصبحت تتناول الغداء في أي مكان آخر. لكن حتى ذلك الحين دفعت مقابل وجبات الغداء الخاصة بها، وكانت وجبات «خفيفة». تفضل فتاة في ذلك العمر أن تتناول غداء مكونا من كعكة على أي حال، حتى لو كانت تمتلك مالا يكفيها للحصول على وجبة مكونة من صنفين. لهذا سأركز على الأماكن التي تقدم الغداء الخفيف مع القهوة. سأعرض صحيفة «أك-إيما» على النادلات وأكتشف ببراعة محام ريفي ما إذا سبق لهن أن رأين الفتاة في مطاعمهن. أذلك يبدو منطقيا لك؟»
قالت ماريون: «منطقي للغاية.»
استدار روبرت إلى السيدة شارب. «لكن إذا كنت تعتقدين بأنه سيكون من الأفضل أن يعمل على الأمر محقق محترف - وهذا من الممكن للغاية - فسأنسحب إذن مع ...»
قالت السيدة شارب: «لا أعتقد أن هناك من هو أفضل منك كي يعمل لحسابنا». وتابعت: «لقد عبرت عن تقديري بالفعل للمجهود الذي بذلته نيابة عنا. وإذا كان يسرك أن تصطاد هذه ... هذه ...»
فأجاب روبرت بسعادة: «الدمية الصغيرة.»
عدلت السيدة شارب: «اللعوب الصغيرة، فيمكننا إذن أن نصبح موافقين وشاكرين. لكن يبدو لي احتمال أن يطول الطريق كثيرا.» «لم قد يكون طويلا؟» «ثمة فجوة زمنية كبيرة، كما يبدو لي، بين الالتقاء بالشخص الافتراضي «س » في لاربورو، والسير نحو منزل بالقرب من إيلزبري وهي لا ترتدي شيئا سوى فستان وحذاء وقد ضربت ضربا حقيقيا وبشدة. يا ماريون، لا يزال لدينا بعض من النبيذ الإسباني، أظن ذلك.»
خلال مدة الصمت التي تبعت مغادرة ماريون لإحضار النبيذ صار سكون المنزل العتيق واضحا. لم يكن هناك أي وجود للأشجار في الفناء حتى تحدث ضجيجا طفيفا في مهب الريح، ولا أي طيور حتى تزقزق. كان السكون مطبقا مثل سكون مدينة صغيرة في منتصف الليل. تساءل روبرت، أكانت الحياة هادئة بالنسبة إليهما بعد الحياة الصاخبة في بنسيون؟ أم كانت موحشة ومخيفة قليلا؟
كانتا قد قدرتا خصوصية المكان، مثلما أوضحت السيدة شارب العجوز في مكتبه صباح يوم الجمعة. لكن أكانت حياة سعيدة متقوقعة خلف الأسوار المرتفعة في ذلك السكون الدائم؟
قالت السيدة شارب: «يبدو لي أن الفتاة جازفت مجازفة كبيرة باختيار منزل فرنتشايز، وهي لا تعلم أي شيء عنه أو ظروفه.»
قال روبرت: «بالطبع، جازفت.» ثم تابع قائلا: «وكان عليها أن تفعل ذلك. لكني لا أعتقد أنها كانت مجازفة كبيرة كما تعتقدين.» «أتظن ذلك؟» «نعم. ما تقولينه هو أنه رغم كل ما تعرفه الفتاة عن منزل فرنتشايز فمن الممكن أنه يسكن به عائلة كبيرة من أفراد شباب وثلاث خادمات.» «أجل.» «لكني أظن أنها عرفت تمام المعرفة أنه لم يكن هناك مثل ذلك الأمر.» «كيف تمكنت من ذلك؟» «إما أنها ثرثرت مع محصل الحافلة، أو أنها - وأظن أن هذا محتمل بدرجة أكبر - استرقت السمع لتعليق من الركاب المستقلين معها. شيء من قبيل: «تسكن هناك السيدتان شارب. تعيشان حياة مترفة في منزل كبير مثل ذلك، ليس سواهما بالمنزل. ولا توجد خادمة على استعداد أن تمكث في مكان موحش بعيد للغاية عن المتاجر والسينما ...» وهكذا. إنها حافلة «محلية» إلى أقصى درجة، حافلة لاربورو-ميلفورد. وإنه طريق وحيد، من دون أكواخ على جانب الطريق، ولا قرى عدا هام جرين. لذلك فإن منزل فرنتشايز هو البؤرة الوحيدة لاهتمام البشر على امتداد أميال. إن الأمر يفوق طبيعة البشر أن يقدروا على تجاوز اهتمام جماعي تجاه المنزل والمالكتين وسيارتهما، من دون تعليقات من هذا النوع.» «فهمت. أجل، هذا منطقي.» «أتمنى، بطريقة أو بأخرى، أنها كانت قد عرفت عنكما من خلال محادثة مع محصل الحافلة. بتلك الطريقة، سيزيد احتمال أنه سيتذكرها. تقول الفتاة إنها لم تزر ميلفورد قط ولا تعلم أين تقع. إذا تذكرها محصل الحافلة، فسيصبح بإمكاننا على الأقل التشكيك في قصتها بهذا الخصوص.» «إذا كنت أعرف أي شيء عن الفتاة، فستفتح عينيها الطفوليتين تلك وتقول: «يا إلهي، أكانت تلك ميلفورد؟ لقد صعدت الحافلة ثم وصلت إلى المحطة الأخيرة ورجعت».» «أجل. هذا لن يقصينا كثيرا. لكن إذا فشلت في تعقب أثر الفتاة في لاربورو، فسأحاول عرض صورتها على المحصلين المحليين. أتمنى حقا أنها كانت إنسانة يسهل تذكرها.»
غشيهما السكون مرة أخرى بينما كانا يتفكران في طبيعة بيتي كين التي لا يمكن أن تمحى من الذاكرة.
كانا يجلسان في قاعة الاستقبال، أمام النافذة، يتطلعان إلى الخارج في اللون الأخضر للفناء الذي كان على شكل مربع، واللون الوردي الباهت للسور من الطوب. وبينما كانا يحدقان دفعت البوابة على مصراعيها وظهرت مجموعة صغيرة من سبعة أو ثمانية أشخاص والذين وقفوا يحدقون. كانوا على راحتهم تماما؛ يتبادلون الإشارة فيما بينهم على النقاط البارزة موضع اهتمامهم - بدا واضحا أن النقطة المفضلة إليهم كانت النافذة الدائرية في سطح المنزل. إذا كان منزل فرنتشايز قدم للشباب الريفي الليلة الماضية الأمسية الترفيهية ليوم السبت، فإنها في تلك اللحظة، هكذا، على ما يبدو، تقدم عرضا صباحيا في يوم الأحد لأهل لاربورو. وبالطبع كان ينتظرهم خارج البوابة سيارتان، إذ إن نساء الحفل كن يرتدين أحذية صغيرة سخيفة، وفساتين ترتدى داخل المنزل.
نظر روبرت إلى السيدة شارب، فلم تكن قد تحركت إلا لتضييق فمها البغيض دائما.
قالت أخيرا، بازدراء: «جمهورنا.»
قال روبرت: «هل لي أن أذهب وأبعدهم؟» وتابع: «إنه خطئي أني لم أعد الحاجز الخشبي الذي أزلتماه من أجلي.»
قالت: «دعهم.» ثم تابعت قائلة: «سينصرفون بعد قليل. هذا ما يغض النبلاء الطرف عنه يوميا؛ يمكننا أن نحتمل ذلك دقائق معدودات.»
لكن لم يظهر من الزائرين أي دليل على الانصراف. في الواقع، تحركت مجموعة واحدة حول المنزل لمعاينة المبنى من الخارج، أما البقية فما زالوا هناك عندما عادت ماريون بالنبيذ. اعتذر روبرت مرة أخرى عن إغفاله تثبيت اللوح الخشبي. كان يشعر بضآلته وعدم جدارته. إذ ليس من الطبيعي أن يظل جالسا في هدوء ويراقب الدخلاء وهم يتجولون خلسة كما لو أنهم امتلكوا المكان أو كانوا يمعنون النظر فيه لشرائه. لكن إذا خرج وطلب منهم الانصراف ورفضوا ذلك، ما الصلاحية التي كانت لديه لتجبرهم على الانصراف؟ وكيف سيبدو في نظر السيدتين شارب لو أنه عاد منسحبا إلى المنزل وترك هؤلاء الناس مسيطرين على المكان؟
عادت مجموعة المستكشفين من جولتهم ونقلوا بضحك وإيماءات ما كانوا قد رأوه. سمع ماريون تقول شيئا بصوت هامس فتساءل إن كان سبابا. كانت تبدو مثل سيدة لها خبرة ضئيلة في السباب. كانت قد وضعت صينية النبيذ وبدا واضحا أنها أغفلتها؛ لم يكن الوقت مناسبا للضيافة. تمنى بشدة أن يفعل شيئا حاسما ومذهلا ليرضيها، تماما مثلما كان قد رغب بشدة في إنقاذ الفتاة التي أحبها من أحد المباني المحترقة لما كان في الخامسة عشرة من عمره. لكن بكل أسف، لا شيء يعلو على حقيقة أنه صار في الأربعينيات من عمره، وكان قد تعلم أنه من الأكثر حكمة انتظار سلم الإنقاذ.
بينما كان مترددا، وغاضبا من نفسه ومن هؤلاء الكائنات الوقحة في الخارج، وصل سلم الإنقاذ في هيئة رجل شاب طويل يرتدي بدلة صارخة من صوف التويد.
همست ماريون، وهي تراقب المشهد: «نيفيل.»
تفحص نيفيل المجموعة بأقصى إحساس لا يحتمل من التعالي، وبدا أنهم انكمشوا قليلا، لكنهم أصروا بوضوح على البقاء في أماكنهم. في الواقع، كان الرجل ذو السترة الرياضية والبنطال المخطط يتأهب بوضوح لصنع مشكلة.
نظر نيفيل إليهم في صمت بضع ثوان ثم فتش في جيبه الداخلي عن شيء. عند الحركة الأولى ليديه طرأ اختلاف غريب على المجموعة . الأفراد في النطاق الأبعد ابتعدوا ثم اختفوا متوارين عن النظر من البوابة، أما الأكثر قربا ففقدوا إحساسهم بالتبجح، وأصبحوا لطفاء. في النهاية قام الرجل ذو السترة الرياضية بحركات صغيرة رافضة للاستسلام ثم انضم إلى المنسحبين من البوابة.
دفع نيفيل البوابة بقوة وراءهم، ورفع اللوح الخشبي إلى مكانه، ثم اقترب من المسار المؤدي إلى الباب ماسحا يديه بدقة بالغة في منديل صارخ اللون حقا. فركضت ماريون خارج المنزل لمقابلته.
سمعها روبرت وهي تقول: «نيفيل!» ثم أضافت قائلة: «كيف فعلتها؟»
سأل نيفيل: «فعلت ماذا؟» «تخلصت من هؤلاء الأشخاص.»
قال نيفيل: «حسنا، سألتهم فحسب عن أسمائهم وعناوينهم.» ثم تابع قائلا: «ليس لديك أي فكرة كيف يتبدل حال الأشخاص الحذرين إذا أخرجت مفكرة وسألتهم عن أسمائهم وعناوينهم. إنه المقابل العصري لعبارة: «اهرب، انكشف كل شيء». فلا ينتظرون حتى يسألوا عن إثباتات لشخصيتك في حال أنه ربما لديك أي منها. مرحبا، روبرت. صباح الخير، يا سيدة شارب. في الواقع أنا في طريقي إلى لاربورو، لكني رأيت البوابة مفتوحة وهاتين السيارتين المخيفتين في الخارج؛ لهذا توقفت لأتحقق من الأمر. لم أعرف أن روبرت هنا.»
هذا التلميح البريء تماما بأن روبرت بالطبع كان قادرا على التعامل مع الموقف بالكفاءة نفسها كانت إهانة لا تحتمل. كان من الممكن لروبرت أن يوسعه ضربا على رأسه.
قالت السيدة شارب: «حسنا، بما أنك هنا الآن وقد خلصتنا ببراعة من المزعجين فلا بد أن تبقى وتشرب كأسا من النبيذ.»
قال نيفيل: «هل بإمكاني المجيء في طريق عودتي إلى المنزل في المساء؟» وتابع: «أنا في طريقي لتناول الغداء مع حما المستقبل، ولأن اليوم هو الأحد فهناك شعائر. لا بد لي من الحضور من أجل الاستعداد.»
قالت ماريون: «بالطبع تعال في طريق عودتك إلى المنزل». وأضافت: «سيسرنا ذلك. كيف سنعرف أنه أنت؟ أقصد من أجل فتح البوابة.» كانت تصب النبيذ وتناوله لروبرت. «أتعرفين شفرة مورس؟» «أجل، لكن لا تقل لي إنك تعرفها.» «لم لا؟» «تبدو مستبعدا تماما عن كونك مولعا بشفرة مورس.» «أوه، عندما كنت في الرابعة عشرة من عمري كنت أمارس هواية الإبحار، تعلمت في أوج طموحي الكثير من الحماقات بمحض الصدفة. وشفرة مورس كانت واحدة منها. سأصيح بالحروف الأولى من اسمك الجميل على بوق السيارة، عند الوصول. مرتين طويلتين وثلاث مرات قصار. لا بد أن أرحل سريعا. إن فكرة التحدث إليك الليلة ستدعمني خلال الغداء في مطعم سينما بالاس.»
سأل روبرت، مسيطرة عليه نفسه الدنيئة: «ألا تمثل روزماري أي دعم لك؟» «لا أظن ذلك. في أيام الأحد فإن روزماري هي ابنة في منزل أبيها. وذلك دور لا يناسبها. إلى اللقاء سيدة شارب. لا تسمحي لروبرت بشرب النبيذ كله.»
سمع روبرت ماريون تسأل بينما كانت ترافقه إلى الباب: «ومتى قررت التوقف عن ممارسة الإبحار؟» «عندما كنت في الخامسة عشرة من عمري. بدأت ممارسة هواية ركوب المنطاد بدلا من ذلك.» «نظريا، أفترض ذلك.» «حسنا، كنت شغوفا بالغازات.»
تساءل روبرت، لم يبدوان متوادين لهذه الدرجة، ويرتاح كل منهما للآخر غاية الارتياح. وكأنهما قد عرف كل منهما الآخر منذ مدة طويلة. لم أعجبت بنيفيل التافه ذلك؟ «ولما كنت في السادسة عشرة من عمرك؟»
لو أنها عرفت كم الأمور التي كان نيفيل قد بدأ في ممارستها ثم أقلع عنها في ذلك الوقت من عمره، ربما لم يكن يسرها أن تصبح أحدثها.
سألت السيدة شارب: «ألا يعجبك مذاق النبيذ يا سيد بلير؟» «بلى، بالطبع بلى، شكرا لك، فمذاقه ممتاز.» هل كان ممكنا أنه قد بدا نكدا؟ لا سمح الله.
اختلس نظرة على السيدة العجوز فظن أنها كانت تبدو مستمتعة قليلا. وعندما تصبح السيدة شارب العجوز مستمتعة فهذا منظر غير مريح.
فقال: «أظن أنه من الأفضل أن أنصرف قبل أن تغلق الآنسة شارب البوابة بالحاجز الخشبي خلف نيفيل. وإلا ستحتاج إلى أن تصل إلى البوابة مرة أخرى معي.» «لكن ألن تبقى وتتناول الغداء معنا؟ ليس هناك طقوس بشأن الغداء في منزل فرنتشايز.»
لكن قدم روبرت اعتذاره. فلم تعجبه شخصية روبرت بلير التي أصبح عليها. تافه، ذو تصرفات طفولية وغير كفء. لذا سيعود ويتناول غداءه المعتاد ليوم الأحد مع العمة لين ويستعيد من جديد شخصية روبرت بلير المحامي في مكتب بلير هيوارد وبينيت، الرصين المتسامح المتصالح مع عالمه.
كان نيفيل قد رحل في الوقت الذي وصل فيه روبرت إلى البوابة، في صخب مفاجئ كسر ذلك الهدوء المريح، وكانت ماريون على وشك أن تغلق البوابة.
قالت وهي تتبع بنظراتها ذلك الشيء الصاخب أثناء انطلاقه بسرعة البرق على الطريق: «لا أتخيل أن الأسقف يوافق على وسيلة تنقل زوج ابنته المستقبلي.»
قال روبرت، الذي لا يزال متجهما: «متعب للأعصاب.»
ابتسمت إليه. فقالت: «أظن أن ذلك أول تلاعب طريف بالألفاظ قد سمعته من أي أحد.» ثم أردفت قائلة: «كنت آمل أن تبقى لتناول الغداء، لكني إلى حد ما اطمأننت قليلا لأنك لن تفعل ذلك.» «هل اطمأننت حقا؟» «صنعت «قالبا» لفطيرة لكنه لم ينتفش. لا أجيد الطهو. أتتبع بدقة ما يذكر في الكتاب لكن غالبا لا تنجح. بل إني في الحقيقة أندهش تماما عندما تنجح. لهذا سيكون من الأفضل أن تذهب لتناول فطيرة التفاح من صنع عمتك لين.»
تمنى روبرت فجأة وبشكل غير منطقي لو أنه يبقى، ليشارك «القالب» الذي لم يكن قد انتفش وليسخر منه بلطف إلى جانب طهوها.
قال بأسلوب مباشر: «سأخبرك غدا في المساء كيف صارت الأمور معي في لاربورو.» نظرا إلى أنه لم يكن قد دار بينهما حوار كصديقين من قبل مثلما تحدثت مع نيفيل حول الدجاج وحول موباسان فقد حبذ أن يبقي الحوار حول أمور العمل. «سأتصل بالمحقق هالم وأرى إن كان بإمكان أحد رجاله أن يظهر في محيط منزل فرنتشايز مرة أو مرتين في اليوم؛ ليس إلا لإظهار الزي الرسمي، إذا صح القول، ولصد المتسكعين.»
قالت: «أنت في غاية اللطف يا سيد بلير». وتابعت: «لا أتصور كيف كان سيصير الأمر من دون الاستناد إليك.»
حسنا، إذا عجز أن يكون شابا وشاعرا، فبإمكانه أن يكون سندا. شيء ممل، شيء لا يلجأ إليه إلا في الحالات الطارئة، لكنه مفيد؛ مفيد حقا .
الفصل الحادي عشر
في نحو الساعة العاشرة والنصف صباح يوم الإثنين كان جالسا أمام كوب قهوة يتصاعد البخار منه في مقهى كارينا. بدأ بمقهى كارينا لأنه عندما يفكر أحد في القهوة بأي حال فإنه يفكر في كارينا، برائحة القهوة المحمصة المنتشرة في الطابق السفلي في المكان ومشروب القهوة المنتظر في الطابق العلوي بين الطاولات الصغيرة، وإذا كان سيطلب كميات كبيرة من القهوة فلربما سيحظى بنوع جيد في حين أنه لا يزال بإمكانه أن يتذوقها.
كان يحمل صحيفة «أك-إيما» في يده وصورة الفتاة ظاهرة إلى مرأى النادلات أثناء مرورهن، آملا بدرجة ما أن اهتمامه بها ربما يجعل إحداهن تقول: «تلك الفتاة اعتادت المجيء هنا كل صباح.» ما أثار دهشته أن الصحيفة سحبت بلطف من قبضته، فرفع بصره لأعلى ليرى أن النادلة تنظر إليه بابتسامة لطيفة. وقالت: «ذلك إصدار يوم الجمعة.» ثم تابعت قائلة: «تفضل.» ثم قدمت له إصدار هذا الصباح من نفس الصحيفة.
شكرها وأخبرها بأنه بينما سيسعده الاطلاع على إصدار هذا الصباح يحبذ أن يحتفظ بإصدار الجمعة. هل هذه الفتاة، هذه الفتاة على الصفحة الأولى من إصدار الجمعة، جاءت من قبل إلى هنا لتناول القهوة؟ «أوه، لا، كنا سنتذكرها لو أنها جاءت. كنا نتناقش جميعا في تلك القضية يوم الجمعة. تخيل ضربها حتى كادت أن تموت مثلما حدث.» «إذن فأنت تظنين أنهما فعلا ذلك.»
بدت متحيرة. «الجريدة قالت إنهما فعلا ذلك.» «لا، الجريدة تنقل ما قالته الفتاة.»
بدا واضحا أنها لم تفهم ما قيل. هذه كانت الديموقراطية التي نقدسها. «ليس لهم أن ينشروا قصة مثل تلك إذا لم تكن حقيقية. قد يكلفهم الأمر حياتهم. هل أنت محقق؟»
قال روبرت: «بدوام جزئي.» «كم تتقاضى في الساعة مقابل ذلك؟» «ليس ما يكفي على الإطلاق.» «أجل، أفترض ذلك. أظن أنه ليس لديك نقابة. لا تحصل على حقوقك في هذا العالم إذا لم يكن لديك نقابة.»
قال روبرت: «صحيح تماما. اسمحي لي بالحساب، من فضلك.» «فاتورتك، أجل.»
في بالاس، أكبر وأحدث دور السينما ، شغل المطعم الطابق خلف البلكون، وكانت به سجادات طويلة للغاية لدرجة أن المرء قد يتعثر فيها، والإضاءة هادئة حتى إن جميع أغطية المائدة بدت وكأنها متسخة. إحدى النادلات الضاجرات وهي فتاة جذابة ذات شعر ذهبي، مع حاشية غير مستوية على تنورتها، وقطعة من العلكة في فكها الأيمن، أخذت طلبه دون حتى النظر إليه، وبعد خمس عشرة دقيقة وضعت فنجانا من مشروب غير مركز أمامه من دون أن تسمح لعينيها بالشرود تقريبا في اتجاهه. وحيث إن روبرت في غضون الخمس عشرة دقيقة كان قد اكتشف أن أسلوب تحاشي النظر إلى الزبائن هو أسلوب منتشر - على افتراض أنهن جميعا سيصبحن نجمات سينما في العام بعد القادم، ولا يتوقع منهن إبداء أي اهتمام بزبون قروي - دفع حساب المشروب الذي لم يتذوقه ثم انصرف.
في كاسيل، السينما الكبيرة الأخرى، لم يفتح المطعم حتى وقت ما بعد الظهر.
في فايولت - حيث اللون البنفسجي الفخم في كل مكان والستائر الصفراء - لم يكن أحد قد رآها. سألهم روبرت صراحة، متخليا عن كياسته.
في الأعلى عند جريفون ووولدرن، ذلك المتجر الكبير، كانت حينها ساعة الذروة فقالت النادلة: «لا تزعجني!» قالت المديرة، وهي تنظر إليه بشك شارد: «نحن لا نعطي معلومات أبدا عن زبائننا.»
في أولد أوك - وهو مطعم صغير ومظلم ولطيف - ناقشت النادلات العجوزات القضية باهتمام معه. وقلن: «حبيبتي المسكينة. يا لها من تجربة قاستها! مثل هذا الوجه اللطيف. إنها مجرد طفلة. حبيبتي المسكينة.»
في ألنسون - حيث الطلاء ذو اللون الكريمي والأرائك ذات اللون الوردي الضارب إلى الرمادي الموضوعة أمام الجدران - أوضحوا أنه لم يسبق لهم أن سمعوا عن صحيفة «أك- إيما»، ولم يكن محتملا أن لديهم زبونا ظهرت صورته في مثل هذه الجريدة.
في هيف هو - حيث اللوحات الجدارية عن البحر والنادلات اللاتي يرتدين بناطيل متسعة من تحت الركبتين - أعطت العاملات رأيهن وكأنه رأي بالإجماع، أن أي فتاة تقبل بالتوصيل يجب أن تتوقع أن عليها السير إلى المنزل.
في بريمروز - حيث الطاولات العتيقة الملمعة مع حصائر الرافيا والنادلات غير المحترفات في ثيابهن الفضفاضة المزدانة بالزهور - كن يناقشن التداعيات الاجتماعية لقلة العمالة المنزلية ونزوات عقول المراهقين.
في تي-بوت، لم تكن هناك طاولة ليجلس عليها، ولا نادلة على استعداد لخدمته؛ لكن نظرة ثانية على المكان المليء بالذباب جعلته واثقا أنه، من بين الاختيارات الأخرى، لم يكن ممكنا لبيتي كين أن تأتي هنا.
في الساعة الثانية عشرة والنصف دلف إلى ردهة فندق ميدلاند، وطلب مشروبا كحوليا. إلى حد علمه كان قد غطى جميع أماكن الطعام المحتملة في وسط لاربورو ولم يكن أحد قد تذكر رؤية الفتاة في أي من تلك الأماكن. وما كان أسوأ من ذلك، أنهم كلهم أجمعوا على أنها لو ذهبت هناك لكان من الممكن أن يتذكروها. كانوا قد أشاروا، عندما تشكك روبرت في ذلك، أن نسبة كبيرة من زبائنهم في أي يوم هم زبائن دائمون؛ ولذلك فالزبائن العابرون يصبحون لافتين للنظر دون البقية، ويمكن ملاحظتهم وتذكرهم تلقائيا.
بينما كان يضع ألبرت، وهو نادل شاب بدين، مشروبه أمامه، سأله روبرت، بحكم الاعتياد أكثر من كونه بملء إرادته: «أظن أنك لم تر هذه الفتاة قط في الردهة هنا، يا ألبرت؟»
نظر ألبرت إلى الصفحة الأولى من صحيفة «أك-إيما» وهز رأسه. «لا، يا سيدي. لا أتذكر ذلك. تبدو صغيرة، يا سيدي، إن جاز لي القول، على دخول ردهة فندق ميدلاند.»
قال روبرت، مدققا فيها: «ربما أنها لم تبد صغيرة بالدرجة وهي ترتدي قبعة.»
توقف ألبرت وقال: «قبعة.» ثم وضع الصينية الصغيرة وأمسك بالصحيفة ليدقق فيها: «انتظر لحظة الآن. قبعة.» ثم تابع قائلا: «أجل، بالطبع؛ تلك هي الفتاة ذات القبعة الخضراء!» «أتقصد أنها جاءت هنا لشرب القهوة؟» «لا، لشرب الشاي.» «الشاي!» «أجل، بالطبع، تلك هي الفتاة. عجبا لي أني لم أتبين ذلك، كانت لدينا تلك الصحيفة في خزانة المؤن الجمعة الماضية وتناقشنا في الخبر ساعات! بالطبع مر بعض الوقت منذ ذلك الحين، أليس كذلك؟ لا بد أن الأمر منذ نحو ستة أسابيع أو أكثر. كانت تأتي دائما في ساعة مبكرة؛ في حدود الساعة الثالثة، عندما نبدأ في تقديم الشاي.»
وبهذا فإن ذلك هو ما فعلته. من الحماقة أنه لم يكن ليفهم ذلك. فهي ذهبت في الصباح إلى السينما في الوقت الذي يدفع فيه ثمن أرخص للتذكرة - كان ذلك قبل الظهر تحديدا - ثم تخرج في نحو الساعة الثالثة، وتتناول شايا، وليس قهوة. لكن لم ميدلاند، حيث الشاي كان مشروبا فندقيا لا مذاق له وغالي الثمن كالمعتاد، لما كان بإمكانها التنعم بأصناف الكعك في أي مكان آخر؟ «لاحظتها لأنها كانت تأتي دائما وحدها. أول مرة جاءت فيها ظننتها كانت تنتظر أقارب لها. كانت تبدو أنها من ذلك النوع من الأطفال. كما تعرف؛ ملابس لطيفة بسيطة، وليس هناك ما يميز هيئتها.» «هل لك أن تتذكر ما كانت ترتديه؟» «أجل. كانت دائما ترتدي الثياب نفسها. قبعة خضراء وفستانا متناسقا معها تحت معطف رمادي شاحب. لكنها لم تقابل أحدا قط. ثم ذات يوم توددت إلى الرجل الذي كان في الطاولة المجاورة. صعقت من ذلك.» «تقصد أنه تودد إليها.» «ألا تصدق ذلك! لم يكن قد فكر فيها عندما جلس هناك. أؤكد لك، يا سيدي، لم تكن تبدو من ذلك النوع. كان المرء سيتوقع أن تظهر عمة أو أم في أي لحظة وتقول: «أعتذر أني أبقيتك في انتظاري يا عزيزتي». لم تكن لتخطر ببال أي رجل كاحتمال وارد. غير معقول؛ إن الطفلة هي من بدأت. وكما لو كانت محترفة، دعني أخبرك، يا سيدي، لمستوى يرقى إلى أنها كانت قد أمضت حياتها تتودد إلى الرجال. يا إلهي، أتصور أني لم أرها مرة أخرى من دون قبعتها!» ثم حدق في تعجب إلى الوجه المصور. «ما هيئة الرجل؟ هل تعرفه؟» «لا، لم يكن أحد زبائننا الدائمين. له بشرة سمراء. صغير السن. رجل أعمال مهذب، أؤكد لك. أتذكر أني فوجئت قليلا من ذوقها؛ ولهذا لا أظن أنه كان مستعدا لذلك كثيرا، هذا ما خطر في بالي الآن.» «ليس بإمكانك التعرف عليه مرة أخرى، إذن؟» «ربما أستطيع، سيدي، ربما. لكن لا أستطيع القسم. هل تنوي إخضاعي للقسم يا سيدي؟»
كان روبرت قد عرف ألبرت منذ قرابة عشرين عاما وقد وجده دائما شخصا متحفظا بامتياز. فقال: «الأمر على هذا النحو، يا ألبرت». وتابع: «هاتان موكلتان لدي.» ثم نقر بإصبعه على صورة منزل فرنتشايز، فأطلق ألبرت صفيرا بصوت منخفض. «وضع عسير عليك يا سيد بلير.» «أجل، كما تقول: وضع عسير. لكن على الأغلب بالنسبة إليهما. عسير بدرجة لا تصدق بالنسبة إليهما. لقد جاءت الفتاة ذات يوم على نحو غير متوقع برفقة الشرطة، إلى هاتين اللتين روت عنهما هذه القصة الخيالية. حتى ذلك الحين لم تكن أي من السيدتين قد رأتها من قبل. وقد تعاملت الشرطة مع الأمر بحكمة للغاية، وتوصلت إلى أنها ليس لديها من الأدلة ما يكفي لرفع القضية أمام المحكمة. ثم تسمع صحيفة «أك-إيما» عن الواقعة وتستغل الوضع لصالحها، فتنتشر القصة في ربوع بريطانيا. ولا حماية على منزل فرنتشايز، بالطبع. والشرطة لا يمكن لها أن توفر رجالا لحمايته حماية دائمة، وبهذا فإن بإمكانك أن تتخيل الحياة التي تعيشها تلك السيدتان. يقول ابن عمي الشاب، الذي مر عليهما الليلة الماضية قبل العشاء، إنه منذ وقت الغداء فصاعدا وصلت مجموعة من السيارات قادمة من لاربورو، فوقف هؤلاء الناس على الأسطح، أو رفعوا أنفسهم فوق السور ليحدقوا النظر أو ليلتقطوا صورا فوتوغرافية. دخل نيفيل لأنه وصل في الوقت نفسه الذي وصل فيه شرطي الدورية المسائية، لكن بمجرد أن انصرف، احتشدت السيارات مرة أخرى. وظل الهاتف لا ينقطع عن الاتصال إلى أن طلبوا من مكتب السنترال ألا يحول أي مكالمات أكثر من ذلك.» «هل انسحبت الشرطة من القضية نهائيا، إذن؟» «لا، لكن ليس بوسعهم فعل أي شيء لمساعدتنا. ما يبحثون عنه هو دليل مؤيد لقصة الفتاة.» «حسنا، هذا مستبعد تماما، أليس كذلك؟ أقصد مستبعد لهم أن يتوصلوا إليه.» «نعم. لكنك ترى الوضع الذي نحن فيه. لو لم نتمكن من اكتشاف أين كانت الفتاة أثناء تلك الأسابيع التي تقول إنها قضتها في منزل فرنتشايز، فإن السيدتين شارب ستصبحان مدانتين دائما بشيء لم تتهما به حتى!» «حسنا، إذا كانت تلك هي الفتاة ذات القبعة الخضراء - وأثق في ذلك يا سيدي - فسأقول إنها ما يطلق عليه «تعربد» يا سيدي. كانت زبونة غير معتادة للغاية بالنسبة إلى فتاة في ذلك العمر. متصنعة للبراءة.»
وكان بائع السجائر قد قال عن الطفلة بيتي: «متصنعة للبراءة.»
و«العربدة» كان حكم ستانلي على الوجه الذي التقطت الصورة له بأنه يشبه كثيرا وجه «الفتاة التي كان قد رافقها في مصر.»
وكان النادل الصغير المحنك قد استخدم كلتا العبارتين في رأيه عنها. الفتاة الخجولة في ثيابها «الأنيقة»، التي تأتي كل يوم وحدها لتجلس في ردهة الفندق.
استيقظ الجانب اللطيف منه فقال: «ربما كانت مجرد رغبة طفولية لأن تصبح «كبيرة».» لكن حسه المنطقي استنكر ذلك. فكان بإمكانها أن تصبح كبيرة في ألنسون، وتأكل بشهية، وترى ملابس أنيقة في الآن ذاته.
ذهب لتناول الغداء داخل الفندق ثم قضى وقتا كبيرا من وقت ما بعد الظهر يحاول الوصول إلى السيدة وين على الهاتف. لم يكن لدى السيدة تيلسيت هاتف، وهو لم تكن لديه نية أن يورط نفسه في محادثة مع السيدة تيلسيت مرة أخرى إذا قدر على ذلك. عندما أخفق تذكر أن سكوتلاند يارد ربما بكل تأكيد، بأسلوبهم الدقيق، لديهم وصف للملابس التي كانت ترتديها الفتاة عندما تغيبت. وفي أقل من سبع دقائق، صار لديه الوصف. قبعة خضراء من اللباد، وفستان أخضر متناسق من الصوف، ومعطف رمادي شاحب به أزرار رمادية كبيرة، وجوارب من حرير الرايون لونه رمادي مائل إلى البني وحذاء خفيف أسود وكعب متوسط.
حسنا، على الأقل توصل إليه، ذلك المكان الذي بدأت منه الأحداث؛ نقطة بداية التحريات. فغمرته السعادة. جلس في الردهة وهو في طريقه للانصراف وكتب رسالة عاجلة ليخبر كيفين ماكديرموت أن الفتاة الشابة من إيلزبري لم تكن على القدر نفسه من الجاذبية مثلما قد كانت يوم الجمعة ليلا؛ وكذلك ليخبره، بالطبع - بين السطور - أن مكتب بلير وهيوارد وبينيت بإمكانه أن يمضي قدما عندما يقتضي الأمر.
وجه السؤال إلى ألبرت، الذي كان يحوم حوله: «هل عادت في أي وقت آخر؟» ثم تابع قائلا: «أقصد، بعد أن كانت قد «وجدت رفيقها».» «لا أتذكر أني رأيت على الإطلاق أحدا منهما مرة أخرى يا سيدي.»
إذن، الشخص الافتراضي «س» لم يعد افتراضيا. لقد أصبح الشخص «س» بكل وضوح. كان ممكنا لروبرت أن يعود الليلة إلى منزل فرنتشايز منتصرا. فقد طرح نظرية، وتبين أن النظرية حقيقة، وهو الذي أثبت أنها حقيقة. من المؤسف، بالطبع، أن الرسائل التي تسلمتها سكوتلاند يارد حتى ذلك الحين جميعها كانت مجرد رسائل ذم مجهولة في سكوتلاند يارد على «تساهلها» مع «الأثرياء»، ولا توجد أي مزاعم عن رؤية بيتي كين. من المحبط أن كل فرد قد حاوره ذلك الصباح صدق قصة الفتاة دون شك؛ وقد اندهشوا وتحيروا، بالفعل عندما طلب منهم التفكير في أي وجهة نظر أخرى. «هكذا قالت الصحيفة.» لكن تلك أمور بسيطة مقارنة بالسعادة التي شعر بها لوصوله إلى نقطة البداية؛ ومن اكتشافه للشخص «س». لم يصدق أن القدر قد يكون قاسيا لكي يثبت أن بيتي كين افترقت عن رفيقها الجديد في ميدلاند ولم تره قط مرة أخرى. لا بد أن هناك امتدادا لذلك الحدث الذي وقع في الردهة. فتاريخ الأحداث التي وقعت في الأسابيع التالية يقتضي ذلك.
لكن كيف له أن يقتفي أثر رجل أعمال شاب مهذب ذي بشرة سمراء، كان قد شرب شايا في ردهة فندق ميدلاند منذ قرابة ستة أسابيع مضت؟! ورجال الأعمال من الشباب ذوي البشرة السمراء كانوا زبائن في فندق ميدلاند؛ وإلى الحد الذي بإمكان روبرت أن يلاحظه فإنهم جميعا متشابهون تماما على أي حال. كان يخشى كثيرا أن تكون هذه هي النقطة التي يجب عندها الانسحاب وإحالة الأمر إلى محقق محترف. لم يكن لديه صورة هذه المرة حتى تساعده؛ ولا معلومات عن شخصية الرجل «س» أو عاداته، كما كان لديه في حالة الفتاة. ربما ستكون عملية مطولة من التحريات الصغيرة؛ وتلك مهمة خبير. كل ما كان بوسعه أن يفعله في تلك اللحظة، حسب تقديره، هو أن يحصل على قائمة بالمقيمين في فندق ميدلاند خلال الفترة المعنية.
لذلك ذهب إلى المدير؛ وهو رجل فرنسي أبدى سعادة بالغة وتفهما لهذا الإجراء السري، وكان متعاطفا بشدة تجاه السيدتين المستاءتين في منزل فرنتشايز، ومتشككا على نحو مريح من الفتيات الصغيرات ذوات الوجه الهادئ والثياب الأنيقة، واللائي يبدون وكأنهن يتصنعن البراءة. وأرسل أحد الموظفين حتى ينسخ المدخلات من السجل الكبير، وقدم لروبرت على سبيل الضيافة مشروب فاكهة مركزا من خزانته الشخصية. لم يكن روبرت مؤيدا لذوق الفرنسيين في تناول جرعات حلوة صغيرة من مشروبات مجهولة في أوقات غريبة، لكنه تجرع ذلك الشيء بامتنان، ووضع القائمة التي أحضرها الموظف في جيبه مثلما يضع المرء جواز السفر في جيبه. فربما كانت قيمتها الفعلية لا تساوي شيئا، لكنها منحته شعورا لطيفا باقتنائها.
وإذا توجب عليه أن يحيل المهمة إلى محترف، فسيحصل ذلك المحترف على النقطة التي يجب أن يبدأ في التحري عندها. لم يكن مرجحا أن الشخص «س» قد أقام في فندق ميدلاند في حياته؛ كان مرجحا أنه قد زاره فحسب لتناول الشاي ذات يوم. وعلى الجانب الآخر، ربما كان اسمه ضمن تلك القائمة التي في جيبه؛ تلك القائمة الطويلة على نحو مثير للهلع.
بينما كان يقود عائدا إلى منزله قرر أنه لن يتوقف عند منزل فرنتشايز. لم يكن أمرا لطيفا أن يأتي بماريون إلى البوابة لمجرد أن ينبئها بأخبار كان من الممكن إخبارها بها على الهاتف. كان سيخبر مكتب السنترال بمن هو، وحقيقة أن المكالمة رسمية، وهما كانتا ستجيبان عنها. ربما بحلول الغد ستكون الحشود المنهمرة قد فتر اهتمامها بالمنزل، ويصبح آمنا إزالة الحاجز الخشبي عن البوابة مرة أخرى. لكن ساوره شك في ذلك. لم يكن محتملا من صحيفة «أك-إيما» اليوم أن يكون لها تأثير مهدئ على عقول عامة الناس. صحيح أنه غابت أي عناوين رئيسية أخرى عنها في الصفحة الأولى؛ فكانت قضية منزل فرنتشايز قد نقلت نفسها إلى صفحة المراسلات . لكن كان مستبعدا أن الرسائل التي اختارت صحيفة «أك-إيما» أن تنشرها فيها - وكان ثلثاها عن قضية منزل فرنتشايز - ستعمل على تهدئة الأمر. فكانت بمثابة كيروسين على نار تتأجج على نحو نشط تماما على أي حال.
سالكا طريقه بعيدا عن ازدحام لاربورو، عادت العبارات السخيفة لتتوارد على ذهنه، فتعجب مرة أخرى من الغل الذي أثارته تلك السيدتان في عقول الكتاب. فانصب الغضب والكراهية صبا على الورق، وسرى الحقد بلا رقيب في الجمل التي كانت دون المستوى إلى حد كبير. كان عرضا مذهلا. وأحد الأمور الغريبة فيها هو الأمنية العزيزة لكثير من أولئك المعارضين الحانقين ضد العنف أن تجلد السيدتان المذكورتان حتى آخر نفس لهما. وأولئك الذين لم يريدوا جلد السيدتين أرادوا إصلاح جهاز الشرطة. اقترح أحد الكتاب أنه يجب تخصيص صندوق مالي من أجل الضحايا من الشباب المساكين المتضررين من عدم كفاءة الشرطة وتحيزها. واقترح آخر أنه ينبغي لكل رجل حسن النية أن يكتب إلى عضو البرلمان التابع له عن الأمر، ويجعلوا حياته جحيما حتى تنجز خطوة بشأن هذا الإخفاق الذي وقعت فيه العدالة. لكن كاتبا آخر سأل إن كان أحد قد لاحظ التشابه الواضح بين بيتي كين والقديسة بيرناديت.
كانت هناك كل المؤشرات التي تدل على مولد جمهور من المعجبين ببيتي كين، إذا كانت صفحة المراسلات لصحيفة «أك-إيما» اليوم تمثل أي معيار. وتمنى ألا تصبح النتيجة المترتبة على ذلك هي الثأر من منزل فرنتشايز.
بينما كان يقترب من المنزل البائس، ازداد اضطرابا؛ وتساءل إن كان يوم الاثنين، أيضا، قد قدم حصته من المشاهدين. كان مساء خلابا، وشمس الغروب تميل رقعا ذهبية من الضوء على حقول الربيع؛ مساء مغويا حتى إلى لاربورو من أجل الخروج إلى الأجواء الشاحبة في ريف ميلفورد؛ ستصير معجزة إذا لم يكن منزل فرنتشايز، بعد المراسلات في صحيفة «أك-إيما»، هو قبلة الحج المسائي. لكنه لما صار على مرمى بصره وجد امتدادا طويلا من الطريق مهجورا؛ ولما صار أكثر قربا عرف السبب. عند بوابة منزل فرنتشايز، كان ثابتا وجامدا ولامعا في ضوء المساء، جسد شرطي في زيه ذي اللون الأزرق الداكن والفضي.
ابتهج أن هالم كان سخيا للغاية وأرسل شرطيا من قوته القليلة، فأبطأ روبرت السير لتبادل التحيات؛ لكن التحية اختفت من على شفتيه. فعبر السور الطويل كاملا، كتب شعار بحروف كبيرة على ارتفاع ست أقدام تقريبا. فصرخت الحروف الكبيرة البيضاء بكلمة: «الفاشيتان!» ومرة أخرى على الجانب البعيد من البوابة: «الفاشيتان!»
قال الشرطي بأسلوب تهديد مهذب، عند اقتراب روبرت ببطء وهو يحدق: «ابتعد، من فضلك». ثم أضاف قائلا: «غير مسموح بالتوقف هنا.»
خرج روبرت ببطء من سيارته. «أوه، سيد بلير. لم أتعرف عليك سيدي. أعتذر إليك.» «أهذا طلاء بالجير؟» «لا يا سيدي؛ بل طلاء على أعلى جودة.» «يا إلهي!» «بعض الأشخاص لا يكبرون أبدا على ذلك.» «على أي شيء؟» «كتابة أشياء على الجدران. لكن هناك أمر واحد؛ كان من الممكن أن يكتبوا أسوأ من ذلك.»
قال روبرت متهكما: «إنهم كتبوا أسوأ إهانة عرفوها». وأضاف: «أفترض أنك لم تمسك بمن فعلوا ذلك؟» «لا سيدي. أتيت مسرعا إلى دوريتي المسائية لأبعد المتطفلين المعتادين - أجل، كان حاضرا العشرات منهم - ووجدت الجدران هكذا عندما وصلت. رجلان في سيارة، إن كانت جميع التقارير صحيحة.» «هل علمت السيدتان شارب بذلك؟» «أجل، كان علي أن أدخل لأتحدث عبر الهاتف. أصبح لدينا شفرة الآن، بيننا وبين السيدتين في منزل فرنتشايز. أربط منديلي في طرف هراوتي ثم ألوح بها من أعلى البوابة عندما أريد التحدث إليهما. هل تريد الدخول إليهما يا سيدي؟» «لا. لا، لا أظن بوجه عام. سأطلب من مكتب البريد العام أن يسمحوا لي بالوصول إليهما عبر الهاتف. لا داعي لإحضارهما إلى البوابة. إن كان هذا الوضع سيستمر، فلا بد أن يحصلا على مفاتيح للبوابة حتى أستطيع بذلك أن أحصل على نسخة ثانية.» «يبدو وكأنه سيستمر بلا شك يا سيدي. هل رأيت صحيفة «أك-إيما» اليوم؟» «أجل.»
قال الشرطي، فاقدا رباطة جأشه عند التفكير في صحيفة «أك-إيما»: «يا إلهي! لو استمعت إليهم فستظن أننا لسنا إلا مجموعة من المتلهفين على المال! ومن عجب العجاب أننا لسنا كذلك، في الحقيقة. ربما يناسبهم بشكل أفضل التحرك للمطالبة برفع رواتبنا بدلا من تشويه سمعتنا في كل مكان.»
قال روبرت: «أنت تعمل في جهة محترمة، إذا كان في الأمر عزاء لك.» ثم تابع قائلا: «لا يوجد شيء مستقر، أو محترم، أو جدير بالثناء لم يشوهوا سمعته من وقت لآخر. سأرسل شخصا إما الليلة أو أول شيء سأفعله في الصباح ليفعل شيئا حيال هذه ... البذاءة. هل ستبقى هنا؟» «قال السيرجنت عندما اتصلت به إن علي البقاء حتى يحل الظلام.» «ألن يحضر شرطي آخر أثناء الليل؟» «كلا يا سيدي. ليس هناك رجال آخرون من أجل ذلك. على أي حال، ستصبحان على ما يرام عندما يغيب الضوء. الناس ستعود إلى منازلها. لا سيما الناس من لاربورو. فهم لا يحبون الريف بمجرد أن يحل عليها الظلام.»
تشكك في الأمر روبرت، الذي تذكر حينها مدى السكون الذي يصبح فيه هذا المنزل المهجور. سيدتان، وحيدتان في ذلك المنزل الهادئ الكبير بعد حلول الظلام، ومع مشاعر الكراهية والعنف خارج السور تحديدا - فلم يكن ذلك شعورا مريحا. البوابة كانت مغلقة، لكن إذا كان بإمكان الناس أن يرفعوا أنفسهم على السور حتى يجلسوا هناك وينهالوا بوابل من الإهانات، فإن بإمكانهم النزول بهذا القدر من السهولة إلى الجانب الآخر في الظلام.
قال الشرطي، مراقبا وجهه: «لا تقلق يا سيدي.» ثم تابع قائلا: «لا شيء سيحدث لهما. هذه إنجلترا، رغم أي شيء.»
ذكره روبرت: «وهذه أيضا إنجلترا التي ترعى «أك-إيما».» لكنه عاد إلى سيارته مرة أخرى. ورغم أي شيء، إنها إنجلترا، وإنه الريف الإنجليزي رغم ذلك، المعروف بأنه لا يتدخل فيما لا يعنيه. لم تكن اليد التي كتبت على السور «الفاشيتان!» هي يد من الريف. من المشكوك فيه إذا كان الريف قد سمع هذا المصطلح قبل ذلك. يستخدم الريف، عندما يريد توجيه إهانات، ألفاظا ساكسونية أكثر قدما.
كان الشرطي محقا بلا شك؛ فما إن يحل الظلام حتى يعود كل فرد إلى منزله.
الفصل الثاني عشر
بينما دخل روبرت بسيارته نحو المرأب في سين لين وتوقف، نظر ستانلي، الذي كان يخلع زي العمل خارج باب المكتب، إلى وجهه وقال: «هل خاب مسعاك مرة أخرى؟»
قال روبرت: «الأمر ليس رهانا. إنها طبيعة بشرية.» «إذا بدأت تشعر بالأسف على طبيعة البشر فلن يعود لديك وقت لأي شيء آخر. هل كنت تحاول تقويم أحد؟» «لا، كنت أحاول الاستعانة بأحد ليزيل طلاء من أحد الجدران.» «أوه، عمل!» كانت نبرة ستانلي تشير إلى أن توقع قيام أحد بمهمة عمل في تلك الأيام هو تفاؤل إلى حد السخف. «كنت أحاول الوصول إلى شخص ليزيل شعارا من على جدران منزل فرنتشايز، لكنهم جميعا مشغولون فجأة بدرجة غير عادية.»
توقف ستانلي عن خلع زيه. ثم قال: «شعار.» وأضاف: «أي نوع من الشعارات؟» وبيل، الذي كان يسمع الحوار الدائر بينهما، أقحم نفسه من باب المكتب الضيق ليستمع.
أخبرهما روبرت. «طلاء أبيض على أعلى جودة، هكذا يؤكد لي شرطي الدورية.»
صفر بيل. أما ستانلي فلم ينطق بشيء؛ كان واقفا وزي عمله مخلوع لأسفل حتى خصره ومكوم في طيات حول رجليه.
سأل بيل: «مع من حاولت؟»
فأخبرهما روبرت. «لا يمكن لأي أحد منهم أن يفعل شيئا الليلة، وغدا في الصباح، يبدو أن جميع رجالهم سيذهبون باكرا لقضاء أشغال مهمة.»
قال بيل: «غير معقول». وتابع: «لا تخبرني بأنهم يخشون من الانتقام!» «لا، إحقاقا للحق لا أعتقد أن الأمر هكذا. وأعتقد، رغم أنه لم يكن لأحد أن يقول ذلك أبدا لي، أنهم يظنون أن هاتين السيدتين في منزل فرنتشايز تستحقان ذلك.» ساد الصمت لحظة.
قال ستانلي، وهو يبدأ بتأن في سحب زي عمله لأعلى ويرتدي النصف العلوي منه مرة أخرى: «عندما كنت مجندا في سلاح الإشارة الملكي، منحت جولة حرة في إيطاليا. استغرقت قرابة عام. وفررت من الملاريا، والإيطاليين، والمتحزبين، ومن نقل الأمريكيين، ومن أشياء قليلة أخرى مزعجة. لكن أصابني رهاب. وأصبح لدي نفور شديد من الشعارات على الجدران .»
سأل بيل: «ماذا سنستخدم حتى نزيله؟»
قال ستانلي، وهو يغلق سحابه الأمامي: «ما فائدة أن تمتلك أفضل مرأب مجهز وعلى أحدث مستوى في ميلفورد، إذا لم يكن لدينا شيء لنزيل به هذه اللطخة من الطلاء؟»
سأل روبرت، متفاجئا وسعيدا: «أستحاولان حقا أن تفعلا شيئا حيال الأمر؟»
ابتسم بيل ابتسامته الواسعة البطيئة. وقال: «رجلان أحدهما كان في سلاح الإشارة، والآخر من فيلق المهندسين الكهربائيين والميكانيكيين الملكيين، ومقشتان. فماذا تريد أكثر من ذلك؟»
قال روبرت: «فليبارك الله لك.» وأضاف: «فليبارك الله لكما. لا أطمح إلا في شيء واحد هذه الليلة؛ ألا وهو أن أمحو ذلك الشعار من السور قبل موعد الإفطار غدا. سآتي وأساعدكما.»
قال ستانلي: «ليس ببدلة سافيل رو، أليس كذلك؟ وليس لدينا زيا إضافيا من ...» «سأرتدي ملابس قديمة وسألحق بكما.»
قال ستانلي بترو: «انظر، لسنا في حاجة إلى أي مساعدة في مهمة صغيرة كتلك. وإذا صرنا في حاجة إلى ذلك، فسنأخذ هاري.» كان هاري هو صبي المرأب. «أنت لم تأكل بعد ونحن قد أكلنا، وقد سمعت أنه يقال إن الآنسة بينيت لا تحب أن تتلف وجباتها اللذيذة. أعتقد أنك لن تمانع إذا بدا السور ملطخا، نحن مجرد عاملي مرأب ذوي نوايا طيبة، ولسنا عمال ديكور.»
كانت المتاجر مغلقة أثناء سيره نحو هاي ستريت قاصدا منزله رقم 10، وكان ينظر إلى المكان كغريب يسير متمهلا في يوم أحد على الأرجح. كان قد ابتعد عن ميلفورد مدة طويلة خلال يومه في لاربورو لدرجة أنه شعر بأنه كان قد غاب عنها سنوات. استقبله هذا الهدوء المريح الذي يسود المنزل رقم 10 - الذي يختلف اختلافا شاسعا عن الصمت المميت لمنزل فرنتشايز - وخفف عنه. تسللت من المطبخ رائحة خفيفة لتفاح مشوي. ارتعش ضوء المدفأة على حائط غرفة الجلوس، الذي كان مرئيا من بابها المفتوح حتى نصفه. وانبعث الدفء والأمان والراحة في موجة لطيفة واحدة فغمرته.
شاعرا بالذنب لاستئثاره بهذا الهدوء أثناء مدة الانتظار، أمسك بالهاتف حتى يتحدث إلى ماريون.
قالت: «أوه، ها أنت! ما ألطف هذا!» بعد أن أقنع مكتب البريد العام أخيرا أن نواياه شريفة، والحماسة في صوتها التي أثرت فيه على نحو غير متوقع - إذ إن عقله لا يزال منشغلا بالطلاء الأبيض - سرت قلبه وتركته مبهورا لوهلة. وتابعت: «أنا في غاية السعادة. كنت أتساءل كيف بإمكاننا أن نتحدث إليك، لكني كنت أعرف أنك ستتصرف. أعتقد لا عليك سوى أن تقول فحسب إنك روبرت بلير ومكتب البريد العام سيمنحك مطلق الحرية.»
فكر في أن هذه بالفعل صفاتها الحسنة. الامتنان الحقيقي في جملة «كنت أعرف أنك ستتصرف»، ثم اللمسة المبهجة في الجملة التي تبعتها. «أظن أنك قد رأيت الزخرفة التي على سور منزلنا؟»
أجاب روبرت بالموافقة، لكن ليس لأحد أن يفعل ذلك مرة أخرى؛ لأنه مع مطلع الشمس ستكون قد أزيلت. «غدا!» «الرجلان اللذان يمتلكان المرأب الذي أستخدمه قررا أن يمحواها الليلة.» «لكن ... هل لسبع خادمات بسبع مماسح ...؟» «لا أعلم؛ لكن ستانلي وبيل إذا عقدا العزم على أن يفعلا ذلك، فسوف تمحى. فقد ربيا في مدرسة لا تسمح بالفشل.» «أي مدرسة تلك؟» «الجيش البريطاني. كما أني أحمل إليك المزيد من الأخبار السارة؛ لقد تثبت من حقيقة أن الشخص «س» موجود. لقد تناولت الفتاة معه الشاي ذات يوم. توددت إليه في فندق ميدلاند، في الردهة.» «توددت إليه؟ لكنها مجرد طفلة، وهذا ... أوه، حسنا، لقد اختلقت تلك القصة عنا، بالطبع. بعد هذا أي شيء صار ممكنا. كيف اكتشفت ذلك؟»
فأخبرها.
قال، بعد أن انتهى من سرد الأحداث الطويلة التي وقعت في المقاهي: «مررت بيوم سيئ في منزل فرنتشايز، أليس كذلك؟» «أجل، انتابني شعور سيئ فعلا. والأسوأ من المتجمهرين والسور كان البريد. فساعي البريد أعطاه للشرطة حتى تدخلها لنا. ليس معتادا أن تتهم الشرطة بنشر مطبوعات مسيئة.» «أجل، أتصور أن الأمر لا بد أنه كان سيئا تماما. لم يكن ذلك إلا أمرا متوقعا.» «حسنا، لدينا القليل من الخطابات لدرجة أننا قررنا مستقبلا أننا سنحرقها جميعا من دون فتحها، إلا إذا تعرفنا على الخط الذي كتبت به. لهذا تجنب استخدام الآلة الكاتبة إذا أردت مراسلتنا.» «لكن هل تعرفين خطي؟» «أجل، كتبت لنا رسالة، لو تتذكر. الرسالة التي أحضرها نيفيل في عصر أحد الأيام. لك خط رائع في الكتابة.» «هل رأيت نيفيل اليوم؟» «لا، لكن أحد الخطابات كانت منه. على الأقل، لم يكن خطابا.» «وثيقة من نوع ما؟» «لا، قصيدة.» «أوه. وهل فهمتها؟» «لا، لكن إيقاعها لطيف تماما.» «هكذا أيضا حال أجراس الدراجات.»
ظن أنها ضحكت قليلا. وقالت: «من اللطيف أن يكتب أحد قصيدة من أجلك». وأضافت: «لكن الأكثر لطفا هو أن ينظف أحدهم لك جدار منزلك. أشكرك حقا على ذلك - أنت وهذين الشخصين اللذين اسمهما بيل وستانلي. إذا أردت أن تكون غاية في العطف فربما بإمكانك أن تحضر أو ترسل لنا بعض الطعام غدا؟»
قال، فزعا من أنه لم يكن قد فكر في ذلك من قبل: «طعام!» يحدث ما حدث عندما تعيش حياة تضع لك فيها العمة لين كل شيء أمامك، كل شيء ما عدا أن تطعمك الطعام في فمك، فتفقد قدرتك على التخيل. «أجل، بالطبع. نسيت أنك ربما لن تستطيعي التسوق.»
أضافت في عجالة: «الأمر لا يقف عند ذلك. فسيارة البقالة التي تمر يوم الإثنين لم تأت اليوم. أو ربما ...» أضافت بسرعة: «جاءت ولم تستطع لفت انتباهنا. على أي حال، سنكون ممتنين إليك كثيرا لو أحضرت إلينا بعض الأشياء. أمعك قلم رصاص؟»
أملته قائمة بالأشياء، ثم سألت: «لم نطالع صحيفة «أك-إيما» اليوم. أكان هناك أي شيء بخصوصنا؟» «بعض الرسائل في صفحة المراسلات، هذا كل ما في الأمر.» «جميعها ضدنا، أظن ذلك.» «أخشى أنه هكذا. سأحضر نسخة صباح الغد عندما أحضر البقالة، ويمكنكما الاطلاع عليها بأنفسكما.» «أخشى أننا نستنفد قدرا كبيرا من وقتك.»
قال: «صار الأمر مسألة شخصية معي.»
بدت متشككة: «شخصية؟» «إن طموحي الوحيد في الحياة هو إثبات كذب بيتي كين.» «أوه أوه، فهمت.» بدا صوتها مرتاحا بدرجة ما، وبدرجة أخرى - هل ربما؟ - محبطا. وأضافت: «حسنا، نتطلع إلى رؤيتك غدا.»
لكنها سوف تراه قبل ذلك بمدة طويلة.
ذهب إلى الفراش مبكرا، لكنه ظل مستيقظا مدة طويلة؛ يتدرب على محادثة هاتفية كان ينوي أن يجريها مع كيفين ماكديرموت، ويفكر في طرق مختلفة للتعامل مع مشكلة الشخص «س»، ويتساءل ما إذا كانت ماريون نائمة، في ذلك المنزل القديم الساكن، أم أنها مستيقظة ترهف السمع لأي أصوات.
كانت غرفة نومه مطلة على الشارع، وفي منتصف الليل تقريبا سمع صوت سيارة قادمة ثم توقفت، وبعد برهة سمع من النافذة المفتوحة نداء حذرا من بيل، لا يعدو كونه أكثر من همس آت من الحلق. «سيد بلير! أتسمعني، سيد بلير؟!»
كان أمام النافذة قبل النطق الثاني لاسمه.
همس بيل: «الحمد لله. كنت أخشى أن هذا الضوء ربما من غرفة الآنسة بينيت.» «لا، فهي نائمة في الجهة الخلفية. ما الأمر؟» «هناك مشكلة في منزل فرنتشايز. كان علي الذهاب إلى الشرطة لأن خطوط الهاتف انقطعت. لكني ظننت أنك قد تفضل استدعاءك؛ لهذا أنا ...» «ما نوع المشكلة؟» «مخربون. سآتي إليك في طريقي للعودة. في غضون أربع دقائق تقريبا.»
سأل روبرت، بينما كان جسد بيل الضخم يدخل السيارة مرة أخرى: «هل ستانلي معهما؟» «أجل، ستانلي رأسه معصوب. سأعود خلال دقيقة.» ثم اختفت السيارة بعيدا في السكون المطبق لهاي ستريت.
قبل أن ينتهي روبرت من ارتداء ملابسه سمع صوت «فووو» خافتا يتجاوز نافذته، وأدرك أن الشرطة كانت بالفعل في طريقها. دون سرينات زاعقة في الليل، ولا أنابيب العادم الصاخبة، ولا أي صوت آخر يعلو على صوت الريح في فصل الصيف بين أوراق الشجر كان القانون يسير في مساره المعتاد. بينما كان يفتح الباب الأمامي، بحذر لئلا تستيقظ العمة لين (لا شيء غير صوت الأزيز الأخير كان من المحتمل أن يوقظ كريستينا)، أوقف بيل سيارته أمام الرصيف.
قال روبرت، بينما كانا يمضيان: «والآن أخبرني.» «حسنا، أنهينا تلك المهمة البسيطة على ضوء المصابيح الأمامية للسيارة - لم تنجر بأسلوب احترافي، لكن كان الحال أفضل كثيرا مما كانت عليه عند وصولنا - وعندئذ أطفأنا المصابيح، وبدأنا في إعادة متعلقاتنا إلى مكانها. على مهل؛ لم يكن هناك داع إلى العجلة وكانت ليلة رائعة. وقد أشعلنا سيجارة وكنا نفكر في الانطلاق عندما سمعنا صوت تهشم زجاج من المنزل. لم يكن أحد قد جاء إلى جانبنا بينما كنا هناك؛ لهذا علمنا أنه لا بد أن أحدا حول الجوانب أو في الخلف. وصل ستانلي إلى داخل السيارة وأخذ مصباحه اليدوي - كان مصباحي على المقعد لأني كنت أستخدمه - ثم قال: «أنت تتفقد ذلك الاتجاه وأنا سأتفقد الآخر وسنحاصرهم بيننا».» «هل نجحتما في الدوران حول المنزل؟» «حسنا، لم يكن الأمر سهلا. هناك سياج نباتي يرتفع إلى نهاية السور. لم أكن أحبذ أن أنجز ذلك بالملابس العادية، لكن في زي العمل ليس عليك سوى أن تدفع بقوة وتأمل خيرا. سار الوضع على نحو جيد مع ستانلي؛ فهو ممشوق القوام. لكن فيما عدا الاستناد على السياج النباتي حتى يسقط فلم يكن هناك طريق من أجلي. على أي حال، تمكنا من تجاوز المشكلة، وواصل كل واحد منا عند كل جانب، ثم وصلنا إلى الركن الخلفي، ثم التقينا في منتصف الجهة الخلفية من دون أن نرى نفسا واحدة. ثم سمعنا مزيدا من أصوات تهشم الزجاج، وأدركنا أنهم سيقضون الليلة في التسلية على ذلك. قال ستانلي: «ارفعني لأعلى، وسأساعدك بعدي.» حسنا، لم تكن اليد لتكفيني، لكن ما حدث هو أن مستوى الحقل في الخلف يرتفع حتى أعلى الجدار نوعا ما - في الحقيقة أعتقد أنه ربما اقتطع لبناء السور - وبذلك تمكنا من الصعود بسهولة نوعا ما. قال ستانلي إن كان لدي أي شيء لأضرب به مع مصباحي، فقلت له: نعم، لدي مفتاح ربط. قال ستانلي: «انس مفتاحك السخيف هذا، واستخدم قبضة يدك الممتلئة؛ فإنها أكبر».» «ماذا كان سيستخدم؟» «الأسلوب القديم للعرقلة في رياضة الرجبي، هكذا قال. اعتاد ستانلي أن يكون لاعبا بارعا تماما في خط المنتصف. على أي حال توجهنا في الظلام نحو صوت تحطيم الزجاج. بدا الأمر وكأنهم كانوا يقومون بجولة تكسير حول المنزل. نجحنا في الإمساك بهم بالقرب من الركن الأمامي مرة أخرى، فأضأنا مصباحينا اليدويين. أعتقد أنه كان هناك سبعة منهم. أكثر كثيرا مما كنا قد توقعنا، على أي حال. أطفأنا المصباحين في الحال، قبل أن يتمكنوا من ملاحظة أننا اثنان فقط، فجذبنا الأقرب إلينا. وقال ستانلي: «خذ أنت هذا الرجل أيها السيرجنت»، وظننت حينها أنه يلقبني برتبتي كعادته القديمة، لكني أدرك الآن أنه كان يوهمهم بأننا الشرطة. على أي حال تمكن بعضهم من الهرب؛ لأنه رغم الشجار الدائر لم يكن ممكنا أن عدد من يتشاجرون معنا سبعة. ثم من دون أي مقدمات كان من الواضح، أن ثمة هدوءا عم المكان - لأننا أحدثنا جلبة شديدة - وأدركت أننا سمحنا لهم بالفرار، ثم قال ستانلي من مكان ما على الأرض: «أمسك أحدهم يا بيل، قبل أن يعتلوا السور!» فذهبت وراءهم ومصباحي مضاء. كان آخرهم يساعده أحد من فوق، فجذبت رجليه وتشبثت بهما. لكنه رفس كالبغل، ولأن المصباح في يدي فقد انفلت من يدي مثل سمكة سلمون مرقط وصعد قبل أن أتمكن من جذبه مرة أخرى. ذلك قد أتى علي؛ لأن الجهة الداخلية لهذا السور في الخلف أكثر ارتفاعا عنه في الجانب الأمامي من المنزل. لهذا رجعت إلى ستانلي. كان لا يزال جالسا على الأرض. حيث سدد أحدهم إليه ضربة عنيفة على رأسه بشيء قال إنه زجاجة، ويبدو أنه شخص وضيع. ثم خرجت الآنسة شارب إلى الدرجة العلوية من درجات السلم الأمامية، وسألت هل أصيب أحد؟ وقد استطاعت أن ترانا في ضوء المصباح. لهذا أدخلنا ستانلي - السيدة العجوز كانت هناك وقد أضيء المنزل في هذا الوقت - وذهبت أنا إلى الهاتف، لكن الآنسة شارب قالت: «لا جدوى منه. لأنه معطل. حاولنا الاتصال بالشرطة عند وصولهم في البداية». لهذا قلت إني سأذهب لإحضارهم. وقلت إني أفضل أن آتي بك أيضا. لكن الآنسة شارب رفضت؛ لأنك قد مررت بيوم مرهق وليس علي أن أزعجك. لكني ظننت أن من المفترض عليك الحضور في تلك اللحظة.» «أنت محق تماما، يا بيل، من المفترض علي ذلك.»
كانت البوابة مفتوحة على مصراعيها في وقت وصولهما، وسيارة الشرطة أمام الباب، وأغلب الغرف الأمامية مضاءة، والستائر ترفرف برفق في رياح الليل عند النوافذ المحطمة. في قاعة الاستقبال - التي اتضح أن السيدتين شارب تستخدمانها كغرفة معيشة - كان ستانلي مصابا بجرح فوق حاجبه طببته ماريون، وضابط الشرطة كان يأخذ الملاحظات، ومساعده ينظم الأدلة. اتضح أن الأدلة تتألف من أنصاف قوالب طوب، وزجاجات، وقصاصات ورق مكتوب عليها.
قالت ماريون عندما رفعت بصرها لأعلى ورأت روبرت: «عجبا يا بيل، أخبرتك ألا تفعل ذلك.»
لاحظ روبرت مدى كفاءتها في التعامل مع جرح ستانلي؛ تلك السيدة التي وجدت الطهو فوق قدراتها. وحيا ضابط الشرطة ثم انحنى ليتفحص الأدلة. وجدت مجموعة كبيرة من المقذوفات وليس سوى أربع رسائل، وكان فحواها، بالترتيب: «ارحلا!»، «ارحلا وإلا سنجبركما على ذلك!»، «فاجرتان دخيلتان!»، «هذه ليست إلا عينة مما سترينه!»
قال ضابط الشرطة: «حسنا، أعتقد أننا جمعنا كل شيء.» وتابع: «والآن سنذهب ونفتش في الحديقة عن آثار أقدام أو أي قرائن ربما تكون هناك.» ثم نظر باحتراف إلى النعال التي حملها بيل وستانلي بناء على طلبه، ثم خرج مع مساعده إلى الحديقة، عندما جاءت السيدة شارب بإبريق يتصاعد البخار منه وفناجين.
وقالت: «آه يا سيد بلير.» وتابعت: «ألا تزال تجدنا نستحق الاهتمام؟»
كانت ترتدي ثيابا كاملة - على عكس ماريون التي كانت تبدو على طبيعتها تماما ولا تشبه جان دارك في روبها المنزلي القديم - ولم تؤثر فيها بكل وضوح تلك الأحداث، فتساءل روبرت عن نوع الأحداث التي قد تجعل السيدة شارب في حالة سيئة.
ظهر بيل بأعواد من المطبخ وأشعل نار المدفأة الخامدة، والسيدة شارب صبت المشروب الساخن - كان قهوة لكن رفض روبرت تناولها؛ إذ إنه رأى ما يكفي من القهوة مؤخرا حتى فقد رغبته فيها - وبدأ الاحمرار يدب في وجه ستانلي من جديد. وبعدما عاد الشرطيان من الحديقة كانت الغرفة قد اكتسبت جو حفل عائلي، بالرغم من الستائر المرفرفة والنوافذ التي لم يعد لها وجود. لم يبد أن ستانلي أو بيل، كما لاحظ روبرت، قد وجدا السيدتين شارب غريبتين أو معقدتين؛ على النقيض فقد ظهرتا مسترخيتين وعلى راحتهما. ربما السبب أن السيدتين شارب قد اعتبرتا الأمر مسلما به؛ فقبلتا هذا الغزو من الدخيلين كما لو أنه حدث يومي. على أي حال، جاء بيل وبدأ في أعمال المرح الخاصة به كما لو أنه قد عاش في المنزل لسنوات، وستانلي مد فنجانه حتى يحصل على المزيد من القهوة دون الانتظار أن يعرض عليه أحد. لا إراديا، فكر روبرت أن العمة لين لو كانت في مكانهما لكانت ستصبح عطوفة ونيقة وكانا سيجلسان على حافة المقاعد ويتذكران زي عملهما المتسخ.
ربما كان تقبل الأمور على أنها من المسلمات هو ما قد جذب نيفيل.
سأل الضابط عندما دخلا مرة أخرى: «هل تنويان البقاء هنا يا سيدتي؟»
قالت السيدة شارب، وهي تصب القهوة لهما: «بالطبع.»
قال روبرت: «لا.» وأضاف: «لا يجب أن تظلا هنا، حقا لا يجب. سأجد لكما فندقا هادئا في لاربورو، وفيه ...» «لم أسمع في حياتي أي شيء سخيف أكثر من ذلك. بالطبع سنبقى هنا. ماذا يهم في وجود بعض النوافذ المكسرة؟»
قال الضابط: «الأمر ربما لا يتوقف عند النوافذ المكسورة. وأنتما مسئولية كبيرة على عاتقنا ما دمتما هنا؛ مسئولية لم نؤهل عناصر الدورية حقا على التعامل معها.» «أعتذر إليك حقا أننا مصدر إزعاج لك أيها الضابط. لم تكن نوافذنا لترشق لو كان الأمر بيدينا، صدقني. لكن هذا هو منزلنا، وهنا سنبقى. بعيدا تمام البعد عن أي مسألة بشأن أخلاقيات العمل، فكم سيتبقى من منزلنا بحيث يمكننا أن نعود إليه إذا بقي خاويا؟ أعتقد أنه إذا كان لديك عجز في الرجال المنوطين بحراسة البشر، فبالطبع ليس لديك رجال لحراسة عقار شاغر.»
بدا الضابط محرجا إلى حد ما، كما يبدو الناس غالبا على هذا الحال عندما تتعامل معهم السيدة شارب. أقر الضابط، بنبرة مترددة: «حسنا، هذا صحيح تماما يا سيدتي.» «وذلك، في ظني، سيحسم أي سؤال بشأن مغادرتنا لمنزل فرنتشايز. أتريد سكرا، أيها الضابط؟»
عاد روبرت إلى الموضوع عندما انصرفت الشرطة، وكان بيل قد أحضر مكنسة ومجرفة من المطبخ لكنس الزجاج المكسور في غرفة بعد الأخرى. فشدد مرة أخرى على أنه من الحكمة الإقامة في فندق بلاربورو، لكن لم تكن مشاعره ولا منطقه يؤيدان كلماته. فهو لم يكن ليرحل لو كان في مكان السيدتين شارب؛ لذلك لم يكن ممكنا أن يتوقع منهما ذلك، إلى جانب أنه أقر بالمنطق السديد لوجهة نظر السيدة شارب عن مصير المنزل حال بقائه شاغرا.
قال ستانلي، الذي كان قد منع من السماح له بكنس الزجاج لأنه صنف على أنه مصاب قادر على السير: «ما تحتاجان إليه هو شخص مقيم.» وتابع: «شخص مقيم يحمل مسدسا. ما رأيكما إذا أتيت ونمت هنا في الليل؟ من دون تقديم وجبات، مجرد حارس ليلي نائم. جميعهم ينامون على أي حال، الحراس الليليون يفعلون ذلك.»
كان من الواضح من تعبير وجهيهما أن كلا السيدتين شارب قدرتا حقيقة أن هذا إقرار علني بالولاء، فيما صار بمثابة حرب محلية؛ لكنهما لم تحرجاه بتقديم الشكر له.
سألت ماريون: «أليست لك زوجة؟»
قال ستانلي خجلا: «لست متزوجا.»
أشارت السيدة شارب قائلة: «زوجتك - إن كانت لك زوجة - ربما قد توافقك على النوم هنا وتدعم قرارك، لكني أشك إن كان عملك سيكون بالمثل، يا سيد ... إر ... سيد بيترز.» «عملي؟» «أتخيل إذا اكتشف زبائنك أنك قد أصبحت حارسا ليليا في منزل فرنتشايز فسيقضون مصالحهم في أي مكان آخر.»
قال ستانلي بارتياح: «لن يستطيع زبائني فعل ذلك. لا يوجد مكان آخر ليقضوا فيه مصالحهم. لينتش يصبح ثملا خمس ليال من كل سبع، وبيجينز لا يعرف كيف يضع سلسلة الدراجة. على أي حال، لا أسمح لزبائني بأن يملوا علي ما أفعله في وقت فراغي.»
وعندما عاد بيل، أسند ستانلي حتى ينهض. بيل كان زوجا وفيا ولم يكن الاحتمال مطروحا أن ينام أبدا في أي مكان آخر غير المنزل. لكن بدا إليهما أن نوم ستانلي في منزل فرنتشايز حل طبيعي للمشكلة.
شعر روبرت بارتياح شديد.
قالت ماريون: «حسنا، إذا كنت ستحل ضيفا علينا في الليل فلا مانع أن تبدأ من الآن. أثق أن ذلك الرأس يشعر وكأنه ثمرة فجل مؤلمة. سأذهب وأعد لك الفراش. هل تفضل منظرا يطل جنوبا؟»
قال ستانلي في حماس شديد: «أجل. بعيد تماما عن المطبخ وإزعاج الراديو.» «سأفعل ما في وسعي.»
ومن ثم اتفق على أن يمرر بيل رسالة قصيرة إلى باب مسكن ستانلي ليفيد بأنه سيحضر في موعد الغداء كالمعتاد. قال ستانلي، مشيرا إلى صاحبة المسكن: «لن تقلق علي.» وأضاف: «لقد غبت عن المنزل عدة ليال من قبل.» فالتقت عيناه بعيني ماريون وأضاف قائلا: «أنقل السيارات بواسطة العبارة من أجل الزبائن؛ بإمكانك إنجاز ذلك خلال وقت الليل في نصف المدة اللازمة.»
وأسدلوا الستائر في جميع الغرف بالطابق الأرضي لحماية ما بداخلها حال سقوط أمطار قبل الصباح، ووعد روبرت بإحضار فني تركيب الزجاج في أقرب وقت ممكن. وقرر روبرت بينه وبين نفسه أن يستعين بخدمات شركة متخصصة في هذا الشأن من لاربورو، وألا يغامر بالتعرض لمجموعة أخرى من الاعتذارات المهذبة في ميلفورد.
قال عندما خرجت ماريون بصحبة بيل وروبرت لتوصد البوابة: «وسأفعل شيئا بخصوص مفتاح للبوابة؛ حتى يتسنى لي الحصول على نسخة ثانية، وأخلصك من كونك حارسة للبوابة ومن أي شيء آخر.»
بسطت يدها إلى بيل أولا. «لن أنسى أبدا ما قد فعلتموه أنتم الثلاثة من أجلنا.» ثم أمالت رأسها ناحية المنزل الذي تكسرت نوافذه، وقالت: «عندما أتذكر الليلة فليس هؤلاء الأغبياء هم من سأتذكرهم، لكن سأتذكركم أنتم الثلاثة.»
قال بيل بينما يستقلان السيارة في طريق عودتهما إلى المنزل في ليلة الربيع الهادئة: «هؤلاء الأغبياء هم سكان محليون، أظنك على علم بذلك.»
وافقه روبرت الرأي: «أجل. أدركت ذلك. فلم يكن لديهم أي سيارة، هذا سبب. وعبارة «فاجرتان دخيلتان!» لها رائحة الريف المحافظ، مثل «فاشيتان!» التي لها رائحة مدينة متقدمة.»
قال بيل بعض التعليقات عن التقدم. «كنت مخطئا عندما سمحت لنفسي بأن أقتنع بما قيل لي ليلة أمس. الرجل في الدورية كان واثقا أن «الجميع سيعودون إلى منازلهم عندما يحل الظلام »، لدرجة أني سمحت لنفسي بأن أصدق ما قاله. لكن كان يجب علي أن أتذكر تحذيرا تلقيته عن مطاردة الساحرات.»
لم يكن بيل منصتا. وقال: «من الصعب أن تشعر بالأمان في منزل بلا نوافذ.» وتابع: «تخيل منزلا نسفت الجهة الخلفية منه، ولا باب ليقفل عليه؛ يمكنك أن تعيش في سعادة تماما في غرفة أمامية ما دامت نوافذها لا تزال قائمة. لكن من دون نوافذ حتى لو كان المنزل بأكمله سليما فسيشعرك بانعدام الأمان.»
ذلك لم يكن تعقيبا من شأنه أن يبث في روبرت أي شعور بالراحة.
الفصل الثالث عشر
قالت العمة لين على الهاتف في عصر يوم الثلاثاء: «أتساءل إن كان بوسعك أن تحضر السمك، يا عزيزي.» وأضافت: «نيفيل سيأتي لتناول العشاء، وبذلك سنحتاج إلى وجبة إضافية مما سنتناوله في الفطور. لا أفهم حقا لم ينبغي لنا أن نشتري أي شيء إضافي من أجل نيفيل، لكن كريستينا تقول إن ذلك سيصده عما تسميه ب «الغارات» على الفطيرة التي ستصنعها مرة أخرى في أمسيتها غدا. إن لم تكن تمانع يا عزيزي.»
لم يكن يتطلع كثيرا ليقضي ساعة أو ساعتين برفقة نيفيل، لكنه كان يشعر بأنه في غاية السعادة من نفسه حتى صار في حالة مزاجية أفضل من المعتاد ليتحمل ذلك. كان قد نسق مع شركة في لاربورو لاستبدال نوافذ منزل فرنتشايز؛ وكان قد اكتشف بصعوبة مفتاحا يصلح مع بوابة منزل فرنتشايز - وستتوفر نسختان بحلول الغد، وكان قد اشترى البقالة بشخصه - مع باقة من أفضل الزهور التي قد تقدمها ميلفورد. كان استقباله في منزل فرنتشايز يرقى إلى درجة جعلته يتوقف تقريبا عن افتقاد الحوارات القليلة المبهجة التي كانت تجريها ماريون مع نيفيل. كانت هناك، في النهاية، أشياء أخرى أكثر من المناداة بالاسم الأول في نصف الساعة الأولى.
في وقت الغداء اتصل بكيفين ماكديرموت، واتفق مع سكرتيرته أنه عندما يصبح كيفين غير مشغول في المساء فيتصل به في منزل رقم 10 بهاي ستريت. فالأمور أصبحت تتفلت من بين يديه، وأراد أن يأخذ مشورة كيفين.
وقد رفض ثلاث دعوات للجولف، وكان مبرره لرفاقه المندهشين أنه «لا وقت لمطاردة قطعة دائرية من المطاط في ملعب الجولف».
كما ذهب لمقابلة موكل مهم كان يحاول أن يقابله منذ الجمعة الماضية وكان قد استفزه بسؤاله على الهاتف إذا «كان لا يزال يعمل لصالح بلير وهيوارد وبينيت».
وقد أنجز أعماله المتأخرة مع السيد هيزيلتاين المستاء في صمت؛ الذي، رغم انحيازه إلى جانب السيدتين شارب، ظل يشعر بكل وضوح أن قضية منزل فرنتشايز ليست قضية تصلح لمكتب محاماة مثل مكتبهم كي ينخرطوا فيها.
وقدمت إليه الشاي كالعادة الآنسة تاف في فنجان من الخزف الصيني المنقوش بنقوش زرقاء على صينية مطلية يغطيها مفرش أبيض أنيق مع بسكوتتين دايجستف على طبق.
وقد استقرت على مكتبه في تلك اللحظة، صينية الشاي، مثلما كانت منذ أسبوعين عندما رن الهاتف ورفع السماعة ليسمع صوت ماريون لأول مرة. مر أسبوعان مرور الكرام. كان قد جلس يتأملها وهي في رقعة من ضوء الشمس، غير مرتاح من حياته المستقرة، ومدركا بأن الوقت يتفلت منه. لكن اليوم، لم يلق عليه بسكويت الدايجستف بأي لوم لأنه كان قد خطا خطوة خارج النظام النمطي الذي جسده. كان على اتصال بشرطة سكوتلاند يارد؛ فهو وكيل امرأتين مغضوب عليهما من قبل الرأي العام؛ وأصبح محققا خاصا هاويا، وكان شاهدا على العنف الذي ارتكبه الرعاع. بدا عالمه بأكمله مختلفا. حتى الناس التي قابلها بدت مختلفة. فالسيدة ذات البشرة السمراء التي اعتاد رؤيتها من حين إلى آخر تتسوق في هاي ستريت، على سبيل المثال، قد صارت ماريون.
حسنا، إحدى نتائج الخروج عن الحياة النمطية كانت، بالطبع، أنه أصبح من غير الممكن لك أن ترتدي قبعتك وتسير متنزها إلى المنزل في الساعة الرابعة عصرا. أزاح صينية الشاي عن طريقه، وعاد للعمل، ثم أصبحت الساعة السادسة والنصف قبل أن ينظر إلى الساعة مرة أخرى، والسابعة قبل أن يفتح باب المنزل رقم 10.
كان باب غرفة الجلوس مفتوحا لنصفه كالمعتاد - مثل كثير من الأبواب في المنازل القديمة فكان يتأرجح قليلا إذا انفك المزلاج - وكان بوسعه أن يسمع صوت نيفيل في آخر الغرفة.
كان نيفيل يقول: «على النقيض، أعتقد أنك تتصرفين بغباء شديد.»
ميز روبرت نبرة الصوت في الحال. كانت نبرة الغضب العارم التي كان نيفيل وعمره أربع سنوات يقول بها إلى ضيف: «أنا في غاية الأسف أني طلبت منك الحضور إلى حفلتي». لا بد أن نيفيل غاضب بشدة فعلا بشأن مسألة ما.
ومعطفه مخلوع إلى نصفه توقف روبرت لينصت. «أنت تتدخلين في مسألة لا تعلمين عنها شيئا، وليس لك أن تدعي أن ذلك تصرف ذكي.»
لم يسمع صوت آخر، فلا بد أنه يتحدث إلى شخص على الهاتف، وقد ظن في البداية أنه ربما كان يحاول أن يقصي كيفين عن المشاركة، هذا الشاب الأحمق. «لست مفتونا بأحد. ولم أفتن قط بأي أحد. إنما أنت المفتونة ... بالأفكار. تتصرفين بغباء شديد، كما قلت من قبل - تتحيزين إلى صف مراهقة مختلة في قضية لا تعلمين عنها شيئا؛ كان علي أن أفكر أن ذلك دليل كاف على الهوس - يمكنك أن تخبري والدك نيابة عني أن هذا لا علاقة له بالمسيحية في شيء، هذا مجرد تدخل ليس له مبرر. لست متأكدا أن هذا ليس تحريضا على العنف - أجل، الليلة الماضية - لا، جميع نوافذهما تكسرت، وأشياء كتبت على جدرانهما ... إن كان مهتما للغاية بالعدل ربما يفعل شيئا بشأن ذلك. لكن عصبتك لا تهتم أبدا بإقامة العدل، أليس كذلك؟ بإقامة العدل فقط ... ماذا أقصد بعصبتك؟ أنت تفهمين جيدا ما أقصده. أنت ورفاقك جميعهم الذين يتبعون التفاهات وتؤيدونها أمام العالم. أنتم لن تتحركوا قيد أنملة لئلا تذهب حياة شاب كادح هباء، لكنكم ستتحركون إن كان سجين مخضرم يفتقر إلى سعر وجبة ومن أجله سيسمع صوت نحيبكم حتى القارة القطبية الجنوبية. أثرت اشمئزازي ... نعم، قلت إنك أثرت اشمئزازي ... اشمئزاز سيئ. اشمئزاز يصل حتى معدتي. سأتقيأ!»
وكان صوت ارتطام السماعة عند وضعها مؤشرا بأن الشاعر قد قال قوله.
علق روبرت معطفه في الخزانة ثم دخل. بينما يصب نيفيل بوجهه الغاضب كالرعد لنفسه ويسكي مركزا.
قال روبرت: «سأشرب كأسا أنا أيضا.» وأضاف: «لم أتمالك أن أمنع نفسي من السماع خلسة.» وتابع: «كانت هذه روزماري، أليس كذلك؟» «من غيرها؟ أهناك شخص آخر في بريطانيا قادر على التصرف بغباء يفوق الوصف مثل ذلك؟» «مثل أي شيء؟» «عجبا، ألم تسمع بعضا مما قيل؟ لقد تبنت قضية بيتي كين المظلومة.» تجرع نيفيل بعض الويسكي، وحدق في روبرت كما لو أنه المسئول. «حسنا، لا أعتقد أن استغلالها للموجة التي تشنها صحيفة «أك-إيما» سيكون له تأثير كبير بشكل أو بآخر.» ««أك-إيما»! ليست صحيفة «أك-إيما». إنما مجلة «ذا ووتشمان». المختل عقليا الذي تسميه والدها قد كتب رسالة عن القضية لإصدار يوم الجمعة. نعم، من المحتمل بشدة أن تزداد رغبتك في الغثيان. وكأننا ليس لدينا ما يكفي من مشكلات من دون تدخل هؤلاء الأشخاص بنظرتهم المنحرفة للأمور وعاطفيتهم الرخيصة.»
حين تذكر أن مجلة «ذا ووتشمان» كانت هي المجلة الوحيدة التي نشرت بعضا من قصائد نيفيل، رأى روبرت أن هذا يبرهن على الجحود قليلا. لكنه أقر بالوصف.
قال، من أجل التهدئة أكثر مما يرجوه في نفسه: «ربما لن ينشروها.» «تعرف تماما أنهم سينشرون أي شيء يقرر أن يرسله إليهم. من صاحب المال الذي أنقذهم عندما كانوا على شفا الانهيار للمرة الثالثة؟ مال الأسقف، بلا شك.» «تقصد مال زوجته.» كان الأسقف قد تزوج إحدى حفيدتي كوان صاحب متجر كرانبيري صوص. «بالفعل، مال زوجته. والأسقف قد جعل من مجلة «ذا ووتشمان» منبرا للوعظ لا يمت إلى الدين بصلة. وليس هناك أي شيء سخيف بالدرجة في نظره حتى لا يعبر عنه في الصحيفة، أو أنه ليس هناك أي شيء مستبعد إلى الحد الذي يمنعهم من نشره. هل تتذكر الفتاة التي كانت تتجول وتقتل سائقي الأجرة بدم بارد لتسطو على سبعة شلنات وأحد عشر بنسا تقريبا في المرة الواحدة؟ تلك الفتاة كانت تحديدا موضع اهتمامه المفضل. انتحب عليها بشدة. كتب رسالة طويلة في مجلة «ذا ووتشمان» عنها يدمى لها القلب، منوها عن مدى الفقر الذي كانت تقاسيه، وكيف أنها قد فازت بمنحة للدراسة في مدرسة ثانوية ولم تكن قادرة على «بدء الدراسة»؛ إذ كان أهلها يعانون من فقر مدقع أعجزهم عن أن يوفروا لها كتبا أو ملابس مناسبة؛ ولهذا لجأت إلى طرق مسدودة ثم إلى صحبة فاسدة - وهكذا، واستنتج أن ذلك السبب وراء قتل سائقي الأجرة، رغم أنه لم يذكر فعليا ذلك الأمر التافه. حسنا، جميع قراء المجلة أحبوا ذلك، بكل تأكيد؛ إذ كان ذلك موضوعهم المفضل؛ فجميع الجناة وفقا لقراء المجلة هم ملائكة خيبت آمالهم. ثم رئيس مجلس إدارة المدرسة - المدرسة التي من المفترض أنها فازت بالمنحة الدراسية فيها - كتب ليوضح أنها لم تفز بأي شيء؛ فاسمها كان في المرتبة 159 من 200 متنافس، وأنه كان من المفترض لشخص مهتم بالتعليم بالقدر الذي يهتم به الأسقف أن يعلم أن لا أحد يمنع من قبول المنحة الدراسية بسبب قلة المال، إذ إن الحالات الفقيرة توفر لها الكتب والمال تلقائيا خلال وقت قصير. حسنا، كان من الممكن أن تعتقد أن ذلك سيصدمه، أليس كذلك؟ لكن على الإطلاق. نشروا رسالة رئيس مجلس الإدارة في الصفحة الأخيرة، بحروف صغيرة؛ ثم في العدد التالي تحديدا كان الشيطان ينتحب على بعض القضايا الأخرى التي لا يعلم عنها شيئا. ويوم الجمعة، واشهد على ما أقول، سينتحب على بيتي كين.» «أتساءل ... لو أني أجريت زيارة سريعة لمقابلته غدا ...» «سينشر الخبر في الصحافة غدا.» «أجل، هذا ما سيحدث. ربما لو أني اتصلت به ...» «إذا كنت تعتقد أن أي أحد أو أي شيء سيجعل سيادته يحجب أي كتابات منتهية عن أعين الناس، إذن فأنت ساذج.»
رن جرس الهاتف.
قال نيفيل: «لو كانت روزماري، فأنا في الصين.»
لكنه كان كيفين ماكديرموت.
قال كيفين: «عظيم أيها المحقق. تهانينا. لكن المرة القادمة لا تضيع وقت ما بعد الظهر في محاولة الاتصال بمدنيين في إيلزبري، في الوقت الذي بوسعك أن تحصل فيه على المعلومات نفسها من سكوتلاند يارد في التو واللحظة.»
قال روبرت إنه لا يزال مدنيا بما يكفي كي لا يفكر في سكوتلاند يارد مطلقا، لكنه يتعلم الدرس، سريعا.
لخص أحداث الليلة الماضية من أجل كيفين، وقال: «لا أطيق أكثر من ذلك أن أتعامل على مهل مع الأمر. لا بد من فعل شيء في أسرع وقت ممكن لتبرئتهما من هذا الشيء.» «أتريد مني أن أعطيك رقم محقق خاص، أهذا هو الأمر؟» «أجل، أظن أنه حان الوقت لذلك. لكني أتساءل ...»
سأله كيفين، لما تردد: «عم تتساءل؟» «حسنا، كنت أفكر حقا في الذهاب إلى جرانت في سكوتلاند يارد، وأخبره بصراحة تامة أني قد اكتشفت كيف كان بإمكانها أن تعرف معلومات عن السيدتين شارب وعن المنزل، وأنها قد التقت برجل في لاربورو وأن لدي شاهدا على اللقاء.» «حتى يفعلوا ماذا؟» «حتى يتحروا عن تحركات الفتاة أثناء ذلك الشهر بدلا منا.» «أتعتقد أنهم سيفعلون هذا؟» «بالطبع. لم لا؟» «لأن الأمر لا يستحق بذل وقتهم في سبيله. كل ما بإمكانهم فعله عندما يكتشفون أنها لم تكن جديرة بالثقة هو إسقاط القضية في طي النسيان. فهي لم تقسم على أي شيء، وبذلك ليس بإمكانهم مقاضاتها عن قسم كاذب.» «إنما بإمكانهم رفع دعوى ضدها؛ لأنها ضللتهم.» «صحيح، لكن الأمر لا يستحق بذل أوقاتهم في سبيله. ولن يصبح من السهل كشف تحركاتها في ذلك الشهر، ربما نثق في ذلك. وفضلا عن كل تلك التحريات التي لا داعي لها سيتوجب عليهم إعداد الدعوى وتقديمها إلى المحكمة. من المستبعد بشدة أن إدارة الشرطة المشغولة بشدة، التي لديها قضايا خطيرة تنهال على أبوابها، ستذهب إلى كل ذلك الإزعاج بقدميها، بينما بإمكانها أن تغلق ملف تلك القضية بهدوء في الحال.» «لكن من المفترض أنها شرطة تقيم العدل. هذا سيدع السيدتين شارب ...» «لا. إنما هي هيئة إنفاذ القانون. العدل يبدأ في المحكمة. كما لعلك تعرف جيدا. بالإضافة إلى ذلك، يا روب، فأنت لم تأت لهم بأي دليل على أي شيء. أنت لا تعرف أنها ذهبت في وقت ما إلى ميلفورد. وحقيقة أنها توددت إلى رجل في ميلفورد، وأنها تناولت الشاي معه، فهذا لا يقدم شيئا لدحض قصتها التي تفيد باصطحاب السيدتين شارب لها. في الحقيقة الشيء الوحيد الذي عليك فعله هو الاستعانة بالسيد أليك رامسدن، 5 سبرينج جاردنز، فولهام، جنوب غرب لندن.» «من يكون؟» «المحقق الخاص الذي عليك أن تستعين به. وهو بارع للغاية، صدقني. لديه حشد من المخبرين المدربين تحت أمره؛ ومن ثم سيوفر لك بديلا ماهرا تماما حال انشغاله. أخبره أني أعطيتك اسمه ولن يبيع لك الأوهام. ليس ذلك ما سيفعله، على أي حال. فهو من خيار الناس على وجه الأرض. لقد تقاعد من الشرطة بسبب إصابة (تعرض لها أثناء الخدمة). سيقدم لك خدمة جيدة. لا بد أن أذهب. إن كان هناك أي شيء آخر بوسعي فعله اتصل بي في وقت ما. أتمنى لو يسمح لي الوقت لأذهب بنفسي وأرى منزل فرنتشايز وساحرتيك. ازداد حبي لهما. إلى اللقاء.»
وضع روبرت سماعة الهاتف، ثم أمسكها مرة أخرى، حيث اتصل بالاستعلامات، وحصل على رقم هاتف أليك رامسدن. لم يجب الهاتف فبعث إليه برقية يخبره بأنه روبرت بلير وبأنه يحتاج إلى إنجاز مهمة على وجه السرعة وأن كيفين ماكديرموت قال إن رامسدن هو الرجل المناسب لهذه المهمة.
قالت العمة لين وهي قادمة في انفعال وغضب: «روبرت، هل تعلم أنك تركت السمك على مائدة الردهة فصارت مبللة تماما حتى الخشب الماهوجني وكريستينا كانت تنتظره.» «هل أساس التهمة هو الخشب الماهوجني أم أن كريستينا ظلت منتظرة؟» «حقا يا روبرت، لا أعرف ما الذي أصابك. منذ أن أصبحت منخرطا في قضية فرنتشايز هذه وقد تغيرت تماما. منذ أسبوعين لم يكن من الممكن أبدا أن يخطر ببالك أن تضع لفة سمك على خشب ماهوجني مصقول وتغفل عن الأمر برمته. ولو كنت فعلتها لشعرت بالأسف على ذلك واعتذرت.» «أعتذر حقا يا عمة لين؛ أنا نادم صدقا. ليس من المعتاد أن أكون مثقلا بمسئولية بهذا القدر من الخطورة مثل تلك المسئولية الحالية ولا بد أن تسامحيني لو كنت مرهقا قليلا.» «لا أظنك مرهقا على الإطلاق. بل العكس، لم أرك قط راضيا إلى هذا الحد عن نفسك. أعتقد أنك مستمتع إلى أبعد حد بهذه القضية الحقيرة. فقط في صباح اليوم كانت الآنسة ترولاف في مقهى آن بولين تواسيني على انخراطك فيها.» «أكانت هكذا حقا؟ حسنا، فأنا متعاطف مع أخت الآنسة ترولاف.» «متعاطف على أي شيء؟» «على أن لها أختا مثل الآنسة ترولاف. أنت بلا شك أمضيت معها وقتا مملا، أليس كذلك يا عمة لين؟» «كفاك سخرية يا عزيزي. ليس من دواعي السرور لأي أحد في هذه القرية أن يرى سمعة سيئة قد لحقت بها. لقد كانت دائما مكانا صغيرا هادئا ومحترما.»
قال روبرت متأملا: «لا أحب ميلفورد بقدر ما كنت أحبها منذ أسبوعين؛ لهذا سأوفر دموعي.» «وصل ما لا يقل عن أربع حافلات رحلات منفصلة من لاربورو في أوقات متفرقة من اليوم، ولم يأت ركابها لشيء إلا لمعاينة منزل فرنتشايز على الطريق.»
سأل روبرت، وهو يعلم أن مرور تلك الحافلات في ميلفورد لم يكن مرحبا به: «ومن استضافهم؟» «لا أحد. كل ما في الأمر أنهم كانوا غاضبين.» «ذلك سيعلمهم ألا يقحموا أنوفهم فيما لا يعنيهم. لاربورو لا تهتم بشيء بقدر اهتمامها ببطنها.» «تصر زوجة القس أن نكون مسيحيين صالحين في هذا الشأن، لكني أعتقد أن هذه وجهة نظر خاطئة.» «مسيحيون؟» «أجل؛ «الاحتفاظ بآرائنا لأنفسنا» كما تعرف. ليس ذلك إلا ضعفا، ولا علاقة له بالمسيحية. بالطبع لا أتناقش في هذه القضية يا عزيزي روبرت، حتى معها. أنا في غاية التكتم. لكنها بالطبع تدرك ما أشعر به، وأنا أدرك ما تشعر به؛ لذلك لا داعي للمناقشة.»
ما سمع بوضوح أنه نخرة كان من نيفيل حيث كان مستلقيا في مقعد مريح. «هل قلت شيئا يا عزيزي نيفيل؟»
أرهب نيفيل بشكل واضح نبرة المدرسين في الحديث. فقال في وداعة: «لا يا عمة لين.»
لكنه لم يفلت بهذه السهولة؛ فكانت النخرة واضحة وضوح الشمس. «لست ممتعضة أنك تشرب يا عزيزي، لكن هل هذا هو كأس الويسكي «الثالث» لك؟ سيقدم نبيذ التريمنر على العشاء، ولن تستطعمه أبدا بعد هذا النوع القوي. عليك ألا تنزلق إلى عادات سيئة إذا كنت ستتزوج ابنة الأسقف.» «لن أتزوج روزماري.»
حدقت الآنسة بينيت، مصدومة وقالت: «لن!» «أفضل أن أتزوج بفتاة تحصل على إعانة عامة.» «لكن، يا نيفيل!» «أفضل الزواج من جهاز راديو.» تذكر روبرت تعليق كيفين على روزماري بأنها لن تلد إلا أسطوانة جراموفون. «أفضل الزواج من تمساح.» لأن روزماري كانت آية في الجمال فافترض روبرت أن «التمساح» له علاقة بالدموع. «أفضل الزواج من منصة خطابة شعبية.» فكر روبرت في ماربل آرتش. «أفضل الزواج من صحيفة «أك-إيما».» بدا أن ذلك آخر التفضيلات. «لكن نيفيل، يا عزيزي، لماذا؟» «لأنها حمقاء للغاية. تقريبا بقدر حماقة «ذا ووتشمان».»
أمسك روبرت نفسه في بطولة منه عن ذكر أنه طيلة الستة الأشهر الأخيرة كانت مجلة «ذا ووتشمان» مرجعا لنيفيل. «أوه، تعال يا عزيزي، لقد وقع بينكما شجار بسيط؛ هذا يحدث مع جميع المخطوبين. من المستحسن أن تجعلا مسألة الأخذ والعطاء أساسا ثابتا قبل الزواج، أولئك المتحابون الذين لا يتشاجرون أبدا خلال مرحلة خطبتهم يعيشون حياة صاخبة على نحو مفاجئ بعد الزواج؛ لهذا لا تأخذ خلافا صغيرا على محمل الجد هكذا. يمكنك الاتصال بها قبل عودتك إلى المنزل الليلة ...»
قال نيفيل بفتور: «لكنه خلاف جوهري إلى حد كبير.» ثم أضاف قائلا: «وغير مطروح أي احتمال أن أتصل بها.» «لكن نيفيل، يا عزيزي، ما ...»
ثلاث نغمات حادة عالية آتية من جرس التنبيه ظهرت فجأة وسط اعتراضها فأوقفتها عن الكلام. إن مأساة فسخ الخطبة أفسحت المجال في الحال لمزيد من المشكلات العاجلة. «ذلك جرس التنبيه. أعتقد أنه من الأفضل أن تأخذ مشروبك معك يا عزيزي. تحب كريستينا أن تقدم الحساء بمجرد أن تضيف البيضة، ومزاجها الليلة ليس على ما يرام لأن السمك تأخر عليها كثيرا. مع أني عاجزة عن التفكير لم كان من المفترض أن يحدث ذلك أي فرق معها. إنه ليس إلا سمكا مشويا، وهذا لا يستغرق أي وقت. وهي لم يتوجب عليها مسح السائل الذي تسرب من السمك إلى الخشب الماهوجني؛ لأني مسحته بنفسي.»
الفصل الرابع عشر
إن ما زاد من غضب العمة لين أن روبرت كان عليه تناول الفطور صباح اليوم التالي في تمام الساعة السابعة وخمس وأربعين دقيقة حتى يستطيع الذهاب باكرا إلى المكتب. كانت علامة أخرى على الانحلال الذي تتحمل مسئوليته قضية فرنتشايز. أن يفطر باكرا لعله يلحق بالقطار، أو يسافر لمقابلة على مسافة بعيدة، أو يحضر جنازة موكل، فهذا سبب معقول. لكن أن يفطر باكرا فقط حتى يمكنه الوصول إلى العمل في ساعة وصول ساعي المكتب كان ذلك تصرفا غريبا بشدة، ولا يليق بشخص من عائلة بلير.
ابتسم روبرت، وهو يسير في هاي ستريت المشمس الذي لا يزال مغلقا وهادئا. لقد أحب دائما الساعات الباكرة من الصباح، فكانت هذه الساعة التي تتجلى فيها ميلفورد بأبهى صورها؛ بألوانها الوردية والبنية والكريمية التي تبدو رقيقة في ضوء شمس مثلما تبدو في رسمة ملونة. كان فصل الربيع يتداخل في فصل الصيف، ودفء الأرصفة ينضح في الهواء البارد، وأشجار الليمون الأخضر المقلمة صارت كثيفة. فتذكر ممتنا أن ذلك ربما يعني أن الليالي ستصير أقصر على السيدتين الوحيدتين في منزل فرنتشايز. لكن ربما - إن كان الحظ حليفا لهما - بحلول فصل الصيف فعليا، يتحقق إثبات براءتهما، ولا يعود منزلهما حصنا تحاصره المتاعب.
كان مستندا إلى باب المكتب الذي ظل إلى ذلك الحين مغلقا رجل نحيف طويل شائب، يبدو أن جسده كله عبارة عن عظام وليس له أي بطن على الإطلاق.
قال روبرت: «صباح الخير.» ثم سأل: «هل أردت مقابلتي؟»
قال الرجل الشائب: «لا. أردت أنت مقابلتي.» «أنا؟» «على الأقل برقيتك قالت ذلك. أعتقد أنك السيد بلير، أليس كذلك؟»
قال روبرت: «لكن لا يمكن أنك وصلت إلى هنا بهذه السرعة!»
قال الرجل باقتضاب: «المسافة ليست بعيدة.»
قال روبرت محاولا أن يرقى إلى مستوى الاقتصاد في التعليقات الذي ينتهجه السيد رامسدن: «تعال.»
سأله في المكتب بينما كان يفتح غرفته: «هل أفطرت؟» «أجل، تناولت شرائح لحم خنزير وبيضا في مطعم ذا وايت هارت.» «أشعر براحة مذهلة أنك تمكنت من المجيء بنفسك.» «لقد انتهيت لتوي من إحدى القضايا. والسيد كيفين ماكديرموت قد أسدى لي الكثير.»
أجل؛ كيفين، رغم كل خبثه الظاهري وحياته المزدحمة، وجد الرغبة والوقت لمساعدة هؤلاء المستحقين للمساعدة. وذلك ما يميزه تمييزا ملحوظا عن أسقف لاربورو، الذي آثر غير المستحقين للمساعدة.
قال، مناولا رامسدن نسخة من الإفادة التي أدلت بها بيتي كين إلى الشرطة: «ربما أفضل طريقة لك أن تقرأ هذه الأقوال، ثم بإمكاننا استكمال القصة من عند تلك النقطة.»
أخذ رامسدن الأوراق، وجلس على مقعد الزائرين - مثنيا، ربما يكون التوصيف الدقيق لحركته - وعزل نفسه عن حضور روبرت مثلما كان كيفين قد فعل في منزله. وروبرت، بينما يتابع عمله الشخصي، كان يحسدهما على قدرتهما على التركيز.
قال بعد مدة: «حسنا، يا سيد بلير، ماذا بعد؟»؛ فسرد له روبرت ما تبقى من القصة: تعرف الفتاة على المنزل والمقيمتين فيه، ودخول روبرت في القضية، وقرار الشرطة بأنها لن تستكمل الإجراءات بناء على الأدلة المتوفرة، واستياء ليزلي وين وما ترتب عليه من نشر القصة في صحيفة «أك-إيما»، ومقابلته الشخصية مع أقارب الفتاة وما كشفوا عنه، واكتشاف ذهابها في جولة بالحافلة وأن حافلة ذات طابقين كانت تسير على مسار حافلات ميلفورد أثناء تلك الأسابيع ذات الصلة، واكتشافه لوجود الشخص «س». «مهمتك هي اكتشاف تفاصيل أكثر عن الشخص «س»، يا سيد رامسدن. إن نادل ردهة فندق ميدلاند، ألبرت، يعرف هيئته، وإليك قائمة بالمقيمين خلال تلك المدة محل النظر. سنصبح محظوظين إذا كان ممن أقاموا في هذا الفندق، لكن من يدري. بعد ذلك ستتولى وحدك التحريات من دون مساعدة. أخبر ألبرت أني أرسلتك إليه، على أي حال. لقد عرفته منذ وقت طويل.» «حسنا. سأتوجه إلى لاربورو الآن. وسأحصل على صورة للفتاة غدا، لكن لعلك تعطيني نسختك من صحيفة «أك-إيما» لليوم.» «بالتأكيد. كيف ستحصل على صورة دقيقة لها؟» «أوه، لدي طرقي الخاصة.»
استنتج روبرت أن سكوتلاند يارد كانت قد حصلت على صورة عندما أبلغ عن تغيب الفتاة، وأن زملاءه القدامى في مقر الإدارة لن يترددوا كثيرا حتى يعطوه نسخة، فاستند في الأمر إلى ذلك.
قال أثناء انصراف رامسدن: «ثمة احتمال قائم أن يتذكرها محصل إحدى تلك الحافلات ذات الطابقين.» ثم أضاف قائلا: «إنها الحافلات التابعة لشركة لاربورو آند ديستريكت موتور سيرفيسز. المرأب في فيكتوريا ستريت.»
في تمام الساعة التاسعة والنصف وصل الموظفون - كان من بين أوائل الحاضرين نيفيل؛ وهو تغيير في نظامه المعتاد اندهش له روبرت؛ إذ إن نيفيل عادة كان آخر من يصل وآخر من يستقر في مكتبه. كان من الممكن أن يتجول في الداخل، ويخلع ما يتدثر به في غرفته الخاصة الصغيرة في الخلف، ويتجول في «المكتب» ليلقي تحية الصباح على الموجودين به، ويتجول في «غرفة الانتظار» في الخلف ليحيي الآنسة تاف، وفي النهاية يتجول في غرفة روبرت ويقف هناك ليفتح اللفة المربوطة لإحدى المنشورات الدورية الخاصة التي جاءته بالبريد، ثم يعلق على الحالة البائسة دائما للأحداث في إنجلترا. كان روبرت قد ازداد اعتياده على تصفح بريده سريعا حتى لا يتعارض مع عادة نيفيل التي لا بد منها. لكن نيفيل اليوم حضر في الموعد المقرر، ثم دخل إلى غرفته الخاصة، وأغلق الباب بإحكام وراءه، ثم، إن كان فتح الأدراج وغلقها هو الدليل، استقر على مكتبه لبدء العمل في الحال.
جاءت الآنسة تاف بدفترها وبياقة بيتر بان البيضاء المذهلة، ومن ثم بدأ اليوم العادي لروبرت. كانت الآنسة تاف قد اعتادت ارتداء ياقة بيتر بان على فستان داكن طيلة العشرين سنة، من الممكن أنها كانت ستبدو عارية، غير محتشمة في الأغلب، من دونها في تلك اللحظة. ترتدي ياقة نظيفة في كل صباح؛ بعد أن تكون قد غسلتها في ليلة اليوم السابق وجهزتها حتى ترتديها في الغد. المظهر الوحيد لكسر النظام المعتاد كان في أيام الأحد. كان روبرت قد قابل الآنسة تاف ذات مرة في يوم من أيام الأحد وعجز تماما أن يتعرف عليها؛ لأنها كانت ترتدي رباطا مكشكشا حول الرقبة.
عمل روبرت حتى الساعة العاشرة والنصف، ثم تبين له أنه قد تناول فطوره في ساعة باكرة غير معهودة، وفي تلك اللحظة صار في حاجة إلى أكثر من مجرد فنجان شاي. كان سيذهب ويتناول فنجان قهوة وشطيرة في فندق روز آند كراون. بإمكانك الاستمتاع بأفضل قهوة في ميلفورد في مقهى آن بولين، لكنه مزدحم دائما بالنساء المتسوقات («كم أسعدني لقاؤك يا عزيزتي! افتقدناك حقا في حفلة رونيز! وهل سمعت عن ...»)، كانت تلك هي الأجواء التي لم يكن مستعدا لمواجهتها مقابل كل ما في البرازيل من قهوة. كان سيذهب إلى فندق روز آند كراون، وبعد ذلك سيتسوق قليلا بالنيابة عن سيدتي فرنتشايز، ثم بعد الغداء سيذهب ويعرض عليهما بلطف الأنباء السيئة بشأن مجلة «ذا ووتشمان». لم يكن بوسعه أن يفعل ذلك عبر الهاتف؛ إذ لم يكن لديهما هاتف في تلك اللحظة. كانت شركة لاربورو قد وصلت بالسلالم والمعجون وألواح من الزجاج المقسى وكانت قد استبدلت النوافذ من دون صخب أو فوضى. لكنهم، بالطبع، كانوا شركة خاصة. أما مكتب البريد العام، لكونه إدارة حكومية، فقد أحال مشكلة الهاتف لعرضها على المحكمة وستتحرك في الوقت الذي يحلو لها بسرعة الأفيال. لهذا خطط روبرت قضاء جزء من وقت ما بعد الظهر لإخبار السيدتين شارب بالأنباء التي تعذر عليه أن يخبرهما بها على الهاتف.
كان الوقت لا يزال مبكرا على وجبات منتصف الصباح الخفيفة، وكانت المقاعد المكسوة بقماش قطني مطبوع والموائد المصنوعة من خشب البلوط العتيق لردهة فندق روز آند كراون مهجورة من الناس عدا بن كارلي، الذي كان جالسا بجانب مائدة قابلة للطي عند النافذة يقرأ صحيفة «أك-إيما». لم يكن كارلي الشخص المفضل لروبرت - أكثر مما كان هو بالنسبة إلى كارلي، حسب ظنه - لكن كانت تجمعهما رابطتهما المهنية (إحدى أقوى الروابط في الطبيعة الإنسانية)، وفي مكان صغير مثل ميلفورد فقد صارا صديقين مقربين إلى أبعد ما يكون. لهذا جلس روبرت كأمر متوقع إلى مائدة كارلي، متذكرا بينما يفعل ذلك أنه لا يزال مدينا إلى كارلي بتنبيهه الذي لم يلتفت إليه عن الشعور العام في الريف.
أنزل كارلي صحيفة «أك-إيما» ونظر إليه بعينين داكنتين تشتعلان حيوية كانتا غريبتين كثيرا وسط هذا الهدوء السائد في منطقة ميدلاند الإنجليزية. وقال: «يبدو أن الأمر يخبو ضجيجه.» وتابع: «لم ينشروا إلا رسالة واحدة اليوم؛ لمجرد أن يحافظوا على اهتمام الناس.» «بالنسبة إلى صحيفة «أك-إيما»، فهذا صحيح. لكن مجلة «ذا ووتشمان» ستشن حملة خاصة بها يوم الجمعة.» ««ذا ووتشمان»! وما لها بالتدني إلى قاع «أك-إيما»؟»
قال روبرت: «إنها ربما ليست المرة الأولى.»
قال كارلي، ممعنا في الأمر: «أجل، أظن ذلك.» وأضاف: «عندما تفكر في الأمر، فهما وجهان لعملة واحدة. حسنا. لا ينبغي أن يقلقك ذلك. إن إجمالي مبيعات «ذا ووتشمان» تصل إلى عشرين ألفا تقريبا. إن كان الأمر كذلك.» «ربما. لكن عمليا كل واحد من أولئك العشرين ألفا لديهم ابن عم من الدرجة الثانية في الخدمة المدنية الدائمة في هذا البلد.» «فماذا إذن؟ هل عرف أحد من قبل أن الخدمة المدنية الدائمة تدخلت في أي حدث مهما كان خارج إطار نظامها النمطي المعتاد؟» «لا، لكنهم سيزيحون المسئولية عنهم. وعاجلا أم آجلا ستسقط المسئولية في ... في ...»
اقترح كارلي، وهو يدمج الاستعارة بتأن: «في بقعة خصبة.» «أجل. عاجلا أم آجلا سيظن بعض الفضوليين أو العاطفيين أو الأنانيين، ممن ليس لديهم شيء ليشغلهم، أن شيئا ما لا بد من فعله حيال هذا الأمر ثم يبدءون في تحريك الحبال. وتحريك الحبال في الخدمة المدنية يعطي النتيجة نفسها كما في عرض لصندوق الدنيا. فتشد سلسلة كاملة من الصور لعرضها، عشوائيا. جيرالد يلبي طلب توني، وريجي يلبي طلب جيرالد، وهكذا، إلى نهايات غير معلومة.»
التزم كارلي الصمت لحظة. ثم قال: «أمر مثير للشفقة.» وتابع: «تحديدا عندما أخفقت «أك-إيما» في طريقها. يومان آخران وسوف يكونون قد أسقطوا الأمر نهائيا. وفي الواقع هناك يومان إضافيان على برنامجهم المعتاد، كما هو عليه الحال. لم أعهدهم أبدا يواصلون طرح موضوع لأطول من ثلاثة إصدارات. لا بد أن الاستجابة كانت هائلة حتى تبرر هذا الحجم من المساحة.»
قال روبرت، في حزن: «أجل.» «بالتأكيد، القضية كانت هدية لهم. إن السبق الصحفي عن الفتيات المختطفات خبر نادر للغاية. نظرا إلى التغيير في العرض فكان الأمر لا يقدر بثمن. عندما لا يصبح لديك سوى ثلاثة أو أربعة أطباق، مثل «أك-إيما»، من الصعب أن ترضي أذواق الزبائن كما ينبغي. ونبأ مثير مثل قضية فرنتشايز لا بد أنه ضاعف مبيعاتهم بالآلاف في ضاحية لاربورو وحدها.» «مبيعاتهم سوف تتراجع. إن الأمر ليس إلا موجة مد فحسب. لكن ما علي التعامل معه هو ما خلف على الشاطئ.»
علق كارلي: «شاطئ تنبعث منه رائحة كريهة على وجه التحديد، في رأيي.» ثم تابع قائلا: «هل تعرف السيدة الشقراء البدينة ذات مسحوق التجميل البنفسجي الزاهي والصدرية التي تدير متجر الملابس الرياضية بجانب مقهى آن بولين؟ إنها واحدة من تلك المخلفات على شاطئك.» «كيف ذلك؟» «لقد عاشت في نفس البنسيون في لندن الذي عاشت فيه السيدتان شارب، على ما يبدو، وعندها قصة لطيفة بخصوص كيف ضربت ماريون شارب كلبا ذات مرة وهي غاضبة حتى صار بين الحياة والموت. أحب زبائنها تلك القصة. وكذلك زبائن آن بولين. فهي تذهب إلى هناك لتشرب قهوتها الصباحية.» نظر باستهزاء إلى الاحمرار الذي بدا على وجه روبرت من الغضب. وأضاف: «لا أحتاج إلى أن أخبرك أن لديها كلبا خاصا بها. لم يعاقب قط في حياته المدللة، لكنه كان يخطو خطوات سريعة إلى حافة الموت من تحلل الدهون بسبب إطعامه عشوائيا من الفتات وقتما تشعر السيدة البدينة الشقراء بشفقة شديدة.»
مرت لحظات، كما ظن روبرت، كان فيها على وشك أن يحتضن بن كارلي، والبدلة المقلمة وكل شيء.
قال كارلي، بفلسفة الإذعان لشعب اعتاد مدة طويلة على الانحناء والسماح للعاصفة بأن تتجاوزهم: «حسنا، سينسى الأمر.»
نظر روبرت في دهشة. أربعون جيلا من الأسلاف المحتجين اندهشوا متجسدين في شخصه. قال: «لا أعتقد أن نسيان الأمر هو ميزة بأي حال من الأحوال. هذا لن يجدي نفعا مع موكلتي على الإطلاق .» «ماذا بيدك أن تفعل؟» «المقاومة، بكل تأكيد.» «مقاومة ماذا؟ لن تحصل على حكم بالتشهير، إن كان ذلك ما تفكر فيه.» «لا، لم أكن قد فكرت في التشهير. لكني أنوي اكتشاف ما كانت تفعله الفتاة خلال تلك الأسابيع.»
نظر كارلي مستمتعا. ثم قال، معلقا على هذا التعبير البسيط عن مهمة صعبة: «هكذا فقط.» «لن يكون الأمر سهلا وربما سيكلفهما كل ما لديهما، لكن ليس هناك بديل.» «بإمكانهما أن يرحلا من هنا. بإمكانهما بيع المنزل والاستقرار في مكان آخر. وخلال سنة من الآن لن يتذكر أحد خارج ميلفورد أي شيء عن هذه القضية.» «لن تفعلا ذلك أبدا، وليس من المفترض أن أنصحهما بذلك، حتى لو كانتا ستفعلانه. لا يمكن أن يكون لديك علبة صفيح معقودة في ذيلك وتمضي حياتك مدعيا أنها غير موجودة. إضافة إلى أنه من المحال تماما أن يسمح للفتاة بأن تفلت بقصتها الخيالية. إنها مسألة مبدأ.» «ستدفع الثمن غاليا على مبادئك اللعينة. لكني أتمنى لك حظا موفقا، على أي حال. هل تفكر في الاستعانة بمحقق خاص؟ لأنك إذا كنت تفكر فأنا أعرف محققا بارعا ...»
قال روبرت إنه قد اتفق مع محقق وإنه قد بدأ العمل بالفعل.
أوحى وجه كارلي المعبر بمباركته المبتهجة على هذه الخطوة السريعة من جانب مكتب بلير وهيوارد وبينيت المحافظ.
قال: «كان من الأفضل أن تحتفظ سكوتلاند يارد بمكانتها.» ثم شردت عيناه إلى الشارع من خلف ألواح الزجاج المزخرف بالنافذة، واختفت البهجة فيهما حتى صارت نظرة ثابتة. حدق لحظة أو لحظتين ثم قال بلطف: «عجبا! ما هذه الجرأة؟!»
كانت عبارة تنم عن الإعجاب، وليس عن الغضب، فالتفت روبرت حتى يرى ما الذي استدعى إعجابه.
فوجد على الجهة المقابلة من الشارع السيارة القديمة المتهالكة لأسرة شارب، وعجلتها الأمامية المختلفة هي خير دليل. وفي الخلف، متوجة في مكانها المعتاد بهيئتها المعتادة التي تعكس اعتراضا طفيفا على وسيلة النقل هذه، كانت تجلس السيدة شارب. كانت السيارة متوقفة خارج متجر البقالة، وماريون على ما يبدو تتسوق في الداخل. ربما دخلت هناك منذ دقائق معدودة وإلا كان سيلاحظها بن كارلي قبل ذلك، لكن اثنين من عمال التوصيل كانا بالفعل قد توقفا ليحدقا، متكئين على دراجتيهما برغبة شهوانية في مشاهدة مستباحة. وبعد مدة وجيزة لاحظ روبرت أن الناس جاءت إلى أبواب المتاجر المجاورة عندما جرت الأخبار على الألسن.
قال روبرت بغضب: «يا لها من حماقة لا يصدقها عقل!»
قال كارلي وقد تركزت عيناه على المشهد: «إنها ليست حماقة.» وأضاف: «أتمنى لو أنهما موكلتان لدي.»
فتش في جيبه عن نقود لدفع حساب قهوته، ثم ولى مسرعا من المكان. ووصل إلى الجانب القريب من السيارة، في الوقت نفسه الذي خرجت فيه ماريون إلى الرصيف على الجهة الأخرى. فقال بصرامة: «سيدة شارب، ما يفعل هو حماقة غير عادية. أنتما تزيدان الأمر تعقيدا ...»
قالت، بنبرة رسمية مهذبة: «أوه، صباح الخير يا سيد بلير.» وتابعت: «هل انتهيت من تناول قهوتك الصباحية، أم أنك تود مرافقتنا إلى آن بولين؟»
قال مناشدا ماريون، التي كانت تضع حقائبها على المقعد: «آنسة شارب!» وتابع: «لا بد أن تعرفي أن ما تفعلانه هو حماقة.»
قالت: «صراحة لا أعلم إن كان الأمر هكذا أم لا، لكن يبدو أنها خطوة لا بد أن نفعلها. ربما كنا حمقاوتين ونحن نعيش منعزلتين على أنفسنا، لكننا وجدنا أن لا أحد منا بإمكانه نسيان تلك الإهانة التي كانت في آن بولين. تلك الإدانة التي من دون محاكمة.» «نحن نعاني من ضيق نفسي شديد يا سيد بلير. ودواؤنا الوحيد هو شعرة من الكلب الذي عضنا. أقصد فنجان القهوة الرائع الذي تعده الآنسة ترولاف.» «لكن هذا غير ضروري تماما! لهذا ...»
قالت السيدة شارب بلهجة لاذعة: «شعرنا بأنه عند الساعة العاشرة والنصف صباحا لا بد أن يتوفر عدد كبير من الموائد الشاغرة في آن بولين.»
قالت ماريون: «لا داعي للقلق يا سيد بلير.» وتابعت: «إنها ليست إلا لفتة. بمجرد أن نكون قد شربنا فنجان قهوتنا الرمزي في آن بولين، فلن نطأ عتبتها أبدا مرة أخرى.» حاكت العبارة بأسلوب مميز. «لكن هذا فقط سيقدم للناس في ميلفورد على نحو مجاني ما يمكن أن نسميه ...»
سبقته السيدة شارب قبل أن يتمكن من نطق الكلمة. فقالت بنبرة جافة: «لا بد أن تعتاد ميلفورد علينا بوصفنا فرجة؛ إذ إننا قد توصلنا إلى أن الحياة بين أربعة جدران هو أمر لا يمكننا التفكير فيه.» «لكن ...» «سيزيد اعتيادهم قريبا على رؤيتنا ثم يعتبروننا أمرا مسلما به مرة أخرى. إذا رأيت زرافة مرة واحدة في السنة فستظل فرجة؛ أما إذا رأيتها يوميا فستصبح جزءا من المشهد. ونحن ننوي أن نكون جزءا من المشهد في ميلفورد.» «حسنا، أنتما تخططان لأن تصبحا جزءا من المشهد. لكن افعلا شيئا واحدا من أجلي الآن.» كانت ستائر نوافذ الطابق الأول تزاح جانبا والوجوه تظهر. فأضاف: «تنازلا عن خطة آن بولين - تنازلا عنها اليوم على الأقل - وتناولا قهوتكما معي في فندق روز آند كراون.» «سيد بلير، إن تناول القهوة معك في فندق روز آند كراون هو أمر باعث على البهجة، لكنه لن يفعل شيئا ليريح الضيق النفسي الذي أشعر به، والذي، كما يقال، «يقتلني».» «آنسة شارب، أترجاك. لقد قلت إنك تشعرين أن تصرفاتك ربما صارت حمقاء، و... حسنا، كالتزام شخصي بصفتي وكيلا لك، أناشدك ألا تستمري في تنفيذ خطة آن بولين.»
علقت السيدة شارب: «هذا ابتزاز.»
قالت ماريون، مبتسمة إليه ابتسامة خافتة: «هذا مفحم، على أي حال.» فتنهدت قائلة: «يبدو أننا سنتناول القهوة في فندق روز آند كراون.» ثم أضافت: «في الوقت الذي كنت متحمسة فيه للغاية لهذه اللفتة!»
جاء صوت من الأعلى: «يا للجرأة!» كانت عبارة كارلي تتردد مرة أخرى لكنها لم تحمل أي إعجاب مثل كارلي، كانت مثقلة بالغضب.
قال روبرت: «لا يمكنك ترك السيارة هنا. بعيدا عن قوانين المرور فإن له دلالة سلبية.»
قالت ماريون: «أوه، لم نقصد ذلك.» ثم تابعت قائلة: «كنا سنأخذها إلى المرأب حتى يتسنى لستانلي أن يصلح شيئا بداخلها بأداة ما لديه هناك. إنه يستهين بسيارتنا استهانة مبالغا فيها، أقصد ستانلي.» «أعتقد ذلك. حسنا، سآتي معكما؛ من الأفضل أن تسرعي قبل أن يلقى القبض علينا لإثارة انتباه الحشود.»
قالت ماريون، وهي تدير مفتاح التشغيل: «مسكين يا سيد بلير.» ثم أردفت قائلة: «لا بد أنه لأمر بشع ألا تعود جزءا من المشهد أكثر من ذلك، بعد كل تلك السنوات من الاندماج الباعث على الراحة.»
قالت ما قالته من دون نية خبيثة - لمس في صوتها بالفعل تعاطف حقيقي - لكن الجملة التصقت في عقله وخلقت حيزا صغيرا من الألم بينما كانوا يتجهون إلى مرأب سين لين، ويتفادون خمس أحصنة ومهرا، كانت تخرج متعاقبة على نحو مزعج من إسطبل الخيول، ثم يتوقفون في عتمة المرأب.
خرج بيل لمقابلتهم، وهو يمسح يديه بخرقة مزيتة. وقال: «صباح الخير، يا سيدة شارب. تسرني رؤيتك في الخارج. صباح الخير، يا آنسة شارب. معالجتك لجبهة ستانلي كانت عملا متقنا. اندملت الحدود بالقدر نفسه من الإتقان كما لو كانت قد خيطت. من المفترض أن تصبحي ممرضة.» «لست أنا. لا أطيق صبرا على جزع الناس. لكن ربما أود أن أصبح جراحة. فهم ليسوا واعين كي يجزعوا عند وضعهم على منضدة العمليات.»
ظهر ستانلي من الخلف، متجاهلا السيدتين اللتين أصبحتا الآن بمنزلة الأصدقاء المقربين، ثم تسلم السيارة. سأل: «متى تريدين استلام هذه السيارة الخربة؟»
سألت ماريون: «أساعة تكفي؟» «ولا حتى عام يكفي، لكني سأنجز كل ما يمكن إنجازه في ساعة.» ثم انتقلت عيناه إلى روبرت. وسأله: «هل لديك أي معلومة من أجل سباق جينيس؟» «لدي معلومة جيدة لصالح الحصان بالي بوجي.»
قالت السيدة شارب: «كلام فارغ. لم يجد نفعا أي من تلك السلالة عندما وصل الأمر إلى سباق عنيف. دعك منه فحسب.»
وقف الرجال الثلاثة يحدقون فيها، في ذهول.
قال روبرت، غير مصدق: «هل أنت مهتمة بسباقات الخيول؟» «لا، بالخيول بصفة عامة. ربى أخي أحصنة أصيلة.» ما إن رأت وجوههم حتى قهقهت بضحكة جافة، مثل نقيق دجاجة. وقالت: «هل تظن أني آخذ قسطا من الراحة كل عصر مع إنجيلي يا سيد بلير؟ أو ربما مع كتاب عن السحر الأسود . لا، بالتأكيد؛ أطالع صفحة السباق في الصحيفة اليومية. ويجب أن أنصح ستانلي بتوفير ماله وعدم المراهنة على بالي بوجي؛ كما أن اسم هذا الحصان مقزز.»
سأل ستانلي، باقتضابه المعتاد: «وما البديل؟» «يقولون إن إحساس الخيول هو الغريزة التي تمنع الخيول من المراهنة على البشر. لكن إن كان لا بد أن تفعل شيئا سخيفا مثل المراهنة، فمن الأفضل لك أن تستثمر مالك في كومينسكي.»
قال ستانلي: «كومينسكي! لكن المراهنة عليه بستين ضعف مبلغ المراهنة!»
قالت بنبرة جافة: «يمكنك بكل تأكيد أن تخسر مالك بدفع مقابل أقل إن شئت.» وأضافت: «هل لنا أن نذهب، يا سيد بلير؟»
قال ستانلي: «حسنا، فليكن كومينسكي؛ وسيكون لك عشر نصيبي.»
ساروا عائدين إلى فندق روز آند كراون؛ عند خروجهم من أجواء الخصوصية النسبية التي يتمتع بها سين لين إلى الشارع المفتوح كان روبرت قد انتابه إحساس واضح اعتاد الشعور به وهو أنه خرج في غارة جوية مقبضة. بدا أن كل الانتباه والغل في الليلة المضطربة انصب على شخصه المفزوع. لهذا في تلك اللحظة في ضوء الشمس الساطع لأوائل فصل الصيف، عبر الشارع وهو يشعر بأنه يسير عاريا ومعرضا للخطر. كان خجلا أن يرى كيف أن ماريون مسترخية وغير مبالية وهي تسير إلى جانبه، وأمل ألا يكون إحساسه بخجله واضحا. تكلم بأسلوب طبيعي بقدر المستطاع، لكنه تذكر كيف كان عقلها يقرأ بسهولة ما يدور في ذهنه، وشعر أنه لا يبلي بلاء حسنا في ذلك.
كان النادل الوحيد يلتقط الشلن الذي تركه بن كارلي على المائدة، لكن بخلافه كانت الردهة شاغرة. وبينما يجلسون حول وعاء زهر المنثور الموضوع على المنضدة التي من البلوط الأسود قالت ماريون: «هل علمت أن نوافذنا ركبت مرة أخرى؟» «أجل؛ زارني رجل الشرطة نيوسام في طريق عودته إلى المنزل الليلة الماضية ليخبرني. كان ذلك عملا متقنا.»
سألت السيدة شارب: «هل دفعت لهم رشوة؟» «لا. ليس سوى أن ذكرت أن هذا من فعل المخربين. لو كانت نوافذك المحطمة هي نتيجة انفجار لكان عليك بلا شك التعايش مع الأمر. يصنف الانفجار على أنه سوء حظ؛ ولهذا فهو أمر يمكن احتماله. لكن التخريب هو أحد الأمور التي «لا بد حتما أن يفعل شيء حيالها». ومن هنا جاءت نوافذك الجديدة. أتمنى لو أن كل شيء على قدر سهولة استبدال النوافذ.»
لم يكن مدركا بأنه قد طرأ على صوته أي تغيير، لكن ماريون تفحصت وجهه وسألت: «أهناك أي تطورات جديدة؟» «أخشى أنه هناك. كنت سآتي عصر اليوم لأخبركما بالأمر. يبدو أنه في الوقت الذي توقفت صحيفة «أك-إيما» عن الحديث عن القضية - لم تنشر اليوم إلا رسالة واحدة وذلك أمر هين - تحديدا عندما ازداد سأمها من قضية بيتي كين، ما لبثت مجلة «ذا ووتشمان» أن بدأت في تناولها.»
قالت ماريون: «ممتاز!» ثم تابعت قائلة: «إنها صورة مبهجة أن تخطف «ذا ووتشمان» المشعل من أيادي «أك-إيما» المتراخية.» «تتدنى إلى قاع «أك-إيما»» كما كان بن كارلي قد وصفها؛ لكن المعنى واحد.
سألت السيدة شارب: «هل لك أعين في مكتب تلك المجلة، يا سيد بلير؟» «لا، لكن نيفيل هو من بلغه الخبر. سينشرون رسالة من حميه المستقبلي، أسقف لاربورو.»
قالت السيدة شارب: «هاه! توبي بيرن.»
سأل روبرت، وهو يظن أن قوة صوتها ربما ستكشط الطلاء من الخشب إذا انهال عليه: «هل تعرفينه؟» «كان يذهب إلى المدرسة مع ابن أخي. ابن أخي الطبيب البيطري. توبي بيرن، هو بعينه. طبعه لا يتغير.» «أستشف من كلامك أنه لا يروق لك.» «لم أتعرف عليه أبدا. جاء مع ابن أخي إلى المنزل ذات مرة في الإجازة، لكنه لم يدع إلى تكرار الزيارة أبدا.» «حقا؟» «اكتشف لأول مرة أن عمال الإسطبل يستيقظون مع طلوع الفجر، فأفزعه ذلك. قال إنه استعباد، ثم التف حول العمال يحثهم على المطالبة بحقوقهم. فإذا اتحدوا، وفق قوله، فلن يخرج حصان من الإسطبل قبل التاسعة صباحا. فاعتاد العمال أن يقلدوه في سخرية سنوات بعد ذلك، لكنه لم يدع إلى تكرار الزيارة.»
وافقها روبرت الرأي: «أجل، طبعه لا يتغير.» وأضاف: «ظل يتبع الأسلوب نفسه منذ ذلك الحين، في كل شيء؛ بدءا من الزنوج وحتى مآوي اللقطاء. القضايا التي لا يفقه عنها شيئا هي أكثر القضايا التي يناصرها. كان رأي نيفيل أنه من غير الممكن فعل شيء بشأن الرسالة المقترحة؛ إذ إن الأسقف قد كتبها بالفعل، وما كتبه الأسقف لا ينظر إليه على أنه كلام فارغ غير مأخوذ به. لكن لم يكن ممكنا أن أقف مكتوف اليدين ولا أفعل شيئا؛ لهذا اتصلت به بعد العشاء وأوعزت إليه بأسلوب لبق قدر المستطاع أنه يتبنى قضية تحوم الشكوك حولها بشدة، وأنه في الوقت نفسه يضر بسيدتين من المحتمل أنهما بريئتان. ليتني وفرت على نفسي الكلام. فقد أشار إلى أن مجلة «ذا ووتشمان» خلقت من أجل حرية التعبير عن الرأي، واستشف أني كنت أحاول كبت مثل هذه الحرية. انتهى بي المطاف إلى سؤاله إذا كان يؤيد الإعدام من دون محاكمة؛ لأنه كان يبذل أقصى ما في وسعه حتى يأتي بهذا الحكم. كان ذلك بعد أن تبين لي أن النقاش ميئوس منه وبعد أن كنت قد توقفت عن الحديث بلباقة.» تناول فنجان القهوة الذي كانت السيدة شارب قد صبته له. وتابع: «لقد شهد تدنيا مؤسفا بعد من سبقه في منصبه بالكاتدرائية، الذي كان مصدر رعب لكل من تسول له نفسه بالشر في خمس مقاطعات، وكان عالما فقيها إلى جانب ذلك.»
تساءلت السيدة شارب: «كيف وصل توبي بيرن إلى هذا المنصب؟» «أفترض أن متجر كوان كرانبيري صوص له دور لا يستهان به في هذا التحول.» «آه، أجل. زوجته. نسيت. أتريد إضافة السكر يا سيد بلير؟» «بالمناسبة، هاتان نسختان من مفتاح بوابة فرنتشايز. أعتقد أن بإمكاني الاحتفاظ بنسخة منهما. أما النسخة الأخرى فأظن أن من الأفضل لكما أن تعطياها للشرطة، حتى يتفقدوا المكان متى شاءوا. علي أيضا أن أخبركما أنه صار يعمل لحسابكما محقق خاص.» ثم أخبرهما عن أليك رامسدن، الذي حضر عند عتبة باب مكتبه في تمام الساعة الثامنة والنصف صباحا.
سألت ماريون: «ألا توجد أخبار عن تعرف أحد على صاحبة الصورة المنشورة على غلاف «أك-إيما» ومراسلته لسكوتلاند يارد؟» ثم أضافت قائلة: «كنت قد علقت آمالي على ذلك.» «لم يحدث ذلك حتى الآن. لكن لا يزال الأمل باقيا.» «مرت خمسة أيام على نشر صحيفة «أك-إيما» لها. إن كان أي أحد سيتعرف عليها لكان تعرف عليها الآن.» «ضعي بقايا الجرائد في الحسبان. هكذا تسير الأمور تقريبا. شخص ما يفتح لفافة من رقائق البطاطس ويقول: «عجبا، أين رأيت ذلك الوجه؟» أو أن أحدا يستخدم حزمة جرائد لتبطين أدراج في أحد الفنادق. أو شيء من هذا القبيل. لا تفقدي الأمل يا آنسة شارب. بعون الله وبمساعدة أليك رامسدن، سننتصر في النهاية.»
نظرت إليه في جدية. وقالت وكأنها تشهد ظاهرة فريدة: «أنت تؤمن بذلك حقا، أليس كذلك؟»
قال: «أومن بذلك حقا.» «تؤمن بأن الخير ينتصر في النهاية.» «أجل.» «لم؟» «لا أعرف. أظن أن الاحتمال الآخر هو ضرب من المحال. فلا شيء مرض ومقبول أكثر من ذلك.»
قالت السيدة شارب: «من المفترض أن أكون أشد إيمانا بإله لم يهب توبي بيرن منصب الأسقفية. بالمناسبة، متى ستنشر رسالة توبي بيرن؟» «صباح يوم الجمعة.»
قالت السيدة شارب: «لا أطيق انتظاره.»
الفصل الخامس عشر
بحلول عصر يوم الجمعة تراجعت ثقة روبرت في انتصار الخير في النهاية.
لم تكن رسالة الأسقف هي التي هزت ثقته. في الواقع إن أحداث يوم الجمعة كانت لها أياد كثيرة في سحب البساط من تحت قدمي الأسقف، ولو قيل لروبرت صباح يوم الأربعاء إنه سيندم أشد الندم على أي شيء تسبب في جرح كبرياء الأسقف لما كان سيصدق ذلك.
فقد جرت رسالة سيادته طبقا للتوقعات. حيث قال إن مجلة «ذا ووتشمان» كانت تعارض العنف بقوة وهي، بكل تأكيد، لن تحيد عن ذلك الآن، لكن في بعض الحالات يتضح أن العنف ليس إلا عرضا على حالة اجتماعية عميقة من الاضطراب، والاستياء، وغياب الأمان. كما هو الحال في قضية نالاباد الأخيرة، على سبيل المثال. (في قضية نالاباد عششت حالة «الاضطراب، والاستياء، وغياب الأمان » تماما في صدور لصين لم يتمكنا من العثور على سوار من حجر الأوبال الذي جاءا لسرقته، وعلى سبيل الانتقام قتلا السبعة النائمين المقيمين في المنزل وهم في فراشهم.) تحين أوقات بلا شك تشعر فيها الطبقة الكادحة في داخلها باليأس من تصحيح خطأ بين، ومما لم يكن مثيرا للعجب أن بعض الأرواح التي تتقد حماسة سيقت إلى التعبير عن احتجاج شخصي. (ظن روبرت أن بيل وستانلي سيستعصي عليهما النظر إلى رعاع يوم الإثنين ليلا بوصفهم «الأرواح المتقدة بالحماس»، واعتبر أن «الاحتجاج الشخصي» هو تقليل من حجم تحطيم نوافذ الطابق الأرضي لمنزل فرنتشايز.) الأشخاص الذين يجب أن يلاموا على الاضطراب - (أولعت مجلة «ذا ووتشمان» باستخدام ألفاظ تلطيفية: الاضطراب، الأقل حظا، ذوي الهمم، ضحايا الحظ السيئ، بينما يتحدث بقية العالم عن العنف، والفقراء، والمعاقين ذهنيا، والبغايا، وفكر في تلك اللحظة أن القاسم المشترك بين صحيفة «أك-إيما» ومجلة «ذا ووتشمان»، كان الإيمان بأن جميع العاهرات لهن قلوب من ذهب لكن سلكن مسلكا خاطئا) - لم يكونوا ربما أولئك المضللين الذين عبروا عن استيائهم بوضوح جلي، بل السلطات التي قادها ضعفها، وغياب كفاءتها وضعف همتها إلى عدم تحقيق العدالة في قضية قد أسقطت. إن جزءا من التراث الإنجليزي هو ألا يكتفي بإقامة العدالة فحسب، بل يجب إقامتها على مرأى ومسمع من الجميع، ومكان ذلك كان في محكمة علنية مفتوحة.
سأل روبرت نيفيل، الذي كان يقرأ الرسالة بجانبه: «ما الفائدة التي يظن هو أن أحدا سيحققها من إضاعة وقت الشرطة في إقامة دعوى تعرف أن الخسارة مقدرة لها؟»
قال نيفيل: «ستجعلنا نحن قوى الخير.» ثم تابع قائلا: «يبدو أنه لم يكن قد فكر في ذلك. إذا رفض القاضي النظر في القضية فلن يمكن تفادي الاقتراح المطروح بأن عزيزته المسكينة المصابة بكدمات كانت تدلي بأكاذيب، أليس كذلك! هل تطرقت إلى الكدمات؟» «لا.»
سيذكر الكدمات بالقرب من نهاية الرسالة. قال سيادته إن «الجسد الهزيل المليء بالكدمات» لهذه الفتاة الصغيرة البريئة، هو إدانة صارخة لقانون فشل في حمايتها وفشل الآن في الانتقام لها. إن إدارة هذه القضية بأكملها كانت تستلزم تدقيقا ثاقبا.
قال روبرت: «لا بد أن ذلك يجعل سكوتلاند يارد في غاية السعادة هذا الصباح.»
عدل له نيفيل: «عصر هذا اليوم.» «لم عصر اليوم؟» «لن يقرأ أحد في سكوتلاند يارد مطبوعة مضللة مثل «ذا ووتشمان». لن يروها حتى يرسلها أحد إليهم عصر اليوم.»
لكنهم قد رأوها، عندما طبعت. كان جرانت قد قرأها في القطار. حيث اختارها من كشك الكتب مع ثلاثة آخرين؛ ليس لأنها اختياره بل لأنها أحد الاختيارات بين تلك ومطبوعات ملونة تظهر على أغلفتها الخارجية حسناوات بملابس السباحة.
غادر روبرت المكتب وأخذ نسخة من مجلة «ذا ووتشمان» إلى منزل فرنتشايز مع نسخة من الإصدار الصباحي لصحيفة «أك-إيما»، التي لم يعد لديها أي اهتمام آخر بقضية فرنتشايز. منذ الرسالة البسيطة الأخيرة في إصدار يوم الأربعاء فقد توقفت عن الإشارة إلى القضية. كان يوما رائعا؛ العشب في فناء فرنتشايز كان اخضراره غير طبيعي، والواجهة البيضاء المتسخة أضاءها نور الشمس ليضفي عليها قليلا من الجمال، ومن جدار الطوب الوردي يفيض الضياء المنعكس على قاعة الاستقبال البالية ويمنحها دفئا مبهجا. حيث جلسوا هناك، ثلاثتهم، في سعادة غامرة. كانت صحيفة «أك-إيما» قد فرغت من فضحهما على الملأ، ورسالة الأسقف لم تكن في نهاية المطاف سيئة بالدرجة المتوقعة، وأليك رامسدن كان منشغلا بالنيابة عنهم في لاربورو ومن دون شك سيكشف عاجلا أم آجلا الستار عن حقائق فيها طوق نجاتهما، وقد حل فصل الصيف هنا بلياليه القصيرة المبهجة، أما ستانلي فكان يثبت أنه «صديق مخلص»، والسيدتان قد أجرتا بالأمس زيارة قصيرة ثانية إلى ميلفورد وفقا لتخطيطهما بأن تصبحا جزءا من المشهد، ولم تتعرضا لشيء غير لائق غير نظرات التحديق والازدراء، وبعض التعليقات المسموعة بوضوح. إجمالا، كان الانطباع من اللقاء أن كل ما حدث كان متوقعا له أن يكون أسوأ من ذلك.
سألت السيدة شارب روبرت، وهي تضرب بطرف سبابتها الهزيلة صفحة المراسلات في مجلة «ذا ووتشمان»: «إلى أي مدى ستؤثر هذه الرسالة على الموقف؟» «ليس كثيرا في ظني. حتى بين صفوة «ذا ووتشمان» ينظر إلى الأسقف شزرا نوعا ما هذه الأيام، حسبما أفهم. حيث انخفضت شعبيته بعد قضية ماهوني.»
سألت ماريون: «من هو ماهوني؟» «أنسيت ماهوني؟ ذلك «الوطني» الأيرلندي الذي وضع قنبلة في سلة الدراجة لسيدة في أحد الشوارع المزدحمة في بريطانيا، ففتكت بأربعة أشخاص، من بينهم السيدة التي حددت هويتها فيما بعد من خاتم زواجها. اعتبر الأسقف أن ماهوني ليس إلا شخصا مضللا وليس قاتلا، وأنه كان يناضل باسم أقلية مظلومة - الأيرلنديون، صدقي أو لا تصدقي - وأننا يجب ألا نجعل منه شهيدا. كان ذلك أمرا فجا قليلا حتى على مجلة «ذا ووتشمان»، وعلمت أنه منذ ذلك الحين لم تعد منزلة الأسقف كما كانت.»
قالت ماريون: «أليس صادما كيف ينسى المرء أن الأمر لا يعنيه في شيء؟» وأضافت: «هل شنقوا ماهوني؟» «أجل شنقوه، يسرني قول ذلك - وتلك كانت مفاجأة مزعجة له. كان الكثير من أسلافه قد استفادوا من المناشدة بأننا يجب ألا نجعل من شخص شهيدا، فلم تعد العقول تدرك أن جريمة القتل تلك هي عمل خطير. وسرعان ما صارت عملا آمنا، مثلها مثل التعامل مع المصرف.»
قالت السيدة شارب: «بمناسبة الحديث عن التعامل مع المصرف، أظن أنه من الأفضل توضيح وضعنا المالي لك؛ ولهذا فعليك التواصل مع المحامين السابقين للسيد كرول في لندن، الذين يديرون شئوننا. سأكتب إليهم لأوضح أنه يجب منحك كل التفاصيل، حتى تعلم المبلغ الذي يمكننا الاتفاق والاستمرار عليه، ونجري الترتيبات المناسبة للإنفاق منه على الدفاع عن سمعتنا. لم تكن تلك تحديدا الطريقة التي خططنا للإنفاق بها.»
قالت ماريون: «لنكن ممتنين أن لدينا ما ننفق منه.» ثم تابعت قائلة: «ماذا يفعل شخص مفلس في قضية كهذه؟»
لم يكن روبرت يعرف بصراحة شديدة.
أخذ عنوان محامي كرول ثم عاد إلى المنزل لتناول الغداء مع العمة لين، وفي داخله يشعر بسعادة أكبر مما كان عليه في أي وقت مضى منذ المرة الأولى التي لمح فيها الصفحة الأولى من صحيفة «أك-إيما» على مكتب بيل الجمعة الماضية. أحس بشعور شخص في عاصفة رعدية عنيفة وضجيج العاصفة لم يعد يعلو رأسه مباشرة؛ سيستمر الوضع، ومن المرجح أنه سيظل سيئا، لكن بإمكان الإنسان أن يرى مستقبلا من خلاله، في حين أنه منذ لحظة واحدة مضت لم يكن هناك سوى «حاضر» مخيف.
حتى العمة لين بدت أنها قد نسيت أمر فرنتشايز قليلا، وكانت في أفضل الحالات المثيرة والمحببة لها - إذ كانت منشغلة تماما بهدايا عيد الميلاد التي كانت تشتريها لتوءمي ليتيس في مقاطعة ساسكاتشوان. كانت قد قدمت له غداءه المفضل - لحما باردا، وبطاطس مسلوقة، وحلوى البراون بيتي مع طبقة سميكة من الكريمة - وبمرور لحظة بعد لحظة كان يستشعر أن الأمر يزداد صعوبة عليه من حيث إدراك أن ما مر به كان صباح يوم الجمعة الذي رهبه؛ لأنه كان سيرى بداية الحملة التي تشنها مجلة «ذا ووتشمان» ضدهما. وبدا له أن أسقف لاربورو كان بالفعل ما اعتاد زوج ليتيس بأن يطلق عليه «مخيب للآمال». لم يكن بوسعه أن يتصور في تلك اللحظة لم أضاع لحظة واحدة في التفكير فيه.
كان في تلك الحالة المزاجية عندما عاد إلى المكتب. وعندما أمسك بسماعة الهاتف ليجيب على اتصال هالم.
قال هالم: «سيد بلير؟» ثم تابع قائلا: «أنا في فندق روز آند كراون. أخشى أني أحمل لك أخبارا سيئة. إن المحقق جرانت هنا.» «في فندق روز آند كراون.» «أجل. ومعه مذكرة.»
توقف عقل روبرت عن التفكير. ثم سأل بغباء: «مذكرة تفتيش؟» «لا؛ مذكرة توقيف.» «مستحيل!» «أخشى أن الأمر هكذا.» «لكن لا يمكنه أن يحصل عليها!» «أتوقع أن الخبر صادم قليلا لك. أعترف بأني شخصيا لم أكن أتوقعه.» «أتقصد أنه تمكن من الوصول إلى شاهد - شاهد إثبات؟» «لديه شاهدان. لقد حسمت القضية وانتهت.» «لا أصدق ذلك.» «هل ستأتي، أم نأتي إليك؟ أتوقع أنك ستود أن تأتي معنا.» «إلى أين؟ أوه، أجل. أجل، بالطبع. سآتي إلى فندق روز آند كراون الآن. أين أنتما؟ في الردهة؟» «لا، في غرفة جرانت. الغرفة رقم خمسة. الغرفة ذات النافذة المفصلية المطلة على الشارع - فوق الحانة.» «حسنا. سآتي في الحال. انتبه إلي!» «نعم؟» «أهي مذكرة لكلتيهما؟» «نعم. للاثنتين.» «حسنا. شكرا لك. سآتي إليك في لحظة.»
جلس وهلة يستعيد أنفاسه، ويحاول أن يحدد أي وجهة يستقبلها. كان نيفيل في الخارج لقضاء مهمة، لكن نيفيل لم يكن أهلا لتقديم دعم معنوي في أي وقت. ومن ثم نهض، وأخذ قبعته، ثم اتجه إلى باب «المكتب».
قال، بأسلوب مهذب كان يستخدمه دائما في حضور الموظفين الأصغر سنا: «سيد هيزيلتاين، من فضلك.» ثم تبعه الرجل العجوز إلى الردهة ثم إلى المدخل الذي أناره ضوء الشمس.
قال روبرت: «تيمي.» ثم تابع قائلا: «نحن في ورطة. المحقق جرانت من مقر إدارة الشرطة المركزية حضر هنا ومعه مذكرة توقيف بحق سيدتي فرنتشايز.» حتى وهو يقول ما قاله استعصى عليه أن يصدق أن الخبر كان أمرا واقعا يحدث بالفعل.
وكذلك لم يصدق السيد هيزيلتاين، فبدا ذلك واضحا. حيث حدق، دون التفوه بكلمة؛ وعيناه الواهنتان الشاحبتان في صدمة. «الأمر صادم قليلا، أليس كذلك، يا تيمي؟» لم يكن عليه أن يأمل في الحصول على دعم من الموظف العجوز الواهن.
رغم حالة الصدمة التي كان عليها السيد هيزيلتاين، ووهنه، وكبر سنه، فإنه رجل قانون؛ لذا بإمكانه تقديم الدعم. بعد عمر طويل بين القوانين استجاب عقله بعفوية إلى تفاصيل الموقف الدقيقة.
فقال: «مذكرة.» ثم تابع قائلا: «لم «مذكرة»؟»
أجاب روبرت إجابة بسيطة بصبر نافد: «لأنه ليس لهم القبض على أحد من دونها.» أكان السيد هيزيلتاين يتجاوز حدود عمله؟ «لا أقصد ذلك. أقصد، أنهما متهمتان بارتكاب جنحة، وليس جناية. كان بوسعهم بكل تأكيد أن يجعلوه استدعاء، أليس كذلك يا سيد روبرت؟ فلا حاجة لهم إلى القبض عليهما، بكل تأكيد، أليس كذلك؟ ليس من أجل جنحة.»
لم يكن روبرت قد فكر في ذلك. فقال: «استدعاء للمثول.» ثم تابع قائلا: «صحيح، لم لا؟ بالطبع لا شيء يمنعهم من القبض عليهما إن شاءوا ذلك.» «لكن لم من المفترض أنهم يريدون ذلك؟ إن سيدات مثل السيدتين شارب لن يفرا هاربتين. ولن تتسببا في أي ضرر آخر وقت انتظارهما للاستدعاء. من أصدر هذه المذكرة، هل قالوا؟» «لا، لم يقولوا. شكرا جزيلا، يا تيمي؛ كان تأثيرك رائعا كتأثير نبيذ قوي. لا بد أن أذهب سريعا إلى فندق روز آند كراون الآن - فالمحقق جرانت هناك مع هالم - وعلي أن أواجه العواقب. لا سبيل لإخبار سيدتي فرنتشايز لأن الهاتف معطل لديهما. ليس علي سوى الذهاب إلى هناك لمقابلة جرانت وهالم. فقط هذا الصباح كنا قد بدأنا نرى النور، هكذا ظننا. بإمكانك إخبار نيفيل عندما يأتي، أليس كذلك؟ وامنعه من فعل أي شيء أحمق أو متهور.» «أنت تعلم جيدا يا سيد روبرت أني لم أقدر في حياتي أن أمنع السيد نيفيل من فعل أي شيء أراد فعله. رغم أنه بدا لي رزينا في الأسبوع الماضي على نحو مفاجئ. أقصد في استخدامه للأسلوب المجازي.»
قال روبرت، وهو يخرج مسرعا إلى الشارع المضيء: «أتمنى أن يستمر على ذلك إلى الأبد.»
ساد الهدوء التام مدة ما بعد الظهر في فندق روز آند كراون، حيث مر روبرت من البهو ثم صعد سلالم عريضة ضحلة دون أن يلتقي بأحد، ثم طرق باب رقم خمسة. وجرانت، هادئا ومهذبا كعادته، سمح له بالدخول. وهالم، الذي يبدو حزينا نوعا ما، كان يتكئ على التسريحة أمام النافذة.
قال جرانت: «أتفهم أنك لم تتوقع هذا، سيد بلير.» «لا، لم أتوقع ذلك. صراحة، إن الخبر صدمة كبيرة لي.»
قال جرانت: «تفضل بالجلوس.» ثم أضاف قائلا: «لا أريد استعجالك.» «يقول المحقق هالم إن لديك أدلة جديدة.» «أجل؛ لدينا ما نعتقد أنها أدلة حاسمة.» «هل لي أن أعرف ما هي؟» «بالطبع. لدينا رجل رأى بيتي كين بينما تأخذها السيارة عند موقف الحافلات ...»
قال روبرت: «تقصد سيارة.» «نعم، سيارة، إذا شئت - لكن أوصافها تنطبق على سيارة السيدتين شارب.» «وتنطبق كذلك على عشرات آلاف السيارات في بريطانيا. وماذا بعد؟» «الفتاة من المزرعة، التي كانت تذهب مرة أسبوعيا للمساعدة في تنظيف منزل فرنتشايز، ستقسم أنها سمعت أصوات صراخ آتية من العلية.» «هل قلت كانت تذهب مرة أسبوعيا؟ ألم تعد تذهب إلى هناك؟» «لم تعد منذ أن انتشر القيل والقال عن قضية كين.» «فهمت.» «الأدلة ليست ذات قيمة في حد ذاتها، لكنها قيمة للغاية بوصفها دليل إثبات لقصة الفتاة. على سبيل المثال فاتتها بالفعل حافلة لاربورو-لندن. يقول الشاهد لدينا إن الحافلة تجاوزته بمسافة نصف ميل على الطريق. وعندما وصل إلى موقف الحافلات رأى بعدها بدقائق معدودة الفتاة تنتظر هناك. إن الشارع طويل مستقيم، طريق لندن الرئيسي من مينشيل ...» «أعرف. أعرفه.» «أجل؛ حسنا، عندما كان لا يزال على مسافة قريبة من الفتاة رأى سيارة تتوقف جانبها، ورأى الفتاة تستقلها، ثم رأى السيارة تسير بها.» «لكنه لم ير من قاد بها السيارة، أليس كذلك؟» «نعم. كان على مسافة بعيدة حتى يرى ذلك.» «وهذه الفتاة من المزرعة - هل تطوعت بتقديم المعلومات عن الصراخ؟» «ليس إلينا. تحدثت عنه إلى صديقاتها، فتصرفنا نحن بناء على المعلومات، ووجدنا أنها على استعداد تام لتعيد القصة بعد القسم بقول الحق.» «هل تحدثت عنه قبل انتشار الأقاويل عن اختطاف بيتي كين؟» «أجل.»
كان ذلك غير متوقع، مما أثار دهشة روبرت. إذا كان ذلك صحيحا بحق - أن الفتاة قد أشارت إلى سماع صراخ قبل الحديث عن أي تورط للسيدتين شارب - فالأدلة ستكون دامغة. نهض روبرت وسار إلى النافذة في قلق جيئة وذهابا. ساورته مشاعر حقد من بن كارلي. فلن يكره بن هذا بقدر ما كرهه هو، وهو يشعر بالعجز وتقطع السبل به. بن سيكون منسجما في عمله؛ سيجد عقله لذة في المشكلة وفي مسعاه أن يتفوق بحيله على السلطة. كان روبرت يدرك قليلا أن احترامه الراسخ تجاه السلطة هو عقبة في طريقه أكثر من كونه مكسبا له؛ فكان في حاجة إلى شيء من اليقين المتأصل في بن بأن السلطة خلقت للتحايل عليها.
قال أخيرا: «حسنا، أشكرك على التحدث إلي بصراحة.» ثم أضاف قائلا: «والآن إذن، أنا لا أقلل من شأن الجريمة التي تتهمون بها هاتين السيدتين، لكن إنها تحديدا جنحة وليست جناية، فلم مذكرة توقيف إذن؟ بالطبع كان الاستدعاء سيفي بالغرض على أكمل وجه؟»
قال جرانت بسلاسة: «الاستدعاء سيكون بلا شك صحيحا من الناحية القانونية.» ثم تابع قائلا: «لكن في الحالات التي تكون فيها الجريمة مشددة - ومع استياء رؤسائي من القضية الحالية - حينها تصدر مذكرة توقيف.»
لم يمنع روبرت نفسه من التعجب من مدى تأثير هذا الاهتمام المزعج لصحيفة «أك-إيما» على القرارات المتأنية لشرطة سكوتلاند يارد. لمح نظرة جرانت وعلم أن جرانت كان قد قرأ أفكاره.
قال جرانت: «الفتاة كانت متغيبة شهرا بأكمله - إلا يوما أو يومين، وقد ضربت في أماكن متفرقة، ضربا متعمدا. فهي قضية لا بد أن نوليها اهتماما.»
سأل روبرت، متذكرا وجهة نظر السيد هيزيلتاين: «لكن ماذا ستجني من القبض عليهما؟» ثم تابع قائلا: «لا يوجد أدنى شك في أن السيدتين لن تتغيبا عن المثول للدفاع عن نفسيهما بشأن هذه التهمة. ولا أدنى شك في أنهما لن ترتكبا جريمة مماثلة في تلك المدة. متى أردت منهما المثول، بالمناسبة؟» «أنوي عرضهما على محكمة الجنح والمخالفات يوم الإثنين.» «أقترح إذن أن ترسل إليهن استدعاء للمثول.»
قال جرانت، بتبلد: «لقد استقر رؤسائي على إصدار مذكرة توقيف بحقهما.» «لكن كان بإمكانك أن تركن إلى تقييمك للأمور. فرؤساؤك لا علم لهم بالأوضاع الداخلية، على سبيل المثال. لو ترك منزل فرنتشايز دون أحد يسكنه فسيصير حطاما في غضون أسبوع. هل فكر رؤساؤك في ذلك؟ وإذا ألقيت القبض على هاتين السيدتين، فليس بإمكانك سوى حبسهما حتى يوم الإثنين، في الوقت الذي سأطلب فيه دفع كفالة. يبدو مثيرا للشفقة المجازفة بتعريض منزل فرنتشايز لأعمال شغب لمجرد إشارة بإلقاء القبض. وأعرف أن المحقق هالم لديه عجز في توفير رجال لحمايته.»
إن هذا الشد والجذب منح كليهما مهلة قصيرة. كان مذهلا كيف ترسخ في النفس الإنجليزية هذا الاحترام تجاه الممتلكات؛ فأول تغيير قد طرأ على وجه جرانت كان عند ذكر إمكانية تحطم منزل فرنتشايز. فتكونت لدى روبرت على نحو غير متوقع فكرة جيدة عن الرعاع الذين فعلوا فعلتهم السابقة، وبهذا رجحت كفته في الجدال بذكر المثال. أما بالنسبة إلى هالم، بعيدا عن القوة المحدودة المتوفرة لديه فلم يكن يرجح أن يقف مشاهدا أمام احتمال جديد لإثارة شغب في منطقته واقتفاء أثر مجرمين جدد.
خلال ذلك الصمت الطويل قال هالم في تردد: «هناك منطق وجيه فيما يقوله السيد بلير. إن الشعور بالغضب في الريف محتدم، وأشك أنهم سيتركون المنزل على حاله إن صار خاويا. لا سيما إذا انتشر خبر إلقاء القبض عليهما.»
رغم ذلك، استغرق إقناع جرانت قرابة نصف الساعة. لسبب ما كان هناك شيء شخصي متدخل في القضية بالنسبة إلى جرانت، ولم يكن بوسع روبرت أن يتخيل ماذا عساه أن يكون، أو لم من المفترض أن يكون.
قال المحقق بعد مدة طويلة: «حسنا، لستما في حاجة إلي لأصدر استدعاء.» تخيل روبرت، في بهجة وارتياح شديدين، أن الموقف كان أشبه باستخفاف جراح يطلب منه فتح دمل. «سأترك ذلك إلى هالم وسأعود إلى المدينة. لكنني سأحضر إلى المحكمة يوم الإثنين. أعتقد أن موعد جلسات محكمة المقاطعة الرئيسية قريب؛ لهذا كي نتفادى الحبس الاحتياطي يمكن أن نتوجه مباشرة إلى تلك المحكمة. هل بإمكانك أن تعد دفاعك بحلول يوم الإثنين، هل تظن ذلك؟»
قال روبرت باستياء: «أيها المحقق، بكل وسائل الدفاع التي تمتلكها موكلتاي يمكن أن أصبح جاهزا بحلول موعد تناول الشاي.»
ما أثار دهشته، أن جرانت استدار إليه بابتسامة عريضة أكثر من المعتاد عليه معه، وكانت ابتسامة في غاية اللطف. فقال: «سيد بلير، لقد جعلتني أعدل عن قرار إلقاء القبض عصر اليوم، لكني لا آخذ ذلك ضدك. بل العكس، أظن أن موكلتيك محظوظتان بمحاميهما أكثر مما تستحقانه. وسيكون دعائي أن تصبحا أقل حظا في استشارتهما القانونية! وإلا فربما أجد نفسي مقتنعا بأن أشهد ببراءتهما.»
بهذا ذهب روبرت إلى منزل فرنتشايز من دون أن يكون جرانت وهالم معه، ومن دون أي مذكرة توقيف إطلاقا. لقد ذهب في سيارة هالم المعهودة ومعهما الاستدعاء، وشعر بارتياح شديد عندما فكر في المخرج الذي حصلا عليه، وأنهكه الخوف عندما فكر في المأزق الذي هما فيه.
قال لهالم أثناء سيرهما: «بدا المحقق جرانت أن له مصلحة شخصية في تنفيذ تلك المذكرة.» ثم تابع قائلا: «هل لأن صحيفة «أك-إيما» تؤرقه، أتظن ذلك؟»
قال هالم: «لا، قطعا.» وأضاف: «جرانت لا يبالي بمثل هذه الأمور مثله كمثل أي إنسان.» «ما السبب إذن؟» «حسنا، إنها قناعتي الشخصية - تظل بيننا ولا أحد سوانا - بأنه استعصى عليه أن يسامحهما على خداعهما له. أقصد السيدتين شارب. فهو معروف في سكوتلاند يارد برجاحة حكمه على البشر، كما تفهم، وبيننا فقط مرة أخرى، فهو لا يعبأ بالفتاة كين أو بقصتها، وقد تراجع إعجابه بهما عندما رأى سيدتي فرنتشايز، رغم كل الأدلة. والآن يرى أن الصوف ينقض غزله أمام عينيه؛ لهذا لا بد أن يعير القضية اهتماما. وكان سيشعر بسعادة غامرة، حسبما أتصور، لو أنه قدم لهما مذكرة التوقيف في قاعة استقبالهما.»
عندما توقفا عند بوابة فرنتشايز وأخرج روبرت مفتاحه، قال هالم: «إذا فتحت كلا الجانبين فسأدخل سيارتي، حتى لو مكثنا وقتا قصيرا. لا داعي للإعلان عن أننا هنا.» فخطر ببال روبرت، وهو يفتح البوابة الحديدية على مصراعيها، أنه عندما تقول الممثلات الزائرات «رجال الشرطة التابعون لكم مذهلون» فهن لم يعرفن حقيقة الأمر. ثم عاد إلى داخل السيارة وقاد هالم مسافة مستقيمة قصيرة، ثم التف في المسار الدائري المؤدي إلى الباب. عندما خرج روبرت من السيارة اقتربت ماريون من زاوية المنزل، وهي ترتدي قفازات الزراعة وتنورة قديمة للغاية. وعندما حرك الهواء شعرها من الجبين تبدل حاله من كونه داكنا كثيفا كما كان، إلى لون أشقر فاتح. وكانت شمس أوائل فصل الصيف قد أكسبتها سمرة كالغجرية أكثر من أي وقت مضى. والوقت لم يكن قد سمح لها عند مجيء روبرت المفاجئ بإخفاء تعبير ملامحها، كما أن إشراق وجهها كله عندما رأته قد جعل قلبه يتمايل.
قالت: «يا للمفاجأة اللطيفة! لا تزال أمي مستلقية لكنها ستنزل بعد قليل، وبإمكاننا أن نشرب الشاي. فأنا ...» ثم تحولت نظرتها إلى هالم وبدأ صوتها في الاختفاء في حالة من الريبة. «مساء الخير أيها المحقق.» «مساء الخير آنسة شارب. أعتذر على قطع فترة استراحة والدتك، لكن ربما كان بإمكانك أن تطلبي منها النزول. فالأمر مهم.»
توقفت برهة، ثم سارت بهما إلى الداخل. «أجل، بكل تأكيد. هل وقعت بعض ... بعض التطورات الجديدة؟ تفضلا بالدخول والجلوس.» ثم قادتهما إلى قاعة الاستقبال التي أصبح يعرفها حق المعرفة الآن - المرآة الجذابة، والمدفأة المريعة، والكرسي المشغول بالخرز، و«قطع الأثاث» الجيدة، والسجادة الوردية البالية التي بهت لونها ليصير رماديا متسخا - فوقفت هناك، وتفحصت وجهيهما، بينما تستشعر الخطر الجديد الذي يحوم في الأجواء.
سألت روبرت: «ما الأمر؟»
لكن هالم قال: «أعتقد أن الأمر سيكون أيسر إذا أحضرت السيدة شارب وأخبركما به في الوقت نفسه.»
وافقت، ثم استدارت لتنصرف وهي تقول: «أجل. أجل، بكل تأكيد.» لكن لم يكن هناك داع لانصرافها. فالسيدة شارب دخلت الغرفة، في حالة تشبه كثيرا الحالة التي كانت عليها في تلك المرة السابقة عندما كان هالم وروبرت قد حضرا في تلك الغرفة معا: الخصلات القصيرة من شعرها الأبيض التي تقف أطرافها منتصبة في المكان الذي كانت الوسادة قد دفعتها لأعلى، وعيناها اللامعتان الفضوليتان اللتان تشبهان عين النورس.
قالت: «صنفان من الناس لا ثالث لهما يصلان بسيارات لا تحدث صوتا. المليونيرات والشرطة. ونظرا إلى أن لا معارف لنا من الصنف الأول - ولدينا معارف تتسع دائرتها من الصنف الأخير - فاستنتجت أنه قد وصل بعض مما لدينا من المعارف.» «أخشى أن وجودي سيكون غير مرحب به أكثر من المعتاد يا سيدة شارب. جئت لإخطاركما باستدعاء لك وللآنسة شارب.»
قالت ماريون في حيرة: «استدعاء؟» «استدعاء للمثول أمام محكمة الجنح والمخالفات صباح يوم الاثنين للرد على تهمة الاختطاف والاعتداء الموجهة إليكما.» كان واضحا أن هالم لم يكن سعيدا.
قالت ماريون بنبرة بطيئة: «لا أصدق ذلك.» وتابعت: «لا أصدق ذلك. أتقصد أنكم تتهموننا بهذه التهمة؟» «أجل، يا آنسة شارب.»
استدارت إلى روبرت وقالت: «لكن كيف؟ ولم الآن؟»
قال روبرت: «تعتقد الشرطة أنها حازت على دليل الإثبات الذي كانت تحتاج إليه.»
سألت السيدة شارب، صادرا منها رد فعل لأول مرة: «ما الدليل؟» «أظن أن أفضل ترتيب هو أن يسلمكما الاستدعاء المحقق هالم، ثم يمكننا أن نتناقش في الموقف باستفاضة عندما ينصرف.»
قالت ماريون: «أتقصد أن علينا قبوله؟» وأضافت: «وأن أمثل أمام المحكمة العامة - وأمي كذلك - حتى نرد على ... اتهامنا بمثل هذه التهمة؟» «أخشى أنه لا خيار بديلا أمامنا.»
بدت من ناحية خائفة من اقتضابه في الحديث، ومستاءة من الناحية الأخرى من خذلانه في الدفاع عنهما. أما هالم، فعندما سلمها وثيقة الاستدعاء، بدا مدركا لهذا الشعور الأخير ومستاء منه بدوره. «أظن من الواجب إخباركما، في حال أنه لن يخبركما بذلك، أنه لولا السيد بلير هنا لم يكن الأمر سيقتصر على مجرد استدعاء، وإنما كان سيصل إلى مذكرة بتوقيفكما، وكنتما ستنامان الليلة في زنزانة بدلا من فراشكما. لا تنزعجي يا آنسة شارب، سأنصرف، لا داعي لأن ترافقيني نحو الباب.»
أما روبرت، مشاهدا له وهو ينصرف ومتذكرا كيف كانت السيدة شارب قد أساءت معاملته في أول مرة حضر فيها في تلك الغرفة، فقد فكر في أن هذا الإنجاز المحرز إنما كان ثمرة جهود الجميع.
سألت السيدة شارب: «أذلك حقيقي؟»
قال روبرت: «حقيقي تماما.» ثم أخبرهما عن وصول جرانت للقبض عليهما. «لكني لست أنا من وجب شكره على إفلاتكما من مذكرة التوقيف، وإنما هو السيد هيزيلتاين الموظف العجوز في المكتب.» ووضح كيف استجاب عقل الموظف العجوز بعفوية إلى هذا التغيير ذي الطابع القانوني. «وما هذا الدليل الجديد الذي يظنون أنه لديهم؟»
أجاب روبرت بنبرة جادة: «إن لديهم دليلا بالفعل.» ثم أضاف قائلا: «وليس هناك مجرد ظن.» فأخبرهما عن أن الفتاة أقلت بسيارة على طريق لندن في مينشيل. «هذا يؤيد فحسب ما كنا نرتاب فيه طوال الوقت: أنه حينما غادرت تشيريل ستريت، ظاهريا في طريق عودتها إلى المنزل، فإنها كانت على موعد. لكن الدليل الآخر أكثر خطورة بكثير. أخبرتني ذات مرة أن لديك سيدة - فتاة - من المزرعة، كانت تأتي مرة في الأسبوع وتتولى مهام التنظيف من أجلك.» «روز جلين، صحيح.» «أتصور أنها لم تعد تأتي منذ انتشار الإشاعات.» «منذ انتشار الإشاعات ...؟ أتقصد قصة بيتي كين؟ أوه، لقد طردت قبل أن يعرف بالأمر.»
قال روبرت سريعا: «طردت؟» «أجل. لم فوجئت بهذه الدرجة؟ من واقع خبرتنا مع العمالة المنزلية فالطرد ليس حدثا غير متوقع.» «لا، لكن في هذه الحالة ربما كان ذلك يفسر أشياء كثيرة. ما السبب الذي طردتها من أجله؟»
قالت السيدة شارب العجوز: «السرقة.»
زادت ماريون على ما قيل: «كانت تنشل دوما شلنا أو شلنين من أحد أكياس النقود حال تركه هنا أو هناك، لكن لأننا كنا في أشد الحاجة إلى المساعدة غضضنا الطرف عن هذا وأبعدنا أكياس النقود عن طريقها. ينطبق الأمر كذلك على أي متعلقات صغيرة يمكن نشلها، مثل الجوارب. ثم بعد ذلك سرقت الساعة التي كانت لدي منذ عشرين عاما. كنت قد خلعتها لغسل بعض الأشياء - فرغاوي الصابون كانت ترتفع حتى الذراعين، كما تعرف - وعندما رجعت لأبحث عنها كانت قد اختفت. سألتها عنها، لكنها بالطبع «لم تكن قد رأتها». كان الأمر مجاوزا للحد. تلك الساعة كانت جزءا مني، جزء لا يقل عن شعري أو أظفاري. لم يكن هناك سبيل لاستردادها؛ لأنه لم يكن لدينا دليل قط على أنها هي من أخذتها. لكن بعد أن كانت قد انصرفت تناقشنا في الأمر وفي صباح اليوم التالي اتجهنا إلى المزرعة، وأشرنا فحسب إلى أننا لن نحتاج إليها بعد ذلك. كان ذلك في يوم الثلاثاء - وهي تأتينا دائما يوم الإثنين - وفي عصر ذلك اليوم بعد أن كانت أمي قد صعدت لتستريح وصل المحقق جرانت، وبيتي كين في السيارة.» «فهمت. أكان حاضرا أي شخص آخر عندما أخبرت الفتاة في المزرعة بطردها؟» «لا أتذكر. لا أظن ذلك. هي ليست من المزرعة ... أقصد من مزرعة ستابلس؛ فأهلها رائعون. هي إحدى بنات العاملين هناك. وحسبما أتذكر فإننا قابلناها خارج كوخهم وذكرنا الأمر بشكل عابر.» «كيف استقبلت الأمر؟» «تورد وجهها بشدة وانتفضت قليلا.»
علقت السيدة شارب: «صارت حمراء كالبنجر وممتعضة كديك رومي.» ثم تابعت قائلة: «لم تسأل؟» «لأنها ستقسم على أنها عندما كانت تعمل هنا سمعت أصوات صراخ قادمة من العلية.»
قالت السيدة شارب، على نحو متأمل: «أستفعل ذلك حقا؟» «الأسوأ من ذلك بكثير أن هناك دليلا على أنها نوهت عن أصوات الصراخ قبل انتشار أي إشاعات عن مشكلة بيتي كين.»
أحدث هذا صمتا تاما. أحس روبرت مرة أخرى بمدى الهدوء الذي يعم أرجاء المنزل، والصمت التام. حتى الساعة الفرنسية التي تقف على رف المدفأة كانت صامتة. وستائر النافذة تحركت إلى الداخل على إثر هبوب بعض الهواء ثم عادت إلى مكانها من دون صوت وكأنها كانت تتحرك في فيلم.
قالت ماريون أخيرا: «ذلك ما يعرف بأنه ضربة قاضية.» «صحيح. حتما.» «ضربة قاضية لك، أيضا.» «لنا، هذا صحيح.» «لا أقصد مهنيا.» «حقا؟ كيف إذن؟» «صرت تواجه باحتمالية أننا كنا نكذب.»
قال بضجر، مستخدما اسمها لأول مرة ودون أن يلاحظ أنه قد استخدمه هكذا: «حقا، يا ماريون!» ثم أضاف قائلا: «ما يواجهني، إن وجد أي مجال لذلك، هو الاختيار بين كلامك وكلام أصدقاء روز جلين.»
لم يبد أنها كانت تستمع إليه. فقالت في تأثر شديد: «أتمنى، يا إلهي، كم أتمنى لو أن لدينا دليلا واحدا بسيطا، مجرد دليل واحد صغير في صالحنا! إنها تفلت - تلك الفتاة تفلت ومعها كل شيء، كل شيء. ونظل نحن نقول «هذا غير حقيقي»، لكن ليس لنا سبيل أن نثبت بأنه غير حقيقي. كل شيء سلبي. كل شيء غير محسوم. كل شيء إنكار ضعيف. تجتمع الشواهد لتدعم أكاذيبها، ولا شيء يحدث ليساعد في إثبات أننا نقول الحقيقة. لا شيء.»
قالت والدتها: «اجلسي يا ماريون.» ثم تابعت قائلة: «الغضب لن يحسن الموقف.» «بإمكاني أن أقتل تلك الفتاة؛ بإمكاني أن أقتلها. يا إلهي، بإمكاني أن أعذبها مرتين في اليوم لمدة سنة ثم أبدأ مرة أخرى في بداية العام الجديد. كلما أفكر فيما قد فعلته فينا ...»
قاطعها روبرت قائلا: «لا تفكري هكذا. لكن فكري بدلا من ذلك في اليوم الذي يطعن في صدقها في محكمة علنية مفتوحة. لو أني أعرف أي شيء عن طبيعة البشر بالفعل، فإن هذا سيؤلم الآنسة كين على نحو أسوأ بكثير من الضرب الذي يسدده لها شخص ما.»
قالت ماريون متشككة: «هل لا تزال تصدق أن ذلك ممكن؟» «أجل. لا أعرف تماما كيف سنفعل ذلك. لكني أؤمن حقا أننا سنفعله.» «من دون دليل صغير في صالحنا، ولا دليل واحد؛ والأدلة ... تتكشف لصالحها؟» «أجل. حتى بالرغم من ذلك.»
قالت السيدة شارب: «هل هذا تفاؤل طبيعي فيك فحسب أم إيمانك الفطري بانتصار الخير، أم ماذا؟» «لا أعرف. أعتقد أن الحقيقة لها مصداقية في حد ذاتها.»
قالت بأسلوب فظ: «دريفوس لم يجد أنها ذات مصداقية للغاية، ولا سلاتر، ولا غيرهم من الأشخاص المعروفين.» «لكنهم وجدوها ذات مصداقية في النهاية.» «حسنا، صراحة، لا أطمح في حياة بالسجن تنتظر الحقيقة حتى تثبت مصداقيتها.» «لا أعتقد أن الأمر سيصل إلى ذلك. أقصد إلى السجن. عليكما الحضور يوم الإثنين، وحيث إنه ليس لدينا أدلة دفاع مناسبة فستحالان بلا شك إلى المحاكمة. لكن يمكننا طلب الإخراج من السجن بكفالة، وذلك يعني أنه بإمكانكما البقاء هنا حتى الاستدعاء إلى محكمة المقاطعة الرئيسية في نورتون. وقبل ذلك آمل أن يكون أليك رامسدن قد عثر على أدلة تدين هذه الفتاة. تذكري أننا لا يتوجب علينا أن نعرف حتى ما كانت تفعله في المدة المتبقية من الشهر. كل ما علينا إثباته هو أنها فعلت شيئا مغايرا في اليوم الذي تقول إنكما اصطحبتماها فيه بالسيارة. إذا أثبتنا هذه المعلومة فستنقض قصتها بالكامل. وطموحي أن نثبتها على رءوس الأشهاد.»
قالت ماريون: «أن نفضحها علنا مثلما فضحتنا صحيفة «أك-إيما»؟ أتظن أن ذلك سيؤثر فيها؟» ثم أضافت قائلة: «مثلما أثر فينا؟» «بعد أن كانت بطلة الخبر المدوي في الصحف، ناهيك عن أنها مركز الإعجاب لأسرة محبة وحنون، ثم ينكشف سترها على مرأى من الجميع بأنها كاذبة، وغشاشة، وسيئة السيرة والسلوك؟ أظن أن ذلك سيؤثر فيها. وهناك شيء واحد سيؤثر فيها على وجه التحديد. إن إحدى نتائج مغامرتها الطائشة هي استعادة اهتمام ليزلي وين بها؛ الاهتمام الذي كانت قد فقدته عند خطبته. وما دامت هي بطلة زائفة فستضمن ذلك الاهتمام؛ وبمجرد كشفها فستفقده إلى الأبد.»
علقت السيدة شارب: «لم أظن أبدا أني سأرى فيض الكرم الذي يسير في عروقك النبيلة متعكرا لهذه الدرجة، يا سيد بلير.» «لو كانت هربت كنتيجة لخطبة الفتى - ولعلها كذلك بدرجة كبيرة - فلم أكن لأشعر نحوها سوى بالشفقة. فهي في مرحلة عمرية غير متزنة، وخطبته لا بد أنها كانت صدمة لها. لكن لا أعتقد أن لهذا علاقة كبيرة بالأمر. أعتقد أنها ابنة أمها؛ فليس إلا أنها كانت تسلك قبل الأوان قليلا الطريق الذي سلكته أمها. فهي على القدر نفسه من الأنانية، والانصياع للهوى، والطمع، والمظهر الخداع الذي كانت عليه السلالة التي جاءت منها. والآن علي أن أنصرف. قلت إني ربما سأعود إلى المنزل في الساعة الخامسة إذا أراد رامسدن الاتصال بي ليطلعني على الأخبار. وأريد الاتصال بكيفين ماكديرموت وطلب مساعدته فيما يخص الدفاع وأشياء أخرى.»
قالت ماريون: «أخشى أننا - على وجه الدقة، أنا - كنا نتعامل بأسلوب جاف قليلا حيال هذا.» ثم أردفت قائلة: «لقد فعلت، ولا تزال تفعل، الكثير من أجلنا. لكن الأمر كان صادما بشدة. وغير متوقع تماما وفجائيا. عليك أن تسامحني إذا ...» «لا شيء يستدعي أن أسامحك عليه. أعتقد أنكما قد استقبلتما الخبر على نحو جيد. هل أتيتما بأحد ليحل محل روز الكاذبة التي على وشك الإدلاء بشهادة زور؟ لا يمكنكما القيام بالأعمال المنزلية لهذا المنزل الضخم بمفردكما.» «حسنا، لا أحد في المنطقة سيأتي، بلا شك. لكن ستانلي - ماذا عسانا أن نفعل من دون ستانلي؟ - ستانلي يعرف سيدة يمكن إقناعها أن تأتي بالحافلة مرة في الأسبوع. تعرف، عندما يصبح التفكير في تلك الفتاة فوق احتمالي، أفكر في ستانلي.»
قال روبرت، مبتسما: «أجل.» وأضاف: «فهو من خيار الناس على وجه الأرض.» «إنه حتى يعلمني الطهو. أعرف الآن كيف أقلب البيض في المقلاة دون إفساد شكله. طلب مني قائلا: «هل لك أن تجري محاولة بشأنها وكأنك تقودين سيمفونية؟» وعندما سألته كيف صار ماهرا بهذه الدرجة فقال إنه بسبب «الطهو في خيمة مساحتها قدمان مربعتان».»
سألت السيدة شارب: «كيف ستعود إلى ميلفورد؟» «ستوصلني حافلة وقت ما بعد الظهر من لاربورو. لم تتلقيا خبرا عن إصلاح هاتفكما، أليس كذلك؟»
فهمت السيدتان السؤال على أنه تعليق وليس استفهاما. ومن ثم تركته السيدة شارب في قاعة الاستقبال وانصرفت، لكن ماريون رافقته حتى البوابة. وعندما عبرا دائرة العشب التي يحيط بها الممر المتفرع للسيارات، علق قائلا: «من الجيد أنه ليس لديك أسرة كبيرة وإلا لصار لديك مسار بال بداية من العشب وحتى الباب.»
قالت، وهي تنظر إلى الخط الأغمق في العشب غير المستوي: «هذا صحيح.» ثم أردفت قائلة: «إن السير حول هذا المنحنى الذي لا داعي له هو أمر يفوق احتمال طبيعة البشر.»
حديث عابر، هكذا كان يظن؛ مجرد حديث عابر. كلمات لا هدف منها سوى التغطية على موقف قاس. كان قد بدا غاية في الشجاعة والتآلف مع مبدأ مصداقية الحقيقة، لكن إلى أي مدى كان ذلك مجرد شكل ظاهري؟ ما الاحتمالات المطروحة بأن يكشف رامسدن عن دليل في الوقت المناسب لتقديمه إلى المحكمة يوم الإثنين؟ في الوقت المناسب لمحكمة المقاطعة الرئيسية؟ واحتمالات كثيرة مطروحة عكس ذلك، أليس كذلك؟ كان من الأفضل أن يصير معتادا على تلك الفكرة.
في تمام الساعة الخامسة والنصف اتصل رامسدن ليعطيه التقرير الموعود، فكان إحدى خيبات الأمل التي لا حد لها. كانت هي الفتاة التي يبحث عنها، بكل تأكيد، لكنه فشل في التعرف على الرجل بوصفه أحد المقيمين في فندق ميدلاند، وبالتالي لم يحصل على أي معلومات عنه. لكنه لم يعثر حتى على أي أثر لها في أي مكان. وقد أعطيت نسخ من الصورة للرجال التابعين له فأجروا بها تحريات في المطارات، ومحطات السكة الحديدية، ووكالات السفر، وأكثر الفنادق المحتملة. فلم يزعم أحد أنه قد رآها. وهو نفسه قد مشط لاربورو، وسره قليلا اكتشافه بأن الصورة المعطاة له يسهل التعرف عليها على أقل تقدير؛ إذ سرعان ما جرى التعرف عليها في الأماكن التي ترددت عليها بيتي كين بالفعل. في الدارين الرئيستين لعرض الأفلام، على سبيل المثال - حيث كانت تذهب بمفردها، طبقا للمعلومات التي أدلت بها فتيات شباك التذاكر - وفي مرحاض السيدات بمحطة الحافلات. وكان قد أجرى محاولة في المرائب، لكن محاولته باءت بالفشل.
قال روبرت: «أجل.» ثم تابع قائلا: «لقد التقطها عند موقف الحافلات على طريق لندن في مينشيل. في المكان الذي كانت عادة تذهب إليه لتلحق بالحافلة التي ستعيدها إلى المنزل.» ثم أخبر رامسدن بآخر المستجدات. وأضاف: «لهذا فالمعلومات صارت مطلوبة حقا على وجه السرعة الآن. فهما ستمثلان أمام المحكمة يوم الإثنين. لو أن باستطاعتنا إثبات ما كانت تفعله في تلك الليلة الأولى. فذلك سيدحض قصتها من أولها لآخرها.»
سأل رامسدن: «ما كان نوع السيارة؟»
أعطاه روبرت أوصافها، فتنهد رامسدن بصوت مسموع على الهاتف.
وافقه روبرت: «هذا صحيح.» ثم أردف قائلا: «تسير عشرات الآلاف منها تقريبا بين لندن وكارلايل؟ حسنا، سأترك لك التصرف في الأمر. أريد الاتصال بكيفين ماكديرموت وإخباره بمصابنا.»
لم يكن كيفين في جلسة محكمة، ولا حتى في الشقة في المنطقة المحيطة بكاتدرائية سان بول، ففتش عنه أخيرا في منزله القريب من قرية وايبريدج. بدا مسترخيا وودودا، لكنه انتبه في الحال عند علمه بأن الشرطة قد حصلت على دليلها. استمع من دون تعليق بينما كان روبرت يحكي له القصة.
انتهى روبرت من حديثه قائلا: «وبهذا كما ترى، يا كيفين، فنحن في ورطة مخيفة.»
قال كيفين: «وصف تلميذ مبتدئ، لكنه دقيق على نحو رائع. نصيحتي لك أن تجعلهما يمثلان أمام محكمة المخالفات والجنح، وتركز على محكمة المقاطعة الرئيسية.» «كيفين، هل بإمكانك أن تأتي في عطلة نهاية الأسبوع، وتسمح لي بالتحدث إليك في هذا الشأن؟ مضت ست سنوات، والعمة لين كانت تقول ذلك البارحة، منذ أن قضيت ليلة معنا؛ لذا وجبت الزيارة عليك على أي حال. أيمكنك ذلك؟» «وعدت شون بأني سآخذه إلى مدينة نيوبري يوم الأحد لينتقي مهرا.» «لكن أليس بوسعك تأجيل ذلك؟ أنا واثق أن شون لن يمانع إذا عرف أن التأجيل من أجل قضية إنسانية.»
قال والده المحب: «لن يبدي شون أدنى اهتمام بأي سبب لا يصب مباشرة في مصلحته. صورة طبق الأصل من أبيه. هل ستقدمني إلى ساحرتيك إذا جئت؟» «بلا أدنى شك.» «وهل ستصنع لي كريستينا فطائر الزبدة؟» «حتما.» «هل لي أن أحظى بالغرفة التي بها كلمات منسوجة على البساط الصوفي؟» «كيفين، هل ستأتي؟» «حسنا، إن ميلفورد قرية في غاية الملل، ما عدا في فصل الشتاء» - كان هذا إشارة إلى الصيد، حيث يحب كيفين ركوب الخيل في الريف - «وقد كنت أتطلع إلى ركوب الخيل يوم الأحد على منحدرات التلال. لكن أن تجتمع الساحرتان، وفطائر الزبدة، والغرفة ذات الكلمات المنسوجة على البساط الصوفي جملة واحدة فهذا حدث ليس بصغير.»
كان على وشك إنهاء المكالمة، لكن كيفين استوقفه وقال: «مهلا، استمع إلي، يا روب؟»
قال روبرت: «ماذا؟»، ثم انتظر. «هل فكرت في احتمال أن الشرطة محقة في ذلك؟» «أتقصد أن القصة العبثية للفتاة ربما تكون حقيقية؟» «أجل. هل تضع ذلك في الاعتبار ... كاحتمال، هذا ما أقصده؟»
بدأ روبرت في غضب: «لو كنت وضعته في الاعتبار لما كان علي ...» ثم ضحك. وقال: «تعال وتفقدهما.»
أكد له كيفين قائلا: «سآتي، سآتي»، ثم أنهى المكالمة.
اتصل روبرت بالمرأب، وعندما أجاب بيل سأل إن كان ستانلي لا يزال هناك.
قال بيل: «من الغريب أنك لا تستطيع سماعه من مكانك.» «ما الأمر؟» «كنا ننقذ ذلك المهر الكستنائي الذي يمتلكه مات إليز من حفرة فحص السيارات الخاصة بنا. هل أردت التحدث إلى ستانلي؟» «ليس ما أردته هو التحدث إليه. لكن هل تتكرم وتطلب منه المرور لأخذ رسالة إلى السيدة شارب في طريقه بعد حلول الليل؟» «أجل، بالتأكيد. بالمناسبة يا سيد بلير، هل صحيح أن مأزقا جديدا طرأ على قضية منزل فرنتشايز - أو أنه لا يحق لي أن أسأل؟»
هذه هي ميلفورد! هكذا فكر روبرت. كيف فعلوا ذلك؟ هل المعلومات تنتشر كحبوب اللقاح في الهواء؟
قال: «أجل، أخشى أن مأزقا قد حل بهما.» ثم أردف قائلا: «أتوقع أنهما ستخبران ستانلي به عندما يذهب إليهما الليلة. لا تتركه يغفل عن أمر الرسالة، هل تستطيع؟» «بالطبع، من دون شك.»
كتب إلى سيدتي فرنتشايز لإخبارهما بقدوم كيفين ماكديرموت يوم السبت ليلا، وهل بإمكانه أن يأتي به لمقابلتهما يوم الأحد عصرا قبل مغادرته إلى المدينة.
الفصل السادس عشر
سأل نيفيل، مساء اليوم التالي أثناء انتظاره هو وروبرت للضيف حتى انتهائه من الاغتسال والنزول لتناول العشاء: «هل يجب على كيفين ماكديرموت أن يبدو كبائع متنقل عند مجيئه إلى الريف؟»
رأى روبرت أن هيئة كيفين في ملابس الريف كانت تشبه حقا مدرب وثب سيئ السمعة قليلا يصلح لتدريب خيول في المسابقات المغمورة، لكنه منع نفسه من قول ذلك إلى نيفيل. متذكرا الملابس التي قد أذهل بها نيفيل الريف طيلة السنوات القليلة الأخيرة، شعر أن نيفيل ليس أهلا لأن ينتقد ذوق أحد. كان نيفيل قد حضر العشاء ببدلة رمادية داكنة تقليدية للغاية، وكان من الواضح أنه ظن أن مواكبته الحديثة العهد للذوق السائد أطلقت له العنان لنسيان الذوق التجريبي لماضيه القريب. «أعتقد أن كريستينا لا تزال مستمرة في جلد مشاعرها ضربا بالسياط؟» «بل ضربا لبياض البيض، حسب مقدرتي على تقدير الأمور.»
اعتبرت كريستينا أن كيفين بمثابة «شيطان متمثل في جسد إنسان»، وأحبته حبا شديدا. فلم تأت صفاته الشيطانية من نظرات عينيه - رغم أنه بالفعل يبدو قليلا مثل الشيطان - لكن من حقيقة أنه «يدافع عن الفاسقين من أجل مكسب دنيوي». وقد أحبته لحسن مظهره، ولكونه آثما يرجى منه صلاح، ولأنه امتدح مخبوزاتها. «آمل أن يكون كعك السوفليه، إذن، وليس حلوى المرينج. هل تعتقد أنه من الممكن استدراج ماكديرموت إلى المجيء للدفاع عنهما في محكمة المقاطعة الرئيسية في نورتون؟» «أعتقد أنه مشغول كثيرا على تولي ذلك، حتى لو كان الأمر مثيرا لاهتمامه. لكن آمل أن يأتي أحد من المسخرين تحت إمرته.» «الملقنون على يد ماكديرموت.» «تلك هي الفكرة.» «لا أفهم حقا لم كان على ماريون أن تجهد نفسها لتقدم غداء إلى ماكديرموت. ألا يدرك أن عليها إعداده ورفع الصحون عن المائدة وغسل كل شيء دون استثناء، ناهيك عن إحضاره من ذلك المطبخ العتيق الذي يبعد كثيرا عن غرفة الطعام، ثم إرجاعه إليه.» «إنها كانت فكرة ماريون أن عليه المجيء لتناول الغداء معهما. أعتقد أنها ترى أن المأزق الجديد يستحق العناء المبذول في سبيله.» «عجبا، لقد كنت طوال الوقت مولعا بكيفين، وأنت بكل بساطة لا تعرف كيف تبدأ في استشعار قيمة سيدة مثل ماريون. إنه ... إنه أمر مثير للاشمئزاز أن امرأة كتلك عليها أن تبدد نشاطها وحيويتها على أعمال المنزل المملة. إنما ينبغي لها أن تشق طريقها في الأدغال، أو تصعد المنحدرات، أو تحكم سلالة بربرية، أو تقيس حجم الكواكب. عشرات الآلاف من الشقراوات الحمقاوات المنعمات في الفراء ليس لديهن ما يفعلنه سوى إرخاء ظهورهن حتى يجف طلاء أظفارهن المفترسة، وماريون تنقل الفحم. الفحم! وماريون! أعتقد أنه في الوقت الذي تنتهي فيه القضية لن يصبح معهما بنس واحد حتى يدفعاه لخادمة حتى ولو تمكنتا من استقدام واحدة.» «ليكن أملنا أنه بعد انتهاء القضية لا يحكم عليهما بالأشغال الشاقة بموجب حكم قضائي.» «روبرت، لا يمكن أن يصل الأمر إلى ذلك! هذا محال!» «أجل، هذا محال. أعتقد أن من الصعب دائما التصديق بأن شخصا ما نعرفه يجب الزج به إلى السجن.» «إنه أمر سيئ تماما أن عليهما دخول قفص الاتهام. ماريون. التي لم ترتكب قط عملا وحشيا، أو ماكرا، أو حقيرا. ولمجرد أن ... أتعرف، لقد قضيت وقتا لطيفا الليلة الماضية. حيث وجدت كتابا عن التعذيب، وبقيت مستيقظا حتى الساعة الثانية أختار أي طريقة سأستخدمها مع كين.» «عليك الانضمام إلى ماريون. فذلك طموحها أيضا.» «وما طموحك؟» لمس تلميح طفيف بالاستخفاف في نبرة صوته؛ كما لو أنه مفهوم أن روبرت الرزين لا يحمل أي مشاعر عنيفة تجاه تلك المسألة. «أم أنك لم تفكر في ذلك؟»
قال روبرت بتأن: «لست في حاجة إلى التفكير في ذلك.» ثم تابع قائلا: «لأني سأعريها أمام الجميع.» «ماذا!» «ليست بتلك الطريقة التي فهمتها. سأنزع عنها كل ما يواري ادعاءاتها الكاذبة، في محكمة علنية، وبذلك سيراها الجميع على حقيقتها.»
نظر نيفيل إليه بفضول لوهلة. وقال بهدوء: «فليكن ذلك.» ثم تابع قائلا: «لم أعرف أن ذلك شعورك تجاه القضية يا روبرت.» كان على وشك أن يضيف شيئا، لكن انفتح الباب ودخل ماكديرموت، فكانت السهرة قد بدأت بذلك.
بعد أن تناول العشاء الفاخر الذي قدمته العمة لين بشهية، أمل روبرت ألا يكون من الخطأ اصطحاب كيفين إلى غداء يوم الأحد في منزل فرنتشايز. فكان قلقا بشدة من ألا تنجح السيدتان شارب في هذا الشأن مع كيفين، ومما لا شك فيه أن كيفين شخص مزاجي، وأن السيدتين شارب قد لا تأتيان على هوى الجميع. هل كان مرجحا أن تناول غداء في منزل فرنتشايز سيكون في صالح قضيتهما؟ غداء تطهوه ماريون؟ من أجل كيفين الذواق؟ عندما قرأ الدعوة لأول مرة - التي سلمها إياه ستانلي صباح اليوم - سره أنهما قد بادرتا بتلك اللفتة، لكن شكا تنامى في نفسه رويدا رويدا. وبينما توالت الأصناف المعدة بامتياز صنفا وراء الآخر في تسلسل متأن عبر المائدة الماهوجنية البراقة للعمة لين، مع وجه كريستينا الكبير الذي يروح ويغدو في سخاء حماسي خلف ضوء الشمعة، حينها تعاظم الشك حتى استحوذ عليه كليا. «القوالب التي لم تنتفش» ربما تملأ صدره بشفقة محصنة وحانية، لكن لا يتوقع أن يكون لها التأثير نفسه على كيفين.
على الأقل بدت السعادة على كيفين من وجوده هنا، هكذا ظن، مستمعا إلى ماكديرموت وهو يصرح بحبه للعمة لين، ويرمي كريستينا بكلمة من حين لآخر ليبقي على سعادتها ووفائها. يا إلهي، ذلك الأيرلندي! أظهر نيفيل أفضل سلوكياته، وأعار اهتماما جادا، مع دس كلمة «سيدي» وسط الكلام من حين لآخر؛ أكثر من مرة بما يكفي لتشعر كيفين برفعة مكانته ولكن ليس بالقدر الكافي الذي يشعره بكبر سنه . في الواقع، كانت الطريقة الإنجليزية الأكثر ذكاء في الإطراء. العمة لين كانت مثلها مثل فتاة متوردة الوجنتين ومشرقة؛ تمتص الإطراء مثل إسفنجة، ثم تخضعه إلى عملية كيميائية، ثم تصبه صبا مرة أخرى في هيئة سحر آسر. أثناء الاستماع إلى حديثها أبهج روبرت أنه وجد صورة السيدتين شارب قد شهدت تحولا في وجهة نظرها. لمجرد أنهما مهددتان بالسجن، فقد ترقتا من «أولئك الناس» إلى «المسكينتين». لم يكن لهذا التحول صلة بوجود كيفين؛ وإنما كان مزيجا من الطيبة الفطرية والتفكير المشوش.
فكر روبرت، متجولا بعينيه حول المائدة، أنه من الغريب أن هذا التجمع العائلي - الباعث كثيرا على السعادة، والدفء، والأمان - من المفترض أن مناسبة حدوثه هي الحاجة الماسة لسيدتين بائستين تجلسان في ذلك المنزل الذي يسوده سكون تام وسط حقول لا نهاية لها.
أوى إلى الفراش ولا تزال تحيط به هالة من دفء هذا التجمع، لكن في قلبه غصة وقلق محزن. هل ساكنتا منزل فرنتشايز نائمتان الآن؟ وإلى أي مدى كان النوم قد زار جفونهما مؤخرا؟
ظل مستيقظا مدة طويلة، ثم أفاق من نومه باكرا؛ مرهفا السمع إلى هدوء الصباح ليوم الأحد. وهو يأمل أن يصبح يوما موفقا - حيث إن منزل فرنتشايز يبدو في أسوأ حالاته تحت المطر، عندما يصير لونه الأبيض المتسخ رماديا على الأغلب - وأن يصبح أيا كان ما ستطهوه ماريون على الغداء «منتفشا». قبل الساعة الثامنة تحديدا قدمت سيارة آتية من الريف وتوقفت أسفل النافذة، وصفر شخص بصوت أشبه بنداء بوق هادئ. كان كنداء خاص بسرية. السرية بي. من المفترض أنه ستانلي. فنهض وتطلع برأسه من النافذة.
فبدا ستانلي، مكشوف الرأس كالعادة - فلم ير ستانلي قط مرتديا أي نوع من غطاء الرأس - وهو يجلس في السيارة ينظر إليه بعطف متسامح.
قال ستانلي: «أيها النائمون في يوم الأحد.» «هل أيقظتني لتسخر مني فحسب؟» «لا. أحمل رسالة من الآنسة شارب. تقول عندما تأتي عليك أن تحمل معك أقوال بيتي كين، وغير مسموح بنسيانها مهما كان السبب لأن الأمر ذو أهمية قصوى . أؤكد أن المسألة مهمة! ظلت تجيء وتذهب وحالتها تبدو وكأنها اكتشفت مليون جنيه.»
قال روبرت، غير مصدق: «تبدو سعيدة!» «مثل عروس. صدقا لم أر امرأة تبدو هكذا منذ أن تزوجت ابنة عمي بيولا من زوجها بول. كان لبيولا وجه يشبه كعكة السكون؛ وصدقني في ذلك اليوم كانت تبدو مثل الإلهة فينوس، وكليوبترا، وهيلين طروادة مجتمعات كلهن في جسد واحد.» «هل تدري ما ذلك الشيء الذي يسعد الآنسة شارب لهذه الدرجة؟» «لا. جسست النبض بالفعل ببعض التخمينات، لكن يبدو أنها تحتفظ به. على أي حال، لا تنس إحضار نسخة من الأقوال، وإلا فلن تأتي ردود الفعل بالخير، أو شيء من ذاك القبيل. كلمة السر في الأقوال.»
استكمل ستانلي طريقه نحو سين لين، وأخذ روبرت منشفته واتجه إلى الحمام في حيرة شديدة. بينما كان في انتظار الفطور، بحث عن الأقوال بين الوثائق في حقيبة أوراقه، فقرأها متمعنا مرة أخرى بنظرة جديدة. ما الذي تذكرته ماريون أو اكتشفته ليجعلها في غاية السعادة؟ كان من الواضح أن بيتي كين قد وقعت في خطأ ما. ماريون كانت مبتهجة، وأرادت منه إحضار أقوال بيتي كين عند قدومه. ذلك لم يكن ليعني شيئا غير أن نقطة ما في الأقوال بها دليل على كذب بيتي كين.
وصل حتى نهاية الإفادة من دون العثور على أي جملة لافتة للانتباه ثم بدأ يفتش فيها مرة أخرى. ماذا عساها أن تكون؟ إنها قد قالت إن السماء كانت تمطر، والسماء - ربما - لم تكن تمطر؟ لم يكن ذلك جوهريا، أو حتى مهما لمصداقية قصتها. أهي حافلة ميلفورد، إذن؟ تلك الحافلة التي قالت إنها فاتتها، عندما كانت في سيارة السيدتين شارب. أكانت التوقيتات خاطئة؟ لكنهم راجعوا التوقيتات منذ مدة طويلة، وانطبقت تقريبا بما يكفي. أهي «اللافتة المضيئة» على الحافلة؟ أكان الوقت مبكرا على إضاءة اللافتة؟ لكن ربما كانت تلك زلة من الذاكرة، وليس عاملا يشكك في مصداقية أقوالها.
أمل بشغف أن ماريون في حرصها على الوصول إلى «دليل واحد صغير» في صالحهما لم تكن تضخم بعض التناقضات التافهة لتصبح دليلا على الكذب. إن خيبة الآمال أسوأ كثيرا من ألا يوجد أمل على الإطلاق.
هذا القلق الحقيقي بدد من عقله غالبا القلق الاجتماعي من الغداء، ولم يعد يبالي كثيرا ما إذا كان كيفين سيستمتع بوجبته في منزل فرنتشايز أم لا. عندما قالت له العمة لين، سرا، أثناء استعدادها للذهاب إلى الكنيسة: «ماذا تظن أنهما ستقدمان لكما على الغداء، يا عزيزي؟ أنا واثقة تماما أنهما تعيشان على تلك الرقائق المحمصة المعبأة، يا لهما من مسكينتين.» فرد باقتضاب: «إنهما تميزان النبيذ الفاخر عند تذوقه؛ ذلك من المفترض أن يسر كيفين.»
سأل كيفين أثناء القيادة إلى منزل فرنتشايز: «ماذا قد جرى للشاب بينيت؟»
قال روبرت: «لم يدع إلى الغداء.» «لا أعني ذلك. ماذا قد جرى للبدلات الملفتة ونبرة الاستعلاء، ولماذا هذا العداء لمجلة «ذا ووتشمان»؟» «أوه، لقد دب خلاف بينه وبين مجلة «ذا ووتشمان» على هذه القضية.» «صحيح!» «لأول مرة يصبح في موضع يسمح له بأن يعرف بنفسه تفاصيل قضية تتحدث عنها مجلة «ذا ووتشمان» بحذلقة، وكان الأمر صادما له نوعا ما، أظن ذلك.» «وصلاح الحال هذا هل سيستمر إلى الأبد؟» «حسنا، أتعرف، ليس لي أن أفاجأ في حالة استمراره. بعيدا عن حقيقة أنه بلغ مرحلة عمرية يحجم فيها المرء عن التصرفات الطفولية، ويحين فيها وقت التغيير، أعتقد أنه كان يعيد النظر في بعض الأمور، ويتساءل هل أي من المحظوظين الآخرين في مجلة «ذا ووتشمان» كانوا يستحقون الدعم بالفعل أم أنهم لا يستحقون مثلما لا تستحق بيتي كين. كوتوفيتش، على سبيل المثال.»
قال كيفين، بأسلوب معبر: «هاه! الوطني المناضل!» «أجل. خلال الأسبوع الماضي فقط كان يستفيض في الحديث عن واجبنا تجاه كوتوفيتش؛ واجبنا لحمايته ورعايته - وأن نقدم له في النهاية جواز سفر بريطانيا، أظن ذلك. أشك إذا كان سيتعامل اليوم مع الأمور بهذه البساطة الشديدة. لقد نضج على نحو رائع في الأيام القليلة الماضية. لم أعرف حتى أن لديه بدلة مثل تلك التي ارتداها الليلة الماضية. لا بد أنها تلك التي ارتداها في حفلة توزيع الجوائز بكليته؛ لأنه بالتأكيد لم يرتد أي ملابس وقورة منذ ذلك الحين.» «آمل أن يدوم ذلك من أجلك. فهذا الشاب ذكي؛ وفي حال تخلصه من حيله البهلوانية فسيصبح ذا قيمة جيدة للمكتب.» «العمة لين حزينة لأنه قد افترق عن روزماري بسبب خلاف على قضية فرنتشايز، وتخشى أنه لن يتزوج بابنة أسقف في نهاية المطاف.» «يا لفرحتي! نقطة كبرى في صالحه. سأبدأ في الإعجاب بهذا الشاب. عليك، يا روب، أن تدعمه في ذلك الانفصال - وكالمعتاد - ستراه يتزوج بفتاة إنجليزية لطيفة غبية ستنجب له خمسة أطفال وتقيم لبقية الجيران مباريات تنس بين الفترات القصيرة لتوقف الأمطار في عصر أيام السبت. إنه نوع من الغباء ألطف كثيرا من الوقوف على المنصات وإبداء آراء في موضوعات لا تعرف أصلها. أهذا هو المكان؟» «أجل، هذا هو منزل فرنتشايز.» «إنه «منزل غامض» تماما.» «لم يكن غامضا عند إنشائه. كانت البوابة المزدوجة، كما ترى، لها تصميم بزخارف حلزونية - وهو تصميم لطيف نوعا ما، أيضا - حتى يصير المكان مرئيا من الطريق. لكن تعزيز البوابة بألواح من الحديد هو ما حوله من مكان عادي تماما إلى مكان سري قليلا.» «منزل مثالي لخدمة غرض بيتي كين على أي حال. يا لحظها أنها تذكرته!»
كان روبرت سيشعر بالذنب بعد ذلك لأنه لم يثق على نحو أكبر في ماريون؛ في كل من مسألة أقوال بيتي كين وكذلك الغداء. كان ينبغي أن يتذكر اتزان عقلها وقدرتها على تحليل الأمور، وكان عليه أن يتذكر موهبة السيدتين شارب في تقبل الناس على طبيعتها، والتأثير المريح لذلك على الأشخاص المعنيين. لم تتكلف السيدتان شارب عناء التقيد بمعايير العمة لين في الاستضافة، ولم تبذلا محاولة لتقديم غداء رسمي في غرفة الطعام. حيث أعدتا مائدة لأربعة أفراد أمام نافذة قاعة الاستقبال حيث تسقط أشعة الشمس. كانت مائدة من خشب أشجار الكرز، لها تجزيعات مبهجة للغاية لكنها في أشد الحاجة إلى التلميع. لكن على الجانب الآخر، كانت كئوس النبيذ لامعة لدرجة ترقى إلى لمعان الماس. (وقد اعتقد أن هذا يتواءم مع شخصية ماريون التي تركز على الشيء المهم، وتتجاهل المظاهر.)
قالت السيدة شارب: «إن غرفة الطعام مكان كئيب لدرجة لا تصدق.» وتابعت: «تعال وألق نظرة يا سيد ماكديرموت.»
كان ذلك أيضا يتواءم مع شخصية السيدة شارب. فهي لم تدع الضيف لتناول نبيذ الشيري وتبادل حديث صغير. لكن تعال وشاهد غرفة السفرة المريعة لدينا. وبذلك يصبح الضيف جزءا من المنزل من قبل أن يدرك ذلك.
قال روبرت لماريون عندما تركا وحدهما: «أخبريني، ما الأمر بشأن ...» «لا، لن أتحدث عن الأمر إلا بعد الغداء. لكنه سيثير إعجابك. إنه دليل توصلت إليه من خلال حظ لا يوجد في روعته مثيل، وقد فكرت فيه الليلة الماضية، عندما علمت أن السيد ماكديرموت سيأتي على الغداء اليوم. سيجعل كل شيء مختلفا تماما. أظن أنه لن يوقف القضية، وإنما سيجعل كل شيء مختلفا بالنسبة إلينا. إنه «الشيء الصغير» الذي صليت من أجله كي يصبح دليلا في صالحنا. هل أخبرت السيد ماكديرموت؟» «عن رسالتك. لا، لم أقل أي شيء. ظننت أنه من الأفضل ألا أخبره.»
قالت وهي تنظر إليه بمتعة محيرة: «روبرت!» ثم أردفت قائلة: «لم تكن واثقا في. خشيت أني أهذي.» «خشيت أنك ربما تبنين حقيقة كبيرة على أساس صغير أكثر من ... أكثر مما قد يحتمله. كنت ...»
قالت، بنبرة مطمئنة: «لا تخف. سيحتمل. هل تحب أن تأتي إلى المطبخ وتحمل لي صينية الحساء؟»
ومن ثم تمكنا من تقديم الطعام بدون عناء. حيث حمل روبرت صينية بها أربعة صحون من الحساء، ثم تبعته ماريون بطبق كبير مغطى بغطاء شيفيلد فضي، وبدا أن تلك هي كل الوليمة. عند انتهائهم من شرب الحساء، وضعت ماريون الطبق الكبير أمام والدتها، وزجاجة نبيذ أمام كيفين. كان الطبق عبارة عن دجاجة مطهية على الطريقة الفرنسية وحولها كل الخضروات الخاصة بها؛ أما النبيذ فكان مونراشي.
قال كيفين: «مونراشي!» ثم أضاف قائلا: «أنت سيدة رائعة.»
قالت ماريون: «أخبرنا روبرت بأنك من محبي نبيذ الكلاريت، لكن ما تبقى في غرفة النبيذ الخاصة بالسيد كرول قد تجاوز مدة صلاحيته بوقت طويل. لهذا كان الاختيار محصورا بين ذاك ونبيذ بورجندي أحمر ثقيل للغاية والذي هو جيد في الليالي الشتوية، لكنه ليس مناسبا بالدرجة مع واحدة من دجاجات مزرعة ستابلس في يوم صيفي.»
قال كيفين شيئا عن أن النساء قلما تبدي اهتماما بأي شيء لا يفور، أو ينفجر.
علقت السيدة شارب: «صراحة، لو كان ممكنا بيع تلك الزجاجات لبعناها، لكننا سعداء لدرجة تفوق الوصف أنها كميات قليلة متبقية وقد تغير مذاقها. تربيت على تقدير النبيذ. كان لزوجي غرفة نبيذ جيدة بعض الشيء، رغم أن ذوقه لم يكن جيدا مثلي. لكن أخي في ليسوايز لديه غرفة نبيذ أفضل، وذوق رفيع يليق بها.»
قال كيفين، بينما ينظر إليها وكأنه يبحث على وجه شبه: «ليسوايز؟» ثم أضاف قائلا: «أنت لست أخت تشارلي ميريديث، أليس كذلك؟» «بلى. هل تعرف تشارلز؟ لكن لا يمكنك ذلك. أنت صغير السن للغاية.»
قال كيفين: «أول مهر اشتريته بنفسي كان من رباه هو تشارلي ميريديث.» وتابع: «ظل لدي سبع سنوات ولم يرتكب خطأ واحدا أبدا.»
وبعد ذلك، لم يعد كلاهما، بالطبع، يبدي أي اهتمام بالآخرين، ولا اهتماما مفرطا بالطعام.
لمح روبرت نظرة الابتهاج والتهنئة التي تنظر بها ماريون إليه، فقال: «لقد ظلمت نفسك ظلما شديدا لما قلت إنك لا تجيدين الطهو.» «لو كنت امرأة للاحظت أني لم أطه أي شيء. أفرغت الحساء من علبته، وسخنته، ثم أضفت بعض الشيري والتوابل؛ أما الدجاجة فوضعتها في القدر كما جاءت بالضبط من مزرعة ستابلس، وصببت عليها ماء مغليا، وأضفت كل شيء يمكن أن يخطر ببالي ثم تركتها على الموقد وصليت من أجلها، والجبنة الكريمية جاءت هي الأخرى من المزرعة.» «واللفائف المذهلة المقدمة مع الجبنة الكريمية؟» «صاحبة المنزل الذي يقيم فيه ستانلي هي من أعدتها.»
فضحكا معا، في هدوء.
غدا ستذهب إلى قفص الاتهام. غدا ستظهر في عرض عام لإمتاع ميلفورد. لكن اليوم حياتها لا تزال ملكا لها، فبإمكانها أن تشاركه البهجة، وتسعد بتلك اللحظة. أو هكذا بدا الأمر تقريبا إن كانت عيناها اللامعتان دليلا على سعادتها.
أخذا أطباق الجبنة من أمام الاثنين الآخرين، اللذين لم يوقفا حديثهما انتباها لحركة الأطباق، وحملا صينيتي الأطباق المتسخة إلى المطبخ وأعدا القهوة هناك. كان المكان معتما بشدة مع أرضية ذات بلاطات حجرية، وحوض عتيق أقبضه ما إن وقع بصره عليه.
قالت ماريون، ملاحظة اهتمامه بالمكان: «لا نشغل الموقد إلا في أيام الإثنين عند الانتهاء من التنظيف.» ثم تابعت قائلة: «وعدا ذلك نطهو على موقد الزيت الصغير.»
فكر في الماء الساخن الذي يسيل على الفور في حوض الحمام المشرق عندما فتح صنبور الماء صباح اليوم، فخجل من نفسه. بعد سنوات طوال من الحياة الناعمة؛ إذ ليس بإمكانه تخيل أن يستحم أحد بماء سخن على موقد زيت.
قالت، أثناء صب القهوة الساخنة في الإبريق: «صديقك ظريف، أليس كذلك؟ وشرير قليلا - ربما يرتعد الواحد منا خوفا منه كمحام للخصم - لكنه ظريف.»
قال روبرت، بحزن: «هؤلاء هم الأيرلنديون.» وتابع: «يبدو طبيعيا بالنسبة إليهم مثله مثل التنفس. أما نحن الإنجليز المساكين فنسير الهوينى في طريق وعر أمامنا، ونتساءل كيف سلكوه.»
ومن ثم التفتت إليه لتعطيه الصينية كي يحملها، وبهذا صارت أمامه وأيديهما متلامسة تقريبا. فقالت: «يتمتع الإنجليز بصفتين هما أكثر ما أقدرهما في هذا العالم. صفتان تبرران السبب في أنهم حكموا الأرض. العطف والاعتمادية - أو التسامح والمسئولية، إذا كنت تفضل هذين المصطلحين. صفتان لم يمتلكهما الكيلتيون، وهو السبب في أن الأيرلنديين لم يرثوا شيئا غير المشاحنة. تبا، نسيت الكريمة. انتظر لحظة. فنحن نحافظ على برودتها في غرفة غسل الملابس.» ثم عادت بالكريمة وقالت، بلهجة قروية ساخرة: «سمعت أنه يقال إن هناك شيئا يدعى ثلاجات في منازل بعض الناس الآن، لكننا في غنى عن أي منها.»
وبينما كان يحمل القهوة إلى ضوء الشمس الساطع في قاعة الاستقبال، تصور البرودة المرجفة لمثل هذه المطابخ في فصل الشتاء من دون أي موقد مستعر كما قد كان في أيام الرخاء لهذا المنزل عندما كان يسيطر أحد الطهاة على ستة من الخدم وتشترى عربة كاملة من الفحم. تمنى روبرت أن لو أخذ ماريون بعيدا عن هذا المكان. لكنه لم يكن يعرف تماما إلى أين سيأخذها - فمنزله تملؤه هالة العمة لين. لا بد أن يكون مكانا حيث لا شيء لتلمعه ولا شيء لتحمله وكل شيء حرفيا يمكن إنجازه بضغطة زر. لم يكن بإمكانه أن يتخيل ماريون تقضي شيخوختها في تلميع بعض قطع الأثاث الماهوجنية.
أثناء تناولهم القهوة ساق الحوار بلطف حول إمكانية بيعهما لمنزل فرنتشايز في وقت من الأوقات وشراء بيت صغير في مكان ما.
قالت ماريون: «لا أحد سيشتري المكان. إنه مثل فيل أبيض. منزل مكلف ولا فائدة من ورائه. ليس كبيرا بما يكفي كي يصبح مدرسة، وموقعه بعيد عن المدينة؛ لذا لا يصلح كشقق سكنية، وأكبر من أن تعيش فيه أسرة واحدة في هذه الأيام.» ثم أضافت، وعيناها ممعنتان في الحائط الوردي خلف النافذة: «ربما يصلح لمستشفى أمراض عقلية»؛ ورأى روبرت أن كيفين استرق نظرة إليها ثم ولى مسرعا ببصره. «المكان هادئ، على الأقل. لا أشجار لتصدر حفيفا، ولا لبلاب لينقر على زجاج النوافذ، ولا طيور لتنعق حتى تدفعك إلى الصراخ. فالمكان في غاية الهدوء يناسب أعصابا منهكة. ربما أن شخصا ما قد يفكر فيه لهذا الغرض.»
لهذا أحبت الهدوء؛ السكون الذي كان قد ارتآه مميتا. لعل ذلك ما كانت تهفو إليه في حياتها الصاخبة والمزدحمة والحافلة بطلبات عاجلة في لندن، حياتها في الغرف المتهالكة والضيقة. لهذا كان هذا المنزل الكبير الهادئ المخيف ملاذا آمنا.
لكنه لم يعد الآن ملاذا آمنا.
يوما ما - أتمنى من الله أن يأتي ذلك اليوم - يوما ما سوف يجرد بيتي كين مما حظيت به من ثقة وحب إلى الأبد.
قالت ماريون: «والآن، أنت مدعو لمعاينة «العلية المشئومة».»
قال كيفين: «أجل، أنا مهتم أشد الاهتمام برؤية الأشياء التي ادعت الفتاة أنها تعرفت عليها. بدت لي جميع أقوالها نتاج تخمينات منطقية. مثل السجاد الأكثر خشونة على المجموعة الثانية من درجات السلم. أو خزانة الأدراج الخشبية - وهو شيء ستجده بكل تأكيد في منزل ريفي. أو صندوق الأمتعة ذي السطح المستوي.» «أجل، كانت مخيفة قليلا حينها الطريقة التي ظلت تكتشف بها الأشياء التي لدينا - ولم يكن الوقت قد اتسع لي لأستجمع قواي العقلية - ولم يتبين لي إلا بعد ذلك بمدة ضآلة ما حددته حقا في أقوالها. وقد ارتكبت خطأ فادحا تماما، لم يخطر ببال أحد إلا في الليلة الماضية. هل أحضرت الأقوال، يا روبرت؟» «أجل.» وأخرجها من جيبه.
ومن ثم صعدوا، هي وروبرت وماكديرموت، إلى المجموعة الأخيرة من درجات السلم العارية ثم قادتهما إلى داخل العلية. وقالت: «صعدت إلى هنا الليلة الماضية في جولتي المعتادة في يوم السبت في أرجاء المنزل بالممسحة. هذا هو الحل المتوفر لدينا لمشكلة تنظيف المنزل، في حال أن ذلك يثير اهتمامك. تمرر على كل الأرضيات مرة واحدة في الأسبوع ممسحة كبيرة لها قدرة على الامتصاص، مبللة جيدا بمادة ملمعة. تستغرق المهمة خمس دقائق في كل غرفة وتزيل الغبار بعيدا.»
كان كيفين يتفقد الغرفة، ويعاين المشهد من النافذة. وقال: «هذا إذن المشهد الذي وصفته.»
قالت ماريون: «أجل، ذلك هو المشهد الذي وصفته. ولو أنني أتذكر بدقة الكلمات الواردة في أقوالها، مثلما تذكرتها الليلة الماضية، فإنها قالت شيئا إنه لا يمكنها ... روبرت، هل لك أن تتفضل بقراءة الجزء الذي تصف فيه المشهد من النافذة؟»
بحث روبرت عن الفقرة ذات الصلة، ثم أخذ يقرؤها. بينما انحنى كيفين قليلا إلى الأمام محدقا في النافذة الدائرية الصغيرة، وماريون تقف وراءه، بابتسامة خافتة كعرافة.
قرأ روبرت: ««من نافذة العلية كان بإمكاني أن أرى سورا عاليا من الطوب في منتصفه بوابة حديدية ضخمة. كان يوجد طريق على الجانب الآخر من السور؛ لأني رأيت أعمدة خطوط الهاتف والبرق. لا، لم يكن بوسعي ملاحظة أي حركة سير عليه؛ لأن السور كان مرتفعا للغاية. ليس سوى أسطح الأحمال المنقولة على الشاحنات في بعض الأحيان. ولا يسعك الرؤية من البوابة؛ لأن ألواحا حديدية مثبتة عليها من الداخل. وداخل البوابة هناك مسار للسيارات يسير في اتجاه مستقيم قليلا ثم ينقسم إلى مسارين يشكلان دائرة تفضي إلى الباب. لا، لم تكن حديقة، فقط ...»»
صاح كيفين، وهو يعتدل فجأة: «ماذا!»
سأل روبرت، واندهش: «ماذا عن أي شيء؟» «اقرأ الجزء الأخير مرة أخرى، ذلك الجزء عن مسار السيارات.» ««وداخل البوابة هناك مسار للسيارات يسير في اتجاه مستقيم قليلا ثم ينقسم إلى مسارين يشكلان دائرة تفضي إلى ...»»
لكن أوقفه ضحك عال من كيفين. كلمة واحدة غير متوقعة تحمل انتصارا مبهجا.
قالت ماريون أثناء ذلك الصمت الفجائي: «أرأيت؟»
قال كيفين بهدوء، وعيناه اللامعتان تتمليان في المشهد بإعجاب: «أجل.» وتابع: «ثمة شيء لم تنتبه إليه.»
تحرك روبرت عندما أفسحت ماريون له الطريق ليقف مكانها، وبذلك رأى ما كانا يتحدثان عنه. فحدود السطح بسوره الصغير يقطع مشهد الفناء قبل أن يتفرع مسار السيارات بأي شكل من الأشكال. وليس لأحد محبوس في تلك الغرفة أن يعرف شيئا عن نصفي الدائرة اللذين يفضيان إلى المدخل.
قالت ماريون: «كما ترى، فالمحقق قرأ الوصف عندما كنا مجتمعين في قاعة الاستقبال. وعلمنا جميعا أن الوصف كان دقيقا. أقصد التوصيف الدقيق لما كان عليه الفناء؛ ولهذا تعاملنا لاشعوريا على أنه أمر مفروغ منه. حتى المحقق. أتذكر نظرته إلى المشهد من النافذة لكنها كانت إيماءة تلقائية تماما. لم يخطر ببال أي منا أن المشهد ربما لم يبد كما وصف. في الواقع، ما عدا تفصيلة واحدة صغيرة كانت كما وصفت.»
قال كيفين: «ما عدا تفصيلة واحدة صغيرة.» وتابع: «إنها وصلت في الظلام وهربت في الظلام، وتقول إنها حبست في الغرفة طوال الوقت؛ لهذا ليس بإمكانها أن تعرف أي شيء عن المسار المتفرع. ماذا تقول، مرة أخرى، عن وصولها، يا روب؟»
بحث روبرت عن الفقرة ثم قرأ: ««توقفت السيارة في النهاية وخرجت السيدة الشابة، ذات الشعر الأسود، ثم دفعت بوابة كبيرة مزدوجة على مصراعيها لدخول السيارة. ثم عادت إلى السيارة وقادتها حتى وصلنا إلى منزل. لا، كان الظلام حالكا لدرجة استحالت معها رؤية نوع المنزل، باستثناء أنه كان له درجات سلم مؤدية إلى الباب. لا، لا أتذكر عدد درجات السلم؛ أعتقد أنها أربع أو خمس درجات. أجل، بالتأكيد كانت مجموعة صغيرة من درجات السلم.» ثم تستمر في السرد عن أخذها إلى المطبخ لتناول القهوة.»
قال كيفين: «إذن.» وتابع: «ماذا عن روايتها عن مجموعة درجات السلم؟ أي وقت من الليل كان ذلك؟»
قال روبرت وهو يقلب الصفحات: «في وقت ما بعد العشاء إذا كنت أتذكر بشكل صحيح.» وأضاف: «بعد حلول الظلام، على أي حال. ها هي.» ثم قرأ: ««عندما وصلت إلى العتبة الأولى، تلك التي فوق الردهة، كان بإمكاني سماعهما تتحدثان في المطبخ. لم يكن هناك أي ضوء في الردهة. ثم واصلت النزول إلى المجموعة الأخيرة من درجات السلم، وأنا أتوقع في كل لحظة أن إحداهما ستأتي وتمسك بي، ثم اندفعت مسرعة إلى الباب. لم يكن موصدا وركضت فورا إلى الخارج ونزلت درجات السلم واتجهت نحو البوابة ثم إلى الطريق في الخارج. ركضت على امتداد الطريق - أجل، كان صلبا مثل الطريق الرئيسي - حتى عجزت عن الركض أكثر من ذلك، واسترحت على العشب حتى شعرت أني قادرة على المواصلة».»
اقتبس كيفين قائلا: «كان الطريق صلبا، مثل الطريق الرئيسي.» ثم أضاف قائلا: «والدليل أن الظلام كان حالكا لدرجة استحالت عليها رؤية سطح الأرض الذي تركض عليه.»
سادت لحظة صمت قصيرة.
قالت ماريون: «تعتقد والدتي أن هذا كاف لتكذيبها.» نقلت بصرها من روبرت إلى كيفين، ثم عادت إليه مرة أخرى، من دون أمل كبير. «لكنكما لا تعتقدان هذا، أليس كذلك؟» بصعوبة نطق هذا في صيغة سؤال.
قال كيفين: «لا. لا. ليس وحده. ربما تتملص من ذلك بمساعدة محام بارع. ربما تقول إنها كانت قد استنتجت الدائرة من دوران السيارة عند وصولها. والشيء الذي ربما أنها استنتجته، بكل تأكيد، كان هو الحركة الدائرية العادية للسيارة. ليس لأحد أن يفكر بعفوية في أي شيء بهذا القدر من الغرابة مثل ذلك المسار الدائري. فهو يشكل مسارا دقيقا، هذا كل ما في الأمر - وهذا السبب المرجح لأنها تذكرته. أظن أنه يجب الاحتفاظ بهذا الدليل الصغير لمحكمة المقاطعة الرئيسية بصفته دليلا مكملا لباقي الأدلة.»
قالت ماريون: «أجل، ظننتك ستقول ذلك.» ثم تابعت قائلة: «لست محبطة حقا. كنت سعيدة بالأمر، ليس لأني ظننت أنه سيخلصنا من التهمة، لكنه سيخلصنا من الشك الذي لا بد أنه ... لا بد أنه ...» ثم تلعثمت فجأة، متحاشية النظر إلى عيني روبرت.
أنهى كيفين الجملة، سريعا: «لا بد أنه عكر أذهاننا الصافية.» ثم رمق روبرت بنظرة ماكرة سعيدة. وتابع: «كيف خطر ذلك في بالك الليلة الماضية عندما أتيت لمسح الغرفة؟» «لا أعرف. وقفت أتطلع من النافذة، أمام المشهد الذي وصفته، وفي داخلي أتمنى لو أنه بإمكاننا إيجاد دليل واحد صغير ودقيق في صالحنا. ثم، من دون تفكير، سمعت صوت المحقق جرانت وهو يقرأ ذلك الجزء في قاعة الاستقبال. فقد أخبرنا عن أغلب القصة بأسلوبه، كما تعرف. لكن الأجزاء التي أتت به إلى منزل فرنتشايز قرأها بكلمات الفتاة. سمعت صوته - وهو صوت لطيف - يقول هذا الجزء عن مسار السيارات الدائري، ومن المكان الذي كنت أقف فيه في تلك اللحظة لم يظهر أي مسار دائري. ربما كانت استجابة لصلواتي الخفية.»
قال روبرت: «أما زلت تعتقد أنه من الأفضل أن تظهرا أمام المحكمة غدا، وندخر كل شيء لمحكمة المقاطعة الرئيسية؟» «أجل. المسألة لا تختلف في الواقع بالنسبة إلى الآنسة شارب ووالدتها. الحضور في مكان يشبه كثيرا الحضور في مكان آخر - إلا إذا كانت محكمة المقاطعة الرئيسية في نورتون أقل ثقلا على النفس من محكمة الجنح والمخالفات في موطنك الرئيسي. وكلما استغرق حضورهما مدة قصيرة كان ذلك أفضل من وجهة نظرهما. فليس لديك دليل لتقدمه أمام المحكمة غدا؛ لهذا يجب أن يكون حضورا قصيرا ورسميا. فيقتصر الأمر على استعراض الأدلة لديهم، والإعلان عن تأجيل الدفاع، وتقديم طلب للخروج بكفالة، وهكذا!»
كان هذا مناسبا لروبرت بما يكفي. لم يرد أن يطيل معاناتهما غدا؛ كان على أي حال يودع ثقة كبرى في أي حكم يصدر خارج ميلفورد، وأكثر ما لم يكن يريده، بما أن الأمر قد وصل إلى قضية الآن، هو قبول الدعوى جزئيا، أو رد الدعوى. ذلك لن يفي بغرضه المعني الذي يبتغيه لبيتي كين. أراد أن تحكى قصة ما حدث في ذلك الشهر كاملا في محاكمة علنية، في حضور بيتي كين. وفي الوقت الذي تعقد فيه جلسة محكمة المقاطعة الرئيسية بنورتون، ستصبح لديه القصة، بمشيئة الله، جاهزة لسردها.
سأل كيفين أثناء عودتهما إلى المنزل لتناول الشاي: «من بإمكاننا الاستعانة به للدفاع عنهما؟»
مد كيفين يده إلى جيبه، فاعتقد روبرت بأن ما يبحث عنه هو قائمة بالعناوين. لكن من الواضح أن ما أخرجه كان مفكرة مواعيد.
سأل: «ما تاريخ عقد الجلسة في محكمة المقاطعة الرئيسية بنورتون، هل تعرف؟»
أخبره روبرت، ثم حبس أنفاسه. «من الممكن أني ربما سآتي بنفسي. دعني أر، دعني أر.»
تركه روبرت ليرى في صمت تام. شعر بأن كلمة واحدة ينطق بها قد تبطل السحر.
قال كيفين: «أجل. لا أرى سببا يمنعني - إلا إذا وقع شيء غير متوقع. أحببت ساحرتيك. وسيسعدني أن أتولى الدفاع عنهما أمام ذلك الاتهام السيئ. من الغريب أنها أخت تشارلي ميريديث. إن ذلك الرجل العجوز هو واحد من أفضل الناس. تقريبا تاجر الأحصنة الوحيد الأمين المعروف في التاريخ. لم أتوقف عن الإقرار بالعرفان إليه على ذلك المهر. إن المهر الأول في حياة الفتى هو شيء غاية في الأهمية. إذ يؤثر على حياته بأكملها فيما بعد؛ ليس مجرد تأثير في سلوكه تجاه الخيل؛ بل كذلك في كل شيء آخر. ثمة شيء في الثقة والصداقة التي تنشأ بين الصبي والحصان الجيد الذي ...»
كان روبرت منصتا، ومرتاحا ومستمتعا. كان قد أدرك، بتهكم لطيف غير ممزوج بمرارة، أن كيفين قد تخلى عن أي فكرة عن اعتبار السيدتين شارب مذنبتين قبل أن يقدم إليه دليل المشهد الواضح من النافذة. لم يكن محتملا أن أخت تشارلي ميريديث قد تخطف أحدا.
الفصل السابع عشر
قال بن كارلي، ناظرا إلى المقاعد الطويلة المتكدسة بالحضور داخل المحكمة الصغيرة: «أمر مدهش لي دائما أن الكثير من المواطنين لديهم مهام قليلة يجب إنجازها صباح يوم الإثنين. رغم أنه حقيق علي القول بأنه قد مر وقت منذ أن كان للحاضرين مثل هذه الروح العالية. هل لاحظت تلك التي تدير متجر الملابس الرياضية؟ الصف قبل الأخير، التي ترتدي قبعة صفراء لا تليق مع مسحوق التجميل البنفسجي ولا حتى مع شعرها. إذا تركت العمل في عهدة تلك الفتاة التي من عائلة جودفري، فستنهب منها الفكة الليلة. أنقذتها من العقوبة لما كانت في الخامسة عشرة من عمرها. كانت تسرق نقودا منذ أن صارت تسير على قدميها ولا تزال مستمرة في سرقتها. ليس لفتاة أن تترك وحدها مع خزينة نقود، صدقني. وتلك السيدة آن بولين. أول مرة أراها في المحكمة. رغم أنها كانت تتجنب الحضور منذ مدة طويلة لا أعرف قدرها. وأختها تسدد طوال الوقت نقدا قيمة الشيكات المردودة. لم يكتشف أحد أبدا ما الذي تفعله بهذا المال. ربما أن أحدا يبتزها. أتساءل من عساه أن يكون. لا أستبعد أن يكون آرثر ووليس، نادل مطعم ذا وايت هارت. ثلاثة أوامر مختلفة بالدفع كل أسبوع، وآخر في الطريق، والتي ما كان لنادل أن يدفعها من راتبه.»
ترك روبرت كارلي يثرثر من دون أن يعيره سمعه. كان مدركا تماما فحسب أن الحاضرين في المحكمة ليسوا هم مجموعة المتسكعين المعتادين في صباح يوم الإثنين الذين يماطلون في الوقت حتى يفتحوا. كانت الأنباء قد انتشرت، عبر قنوات ميلفورد الغامضة؛ لذا جاءوا ليروا السيدتين شارب بينما تدانان. وكآبة المحكمة المعتادة صارت زاهية بملابس السيدات، وهدوءها المعتاد الباعث على النعاس ساده الهمس من ثرثرة الحضور.
أحد الوجوه التي رآها كان لا بد أن يكون وجها ناقما لكنه كان ودودا على نحو غريب؛ كان وجه السيدة وين، التي رآها آخر مرة تقف في حديقتها الصغيرة اللطيفة في ميدوسايد لين، بإيلزبري. وقد عجز عن التفكير في السيدة وين على اعتبار أنها عدو. إذ إنه أعجب بها، وقدرها، وشعر بالأسف لها مسبقا. كان يود لو أنه يذهب إليها ويحييها، لكن اللعبة دبرت بدقة في تلك اللحظة وصاروا رقع شطرنج ذات ألوان مختلفة.
لم يكن جرانت قد ظهر حتى الآن، لكن هالم كان حاضرا، يتحدث إلى الضابط الذي ذهب إلى منزل فرنتشايز في الليلة التي حطم فيها المخربون نوافذ المنزل.
سأل كارلي، أثناء مهلة التوقف القصيرة التي تخللت تعليقاته المتواصلة: «وما أحوال المحقق السري الخاص بك؟»
قال روبرت: «المحقق على ما يرام، لكن الأمر جلل. فالمسألة أكثر تعقيدا من الإبرة التي يضرب بها المثل أنها وقعت وسط كومة القش.»
سخر بن قائلا: «فتاة واحدة أمام العالم.» وتابع: «أتطلع لرؤية هذه الساقطة بشحمها ولحمها. أظن أنها بعد كل الرسائل التي جاءتها من المعجبين، وعروض الزواج، وتشبيهها بالقديسة بيرناديت، فإنها ستعتقد أن محكمة الجنح والمخالفات ميدان صغير للغاية عليها. هل تلقت أي عروض للتمثيل على المسرح؟» «ليس لي أن أعرف.» «أعتقد أن أمها ستمنعها على أي حال. ها هي هناك ترتدي بدلة لونها بني، تبدو في نظري سيدة متزنة كثيرا. يستعصي علي التفكير في كيف أنها أنجبت ابنة مثل ... أوه، لكنها ابنة بالتبني، أليس كذلك؟ عظة مخيفة. يثير عجبي دائما كيف لا يعرف الناس الكثير عن الأشخاص الذين يعيشون معهم. كانت هناك امرأة في هام جرين لها ابنة لا تغيب عن عينيها على حد علمها، لكن الابنة خرجت في حالة غضب ذات يوم ولم تعد والأم الثائرة ذهبت تولول إلى الشرطة، وتكتشف الشرطة أن الفتاة التي على ما يبدو أنها لم تفارق أمها ليلة واحدة هي سيدة متزوجة ولديها طفل، وأنها أخذت طفلها وذهبت لتعيش مع زوجها. راجع سجلات الشرطة إذا لم تكن تصدق بن كارلي. وبالمناسبة، إن صرت غير راض عن المحقق السري فأخبرني بذلك وسأعطيك عنوان محقق بارع. ها نحن سنبدأ.»
نهض توقيرا للقاضي، مواصلا كلامه الممل عن لون بشرة القاضي، ومزاجه المحتمل، وقضاياه المحتملة بالأمس.
حسمت ثلاث قضايا نمطية؛ فكان من الواضح أن مرتكبي المخالفات المخضرمين اعتادوا على الإجراءات، لدرجة أنهم توقعوا الخطوات المتبعة، وروبرت توقع بدرجة ما أن يقول أحد: «انتظر، ألا يمكنك؟!»
ثم رأى جرانت يدخل في هدوء ويجلس جلسة المراقب خلف مقعد الصحفيين، فأدرك أن الوقت قد حان.
دخلتا معا عندما نودي على اسميهما، ثم تبوأتا مكانيهما على مقعد صغير بشع وكأنهما تتبوآن مكانيهما في الكنيسة. رأى أن المشهد كان أشبه قليلا بذلك؛ العيون هادئة مترقبة، الهيئة الموحية بانتظار بدء العرض. لكنه انتبه فجأة لما كان سيشعر به لو أن العمة لين مكان السيدة شارب، استشعر تماما لأول مرة الإحساس الذي لا بد أن ماريون تقاسيه نيابة عن والدتها. حتى لو برأتهما محكمة المقاطعة الرئيسية من التهمة، فماذا قد يعوضهما عما تحملتاه؟ أي عقوبة تناسب جريمة بيتي كين؟
بالنسبة إلى روبرت، لكونه عتيق التفكير، فهو يؤمن بالقصاص. ربما أنه لا يتفق طوال الوقت مع النبي موسى - ألا يكون العقاب قائما دائما على العين بالعين - لكنه يتفق قطعا مع جيلبرت الذي يرى أن العقوبة يجب أن تتناسب مع الجريمة. ولم يؤمن بتاتا بأن قليلا من الحوار الهادئ مع القس والوعد بالإصلاح من شأنهما أن يحولا المجرم إلى مواطن جدير بالاحترام. فتذكر كيفين وهو يقول ذات ليلة، بعد نقاش طويل عن الإصلاح الجنائي: «إن المجرم الحقيقي به صفتان ثابتتان، وهاتان الصفتان هما ما تجعلانه مجرما. الغرور القاتل، والأنانية المفرطة. وكلتاهما صفتان فطريتان، ومتأصلتان مثلهما كمثل ملمس البشرة فيه. ربما يشبه حديثك عن «الإصلاح» حديثك عن تعديل لون العينين.»
فاعترض شخص ما قائلا: «لكن هناك غيلان من الغرور والأنانية لم يصبحوا مجرمين.»
قال كيفين: «لأنهم فقط استهدفوا زوجاتهم كضحايا بدلا من استهدافهم المصارف.» ثم أضاف قائلا: «كتبت مجلدات في محاولة لوضع تعريف للمجرم، لكن تعريفه غاية في البساطة رغم كل ذلك. المجرم هو شخص أصبح الدافع الرئيسي وراء أفعاله هو إشباع احتياجاته الشخصية الملحة. لا يمكنك شفاؤه من أنانيته، لكن يمكنك أن تجعل التمادي فيه غير مجد له. أو يكاد يكون كذلك.»
تذكر روبرت أن فكرة كيفين عن الإصلاح في السجون كانت الترحيل إلى مستعمرة للعقاب. وهو مجتمع منعزل يعمل كل فرد فيه عملا شاقا. لم يكن هذا الإصلاح ليصب في صالح السجناء. إنما ربما يوفر حياة ألطف إلى السجانين، كما قال كيفين؛ ويفرد مساحة كبرى في هذه الجزيرة المزدحمة لمنازل المواطنين الصالحين وحدائقهم؛ وبما أن أغلب المجرمين كرهوا العمل الشاق أكثر من كرههم لأي شيء آخر في هذا العالم، فربما يكون ذلك رادعا أفضل من الخطة الحالية التي، في تقدير كيفين، لم تعد خطة عقابية أكثر منها مدرسة حكومية من الدرجة الثالثة.
ناظرا إلى الجسدين داخل قفص الاتهام فكر روبرت أن «في الأزمنة القديمة السيئة» يوضع المذنب فقط في إطار خشبي تكبل فيه يداه ورأسه. أما في أيامنا هذه، فذلك الذي لم يخضع للمحاكمة هو الذي يستحق الوقوف في ذلك الإطار الخشبي، والمذنب ينقل في الحال إلى مخبأ آمن. شيء ما قد صار خطأ في مكان ما.
ارتدت السيدة شارب قبعة سوداء مسطحة من الساتان وهي التي حضرت بها إلى مكتبه صباح اليوم الذي اقتحمت فيه صحيفة «أك-إيما» قضيتهما، وبدت سيدة تقليدية، جديرة بالاحترام، لكن غريبة. ماريون هي الأخرى كانت ترتدي قبعة - اعتقد أن ذلك لم يكن بدافع توقير المحكمة أكثر منها اتقاء لنظرة عامة الناس. كانت قبعة بسيطة من اللباد، ولها حافة قصيرة؛ وطابعها التقليدي قد خفف إلى درجة ما من حدة هيئتها المعتادة التي تعكس لامبالاتها بمن حولها. مع شعرها الأسود المحجوب وعينيها اللامعتين المتواريتين لم تبد أكثر اسمرارا مما ربما تبدو عليه سيدة عادية تمضي وقتا في الهواء الطلق. رغم افتقاد روبرت لشعرها الأسود وبريق عينيها ظن أنه من الأفضل أنها أطلت بمظهر «عادي» قدر الإمكان. ربما يخفف ذلك من الشعور الفطري الذي يكنه لها خصومها بضربها حتى الموت.
ثم رأى بعدها بيتي كين.
إن الضجة التي أثيرت في مقعد الصحفيين هي ما أعلمته بحضورها المحكمة. كان يشغل مقعد الصحافة في العادة متدربون متململون على فن التغطية الصحافية؛ متدرب ممثل عن صحيفة «ميلفورد أدفرتايزر» (مرة أسبوعيا، يوم الجمعة)، ومتدرب آخر يجمع بين صحيفة «نورتون كورير» (مرتين أسبوعيا، أيام الثلاثاء والجمعة)، و«لاربورو تايمز»، وأي صحفي آخر قد يعنيه الأمر. لكن مقعد الصحفيين اليوم كان ممتلئا، والوجوه هناك لم تكن وجوها شابة أو أصابها الملل. إنما كانت وجوه رجال دعوا إلى وجبة وكانوا قد شمروا عن سواعدهم لها.
وتمثل في بيتي كين ثلثا الدافع الذي جاءوا من أجله.
لم يكن روبرت قد رآها منذ أن كانت واقفة في قاعة الاستقبال بمنزل فرنتشايز وهي ترتدي معطف مدرستها الأزرق الداكن، فأثار دهشته من جديد هيئتها الشابة وبراءتها العفوية. في الأسابيع التي مرت بعد أن رآها أول مرة كانت صورتها في عقله قد تحولت إلى صورة وحش؛ لم يفكر فيها إلا كإنسانة فاسدة ألقت بشخصين داخل قفص الاتهام. أما الآن، بعد أن رأى بيتي كين في صورتها الحقيقية الفعلية مرة أخرى، فقد صار حائرا. أدرك أن هذه الفتاة والوحش الذي في عقله هما الشخص نفسه، لكن استعصى عليه أن يميز الفرق بينهما. وإذا كان هو، ذاك الذي عرف بيتي كين تمام المعرفة في تلك اللحظة، قد أبدى رد فعل مثل ذلك في حضورها، فما بال تأثير جمالها الطفولي على الرجال الصالحين والمخلصين عندما يحين وقت حضورها؟
كانت ترتدي ملابس «عطلة نهاية الأسبوع»، وليس زي مدرستها. فملابسها الزرقاء الفاتحة جعلت الإنسان يفكر في زهور أذن الفأر واحتراق الأخشاب وأزهار الجريس والطرق الطويلة في فصل الصيف، فكان من المرجح أنها ستضلل رأي الرجال الحكماء. كانت قبعتها ذات الطابع الشبابي والبسيط والأنيق ترتكز على الخلف بعيدا عن وجهها، فكشفت بذلك عن حاجبيها الجذابين وعينيها المتباعدتين. أحل روبرت السيدة وين، من دون حتى أن يفكر في الأمر، من عبء إلباس الفتاة من أجل هذا الحدث، لكنه كان مدركا بكل أسف أنها لو كانت ظلت مستيقظة ليالي حتى تدبر هذا الزي لما كان له أن يفي بالغرض أفضل من ذلك.
عندما نودي على اسمها وسارت نحو منصة الشهود، استرق نظرة على وجوه أولئك الذين بإمكانهم أن يروها بوضوح. باستثناء بن كارلي - الذي كان ينظر إليها باهتمام شخص منسجم مع عرض داخل متحف - ثمة تعبير وحيد اعتلى وجوه الرجال، تعبير أشبه بشفقة حانية. ولاحظ أن السيدات لم يستسلمن بهذه السهولة. فالسيدات اللاتي تزداد فيهن روح الأمومة أشفقن على شبابها وضعفها، لكن السيدات الأصغر سنا لم يعترهن سوى الحماس؛ من دون أي إحساس غير إحساس الفضول.
قال بن، بصوت هامس، بينما كانت تؤدي القسم: «لا أصدق ذلك!» ثم تابع قائلا: «أتقصد أن هذه الطفلة كانت تعيش حياة عابثة لمدة شهر؟ لا أصدق أن سبق لها تقبيل أي شيء سوى الكتاب المقدس!»
تمتم روبرت، في غضب من أن كارلي المحنك والوصولي كان يستسلم: «سأحضر شهودا لإثبات ذلك.» «يمكنك إحضار عشرة شهود لا غبار عليهم، لكنك ستظل عاجزا عن الإتيان بهيئة محلفين تصدق ذلك؛ إنها هيئة المحلفين هي التي يعتد بها يا صديقي.»
صحيح، أي هيئة محلفين تلك التي قد تصدق أي شيء سيئ عنها!
أثناء مشاهدته لها وهي تستجوب عبر سرد قصتها، ذكر نفسه بشهادة ألبرت عنها: «فتاة لطيفة مهذبة» لم يكن لأحد أن يفكر فيها على أنها امرأة عابثة على الإطلاق، ولا في البراعة الفائقة التي جذبت بها الرجل الذي اختارته.
كان لها صوت مبهج كثيرا؛ صوت طفولي ناعم واضح، ليس له لهجة تميزه أو نبرة متصنعة. فسردت روايتها كشاهد مثالي؛ لا يتطوع بإضافة أمور زائدة، وبدت محددة فيما قالته. ووجد الصحفيون صعوبة بالغة في إبعاد أعينهم عنها لكتابة ملاحظاتهم المختصرة. أما القاضي فكان يفرط في تدليلها بكل وضوح. (يا ليت القاضي يكون أكثر صرامة من ذلك في محكمة المقاطعة الرئيسية!) أما أفراد الشرطة فكانوا يتعرقون قليلا من التعاطف. وجموع الحضور في المحكمة كانت ساكنة لا تصدر منها حركة.
لم يكن لممثلة قط أن يحسن استقبالها بأفضل من ذلك.
كانت هادئة تماما، بقدر ما استطاع الجميع رؤيته، وغير مدركة على ما يبدو للتأثير الذي تحدثه. لم تبذل قصارى جهدها لتوضيح وجهة نظر معينة، أو استخدام معلومة على نحو درامي. وروبرت وجد نفسه متسائلا إذا ما كان هذا التبسيط للأمور متعمدا وما إذا كانت مدركة لمدى تأثير ذلك بوضوح جلي. «وهل رتقت الملاءات بالفعل؟» «كان جسدي مجهدا من الضرب، في تلك الليلة. لكني رتقتها بعضها فيما بعد.»
وكأنها تماما كانت تقول: «كنت منشغلة باللعب ببطاقات الورق.» فقد أضفى هذا على ما قالته انطباعا مذهلا بالصدق.
لم يبد كذلك أي دليل على الانتصار نتيجة لسردها للأدلة على ادعائها. كانت قد قالت هذا وذاك عن مكان حبسها، وثبت صحته. لكنها في الواقع لم تظهر أي سعادة واضحة. عندما سئلت إن كانت تعرفت على السيدتين في قفص الاتهام، وإن كانتا هما في الحقيقة السيدتين اللتين قد حبستاها وضربتاها، فنظرت إليهما بإمعان في لحظة صمت ثم قالت إنها تعرفت عليهما، وهما هاتان السيدتان. «هل ترغب في الاستجواب يا سيد بلير؟» «لا يا سيدي. ليس لدي أسئلة لطرحها.»
أحدث جوابه ضجة بسيطة من المفاجأة وخيبة الأمل بين الحضور في المحكمة، التي تتطلع لمشاهدة أحداث درامية؛ وقوبل الأمر ممن لديهم بعض الخبرة في مثل هذه الأمور من دون إبداء تعليق، فكان بديهيا أن القضية ستحال إلى محكمة أخرى.
كان هالم قد أدلى بأقواله، ثم جاء الدور بعد استجواب الفتاة على شهود الإثبات.
إن الرجل الذي رآها والسيارة تقلها ثبت أنه موظف فرز بمكتب البريد العام يدعى بيبر. عمل على عربة بريد تابعة لشركة السكة الحديدية إل إم إس كان مسارها بين لاربورو ولندن، وأنزل في محطة مينشيل في رحلة العودة؛ لأنها قريبة من منزله. وكان يسير عبر طريق لندن المباشر الطويل من مينشيل، عندما لاحظ أن هناك فتاة صغيرة تنتظر في المحطة الخاصة بحافلات لندن. كان لا يزال على مسافة بعيدة منها، لكنه لاحظها لأن حافلة لندن قد تجاوزته منذ نحو نصف دقيقة، وقبل أن تصبح محطة الحافلات في نطاق رؤيته، وعندما رآها تنتظر هناك أدرك أن الحافلة قد فاتتها. بينما كان سائرا نحوها لكن على مسافة لا تزال بعيدة، مرت به سيارة مسرعة. لم ينظر حتى إلى السيارة لأن اهتمامه كان منصبا على الفتاة وعلى أنه لما يقترب إليها فهل عليه أن يتوقف ويخبرها بأن حافلة لندن كانت قد مرت. ثم رأى السيارة تبطئ إلى جانب الفتاة. فانحنت إلى الأمام حتى تتحدث إلى أي ممن كان في داخلها، ثم دخلت السيارة وسارت بها بعيدا.
في هذا الحين أصبح قريبا بالدرجة الكافية التي تمكنه من وصف السيارة دون أن يتمكن من قراءة رقمها. ولم يكن قد فكر في قراءة رقم السيارة على أي حال. كان سعيدا فحسب أن الفتاة قد حصلت على توصيلة بهذه السرعة.
لم يكن ليقسم على أن الفتاة موضوع القضية كانت هي الفتاة التي كان قد رآها تدلي بشهادتها، لكنه كان واثقا في قرارة نفسه. كانت ترتدي معطفا شاحب اللون وقبعة - رمادية حسب ظنه - وخفا أسود.
خف؟
حسنا، ذلك الحذاء الذي ليس به أربطة عند منطقة مشط القدم.
الحذاء الخفيف.
هكذا، كان حذاء خفيفا، لكنه أسماه خفا. (وظل مصرا، كما أظهرت نبرة صوته، على الاستمرار في تسميته حذاء خفيفا.) «هل ترغب في الاستجواب يا سيد بلير؟» «لا، شكرا لك يا سيدي.»
ثم جاء الدور على روز جلين.
الانطباع الأول الذي كونه روبرت كان عن المثالية المبتذلة لأسنانها. فذكرته بطقم أسنان مستعار صممه طبيب أسنان غير بارع. لم يوجد بكل تأكيد، وليس محتملا أن يوجد مطلقا، أي أسنان طبيعية براقة بهذه الدرجة المثالية مثل الأسنان التي قد أخرجتها روز جلين كبديل عن أسنانها اللبنية.
لم يظهر القضاة أيضا إعجابا بأسنانها، على ما يبدو؛ لهذا سرعان ما توقفت روز عن الابتسام. لكن روايتها كانت مدمرة بما يكفي. كانت معتادة على الذهاب إلى منزل فرنتشايز كل إثنين لتنظيف المنزل. وفي أحد أيام الإثنين من شهر أبريل كانت هناك كالمعتاد، وكانت تستعد للانصراف في المساء عندما سمعت صوت صراخ ينبعث من مكان ما في الطابق العلوي. فظنت أن شيئا قد أصاب الآنسة أو السيدة شارب؛ لهذا هرعت نحو قاعدة درجات السلم. فتبين أن الصراخ من مكان بعيد، وكأنه قادم من العلية . كانت على وشك الصعود، لكن السيدة شارب خرجت من قاعة الاستقبال وسألتها عما تفعله. فأخبرتها بأن هناك من يصرخ في الطابق العلوي. فقالت السيدة شارب إن هذا كلام فارغ، وإنها تتوهم أشياء، وإن وقت عودتها إلى منزلها قد حان. كان الصراخ قد توقف حينها، وأثناء حديث السيدة شارب نزلت الآنسة شارب. ثم اتجهت الآنسة شارب مع السيدة شارب إلى قاعة الاستقبال، وقالت السيدة شارب شيئا أشبه بقول «يجب أن تكوني أكثر حذرا». ففزعت، دون أن تعرف السبب تماما، ثم ذهبت إلى المطبخ وأخذت المال من المكان الذي كان يترك فيه النقود من أجلها على رف موقد المطبخ، ثم ولت مسرعة من المنزل. كان تاريخ ذلك اليوم هو 15 أبريل. تذكرت التاريخ لأنها قررت في المرة التالية التي ستعود فيها، في يوم الإثنين التالي، أن تعطي السيدتين شارب مهلة أسبوع قبل تركها العمل، وفي الحقيقة فعلت ذلك، وانقطعت عن العمل لدى السيدتين شارب منذ يوم الإثنين 29 أبريل.
سر روبرت قليلا الانطباع السيئ الذي تركته بوضوح على كل فرد من الحضور. سعادتها الواضحة في تلك الأجواء المؤثرة، وبريق أسنانها المشابه لبريق زينة الاحتفال بالكريسماس، وخبثها الواضح، وملابسها البشعة، كانت متعارضة بكل أسف مع حالة التحفظ لمن سبقها على منصة الشهود وحسن تمييزه وفطنته. ومن التعبيرات التي اعتلت وجوه الحاضرين تكون رأي عنها بأنها فتاة وقحة ولن يصدقها أحد ولو بأدنى درجة.
لكن ذلك لم يحط من أهمية الدليل الذي أقسمت عليه.
تساءل روبرت، الذي سمح لها بالانصراف، عما إذا كان من الممكن إثبات تهمة سرقة تلك الساعة عليها، إذا جاز القول. ونظرا إلى أنها فتاة قروية، جاهلة بالأساليب المتبعة في متاجر المراهنة، فكان من غير المحتمل أنها قد سرقت تلك الساعة لبيعها، وإنما أخذتها لتحتفظ بها لنفسها. وبهذا، هل هناك طريقة ما لإدانتها بالسرقة والتشكيك في صحة دليلها بهذا الصدد؟
جاءت بعدها صديقتها جلاديس ريس. لقد بدت صغيرة وشاحبة ونحيلة بالقدر الذي بدت به صديقتها مترفة. بدت خائفة ومضطربة، وأدت القسم في تردد . كانت لهجتها ثقيلة للغاية حتى استعصى على هيئة المحكمة فهمها، واضطر محامي الادعاء عدة مرات أن يترجم كلامها الإنجليزي المربك الذي لا معنى له إلى شيء أقرب من الكلام الدارج. لكن مضمون دليلها كان واضحا. في مساء يوم الإثنين 15 أبريل كانت تسير مع صديقتها، روز جلين. لا، ليس نحو أي مكان بعينه، تتمشى فقط بعد العشاء. إلى هاي وود جيئة وذهابا. فأخبرتها صديقتها روز جلين بأنها خائفة من منزل فرنتشايز لأنها سمعت صراخ شخص ما في إحدى غرف الطابق العلوي، رغم أنه من المفترض ألا يوجد أي أحد هناك. وقد عرفت، جلاديس، أن اليوم الذي أخبرتها فيه روز بذلك كان الإثنين 15 أبريل لأن روز قالت إنها عند ذهابها الأسبوع القادم ستعطي إخطارا قبل تركها العمل. وقد قدمت الإخطار وانقطعت عن العمل لدى السيدتين شارب منذ يوم الإثنين 29.
قال كارلي، عندما غادرت منصة الشهود: «ترى بم ضغطت العزيزة روز عليها.» «ما الذي يجعلك تظن أن لديها أي شيء تضغط به عليها؟» «الناس لا تأتي وتحلف كذبا من أجل الصداقة؛ ولا حتى القرويون البلهاء مثل جلاديس ريس. إن تلك الفتاة الحمقاء المسكينة التي تشبه الفأر الصغير تكاد أن تتيبس من الخوف. ولم تكن لتأتي طواعية. لا، هذه الفتاة الأخرى التي تشبه المسخ لها طريقة ما في الإقناع. ربما، هذه نقطة جديرة أن تبحث فيها إذا عجزت عن الحل.»
سأل ماريون، في طريق العودة بها هي وأمها إلى منزل فرنتشايز: «هل لعلك تعرفين بمحض الصدفة رقم ساعتك؟» وتابع: «الساعة التي سرقتها روز جلين.»
قالت ماريون: «لم أعرف حتى أن الساعات لها أرقام.» «الساعات القيمة لها.» «عجبا، ساعتي كانت قيمة، لكني لا أعرف أي شيء عن رقمها. رغم أنها مميزة للغاية. كان لها وجه من الإينامل بلون أزرق شاحب وأرقام مطلية بالذهب.» «أرقام رومانية؟» «أجل. لم تسأل؟ حتى لو أعيدت إلي لا يمكنني ارتداؤها أبدا بعد تلك الفتاة.» «ما فكرت فيه لا يتعلق كثيرا بإعادتها، بقدر ما هو إدانتها بسرقتها.» «ذلك سيصبح جيدا.» «بن كارلي يطلق عليها «المسخ»، بالمناسبة.» «يا له من اسم موفق! هكذا تبدو بالضبط. أهذا هو الرجل الضئيل الذي أردت أن تدفعنا إليه، في ذلك اليوم الأول؟» «ذلك هو.» «يسرني كثيرا أني رفضت الدفع بي إليه.»
قال روبرت، بحس رزين فجأة: «آمل أن تظلي مسرورة عند انتهاء هذه القضية.»
قالت السيدة شارب من المقعد الخلفي في السيارة: «لم نشكرك حتى الآن على التكفل بضماننا.»
قالت ماريون: «لو بدأنا نشكره على كل ما ندين به له، فلن نوفيه حقه من الشكر.»
باستثناء، كما خطر بباله، أنه قد استعان بكيفين ماكديرموت للوقوف معهما - وتلك صدفة منبعها الصداقة - ماذا كان بوسعه أن يقدمه لهما؟ ستذهبان إلى المحاكمة في نورتون بعد أقل من أسبوعين، وليس لديهما أي دليل للدفاع بأي شكل من الأشكال.
الفصل الثامن عشر
كان يوم الثلاثاء يوما مشهودا في الصحف.
الآن بعد أن صارت قضية فرنتشايز دعوى قضائية، فلم تعد ساحة النضال مفتوحة أمام صحيفة «أك-إيما» أو مجلة «ذا ووتشمان» - رغم أن صحيفة «أك-إيما» لم تتوان في تذكير قرائها السعداء أنه في التاريخ كذا وكذا كانت قد ذكرت كذا وكذا، تصريح واضح ظاهره بريء لا غبار عليه لكنه حافل بتعليقات محظورة، ولم يساور روبرت شك أنه في يوم الجمعة ستنسب مجلة «ذا ووتشمان» فضلا مماثلا إلى نفسها، بتقدير مماثل. لكن باقي الصحف، التي لم تكن قد أبدت أي اهتمام إلى حد كبير بقضية لم يكن لدى الشرطة نية في المساس بها، أفاقت بصيحة فرح لتدلي بأنباء عن القضية. حتى الصحف اليومية الأكثر رصانة تناولت ظهور السيدتين شارب في المحكمة، بعناوين رئيسية على شاكلة: «قضية استثنائية»، و«تهمة غير معهودة». أما الصحف الأقل تحفظا فنشرت أوصافا كاملة للأطراف الرئيسية في القضية، بما في ذلك قبعة السيدة شارب، وملابس بيتي كين الزرقاء، وصور لمنزل فرنتشايز، وهاي ستريت في ميلفورد، وصديقة بيتي كين من المدرسة، وأي شيء آخر له علاقة من قريب أو بعيد.
لهذا أصاب الحزن قلب روبرت. فكل من صحيفة «أك -إيما» ومجلة «ذا ووتشمان»، كل بطريقته المختلفة، كانت قد وظفت قضية فرنتشايز كحدث مثير. شيء ليوظفوه من أجل مكاسب لحظية ثم يسقطوه في الغد. لكن القضية الآن صارت محل اهتمام قومي، تتناوله أخبار جميع الجرائد من كل صنف ولون من كورنوول وحتى كيثنيس، وأظهرت الدلائل أنها صارت قضية رأي عام.
انتابه إحساس بالقنوط لأول مرة. فالأحداث تلاحقه، ولا ملاذ له. أخذت الأحداث تتراكم بعضها فوق بعض حتى بلغت أوجا مهيبا في محكمة نورتون ولم يكن بيديه ما يقدمه إلى أوج تلك الأحداث؛ لا شيء على الإطلاق. أحس بشعور رجل رأى كومة متكدسة من الصناديق الممتلئة تبدأ في الميل ناحيته ولا مأوى له ولا متكأ حتى يمنع هذا الانهيار.
صار رامسدن أكثر اقتضابا على الهاتف، وأقل تبشيرا بالخير. كان رامسدن منزعجا. «حائرا» تلك الكلمة المستخدمة في قصص المخبرين التي تحكى للصبية، ولم يكن لها أدنى صلة بأليك رامسدن الحقيقي. وبهذا فكان رامسدن منزعجا، وقليل الكلام، وكئيبا.
النقطة الوحيدة المشرقة في الأيام التي تلت جلسة المحكمة في ميلفورد كانت بفضل ستانلي، الذي طرق باب مكتبه صباح يوم الخميس، ودس رأسه في الداخل، وعندما رأى روبرت يجلس وحيدا دخل، دافعا الباب ليفتحه بيد ويفتش في جيب زي عمله باليد الأخرى.
قال: «صباح الخير.» وتابع: «أظن أنه عليك تولي تلك المسئولية. إن هاتين السيدتين في منزل فرنتشايز لا عقل لديهما. فهما تحتفظان بالجنيهات الورقية في أباريق الشاي والكتب وخلافه. إذا كنت تبحث عن رقم هاتف فمن المرجح أن تجد عملة ورقية بعشر شلنات موضوعة أمام الصفحة التي بها عنوان الجزار.» ومن ثم أخرج لفة نقود ثم عد بجد على المكتب أمام روبرت اثنتي عشرة عملة ورقية من فئة العشرة جنيهات.
قال: «مائة وعشرون جنيها.» وتابع: «مبلغ جيد، أليس كذلك؟»
قال روبرت، حائرا: «لكن ما هذا المبلغ؟» «كومينسكي.» «كومينسكي؟» «لا تقل إنك لم تراهن عليه! بعد أن نصحتنا السيدة العجوز بنفسها. هل تقصد أنك قد نسيت الأمر؟!» «ستانلي، لم أتذكر حتى في الآونة الأخيرة أن هناك سباقا مثل سباق جينيس. هل راهنت عليه إذن؟» «راهنت على ستين ضعف مبلغ المراهنة. وهذا المبلغ هو عشر المكسب الذي أخبرتها بأنه نصيبها، مقابل النصيحة.» «لكن ... العشر؟ لا بد أنك كنت تراهن بتهور يا ستانلي.» «عشرون جنيها. ضعف الحد الأقصى المعتاد لي. وبيل حقق مكسبا جيدا أيضا. سيهدي زوجته معطفا من الفراء.» «فاز الحصان كومينسكي إذن.» «فاز بفارق طول حصان ونصف بلجام محكم الشد، وكانت تلك نتيجة غير متوقعة!»
قال روبرت وهو يرتب العملات الورقية بعضها فوق بعض ويجمعها: «حسنا، إذا سار الوضع من سيئ إلى أسوأ وانتهى الحال بهما إلى الإفلاس، فبإمكان السيدة العجوز دائما أن تدير تجارة رابحة بصفتها مستشارة في مراهنات سباق الخيل.»
نظر ستانلي في صمت إلى وجهه لوهلة، بدا واضحا في نبرة صوته حزنه بشأن أمر ما. وقال: «الوضع يسير على نحو سيئ نوعا ما، أليس كذلك؟»
قال روبرت، مستخدما الأوصاف الخاصة بستانلي: «عصيب.»
قال ستانلي، بعد لحظة توقف: «لقد حضرت زوجة بيل جلسة المحاكمة.» وتابع: «وقالت لا يمكن لها أن تصدق تلك الفتاة حتى لو قالت لها بأن في الشلن اثني عشر بنسا.»
قال روبرت، متفاجئا: «حقا؟ لم؟» «إنها مهذبة تماما لدرجة تجعلها غير واقعية، كما قالت عنها. قالت إنه لم يسبق أن بدت فتاة في عمر الخامسة عشرة مهذبة مثلما بدت هي.» «بلغت السادسة عشرة الآن.» «لا بأس، السادسة عشرة. قالت إنها في يوم من الأيام كانت في الخامسة عشرة من عمرها وكذلك جميع صديقاتها، وأن هذه الفتاة الأعجوبة البريئة لم تخدعها لحظة.» «لكن أخشى كثيرا أنها ستخدع هيئة محلفين.» «لن تخدع هيئة محلفين مكونة كلها من النساء. أظن أنه لا سبيل لتدبير ذلك؟» «لا نحتاج أقل من تدابير هيرودس. ألا تريد أن تعطي هذا المال بنفسك للسيدة شارب، بالمناسبة؟» «ليس أنا. ستذهب أنت إلى هناك في وقت ما اليوم، ويمكنك أن تعطيها إياه إن شئت. لكن انتبه خذ المال مرة أخرى ثم أودعه في البنك وإلا فسينتشلاه من المزهريات بعد سنوات ويتساءلان متى وضعاه هناك.»
ابتسم روبرت وهو يضع المال في جيبه تزامنا مع صوت وقع أقدام ستانلي عند انصرافه. الناس دائما وأبدا لا يمكن توقعها. كان يظن أن ستانلي ستغمره السعادة عند عد تلك العملات الورقية أمام السيدة العجوز. لكن بدلا من ذلك غلبه الخجل. فقصة النقود في أباريق الشاي هي مجرد قصة خيالية.
أخذ روبرت النقود معه إلى منزل فرنتشايز في وقت ما بعد الظهر، وللمرة الأولى رأى الدموع في عيني ماريون. وروى لهما القصة مثلما أخبره بها ستانلي - وذكر أمر أباريق الشاي - واختتم قائلا: «ومن ثم أنابني عنه كي أعطيكما النقود»؛ وعندئذ انهمرت الدموع من عيني ماريون.
وقالت، بينما تمسك بالعملات الورقية: «لم اهتم أن يعطيها لنا؟» وتابعت: «فهو عادة ليس ... ليس ...» «أعتقد أنه ربما أدرك أنكما في حاجة إليها الآن، وأن ذلك سيجعل المسألة حساسة بدلا من كونها أمرا واقعيا. عندما أسديت له النصيحة كنت تحديدا السيدة شارب الثرية التي تعيش في منزل فرنتشايز، وكان سيدفع لك الأرباح علانية. لكنكما الآن سيدتان خرجتا بكفالة قدرها 200 جنيه لكل واحدة منكما بناء على تعهد شخصي، وبمبلغ مماثل لأحد الضامنين بالنيابة عن كل منكما؛ فضلا عن الأتعاب التي ستدفع للمحامي؛ ومن ثم أنتما، حسبما أظن، وفق طريقة تفكير ستان لستما من الناس الذين يمكن للمرء تسليمهما المال بسهولة.»
قالت السيدة شارب: «حسنا، لم تحقق كل نصائحي هامشا من الربح يصل إلى طول حصان ونصف في صالح الفائز. لكني لا أنكر أنه أسعدني كثيرا رؤية هذه النسبة. كان هذا غاية في اللطف منه.»
سألت ماريون بارتياب: «أيجب أن نحظى بنسبة كبيرة مثل العشرة بالمائة؟»
قالت السيدة شارب برصانة: «كان ذلك هو الاتفاق.» وتابعت: «ولولا نصيحتي له لكان قد خسر مبلغ الرهان على الحصان بالي بوجي في هذه اللحظة. ما هو بالي بوجي، بالمناسبة؟»
قالت ماريون، متجاهلة رحلة والدتها المعرفية: «سعيدة لمجيئك إلى هنا لأن شيئا غير متوقع قد حدث. لقد عادت إلي ساعتي.» «أتقصدين أنك عثرت عليها؟» «لا، إطلاقا، لا. لقد أرسلتها إلي بالبريد. انظر!»
أخرجت علبة بيضاء صغيرة من الكرتون، متسخة للغاية، وبداخلها ساعتها ذات وجه الإينامل الأزرق والغلاف الذي يحيط بالساعة. كان الغلاف عبارة عن ورقة رقيقة مربعة لونها وردي عليها ختم دائري مكتوب فيه «صن فالي، ترانسفال»، وكان من الواضح أنها كانت تضع بداخل الورقة برتقالة قبل أن تستخدمها كغلاف. وعلى قصاصة ورقة ممزقة كتبت بحروف كبيرة متفرقة عبارة ترجمتها: «أنا لا أريدها على الإطلاق». كان أحد الحروف مكتوبا على نحو متقطع مثل حرف صغير، مما يدل على أن من كتبها لا يجيد القراءة والكتابة.
تساءلت ماريون: «لم في رأيك صارت مشمئزة منها هكذا؟»
قال روبرت: «لا أظن لحظة أنها كذلك.» وتابع: «لا أتخيل أن تلك الفتاة قد تتخلى عن أي شيء طالته يداها.» «لكنها فعلت ذلك. وأعادتها.» «لا. بل أعادها شخص ما. شخص ما أصابه الخوف. شخص له بعض الضمير، أيضا. لو أرادت روز جلين التخلص منها لألقت بها في بركة، من دون التفكير ثانية. لكن شخصا ما يريد التخلص منها وإعادة الساعة إلى صاحبها في الآن نفسه. وهذا الشخص لديه شعور بالذنب وروح خائفة. والآن من الذي قد يشعر بالذنب تجاهك في هذه اللحظة؟ جلاديس ريس؟» «صحيح، أنت محق بالطبع بشأن روز. كان علي أن أفكر في ذلك. لم يكن محتملا أبدا أن تعيدها. بل كانت ستطؤها بقدمها في أقرب وقت. أتظن أنها ربما أعطتها إلى جلاديس ريس؟» «ذلك ربما يفسر أمورا كثيرة. ربما يفسر كيف أحضرتها روز إلى المحكمة حتى تؤيد قصة «صوت الصراخ». أقصد، لو أنها الشخص الذي تلقى الساعة المسروقة. عندما تفكرين في الأمر، فربما كان لروز فرصة ضئيلة لارتداء ساعة لا بد أن أهل ستابلس كثيرا ما رأوها في رسغك. ومن المرجح أكثر بكثير أنها تعاملت «بسخاء» مع الأمر خاطبة ود صديقتها. «شيء بسيط اشتريته.» أين تسكن جلاديس ريس؟» «لا أعلم أين تسكن؛ أظن في مكان ما عند الجهة الأخرى من البلدة. لكنها جاءت إلى العمل لدى تلك المزرعة المنزوية فيما وراء ستابلس.» «هل كان ذلك منذ مدة طويلة؟» «لا أعرف. ولا أظن ذلك.» «بهذا يمكنها ارتداء ساعة جديدة من غير أن يسألها أحد. أجل، أظن أنها جلاديس هي التي أعادت ساعتك. لو أن هناك شاهدا مترددا خلال جلسة يوم الإثنين فإنها هي جلاديس. وإذا كانت مضطربة إلى درجة إعادة متعلقاتك، فثمة أمل ضعيف يبدأ يلوح في الأفق.»
قالت السيدة شارب: «لكنها شهدت زورا.» وتابعت: «حتى شخص أبله مثل جلاديس ريس لا بد أن يكون لديه بصيص من الوعي أن ذلك لا ينظر إليه بنظرة جيدة في محكمة بريطانية.» «بوسعها أن تدعي أنها ابتزت كي تفعل هذا. إذا أوعز إليها أحد بهذا الاتجاه.»
نظرت إليه السيدة شارب. ثم سألت: «ألا يوجد شيء في القانون الإنجليزي عن التلاعب بالشهود؟» «يوجد الكثير. لكني لا أقترح اتخاذ أي خطوة بشأن التلاعب.» «ما الذي تقترح فعله إذن؟» «لا بد أن أفكر بتمعن. فالموقف حساس.» «يا سيد بلير، إن تعقيدات القانون كانت دائما فوق إدراكي، ومن المحتمل دائما أن تظل هكذا، لكنك لن تلقي بنفسك في السجن بتهمة إهانة المحكمة، أو شيء أشبه بهذا، أليس كذلك؟ ليس بوسعي تصور كيف سيصبح الموقف الحالي من دون مساندتك.»
قال روبرت إنه لا نية لديه لأن يلقي بنفسه في السجن لأي سبب كان. فهو محام لا غبار عليه ذو سمعة لا تشوبها شائبة وصاحب مبادئ سامية، وإنه لا داعي لخوفها على نفسها أو عليه.
قال: «لو كان بإمكاننا دحض شهادة جلاديس ريس في رواية روز فذلك سوف يزعزع القضية بأكملها.» ثم أردف قائلا: «إن أكثر الأدلة أهمية بالنسبة إليهم هو أن روز قد نوهت عن الصراخ من قبل أي تلميح بتوجيه التهمة إليكما. أظن أنكما لم تتمكنا من ملاحظة وجه جرانت عندما كانت روز تعرض الدليل؟ لا بد أن عقلا شديد التدقيق يصير عقبة كبيرة في قسم التحقيقات الجنائية. لا بد أنه يؤسفه استناد القضية بأكملها إلى شخص تشمئز من الاقتراب منه. والآن علي أن أعود. هل لي أن آخذ معي العلبة الصغيرة من الكرتون وقصاصة الورق المكتوب عليها؟»
قالت ماريون، وهي تضع قصاصة الورق في العلبة وتعطيها له: «إنها براعة منك استنتاج أن روز لم تكن لتعيد الساعة. كان لا بد أن تصبح محققا.» «إما أن أكون كذلك أو أكون عرافا. كل شيء يمكن استنتاجه من بقعة البيض على الصديري. إلى اللقاء.»
قاد روبرت سيارته عائدا إلى ميلفورد وعقله منشغل بهذا الاحتمال الجديد. لم يكن حلا لمأزقهم، لكنه ربما طوق نجاة.
في المكتب وجد السيد رامسدن في انتظاره؛ وهو رجل طويل، شائب الشعر، نحيف، وكئيب. «جئت لمقابلتك يا سيد بلير؛ لأن الأمر لا يمكن قوله بشكل جيد على الهاتف.» «خيرا؟» «سيد بلير، نحن نبدد أموالك. هل صادف أن عرفت عدد السكان ذوي البشرة البيضاء في العالم؟» «لا، لا أعرف.» «ولا أنا. لكن الشيء الذي تطلبه مني هو أن أتتبع مسار هذه الفتاة من بين السكان ذوي البشرة البيضاء في العالم. إن خمسة آلاف من الرجال يعملون لمدة عام ربما لن ينجحوا في ذلك. وربما ينجح فيه رجل واحد غدا. المسألة مسألة حظ بحت.» «لكن الأمر سار دائما على هذا المنوال.» «لا. في الأيام الأولى كانت الاحتمالات مقبولة. قمنا بتغطية الأماكن البديهية. الموانئ، والمطارات، وأماكن السفر، وأفضل الأماكن المعروفة لقضاء «شهر العسل». ولم أهدر وقتك أو مالك في أي سفر. لدي معارف في جميع المدن الكبرى وفي الكثير من المدن الأصغر حجما كذلك، فأرسلت إليهم طلبا مفاده: «ابحث ما إذا كان فلان وفلان أقاما في أحد الفنادق لديكم». وكان الجواب يأتي في غضون ساعات قليلة. ردود من جميع أنحاء بريطانيا. حسنا، بعد الانتهاء من ذلك، صرنا أمام افتراض صغير يسمى باقي العالم. ولا أحب أن أهدر مالك يا سيد بلير. لأن هذا ما ستصير النتيجة إليه.» «هل أفهم من ذلك أنك تستسلم؟» «لا أعتبر المسألة هكذا، بالضبط.» «تظن أن من الواجب علي أن أخطرك بإعفائك من المهمة لأنك قد فشلت.»
توتر السيد رامسدن بدرجة ملحوظة عند سماعه كلمة «فشلت». «المسألة هي مسألة إهدار قدر من المال على احتمال بعيد. هذا ليس عرض عمل، يا سيد بلير. وليست كذلك مجازفة مبشرة.» «حسنا، أعتقد أن لدي شيئا من أجلك سيسعدك، حسبما أظن.» ثم أخرج من جيبه العلبة الصغيرة من الكرتون. «أحد الشهود الذين مثلوا أمام المحكمة يوم الإثنين كانت فتاة تدعى جلاديس ريس. تمثل دورها في تقديم دليل على أن صديقتها روز جلين قد تحدثت إليها عن أصوات الصراخ في منزل فرنتشايز قبل مدة طويلة من إبداء الشرطة اهتماما بالمكان. قدمت الدليل كما ينبغي، لكن وهي مجبرة، كما لعلك تقول. كانت مضطربة، ومترددة، وبدا واضحا أنها كارهة لذلك - على عكس صديقتها روز التي كانت في غاية المرح والاستمتاع. ألمح أحد زملائي المحليين إلى أن روز جاءت بها إلى هناك بالضغط، لكنه لم يبد محتملا حينها. مع ذلك، صباح هذا اليوم، أعيدت الساعة التي سرقت من الآنسة شارب بالبريد في هذه العلبة، ومرفق بها رسالة مكتوبة. لم يكن لروز أن تكلف نفسها عناء إعادة الساعة؛ إذ ليس لها ضمير من الأساس. ولم تكن لتكتب الرسالة؛ إذ ليس لديها رغبة في الاعتراف بأي شيء. والاستنتاج الحتمي، هو أن جلاديس هي من أهديت إليها الساعة - حيث لم يكن بوسع روز ارتداؤها من دون أن يكشفها أحد على أي حال - وأنه بهذه الطريقة أقنعتها روز بتأييد أكاذيبها.»
توقف حتى يترك لرامسدن مجالا للتعليق. فأومأ السيد رامسدن، لكنها كانت إيماءة تعكس اهتماما. «لا يمكننا الآن التعامل مع جلاديس بأي حجة من دون اتهامنا بترويع الشهود. أقصد أنه من المستحيل إقناعها بالتراجع عن قصتها أمام محكمة نورتون. كل ما بوسعنا أن نفعله هو التركيز على دفعها إلى الإدلاء بالحقيقة في المحكمة. على الأرجح بإمكان كيفين ماكديرموت فعل ذلك بقوة شخصيته والإلحاح بالأسئلة، لكني أشك في ذلك، وعلى أي حال قد توقفه المحكمة قبل أن يصل إلى مراده. ومن المحتمل أن ينظروا إليه بارتياب عندما يبدأ في مضايقة أحد الشهود.» «أمن المحتمل أن يفعلوا ذلك؟» «ما أريد فعله هو أن أتمكن من تقديم هذه القصاصة المكتوب عليها إلى المحكمة بوصفها دليلا. وأن أتمكن من تأكيد أن هذا الخط هو خط جلاديس ريس. وبهذا الدليل على أنها هي من حصلت على الساعة المسروقة، بإمكاننا اقتراح أن روز ضغطت عليها لتشهد بما هو غير حقيقي، ويطمئنها ماكديرموت أنها إذا تعرضت للابتزاز حتى تقدم دليل زور فمن غير المحتمل خضوعها لعقوبة على ذلك، وحينها ستنهار وتعترف.» «وبهذا تريد أنت نموذجا من كتابة جلاديس ريس.» «أجل. خطر هذا ببالي وأنا أفكر في الأمر الآن. لدي انطباع بأن عملها الحالي هو أول عمل لها، وبهذا لا يمكن أن يكون قد مر وقت طويل على مغادرتها المدرسة. ربما يمكن لمدرستها أن تمدنا بنموذج. أو تضعنا، بحال من الأحوال، على بداية الطريق. سيصبح في صالحنا كثيرا لو حصلنا على عينة من دون اللجوء إلى طرق قد تثير مشكلات. هل تظن أن بإمكانك فعل شيء حيال ذلك؟»
قال رامسدن: «أجل، سأحصل لك على نموذج»؛ قالها كمن يقول: أعطني مهمة معقولة، وستنفذ. «هل كانت الفتاة ريس ترتاد مدرسة هنا؟» «لا، أظن أنها قدمت من الجهة الأخرى للبلدة.» «وهو كذلك، سأكتشف الأمر. وأين تعمل حاليا؟» «في مكان منعزل اسمه مزرعة برات، في الحقول على الجهة المقابلة من مزرعة ستابلس، ذلك المكان خلف منزل فرنتشايز.» «وبالنسبة إلى تتبع مسار بيتي كين ...» «أليس هناك أي شيء لا يزال بوسعك فعله في لاربورو نفسها؟ أدرك أنه ليس بيدي أن أعلمك بشئون عملك، لكنها كانت بالفعل في لاربورو.» «صحيح، ذلك المكان الذي اقتفينا أثرها فيه. في الأماكن العامة. لكن الشخص «س» ربما يعيش في لاربورو، رغم كل ما نعرفه. ربما أنها تحديدا ذهبت لتختبئ هناك. في نهاية المطاف يا سيد بلير، فإن شهرا - أو ما يقارب الشهر - مدة غريبة على اختفاء مثل هذا. مثل هذا الاختفاء تتراوح مدته عادة بين عطلة نهاية أسبوع وحتى عشرة أيام وليس أطول من ذلك. ربما أنها رافقته إلى المنزل.» «هل تعتقد أن ذلك ما حدث؟»
قال رامسدن ببطء: «لا، إذا أردت رأيي بصراحة يا سيد بلير، فإنه قد غاب عنا أن نبحث عنها في أحد المخارج.» «المخارج؟» «إنها غادرت الريف، لكن بمظهر مغاير تماما لدرجة أن تلك الصورة البريئة لا تفصح عنها مطلقا.» «لم بمظهر مغاير؟» «حسنا، لا أظن أنها منحت جواز سفر مزورا، بحيث من المفترض لها السفر بصفتها زوجته.» «أجل، بالتأكيد. أظن أن ذلك بديهي.» «ولم يكن بإمكانها أن تفعل ذلك وهي تبدو في صورتها الطبيعية. لكن مع تصفيف شعرها لأعلى وبعض مساحيق التجميل، ستبدو مختلفة تماما. ليس لديك فكرة عن الاختلاف الذي يحدثه تصفيف الشعر لأعلى في امرأة. أول مرة رأيت فيها زوجتي بهذه الإطلالة لم أتعرف عليها. حيث جعلتها تبدو مختلفة تماما، إذا أردت أن تعرف، لدرجة أني شعرت بخجل كبير منها، وكان قد مضى على زواجنا عشرون عاما.»
قال روبرت بحزن: «ذلك إذن ما تظن أنه حدث. أتوقع أنك محق.» «لهذا السبب لا أريد أن أهدر جنيها آخر من مالك يا سيد بلير. إن البحث عن الفتاة التي تظهر في الصورة لن يفيد كثيرا؛ لأن الفتاة التي نبحث عنها لم تبد مثل الصورة. لو كانت تبدو مثلها لتعرف الناس عليها من أول نظرة. في دور السينما وخلافها. تتبعنا أثرها بسهولة كافية في الوقت الذي أمضته بمفردها في لاربورو. لكن منذ ذلك الحين فصاعدا لا توجد أي معلومة عنها بتاتا. فصورتها لا تفصح عنها لأي أحد رآها بعد أن غادرت لاربورو.»
جلس روبرت يشخبط على ورق نشاف فاخر جديد أحضرته الآنسة تاف. رسم شكلا ذا خطوط متعرجة؛ جميل وجذاب. «تعي ما يعنيه هذا، أليس كذلك؟ أننا انتهينا.»
اعترض رامسدن، مشيرا إلى قصاصة الورق المكتوب عليها التي أرفقت مع الساعة: «لكن لديك هذه.» «هذه لن تجدي إلا في نقض دعوى الشرطة. لكنها لا تدحض قصة بيتي كين. حتى تتمكن السيدتان شارب من التخلص من هذا الشيء يجب أن تصبح أقوال الفتاة كاذبة. الفرصة الوحيدة أمامنا لنحقق ذلك هي اكتشاف أين كانت خلال تلك الأسابيع .» «أجل. فهمت.» «أظن أنك تفقدت أصحاب الشركات الخاصة؟» «المسافرون بالطائرات؟ أجل، بالطبع. انطبق الشيء نفسه على الطائرات. ليس لدينا أي صورة للرجل؛ لهذا ربما يكون واحدا من بين المئات من أصحاب الشركات الخاصة الذين يوجدون على متن الطائرة بصحبة رفيقات في ذلك الوقت المحدد.» «أجل. انتهينا تماما. لا أتعجب كثيرا من أن بن كارلي كان مبتهجا.» «أنت مرهق يا سيد بلير. كنت ولا تزال تمر بوقت مزعج.»
قال روبرت بسخرية: «صحيح. قلما يتولى محام ريفي عملا كهذا يثقل كاهليه.»
نظر رامسدن إليه بما يفسر على وجه رامسدن بأنها ابتسامة. قال: «بالنسبة إلى محام ريفي، فيبدو لي أنك لا تخطو خطوات على نحو سيئ يا سيد بلير. ليست سيئة بتاتا.»
قال روبرت، مبتسما بالفعل: «أشكرك.» أن يأتي ذلك على لسان أليك رامسدن فإن ذلك عمليا وسام جدارة منه. «لن أسمح لهذا الأمر بأن يحط من معنوياتك. ستحصل على وسيلة تأمين ضد أسوأ ما يحدث ... أو ما سيحدث، عندما أحصل على ذلك الدليل المكتوب.»
طرح روبرت القلم الذي كان يشخبط به. ثم قال بانفعال مفاجئ: «لست مهتما بالحصول على وسيلة تأمين.» ثم أردف قائلا: «إنما أهتم بإقامة العدل. لا طموح لدي في الحياة حاليا سوى في شيء واحد. وهو إثبات بطلان قصة بيتي كين في محاكمة علنية. وأن يكشف علنا في حضورها عن الرواية الكاملة لما كانت تفعله خلال تلك الأسابيع وأن يدعمها شهود لا غبار عليهم كما ينبغي. ما احتمالات أن نحقق ذلك، في ظنك؟ وما - أخبرني - ما الذي لم نحاول فيه بعد ومن المحتمل أن يساعدنا؟»
قال رامسدن، بنبرة جادة: «لا أعلم. ربما، الدعاء.»
الفصل التاسع عشر
كان هذا أيضا، ويا للغرابة، رد فعل العمة لين.
كانت العمة لين قد أصبحت شيئا فشيئا متصالحة مع علاقة روبرت بقضية فرنتشايز عندما انتقلت من كونها قضية محلية شائنة لتصبح قضية قومية مشهورة. ولم يعد مخزيا، في نهاية الأمر، أن تصبح على صلة بقضية ينشر عنها في صحيفة «ذا تايمز». لم تقرأ العمة لين، بالطبع، صحيفة «ذا تايمز»، إنما قرأها أصدقاؤها. القس، والكولونيل وايتيكر العجوز، والفتاة في متجر بوتس والسيدة وارن العجوز من وايمث (مدينة سوانيج الساحلية)؛ وكان مبهجا على نحو غامض التفكير في أن روبرت هو محامي الدفاع في محاكمة ذائعة الصيت، حتى لو كان الدفاع ضد توجيه تهمة بضرب فتاة لا حول لها ولا قوة. ولم يخطر بعقلها ولو من بعيد أن روبرت لن يكسب القضية. حيث اعتبرت بكل هدوء أن ذلك أمر مسلم به. ففي المقام الأول روبرت شخصيا رجل بارع للغاية، وثانيا ليس من الجائز أن يرتبط مكتب بلير وهيوارد وبينيت بفشل. حتى إنها شعرت بالأسف في داخلها، أثناء التفكير؛ لأن انتصاره سيحدث في محكمة نورتون وليس في ميلفورد حيث ربما يحضر الجميع للمشاهدة.
وبذلك فأول لمحة شك وقعت عليها كمفاجأة. وليس كصدمة، إذ إنها ظلت عاجزة عن تصور احتمالية الفشل. لكن حتما جاءتها كفكرة جديدة.
قالت، وهي تحرك قدميها تحت المائدة في محاولة لتحديد مكان مسند قدميها: «لكن يا روبرت، أنت لم تظن لحظة أنك ستخسر القضية، أليس كذلك؟»
قال روبرت: «بل العكس، لم أظن لحظة أني سأكسبها.» «روبرت!» «في محاكمة تحضرها هيئة محلفين من المعتاد أن يقدم المحامي حجة دفاع إلى هيئة المحلفين. وإلى الآن لا حجة لدينا. لهذا لا أظن أن هيئة المحلفين سيعجبها ذلك على الإطلاق.» «تبدو نكدا تماما يا عزيزي. أعتقد أنك تسمح للأمر بأن يستثير أعصابك. لم لا تستريح من العمل عصر الغد وترتب لمباراة جولف؟ لم تمارس الجولف نهائيا في الآونة الأخيرة وهذا ليس صحيا على كبدك. أقصد التوقف عن ممارسة الجولف.»
قال روبرت متعجبا: «أعجز عن تصديق أنني كنت مهتما من قبل بمصير «قطعة من المطاط» على ملعب جولف. لا بد أن ذلك كان في حياة أخرى.» «هذا ما أقوله يا عزيزي. أنت تفقد قدرتك على موازنة الأمور. وتسمح لهذه القضية بأن تزعجك بلا داع تماما. في نهاية المطاف، معك كيفين.» «ذلك ما أشك في حقيقته.» «ماذا تقصد يا عزيزي؟» «لا أتخيل أن كيفين سيستقطع من وقته ويسافر إلى نورتون ليدافع عن قضية قدر لها الخسارة. له لحظات يشطح فيها، لكنها لا تلغي حسن إدراكه.» «لكن كيفين وعد بالمجيء.» «عندما وعد بذلك كان لا يزال هناك وقت على المرافعة. أما الآن فنعد الأيام تقريبا على جلسة محكمة المقاطعة الرئيسية وما زلنا لا نمتلك أي أدلة - وليس هناك احتمال بأن نمتلك أيا منها.»
رمقته الآنسة بينيت بنظرة من فوق ملعقة حسائها. ثم قالت: «لا أعتقد، أنت تعرف يا عزيزي، أن إيمانك كاف.»
منع روبرت نفسه من القول بأنه ليس لديه أي إيمان على الإطلاق. وليس إيمانا، على أي حال، متعلقا بتدخل إلهي في قضية فرنتشايز.
قالت بسعادة: «تحل بالإيمان يا عزيزي، وستصير النتيجة مرضية.» كان واضحا أن ذلك الصمت المشحون الذي أعقب حديثهما أثار قلقها قليلا، ولهذا أضافت قائلة: «لو كنت أعرف أنك متشكك أو غير راض بشأن القضية يا عزيزي، لكنت صليت صلوات إضافية من أجل هذا الأمر منذ وقت طويل. أخشى أني سلمت بأنك أنت وكيفين ستديران الأمر بينكما.» فكان «الأمر» يعود على العدالة البريطانية. «لكن الآن ما دمت أعرف أنك قلق من الأمر فسوف أزيد بكل تأكيد بعض التوسلات الخاصة.»
إن النبرة الهادئة لطلب الإغاثة التي قيل بها ما قيل أعادت إلى روبرت حالته النفسية الجيدة.
فقال بصوته اللطيف المعتاد: «شكرا لك يا عزيزتي.»
أنزلت الملعقة على طبقها الفارغ وأرجعت ظهرها إلى المقعد، واعتلى وجهها الدائري المتورد ابتسامة غيظ. فقالت: «أعرف تلك النبرة.» وتابعت: «إنها تعني أنك تسايرني. لكن لا داعي لذلك، كما تعرف. أنا التي على حق بشأن ذلك، وأنت المخطئ. يقال بوضوح لا يعتريه شك أن الإيمان يحرك الجبال. تكمن الصعوبة دائما في الاحتياج إلى إيمان شديد إلى أبعد درجة حتى تتحرك الجبال، ومن المستحيل عمليا أن يجتمع في القلب هذا الإيمان العظيم؛ ولهذا غالبا لن تتحرك الجبال أبدا. لكن في حالات أقل شأنا - مثل الحالة الراهنة - من الممكن أن تتحلى بإيمان كاف يرقى إلى الحدث. فبدلا من أن تصير يائسا عن عمد يا عزيزي، حاول جاهدا أن تمتلك بعض الثقة في النتيجة. وفي هذه الأثناء، سأذهب إلى كنيسة سان ماثيو هذا المساء وسأمضي وقتا قليلا أصلي من أجل أن ترزق بدليل صباح الغد. هذا سيشعرك بسعادة أكبر.»
عندما دخل أليك رامسدن إلى غرفته في صباح اليوم التالي حاملا الدليل، كان أول ما خطر بذهن روبرت أنه لا شيء قد يحول دون استئثار العمة لين بالفضل في ذلك. وليست هناك أي فرصة ألا يذكره، إذ إن أول ما كانت ستسأله عنه على الغداء، بنبرة واثقة مبتهجة، سيكون: «بشرني، يا عزيزي، هل حصلت على الدليل الذي صليت من أجله؟»
كان رامسدن راضيا عن نفسه ومبتهجا؛ أمور كثيرة أمكن تفسيرها، بالأخص، من تعبيرات رامسدن إلى وجود معرفة مشتركة. «يتحتم علي يا سيد بلير، أن أعترف بكل صراحة أنه عندما أرسلتني إلى تلك المدرسة لم أكن أعلق آمالا كبيرة. ذهبت لأنها بدت نقطة انطلاق مقبولة مثلها كمثل أي نقطة، وربما أتوصل من الموظفين إلى طريقة جيدة لأتعرف بها على ريس. أو على وجه الدقة، لأسمح لأحد رجالي بالتعرف عليها. وكنت قد وضعت خطة لطريقة أحصل بها على أي شيء كتبته بخط يدها من دون قلق، بمجرد أن يشرع أحد رجالي في إقامة صداقة معها. لكنك مدهش، يا سيد بلير، جاءتك الفكرة المناسبة في النهاية.» «أتقصد أنك حصلت على ما أردناه؟!» «لقد قابلت معلمتها، وتحدثت بصراحة تامة عما أردناه والغرض منه. حسنا، بقدر من الصراحة التي تقتضيها الضرورة. قلت إن جلاديس مشتبه في إدلائها بشهادة زور - في قضية عقابها أشغال شاقة - ولكن لظننا بأنها تعرضت لابتزاز حتى تقدم دليلها، ولإثبات التعرض لابتزاز فنحن بحاجة إلى عينة من كتابتها. حسنا، عندما أرسلتني إلى هناك سلمت بأنها لم تكن قد كتبت حرفا واحدا منذ أن غادرت مرحلة الروضة. لكن معلمتها - الآنسة باجلي - قالت بأن أمنحها دقيقة لتفكر. ثم قالت: «بالطبع، لقد كانت ماهرة في الرسم، وإن لم يتوفر لدي أي شيء فربما معلمة الفنون الزائرة لديها شيء. فنحن نحب أن نحتفظ بالعمل الجيد عندما ينتجه تلاميذنا.» كان ذلك تهوينا لجميع الخيبات التي عليهم أن يغضوا الطرف عنها، كما أفترض، هؤلاء المساكين. حسنا، لم يكن علي مقابلة معلمة الفنون، لأن الآنسة باجلي، فتشت في بعض الأشياء، وأخرجت هذا.»
وضع ورقة على المكتب أمام روبرت. اتضح أنها رسم يدوي لخريطة كندا، توضح التقسيمات الرئيسية، وكذلك المدن والأنهار. لم تكن دقيقة لكنها كانت مثيرة كثيرا للاهتمام. في الجزء السفلي كتب بحروف متفرقة «الأراضي التابعة لسيادة كندا». وفي الزاوية اليمنى كان التوقيع: جلاديس ريس. «يبدو أنهم في كل صيف، في وقت الإجازة، يقيمون معرضا للأعمال، ويحتفظون بالمعروضات عادة حتى المعرض التالي في العام الذي يليه. وأفترض أنه من القسوة التخلص من المعروضات في اليوم التالي. أو ربما يحتفظون بها ليعرضوها على كبار الزائرين والمفتشين. على أي حال، هناك أدراج زاخرة بتلك الأشياء.» ثم أضاف وهو يشير إلى الخريطة: «وهذه كانت نتاج مسابقة «ارسم خريطة أي دولة من الذاكرة في غضون عشرين دقيقة» والثلاثة الفائزون قد عرضت أعمالهم. وحصد هذا العمل «المركز الثالث مكرر».»
قال روبرت، وهو يملي عينيه بالعمل اليدوي الذي رسمته جلاديس ريس: «بالكاد يمكنني تصديق ذلك.» «الآنسة باجلي كانت محقة بخصوص أنها ماهرة في استعمال يديها. ومن المضحك أنها ظلت لا تجيد الكتابة إلى هذه الدرجة. بإمكانك ملاحظة أنهم صححوا لها طريقة كتابة أحد الحروف المكتوب على نحو متقطع.»
لقد كان ذلك بإمكانه بالفعل. كان روبرت مبتهجا للغاية.
قال، ممعنا في صورة كندا التي استدعتها جلاديس من الذاكرة: «إنها ليست ذكية، أقصد الفتاة، لكن لها عينان دقيقتان.» وتابع: «ما تذكرته هو شكل الأشياء وليس الأسماء. وتهجئة الكلمات من تأليفها تماما. أظن أن «المركز الثالث مكرر» كان نظير هذا العمل المتقن.»
قال رامسدن، وهو يضع قصاصة الورق التي أرفقت مع الساعة: «إنه عمل متقن بالنسبة إلينا على أي حال.» وتابع: «لنكن ممتنين أنها لم تختر ألاسكا.»
قال روبرت: «أجل، إنها معجزة.» (معجزة العمة لين، هكذا أخبره عقله.) وأضاف: «من أمهر الرجال في مثل هذه الأمور؟»
أخبره رامسدن. «سآخذها معي إلى المدينة الآن، الليلة، وسأحصل على التقرير قبل الصباح، ثم أذهب به إلى السيد ماكديرموت في موعد الإفطار، إذا كان هذا يناسبك.»
قال روبرت: «يناسبني؟» وتابع: «هذا مثالي.» «أظنها فكرة جيدة أن نرفع البصمات منهما ومن علبة الكرتون الصغيرة. هناك قضاة لا يحبذون خبراء الخطوط اليدوية، لكن الاثنين معا سيقنعان ولو قاضيا واحدا.»
قال روبرت، وهو يناوله تلك الأشياء: «عظيم، على أقل تقدير لن يصدر حكما بالأشغال الشاقة على موكلتي.»
علق رامسدن بأسلوب ساخر: «لا شيء يضاهي النظر إلى الجانب المشرق.» فضحك روبرت. «تعتقد أني غير راض عن مثل هذا الأمر. لست كذلك. إنه حمل جسيم سيزول من عقلي. لكن الحمل الحقيقي لا يزال قائما. إن إثبات أن روز جلين سارقة وكاذبة ومبتزة - مع تنحية القسم الكذب جانبا - سيترك قصة بيتي كين كما هي دون تغيير. وقصة بيتي كين هي ما نعمد إلى تكذيبها.»
قال رامسدن؛ لكن بحماس فاتر: «لا يزال لدينا وقت.» «إن الوقت المتبقي هو فقط من أجل معجزة.» «فماذا إذن؟ ولم لا؟ المعجزات تحدث. ولم من غير المفترض أن تحدث لنا؟ في أي وقت أتصل بك غدا؟»
لكن كيفين هو الذي اتصل في اليوم التالي، بينما يفيض بالتهاني والسرور. وقال: «أنت مدهش يا روب. سأعصف بهم.»
أجل، سيكون تدريبا بسيطا ولطيفا على لعبة القط والفأر بالنسبة إلى كيفين، وبعد ذلك ستخرج السيدتان شارب من المحكمة «حرتين». حرتان لتعودا إلى منزلهما المطارد وإلى حياتهما المؤرقة؛ هاتان الساحرتان النصف مجنونتان اللتان في يوم من الأيام هددتا فتاة وضربتاها. «لا تبدو مبتهجا، يا روبرت. أهناك شيء يحبطك؟»
أخبره روبرت بما كان يفكر فيه؛ أن السيدتين شارب اللتين أنقذتا من السجن ستظلان في سجن من صنع بيتي كين.
قال كيفين: «لعله لن يحدث، لعله لن يحدث.» وتابع: «سأبذل قصارى جهدي عند استجواب الفتاة حيال الخطأ الفادح عن انقسام مسار السيارات. في الواقع، لو لم يكن مايلز أليسون هو ممثل الادعاء في الدعوى فلربما كنت أطحت بها، لكن مايلز ربما سيكون سريعا بما يكفي لاستعادة الموقف. ابتهج يا روب. على أقل تقدير ستهتز الثقة في سمعتها بدرجة كبيرة.»
لكن اهتزاز الثقة في سمعة بيتي كين لم يكن كافيا. لقد أدرك مدى التأثير الضئيل الذي سيحدثه على عامة الناس. حيث اكتسب خبرة واسعة عن النساء العاديات في الآونة الأخيرة، وقد صدمه عدم قدرته بوجه عام على تحليل أبسط الأمور. حتى لو كانت الجرائد ستعرض خبرا عن القرينة البسيطة بخصوص المشهد من النافذة - على الأرجح ستنشغل الصحف كثيرا بتناول الأمور الأكثر إثارة عن القسم الكاذب الذي أدته روز جلين - حتى إذا تناولوا الخبر، فلن يكون له تأثير على القارئ العادي. «لقد حاولوا إيقاعها في الخطأ، لكنهم لم يتمكنوا من ذلك.» هذا كل ما سيصلهم من الخبر.
ربما ينجح كيفين في زعزعة سمعة بيتي كين في نظر هيئة المحكمة، والمراسلين، والضباط، وأي عقل ناضج صادف له الحضور، لكن لا يمكنه فعل أي شيء اعتمادا على الدليل الحالي لتغيير الإحساس القوي بالمناصرة الذي أثارته قضية بيتي كين في أرجاء المنطقة. وستظل السيدتان شارب مدانتين.
وبيتي كين سوف «تنجو من العقاب».
كانت تلك بالنسبة لروبرت خاطرة أسوأ من إمكانية أن تعيش السيدتان شارب حياة مؤرقة. سوف تستعيد بيتي كين مكانتها كمحور لعائلة محبة، وتعيش في أمان وحب، وتصبح بطلة مقدسة. ازدادت نزعة روبرت الهادئ إلى القتل عند التفكير في تلك الخاطرة.
كان عليه البوح إلى العمة لين بالدليل الذي ظهر في الوقت الذي حددته في صلواتها، لكنه منع نفسه على نحو تنقصه الشجاعة من إخبارها بأن ذلك الدليل المذكور كان جيدا بما يكفي لإبطال دعوى الشرطة. فكانت ستعتبر ذلك فوزا بالقضية، و«الفوز» بالنسبة إلى روبرت، حمل معنى مختلفا تماما.
بالنسبة إلى نيفيل أيضا، بدا الأمر هكذا. ولأول مرة منذ أن جاء بينيت الشاب ليشغل فيها الغرفة الخلفية التي اعتاد أن يشغلها، فكر روبرت فيه بصفته حليفا، تجمع بينهما روح مشتركة. بالنسبة إلى نيفيل ، أيضا، كان غير وارد التفكير في أن بيتي كين «ستنجو من العقاب». وأدهش روبرت من جديد الغضب القاتل الذي يملأ العقل المسالم عند إثارة استيائه. كان لنيفيل أسلوب مميز عند نطق اسم «بيتي كين»، وكأن مقاطع الاسم مادة سامة كان عليه أن يضعها في فمه عن طريق الخطأ ثم يلفظها. وكانت كلمة «سامة»، كذلك، الصفة المفضلة إليه لينعتها بها. «ذلك الكائن السام.» وجده روبرت مريحا للغاية.
لكن حمل الموقف بعض الارتياح. حيث تقبلت السيدتان شارب الأنباء عن إفلاتهما المحتمل من حكم السجن بالوقار نفسه الذي ميز تقبلهما لأي شيء آخر، ابتداء من الاتهام الأول الذي وجهته بيتي كين وحتى تقديم الاستدعاء ثم المثول في قفص الاتهام. لكنهما، كذلك، أدركتا أن هذا سيصبح إفلاتا من العقوبة وليس تبرئة من التهمة. ستسقط دعوى الشرطة، وستحصلان على حكم نهائي من المحكمة. لكنهما ستحصلان عليه لأنه في القانون الإنجليزي لا يوجد طريق وسط. في محكمة أسكتلندية سيصبح الحكم هو عدم ثبوت التهمة لعدم كفاية الأدلة. وذلك الحكم، سيكون هو نتيجة حكم محكمة المقاطعة الرئيسية الذي ستتوصل إليه الأسبوع القادم. لمجرد أن الشرطة لم يكن لديها الأدلة الكافية لإثبات دعواها. وليس بالضرورة لأن الدعوى ظالمة.
كان متبقيا على جلسة محكمة المقاطعة الرئيسية أربعة أيام فقط عندما اعترف للعمة لين بأن الدليل كاف لإسقاط التهمة. فكان القلق المتزايد الذي طفا على ذلك الوجه الدائري المتورد كثيرا عليه. لم يكن يقصد سوى أن يمنحها ذلك الخبر المرضي ويحتفظ ببقية الأمر، لكنه وجد نفسه بدلا من ذلك يفضي إليها بكل شيء كما كان يفضي إليها بمشكلاته وهو صبي صغير، في الأيام التي كانت فيها العمة لين ملاكا ذا علم وقدرة وليست العمة لين العطوفة، الساذجة. استمعت في صمت مدهش إلى هذا السيل المفاجئ من الكلام الذي اختلف عن العبارات المعتادة المتبادلة بينهما على الغداء، وعيناها الزرقاوان كالجوهرتين يقظتان وتعكسان اهتماما.
أنهى حديثه قائلا: «ألا ترين يا عمة لين، أنه لا يعد انتصارا، إنما هو هزيمة؟» وأضاف: «إنه تشويه للعدالة. نحن لا نجاهد من أجل الحصول على حكم، وإنما نجاهد من أجل العدل. ولا أمل لدينا في الحصول عليها. ولا ذرة من الأمل!» «لكن لماذا لم تخبرني بكل هذا يا عزيزي؟ أظننت أنني لن أفهم، أو لن أوافق، أو شيئا كهذا؟» «حسنا، أنت لم تشعري بمثل ما أشعر به تجاه ...» «لمجرد أنه لم يعجبني مظهر هاتين السيدتين في منزل فرنتشايز - لا مفر من الاعتراف، يا عزيزي، بأنهما إلى الآن، ليسا من نوعية الأشخاص الذين أعجب بهم تلقائيا - لكن لمجرد أنني لم أعجب بهما كثيرا فهذا لا يعني أني لا أبالي بتحقيق العدل، من دون شك، أليس كذلك؟» «أجل، بالطبع؛ لكنك قلت صراحة إنك تجدين أن قصة بيتي كين من الممكن تصديقها، ولهذا ...»
قالت العمة لين بهدوء: «ذلك كان قبل جلسة محكمة الجنح والمخالفات.» «المحكمة؟ لكنك لم تحضري في المحكمة.» «أجل يا عزيزي، لكن الكولونيل وايتيكر حضر، ولم تعجبه الفتاة نهائيا.» «ألم تعجبه، حقا؟» «أجل. كان واضحا تماما بشأن ذلك. وقال إنه ذات مرة كان لديه - ما تسمونه - جندي أول في كتيبته، أو وحدته، أو شيء كهذا، كان يشبه بيتي كين تماما. قال إنه كان بريئا مؤذيا يوقع بين الكتيبة بأكملها وكان مزعجا أكثر من عشرات الحالات المستعصية. يا له من تعبير لطيف؛ حالات مستعصية، أليس كذلك؟! وانتهى به الحال في سجن عسكري، هكذا قال الكولونيل وايتيكر.» «مركز اعتقال عسكري.» «حسنا، شيء أشبه بذلك. وأما بالنسبة إلى الفتاة جلين من مزرعة ستابلس، فقال إن مع نظرة واحدة لها سيبدأ المرء تلقائيا في عد الأكاذيب التي وردت في كل جملة. لم تعجبه كذلك الفتاة جلين. وكما ترى، يا عزيزي، لم تكن بحاجة إلى الظن بأني لن أتعاطف مع ما يشغل بالك. أؤكد لك أن تحقيق العدل المطلق يعنيني مثلما يعنيك تماما. وسأكثف صلواتي من أجل أن يحالفك النجاح. كنت سأذهب إلى حفل مقام في حديقة منزل عائلة جليسون عصر اليوم، لكني بدلا من ذلك سأزور كنيسة سان ماثيو وسأمضي ساعة في صفاء هناك. أظن أن الجو سيمطر على أي حال. دائما ما تمطر في حفل عائلة جليسون، مساكين.» «حسنا يا عمة لين، لا أنكر أننا في حاجة إلى صلواتك. لن ينقذنا الآن سوى حدوث معجزة.» «حسنا، سأصلي من أجل أن تحدث معجزة.» «هل هي الإعفاء من لف حبل المشنقة حول رقبة البطل في آخر دقيقة؟ هذا لا يحدث إلا في القصص البوليسية وفي الدقائق الأخيرة من أفلام الغرب الأمريكي.» «مطلقا. بل يحدث كل يوم، في مكان ما في العالم. إذا وجدت طريقة لمعرفة عدد المرات التي تحدث فيها وإحصائها فلا شك أنك ستفاجأ. تتدخل العناية الإلهية، كما تعرف، عندما تفشل الوسائل الأخرى. إيمانك غير كاف يا عزيزي، كما أشرت من قبل.»
قال روبرت: «لا أؤمن بأن ملاكا من السماء سيظهر في مكتبي بتفسير لما كانت تفعله بيتي كين خلال ذلك الشهر، إذا كان ذلك ما تقصدينه.» «مشكلتك يا عزيزي، أنك تتصور الملاك كائنا بجناحين، في حين أنه من المحتمل أن يكون رجلا ضئيلا غير مهندم يرتدي قبعة من اللباد. على أي حال، سأصلي بتضرع عصر اليوم، وهذه الليلة أيضا، بكل تأكيد؛ لعل العون يأتيك غدا.»
الفصل العشرون
لم يكن ملاك السماء رجلا ضئيلا غير مهندم، كما اتضح فيما بعد؛ وكانت قبعته من اللباد ذات طراز أوروبي يؤسف لها وبها حافة ملفوفة بإحكام تظهر من جميع الجوانب. وقد وصل إلى مكتب بلير وهيوارد وبينيت في نحو الساعة الحادية عشرة والنصف من صباح اليوم التالي.
قال السيد هيزيلتاين العجوز، وهو يقحم رأسه داخل باب مكتب روبرت: «سيد روبرت، سيد يدعى لانج في المكتب يريد مقابلتك. هو ...»
لم يكن روبرت، الذي كان منشغلا، يتوقع مجيء ملائكة من السماء، واعتاد تماما على مباغتة الغرباء بالحضور إلى مكتبه وطلب مقابلته، فقال: «ماذا يريد؟ أنا مشغول.» «لم يقل. اكتفى بقول إنه يرغب في مقابلتك ما لم تكن منشغلا للغاية.» «حسنا، أنا مشغول لأقصى درجة. هل يمكنك معرفة ما يريده بأسلوب لبق، من فضلك؟ وإذا لم يكن الأمر مهما فبإمكان نيفيل التعامل معه.» «أجل، سأعرف ما يريده؛ لكن لغته الإنجليزية يصعب فهمها، ولا يبدي استعدادا كبيرا حتى ...» «لغته الإنجليزية؟ أتقصد أنه ألثغ؟» «لا أقصد أن نطقه للإنجليزية غير جيد. فهو ...» «أتقصد أنه رجل أجنبي؟» «أجل. من كوبنهاجن.» «كوبنهاجن! لماذا لم تخبرني بذلك من قبل؟!» «لم تعطني فرصة يا سيد روبرت.» «أدخله يا تيمي، أدخله. يا لرحمة السماء! هل تصبح الحكايات الخيالية حقيقة؟»
كان السيد لانج يشبه قليلا أحد الأعمدة النورمانية لكاتدرائية نوتردام. له القدر نفسه من الاستدارة، والقدر نفسه من الارتفاع، والقدر نفسه من الرسوخ، والقدر نفسه من المظهر الجدير بالثقة. بعيدا على قمة هذا العمود المستدير الراسخ المنتصب كان وجهه يشع صلاحا يلين له القلب.
قال: «هل أنت السيد بلير؟» وتابع: «اسمي لانج. أعتذر عن إزعاجك» - وقد تعذر عليه نطق الكلمة الأخيرة كما ينبغي - «لكن الأمر مهم. مهم لك، هذا ما أقصده. على الأقل، كما أظن.» «تفضل بالجلوس، سيد لانج.» «شكرا، شكرا. الجو دافئ، أليس كذلك؟ ربما ذلك اليوم الذي يصادفك ويحل فيه الصيف ووقت المرح؟» فابتسم إلى روبرت. «هذا معنى تعبير اصطلاحي بالإنجليزية، مزحة عن يوم من أيام الصيف. لدي اهتمام كبير بالتعبيرات الاصطلاحية في اللغة الإنجليزية. وبسبب هذا الاهتمام بالتعبيرات الاصطلاحية الإنجليزية جئت لمقابلتك.»
هوى قلب روبرت إلى كعبيه مثلما يهوي عند هبوط مفاجئ لمصعد سريع. حكاية خيالية، حقا. لا؛ الحكايات الخيالية تظل حكايات خيالية.
قال على نحو مشجع: «خيرا؟» «أنا أدير فندقا في كوبنهاجن، يا سيد بلير. فندق اسمه ريد شوز (الحذاء الأحمر). ليس، بالطبع، لارتداء أي أحد هناك حذاء أحمر، لكن السبب في ذلك هو حكاية أندرسن الخيالية، التي ربما أنك ...»
قال روبرت: «أجل، أجل. لقد صارت إحدى الحكايات الخيالية الشهيرة لدينا أيضا.» «صدقا! صحيح. رجل عظيم، أندرسن. رجل بسيط للغاية ثم صار الآن عالميا. أمر يثير العجب. لكني أضيع وقتك يا سيد بلير، أضيع وقتك. ماذا كنت أقول؟» «عن التعبيرات الاصطلاحية الإنجليزية.» «آه، أجل. إن دراسة اللغة الإنجليزية هي هويتي.»
فصحح روبرت ، بعفوية: «هوايتي.» «هوايتي. شكرا لك. من أجل كسب العيش أدير فندقا ... لأن والدي ووالده كانا يديرانه قبلي - لكن كهو ... هواية؟ أجل؛ أشكرك - لكن كهواية أدرس التعبيرات الاصطلاحية في اللغة الإنجليزية. لهذا يحضرون لي كل يوم الصحف التي يتركونها هنا وهناك.» «من الذين يتركونها؟» «النزلاء الإنجليز.» «آه، فهمت.» «في المساء، عند ذهابهم إلى النوم، يجمع الخادم الجرائد الإنجليزية ويتركها في مكتبي. وأنا مشغول، في العادة، ولا يتسع الوقت لي لمطالعتها؛ لهذا تتراكم الجرائد فوق بعضها وعندما يتسع لي الوقت أختار واحدة وأذاكرها. هل كلامي واضح يا سيد بلير؟» «على أكمل وجه، على أكمل وجه يا سيد لانج.» طيف من الأمل كان يلوح من جديد. جرائد؟ «وهكذا يسير الحال. في بعض لحظات الفراغ، أقرأ قليلا في صحيفة إنجليزية، وأتعلم تعبيرا جديدا - ربما تعبيرين - كل ذلك من دون انفعال. كيف تقول ذلك؟» «ببال رائق.» «هكذا. بال رائق. وذات يوم أخذت هذه الصحيفة من كومة الصحف، مثلما ربما آخذ أي صحيفة أخرى، ونسيت كل شيء عن التعبيرات الاصطلاحية.» ثم أخرج من جيبه الواسع نسخة مطوية طية واحدة من صحيفة «أك-إيما»، ثم بسطها على المكتب أمام روبرت. كان إصدار يوم الجمعة، 10 مايو، مع صورة بيتي كين تشغل ثلثي الصفحة. «نظرت إلى هذه الصورة. ثم نظرت داخل الصحيفة وقرأت القصة. ثم حدثت نفسي بأن هذا شيء لا يوجد في غرابته مثيل. الأمر الأكثر غرابة. تقول الصحيفة إن هذه الصورة هي لبيتي كان. هل أنطق الاسم بشكل صحيح؟» «كين.» «آه. هكذا. بيتي كين. لكنها كذلك صورة السيدة تشادويك، التي أقامت في فندقي مع زوجها.» «ماذا!»
بدا السيد لانج مسرورا. «هل أثار ذلك اهتمامك؟ آمل ذلك. كنت آمل ذلك حقا.» «أكمل. أخبرني.» «لقد أقاما لدي مدة أسبوعين. وكان ذلك أكثر شيء غريب، يا سيد بلير؛ لأنه في الوقت الذي كانت فيه تلك الفتاة المسكينة تضرب وتحرم من الطعام في علية بمنزل إنجليزي، كانت السيدة تشادويك تأكل مثل ذئب صغير في فندقي - القشدة التي كان بإمكان تلك الفتاة أكلها يا سيد بلير، حتى أنا، الرجل الدنماركي، كنت مندهشا - وتستمتع بوقتها إلى أقصى حد.» «حقا؟» «حسنا، قلت لنفسي: رغم كل شيء فإنها صورة. ورغم أنها الهيئة نفسها التي بدت عليها عندما تركت شعرها مسترسلا عند مجيئها إلى حفلة الرقص ...» «مسترسلا!» «أجل. كانت تصفف شعرها لأعلى، كما تفهم. لكن كان لدينا حفلة رقص بملابس متنكرة ... ملابس متنكرة؟» «أجل. ملابس تنكرية.» «آه. هكذا. ملابس تنكرية. وحتى يليق مع فستانها التنكري تركت شعرها مسترسلا. مثلما تبدو بالضبط هناك.» ثم نقر بإصبعه على الصورة. «لهذا حدثت نفسي: إنها صورة، في نهاية الأمر. كم مرة رأى الواحد منا صورة لا تشبه شخصا حقيقيا ولو بأدنى درجة. وما العلاقة الممكنة التي تربط هذه الفتاة في الجريدة بالسيدة تشادويك الشابة التي أقامت هنا مع زوجها خلال تلك المدة! لهذا فأنا كنت منطقيا مع نفسي. لكني لم أتخلص من الصحيفة. لا. لقد احتفظت بها. ومن حين لآخر ألقي نظرة عليها. وفي كل مرة أنظر لها أفكر: لكن تلك هي السيدة تشادويك. لهذا بقيت حائرا، وعندما أذهب إلى النوم أفكر في الأمر بينما ينبغي علي التفكير في التسوق ليوم الغد. بحثت عن تفسير من تلقاء نفسي. ألها توأم، ربما؟ لكن لا؛ بيتي كين طفلة وحيدة. بنات عم. صدفة. شبيهة لها. فكرت في كل الاحتمالات. وفي الليل ترضيني تلك الاحتمالات، فأتقلب على جانبي ثم أخلد إلى النوم. لكن في الصباح أنظر إلى الصورة، ويصبح كل شيء مشتتا مرة أخرى. فكرت؛ لا لبس في أن تلك هي السيدة تشادويك. أتفهم مأزقي؟» «تماما.» «ثم عندما جئت إلى إنجلترا في مهمة عمل، وضعت الصحيفة التي تحمل اسما عربيا ...» «عربيا؟ آه، أجل، فهمت. لم أقصد مقاطعتك.» «وضعتها في حقيبتي، ثم بعد العشاء أخرجتها وعرضتها على صديق لي أقيم عنده. أقيم مع زميل لي في منطقة بايزووتر، لندن. أبدى صديقي حماسا في الحال ثم قال: لكن القضية صارت الآن من اختصاص الشرطة، وتلكما السيدتان تؤكدان أنهما لم يسبق لهما رؤية الفتاة من قبل. فقد ألقي القبض عليهما بسبب ما من المفترض أنهما ارتكبتاه في حق هذه الفتاة وستحاكمان على ذلك. ثم نادى على زوجته: «ريتا! ريتا! أين صحيفة الثلاثاء الماضي؟» إنها أحد شئون الأسرة، الخاصة بصديقي، حيث لا بد من الاحتفاظ بصحيفة الثلاثاء من الأسبوع الماضي. ثم جاءت زوجته بالصحيفة وعرض علي تقرير المحاكمة ... لا، ال... ال...» «المثول أمام المحكمة.» «أجل. مثول السيدتين في المحكمة. وقرأت كيف من المزمع أن تعقد محاكمة في مكان ما في البلد في غضون ما يزيد قليلا على أسبوعين. حسنا لم يتبق عليها، بحلول الآن، سوى أيام معدودات. لهذا فقد قال صديقي: إلى أي مدى أنت متأكد، يا أينار، أن تلك الفتاة والسيدة تشادويك التي كانت لديك هما شخص واحد؟ فقلت: أنا واثق تماما من ذلك. فقال لي: في الصحيفة هنا اسم محامي السيدتين. لم يرد ذكر لعنوانه، لكن قرية ميلفورد هذه مكان صغير للغاية ومن السهل العثور عليه. سنشرب قهوة غدا في الصباح الباكر - كان ذلك هو الفطور - ثم ستتجه إلى ميلفورد وتخبر هذا المدعو السيد بلير بما تعتقد حول الأمر. وها أنا ذا هنا يا سيد بلير. فهل أنت مهتم بما أقوله؟»
أسند روبرت ظهره إلى المقعد، وأخرج منديله، ومسح جبينه. «هل تؤمن بالمعجزات يا سيد لانج؟» «بكل تأكيد. أنا مسيحي. وفي الواقع، رغم أني لست كبيرا في السن بالدرجة، لكني شهدت معجزتين.» «حسنا، لقد صارت لك يد في معجزة ثالثة.»
ابتسم السيد لانج ابتسامة عريضة وقال: «حقا؟» وأضاف: «هذا يجعلني في غاية السعادة.» «لقد أنقذتنا من الغرق.» «غرق؟» «هذا تعبير اصطلاحي إنجليزي. أنت لم تنقذنا من الغرق فحسب. أنت عمليا أنقذت حياتنا.» «هل تظن، إذن، كما أظن أنهما شخص واحد، تلك الفتاة والنزيلة التي أقامت لدي في فندق ريد شوز؟» «ليس لدي شك ولو للحظة في ذلك. أخبرني، هل لديك تواريخ إقامتها لديك؟» «آه، أجل، بكل تأكيد. ها هي. وصلت هي وزوجها جوا يوم الجمعة 29 مارس، وغادرا - جوا مرة أخرى، أظن ذلك، رغم أني لست واثقا تمام الثقة - يوم 15 أبريل، يوم إثنين.» «أشكرك. وبالنسبة إلى «زوجها»، كيف كانت هيئته؟» «شاب. ذو بشرة سمراء. ومظهر جيد. ونوعا ما - الآن، ما الكلمة المناسبة؟ لامع للغاية. مزخرف؟ لا.» «مبهرج؟» «بالضبط. هكذا هي. مبهرج. مبهرج قليلا، كما أظن. لاحظت أنه لم يلق استحسانا كبيرا من الرجال الإنجليز الآخرين الذين جاءوا وانصرفوا.» «أكان تحديدا في إجازة؟» «لا، أوه، لا. كان في مهمة عمل في كوبنهاجن.» «ما نوع العمل؟» «هذا ما لا أعرفه، أعتذر عن ذلك.» «هل بوسعك أن تخمن؟ ما أكثر الاهتمامات المحتملة التي قد تثيره في كوبنهاجن؟» «هذا يعتمد يا سيد بلير، ما إذا كان مهتما بالشراء أو البيع.» «ما كان عنوانه في إنجلترا؟» «لندن.» «واضح على نحو جيد. هل لك أن تعذرني دقيقة حتى أجري مكالمة هاتفية؟ هل تدخن؟» ففتح له علبة سجائر ودفعها نحو السيد لانج. «ميلفورد 195. ستمنحني شرف تناول الغداء معي يا سيد لانج، أليس كذلك؟ عمة لين؟ علي الذهاب إلى لندن فورا بعد الغداء ... أجل، الليلة. هل لك أن تكوني ملاكا وتحزمي حقيبة صغيرة من أجلي؟ ... شكرا لك، حبيبتي. هل يناسبك إذا عدت إلى المنزل ومعي شخص ليتناول ما توفر على الغداء اليوم؟ أوه، جيد ... أجل، سأسأله.» ثم كتم سماعة الهاتف، وقال: «عمتي، التي هي في الواقع ابنة عمي، تريد أن تعرف إذا كنت تأكل فطائر؟»
قال السيد لانج بابتسامة عريضة وحركة واسعة تشير إلى امتلاء جسده: «سيد بلير!» وتابع: «أهذا سؤال يليق برجل دنماركي؟»
قال روبرت في الهاتف: «إنه يحبها.» وأضاف: «أقول لك يا عمة لين. هل ستفعلين أي شيء مهم عصر اليوم؟ ... لأني أظن أن ما عليك فعله هو الذهاب إلى كنيسة سان ماثيو من أجل تقديم الشكر والعرفان ... إن ملاك السماء الذي أخبرتني عنه قد وصل.»
حتى السيد لانج كان بوسعه أن يسمع ابتهاج العمة لين: «روبرت! لا، غير معقول!» «بشحمه ولحمه - لا، ليس أشعث نوعا ما - طويل القامة للغاية ووسيم ومثالي تماما من أجل الدور ... ستقدمين له غداء شهيا، أليس كذلك؟ ... أجل ، هو ذاك الذي سيأتي على الغداء. ملاك السماء.»
أغلق الهاتف ورفع بصره إلى السيد لانج المبتهج. «والآن يا سيد لانج، لنذهب إلى فندق روز آند كراون ونشرب بعض البيرة الفاخرة.»
الفصل الحادي والعشرون
عندما توجه روبرت إلى منزل فرنتشايز، بعد مرور ثلاثة أيام، حتى يقل سيدتي شارب إلى نورتون لحضور محاكمة محكمة المقاطعة الرئيسية في اليوم التالي، وجد أجواء عرس تحيط بالمكان. حوضان مذهلان من زهور المنثور الصفراء قائمان على الدرجة العلوية من السلم؛ والردهة المظلمة تتلألأ بالزهور مثل كنيسة مزينة لاستقبال حفل زفاف.
قالت ماريون، ملوحة بيديها كتفسير للبهجة المنتشرة: «إنه نيفيل!» وتابعت: «قال لا بد أن يكون المنزل اليوم في عيد.»
قال روبرت: «يا ليتني كنت قد فكرت في ذلك.» «بعد الأيام القليلة الأخيرة، سيفاجئني لو استطعت التفكير بأي حال من الأحوال. لولاك، ما كنا لنشهد هذه البهجة التي نحن فيها اليوم!» «تقصدين لولا رجل يدعى بيل.» «بيل؟» «ألكسندر بيل. مخترع الهاتف. لولا هذا الاختراع لكنا لا نزال نتحسس في الظلام. سيستغرق الأمر مني شهورا قبل أن أتمكن من النظر إلى هاتف دون أن أنتفض.» «هل أخذت الأمر كله على عاتقك؟» «أوه، لا. كان لكل منا هاتفه. كيفين وموظفه في غرفة الاجتماعات الخاصة به، وأنا في شقته الصغيرة في المنطقة المحيطة بكاتدرائية سان بول، وأليك رامسدن وثلاثة من رجاله في مكتبه وأينما تمكنوا من العثور على هاتف يمكنهم استخدامه دون مقاطعة.» «هكذا كنتم ستة.» «كنا سبعة مع ستة هواتف. وكنا في حاجة إليها!» «مسكين يا روبرت!» «كان الأمر مسليا في البداية. كانت نشوة البحث تغمرنا، عند معرفة أننا كنا على المسار الصحيح. فالنجاح عمليا كان حليفنا. لكن بمرور الوقت كنا قد تأكدنا أنه ليس هناك أحد من عائلة تشادويك في سجل هواتف لندن تربطه أي صلة بتشادويك الذي سافر إلى كوبنهاجن يوم 29 مارس، وأن كل ما يعرفه خط الطيران عنه كان هذين المقعدين اللذين قد حجزا من لاربورو في يوم 27، وكنا قد فقدنا أي إحساس بالمرح الذي بدأنا به. فأسعدتنا المعلومات التي حصلنا عليها من لاربورو، بكل تأكيد. لكن بعد ذلك صار العمل مضنيا بشدة. فبحثنا عما نبيعه إلى الدنمارك وما تشتريه هي منا، ثم قسمناها بيننا.» «البضائع؟» «لا، المشترون والبائعون. مكتب السياحة الدنماركي كان منحة سماوية. فانهالوا علينا بالمعلومات. توليت الصادرات أنا، وكيفين وموظفه، وتولى رامسدن ورجاله الواردات. ومنذ تلك اللحظة كانت مهمة شاقة أن تتصل بالمديرين وتسألهم: «أيعمل لديك رجل يدعى برنارد تشادويك؟» عدد الشركات التي لم يكن يعمل لديهم برنارد تشادويك كان لا يصدق. لكن أعرف الآن الكثير عن صادراتنا إلى الدنمارك أكثر من ذي قبل.» «لا شك لدي في ذلك!» «ضقت ذرعا بالهاتف لدرجة أني تقريبا لم أعد أجيب عندما يرن لدي. كنت قد نسيت تقريبا أن الهواتف هي اتصال بين طرفين. فالهاتف لم يكن سوى نوع من أدوات الاستجواب التي كان بإمكاني أن أبقى بها على اتصال مع المكاتب في جميع أرجاء البلد. حدقت إليه وقتا طويلا قبل أن أدرك أن المسألة في نهاية المطاف هي أمر متبادل وأن شخصا ما كان يحاول الاتصال بي لتبادل المعلومات.» «وكان المتصل هو رامسدن.» «أجل، كان أليك رامسدن. فقال: «لقد وصلنا إليه. فهو يشتري البورسلين وأشياء من هذا القبيل لصالح شركة براين، وهارفرد وشركائهما».» «يسعدني أن رامسدن هو من اكتشفه. سيهون عليه ذلك فشله في تعقب أثر الفتاة.» «أجل، صار شعوره الآن أفضل حيال الأمر. بعد ذلك أسرعنا إلى مقابلة الأشخاص الذين احتجنا إلى مقابلتهم والحصول على مذكرات الاستدعاء إلى المحكمة وخلاف ذلك. لكن النتيجة المرجوة بأكملها ستظل في انتظارنا في محكمة نورتون غدا. كيفين لا يطيق صبرا على الانتظار. فلعابه يسيل على المشهد المرتقب.»
قالت السيدة شارب، عند دخولها وهي تحمل حقيبة سفر صغيرة وتلقيها على منضدة من الخشب الماهوجني المثبتة في حائط بطريقة كانت ستصيب العمة لين بالإغماء: «لو كان بمقدرتي أن أشعر بالأسف على تلك الفتاة، لكان وهي في منصة الشهود في مواجهة كيفين ماكديرموت العنيف.» لاحظ روبرت أن تلك الحقيبة، التي كانت في الأساس حقيبة غالية وفي غاية الأناقة - ربما أنها أثر متبق من المرحلة الأولى من حياتها الزوجية الموسرة - صارت الآن مهترئة على نحو يرثى له. فقرر أنه عندما يتزوج ماريون ستصبح هديته إلى أم العروس هي حقيبة لأدوات الزينة؛ صغيرة، وخفيفة، وأنيقة، وغالية.
قالت ماريون: «لن يصبح بمقدرتي أبدا أن ينتابني شعور عابر بالأسف على تلك الفتاة. كنت سأمحوها من على وجه الأرض كما أسحق عثة في إحدى الخزانات - باستثناء أني أشعر بالأسف دائما تجاه العثة.»
سألت السيدة شارب: «ماذا كانت الفتاة قد نوت أن تفعل؟» وتابعت: «أكانت قد نوت العودة إلى أهلها بأي حال من الأحوال؟»
قال روبرت: «لا أعتقد ذلك.» وأضافت: «أظن أنها ما زالت غاضبة ومستاءة لأنها لم تعد محور اهتمام المنزل الكائن في 39 ميدوسايد لين. المسألة هي كما قال كيفين منذ مدة طويلة مضت: بداية الجريمة هي الأنانية المفرطة، والغرور القاتل. ربما أن فتاة عادية، مراهقة حساسة كذلك، كسر خاطرها أن أخاها بالتبني لم يعد يراها أهم شيء في حياته؛ كان من الممكن أن تحل المشكلة بالبكاء، أو التزام الصمت، أو أن تصبح صعبة المراس، أو تقرر أنها ستزهد في العالم وتلجأ إلى دير، أو عدة طرق أخرى يلجأ إليها المراهقون في عملية التأقلم على وضع جديد. لكن مع أنانية كأنانية بيتي كين لا يوجد مجال للتأقلم. فهي تتوقع أن العالم عليه أن يؤقلم نفسه عليها. هكذا يفعل الجناة دائما، بالمناسبة. ليس هناك مجرم أبدا لم يعتبر نفسه هو الضحية.»
قالت السيدة شارب: «إنسانة غريبة.» «أجل. حتى أسقف لاربورو سيجد صعوبة في اختلاق عذر لها. فحجته المعتادة المتمثلة في «البيئة المحيطة بالشخص» لن تجدي هذه المرة. لقد توفر لبيتي كين كل شيء يوصى به لتقويم المجرم: الحب، الحرية لتنمية مواهبها، التعليم، الأمان. عندما تفكر في الأمر ستجده محيرا تماما لنيافته؛ لأنه لا يؤمن بعامل التوارث. فيعتقد أن المجرمين يصنعون، ومن ثم يمكن تقويمهم. لكن «توارث الخطيئة» هي مجرد خرافة قديمة، في تقدير الأسقف.»
قالت السيدة شارب ناخرة: «توبي بيرن.» ثم أضافت قائلة: «كان عليك أن تسمع ما يقوله فتية إسطبل تشارلز عنه.»
قال روبرت: «سمعت من نيفيل». وتابع: «أشك إن كان بوسع أحد أن يجود على قصة نيفيل في هذا الموضوع.»
سألت ماريون: «هل فسخت الخطبة بشكل نهائي، إذن؟» «بكل تأكيد. تعلق العمة لين آمالها على الفتاة الكبرى للكولونيل وايتيكر. فهي إحدى بنات أخت الليدي ماونتليفين، وإحدى حفيدات كريسبس من عائلة كار.»
ضحكت ماريون معه. ثم سألت: «أهي لطيفة، ابنة وايتيكر؟» «أجل. شقراء، جميلة، مهذبة، لها اهتمام موسيقي لكنها لا تغني.» «أود أن يتزوج نيفيل بزوجة لطيفة. فكل ما يحتاج إليه هو بعض الاهتمام الدائم بشخصه. التركيز على طاقته ومشاعره.» «التركيز في الوقت الحالي لكلينا منصب على منزل فرنتشايز.» «أعرف ذلك. كان شخصا عزيزا علينا. حسنا، أظن أنه حان الوقت الذي سنغادر فيه. لو أخبرني أحد الأسبوع الماضي أننا سنغادر منزل فرنتشايز لنشهد انتصارا في نورتون لما صدقت هذا. بإمكان ستانلي المسكين أن ينام في فراشه من الآن فصاعدا، بدلا من حراسة شيطانتين في منزل ناء.»
سأل روبرت: «ألن ينام الليلة هنا؟» «كلا. لم من المفترض أن يفعل ذلك؟» «لا أعرف. لا تروقني فكرة أن يترك المنزل خاويا تماما.» «سيصبح رجل الشرطة قريبا كالعادة في دوريته. على أي حال، لم يحاول أحد فعل أي شيء منذ الليلة التي هشموا فيها نوافذنا. ليست سوى ليلة. وسنعود إلى المنزل غدا.» «أعرف ذلك. لكن الأمر لا يروقني كثيرا. أليس بإمكان ستانلي أن يبقى ليلة واحدة أخرى؟ حتى انتهاء القضية.»
قالت السيدة شارب: «إن أرادوا تحطيم نوافذنا مرة أخرى، فلا أظن أن وجود ستانلي هنا سيمنعهم.»
قال روبرت: «لا، لا أفترض ذلك. سأذكر هالم، على أي حال أن لا أحد بالمنزل الليلة.» ثم اكتفى بذلك.
أوصدت ماريون الباب وراءهم، ثم ساروا نحو البوابة، حيث كانت سيارة روبرت تنتظر عندها. توقفت ماريون عند البوابة ثم نظرت إلى المنزل خلفها. وقالت: «مكان قبيح، لكن فيه ميزة واحدة. أنه ظل على الهيئة نفسها طوال العام. في منتصف الصيف يصبح العشب أكثر دكانة قليلا ومجهدا، لكن خلاف ذلك فلا يتغير. لأغلب المنازل وقت «تتألق فيه»؛ بنباتات وردية، أو بحدود من الأعشاب، أو بنباتات فيرجينيا المتسلقة، أو بأزهار اللوز، أو بشيء ما. لكن منزل فرنتشايز يظل دائما كما هو. ليس به رفاهيات زائدة. علام تضحكين يا أمي؟» «كنت أفكر في منظر هذا المنزل البائس المزين بتلك الأحواض من زهر المنثور.»
وقفوا هناك لحظة، يضحكون على المنزل البغيض ذي اللون الأبيض المتسخ بزينته العبثية غير اللائقة؛ فضحكوا، ثم أغلقوا البوابة عليه.
لكن روبرت لم يغفل عن الأمر، وقبل أن يتناول عشاءه مع كيفين في فندق ذا فيذرز في نورتون، اتصل بقسم الشرطة في ميلفورد وذكرهم بأن منزل السيدتين شارب سيصبح شاغرا في تلك الليلة.
قال الضابط: «حسنا يا سيد بلير، سأخبر ضابط الدورية بفتح البوابة وتفقد المكان حولها. أجل، المفتاح لا يزال معنا. سيصبح الأمر على ما يرام.»
لم يتبين روبرت إلى حد بعيد الشيء الذي سيضمنه هذا الإجراء؛ لكنه آنذاك لم يدرك ما الحماية التي من الممكن تقديمها على أي حال. فالسيدة شارب قالت إنه، إذا اعتزم شخص أن يكسر النوافذ فسوف تكسر لا محالة. فصارح نفسه بأنه يفرط في الحرص، وانضم ببال مرتاح إلى كيفين وأصدقائه من رجال القانون.
ومن ثم دار الحديث بينهم في الأمور القانونية على نحو جيد، وذهب روبرت إلى الفراش في وقت متأخر في إحدى الغرف المكسوة بألواح داكنة التي جعلت من ذا فيذرز فندقا مشهورا. إن فندق ذا فيذرز - الذي كان إحدى الوجهات «الضرورية» للزائرين الأمريكيين في بريطانيا - لم يكن مشهورا فحسب، بل مواكبا للعصر أيضا. كانت الأنابيب ممددة من خلال أخشاب بلوط مزخرفة، والأسلاك من خلال أسقف ذات عوارض خشبية، وخط الهاتف من خلال ألواح الأرضيات من خشب البلوط. كان فندق ذا فيذرز ولا يزال يمنح راحة لعامة المسافرين منذ عام 1480، ولم ير سببا يبرر أنه من المفترض أن يتوقف عن ذلك.
استغرق روبرت في النوم بمجرد أن لمس رأسه الوسادة وبعد ذلك ظل الهاتف يرن دقائق بجواره قبل أن يصبح مدركا لرنينه.
قال، شبه نائم: «خيرا؟» ثم صار منتبها تماما في الحال.
كان المتصل هو ستانلي. هل بإمكانه العودة إلى ميلفورد؟ نشب حريق في منزل فرنتشايز. «هل الحريق بدرجة سيئة؟» «سيطر على المنزل، لكنهم يعتقدون أن بإمكانهم إنقاذه.» «سأكون هناك في أسرع وقت يمكنني أن أقطع فيه الطريق.»
ومن ثم قطع العشرين ميلا من باب الفندق حتى باب المنزل بأقصى سرعة ممكنة، لدرجة أنه هو شخصيا، روبرت بلير، منذ شهر مضى كان سيعتبر الأمر مستهجنا أن يحققه شخص آخر، ومستحيلا تماما أن يحققه هو. وبينما يندفع مسرعا متجاوزا منزله في الطرف الأدنى من هاي ستريت بميلفورد ومنطلقا باتجاه المنطقة الريفية، رأى وهج النيران يلوح في الأفق، مثل طلوع القمر في تمامه. لكن القمر البازغ في السماء، قمر فضي صغير في ليلة صيف شاحبة. أما وهج احتراق منزل فرنتشايز فكان يرتعش في هبات مفزعة أقبضت قلب روبرت بفزع لا ينسى.
على الأقل لم يكن أحد داخل المنزل. تساءل إذا كان أحد قد وصل إلى هناك في الوقت المناسب لإنقاذ الأشياء الثمينة من المنزل. أهناك أحد بإمكانه التمييز بين ما هو ثمين وما هو بلا قيمة؟
كانت البوابة مفتوحة على مصراعيها والفناء - المضيء في النيران - مزدحما بالرجال وعربات الإطفاء. أول شيء رآه، غير متناسب مع منظر العشب، كان الكرسي المشغول بالخرز من قاعة الاستقبال، فأثيرت داخله موجة هيستيرية. شخص ما قد أنقذ ذلك، على أي حال.
جذب كمه ستانلي الذي يصعب التعرف على ملامحه ثم قال: «ها أنت هنا. ظننت أن من الواجب أن تعرف بطريقة أو بأخرى.» كان العرق يتصبب على وجهه المسود، مخلفا وراءه مجرى ضيقا واضحا، وبذلك بدا وجهه الشاب مجعدا وكبيرا في السن. وأضاف: «لا يوجد ماء كاف. لقد أخرجنا أشياء كثيرة إلى حد كبير. جميع الأشياء في قاعة الاستقبال التي اعتادتا على استخدامها يوميا. ظننت أن تلك الأشياء هي ما ستستخدمانها، إذا كانا في موضع اختيار. وألقينا في الخارج بعض الأشياء التي كانت في الطابق العلوي لكن الأشياء الثقيلة احترقت.»
كومت المراتب وملاءات السرير بعضها فوق بعض على العشب، بعيدا عن موطئ أحذية رجال الإطفاء. واستقر الأثاث قريبا من العشب حسبما وضع، والدهشة والارتباك باديان عليه.
قال ستانلي: «هيا لنبعد الأثاث أكثر من ذلك.» وتابع: «فمكانه هنا غير آمن. فإما ستسقط عليه بعض الأجزاء المشتعلة، أو سيستخدمه أحد أولئك الأوغاد ليقف عليه.» كانوا أولئك الأوغاد هم رجال الإطفاء، الذين يعملون بجد ويبذلون أفضل ما لديهم.
بهذا وجد روبرت نفسه ينقل الأثاث على نحو رتيب في هذا المشهد العجيب، ويتعرف في حزن على قطع أثاث كان قد عرفها في مكانها المعتاد. الكرسي الذي ظنت السيدة شارب أن المحقق جرانت ثقيل للغاية على أن يجلس عليه؛ المائدة من خشب أشجار الكرز التي قدموا عليها الغداء لكيفين، المنضدة المثبتة في الحائط التي ألقت عليها السيدة شارب حقيبتها فقط منذ ساعات قليلة مضت. إن أجيج النيران ودويها، وصياح رجال الإطفاء، والمزيج الغريب من ضوء القمر، والمصابيح الأمامية، وألسنة اللهب المترنحة، والتلاصق الجنوني لقطع الأثاث وتنافرها؛ كل ذلك ذكره بإحساس الإفاقة من التخدير.
حينذاك حدث أمران في وقت واحد. انهار الطابق الأول محدثا صوت ضجيج مرتفعا. وبينما أنارت دفعة النيران الجديدة الوجوه من حوله رأى شابين في آن واحد كان وجهاهما مفعمين بالتشفي. وفي اللحظة نفسها أدرك أن ستانلي قد رآهما أيضا. فرأى قبضة يد ستانلي تلكم الشاب البعيد من أسفل ذقنه بصوت طقطقة كان ممكنا سماعه وسط أجيج النيران، فوقع صاحب الوجه المتشفي واختفت ملامحه في عتمة العشب المنسحق.
لم يكن روبرت قد سدد لأحد أي لكمة منذ أن توقف عن الملاكمة لما غادر المدرسة، ولم يكن يحمل في داخله أي نية لتسديد لكمة لأحد الآن. لكن اتضح أن ذراعه اليسرى كانت تفعل كل ما انبغى فعله من تلقاء نفسها. ومن ثم وقع صاحب الوجه الخبيث الثاني فاقدا الوعي.
علق ستانلي، وهو ينفخ في مفاصل أصابع يده المتعبة : «عظيم.» ثم قال: «انظر!»
انهار السطح مثل وجه طفل عندما يبدأ في البكاء؛ مثل شريط صور منصهر. النافذة الدائرية، التي اشتهرت للغاية وتلطخت سمعتها كثيرا، مالت إلى الأمام قليلا وانهارت ببطء إلى الداخل. هب لسان لهب لأعلى ثم سقط مرة أخرى. ثم انهار السطح بأكمله ليسقط في الحشد المضطرب في الأسفل، على ارتفاع طابقين لينضم إلى الحطام المحترق لبقية الأجزاء الداخلية من المنزل. تراجع الرجال بعيدا عن الحرارة المحرقة. وتأججت النيران في انتصار لا حد له في ليلة صيف.
عندما خمدت النيران أخيرا لاحظ روبرت بدهشة غامضة أن الفجر قد بزغ. فجر هادئ، غائم، مفعم بالأمل. وكان الهدوء قد عم المكان أيضا، وتضاءل أجيج النيران والصياح حتى صار صوت هسيس ماء خافت ينساب على هيكل المنزل المتفحم. لم يعد قائما وسط العشب المنسحق سوى أربعة جدران، متسخة ومعالمها غير واضحة. أربعة جدران ومجموعة درجات السلم بدربزينها الحديدي المنبعج. على الجانب الآخر من المدخل ظل ما تبقى من أحواض الورد القليلة المبهجة التي أحضرها نيفيل، زهور مبللة ومتفحمة معلقة على هيئة قطع ممزقة يصعب التعرف عليها فوق حوافها. وبينها فتحة مربعة مفتوحة على فراغ أسود.
قال ستانلي، واقفا إلى جانبه: «حسنا، ذلك ما آل إليه الحال.»
سأل بيل، الذي وصل متأخرا للغاية بحيث لم ير أي شيء غير الحطام المتبقي: «كيف بدأ الحريق؟»
قال روبرت: «لا أحد يعرف. كانت النيران مشتعلة بدرجة كبيرة عندما وصل رجل الشرطة نيوسام في موعد دوريته. ما مصير هذين الشابين، بالمناسبة؟»
قال ستانلي: «هل تقصد الاثنين اللذين لكمناهما؟» وأضاف: «لقد رجعا إلى منزليهما.» «من المؤسف أن تعبير وجوههما لا يعد دليلا.»
قال ستانلي: «أجل.» وتابع: «لن يمسكوا بأحد لارتكابه هذه الفعلة تماما، مثلما لم يمسكوا بأحد من أجل تحطيم النوافذ. ولا أزال أدين أحدهم بالتسبب في كسر برأسي.» «كدت أن تكسر رقبة ذلك الشخص الليلة. يجب أن يصبح ذلك تعويضا لك بشكل ما.»
قال ستانلي: «كيف ستخبرهما؟» كان من الواضح أنه يشير إلى السيدتين شارب.
أجاب روبرت: «الله أعلم.» وأضاف: «هل لي أن أخبرهما أولا وأكدر عليهما انتصارهما في المحكمة؛ أم أتركهما حتى تفرحا بالانتصار ثم تواجها هذه المصيبة البشعة فيما بعد؟»
قال ستانلي: «دعهما تفرحا بالانتصار.» وتابع: «فليس لأي شيء يحدث فيما بعد أن يسلبها منهما. فلا تكدر فرحتهما.» «ربما أنت محق، يا ستان. ليتني كنت أعرف. من الأفضل أن أحجز لهما غرفتين في فندق روز آند كراون.»
قال ستانلي: «لن يعجبهما ذلك.»
قال روبرت، بشيء من الاستياء: «ربما بالفعل.» ثم أضاف قائلا: «ليس أمامهما خيار آخر. أيا كان ما ستقرران فعله فستحتاجان إلى الإقامة هنا ليلة أو ليلتين لترتيب حالهما، هذا ما أتوقعه. وفندق روز آند كراون هو أفضل الأماكن المتوفرة.»
قال ستانلي: «حسنا، كنت أفكر. وأثق أن صاحبة المنزل الذي أقيم فيه سيسعدها استقبالهما. كانت تقف دائما في صفهما، ولديها غرفة شاغرة، وبإمكانهما الإقامة في غرفة الجلوس في الواجهة التي لا تستخدمها أبدا، وهي هادئة للغاية، عند ذلك الصف الأخير من مساكن البلدية على المروج المنخفضة وراء القرية. أثق أنهما ستؤثران ذلك على الإقامة في فندق قد تصبحان فيه مثارا للتحديق.» «ستؤثران ذلك حقا يا ستان. لم يكن ذلك ليخطر في بالي أبدا. أتظن أن صاحبة المنزل ستبدي استعدادها لذلك؟» «أنا لا أظن؛ إنما أنا واثق. فهما أكبر موضع لاهتمامها في الحياة حاليا. ربما كانت إقامتهما ستصير بمنزلة إقامة العائلة المالكة.» «حسنا، تأكد من الأمر على وجه التحديد، إذا تفضلت، وأرسل لي برقية موجهة إلى نورتون. إلى فندق ذا فيذرز في نورتون.»
الفصل الثاني والعشرون
بدا لروبرت أن ما لا يقل عن نصف سكان ميلفورد قد تمكنوا من الاحتشاد داخل قاعة محكمة نورتون. لا شك أن عددا لا يستهان به من مواطني نورتون كانوا يتجمهرون حول الأبواب الخارجية، في حالة من التذمر والإحباط؛ غاضبين من أنه عندما يتقرر عقد جلسات قضية ذات اهتمام قومي في المحكمة «التابعة لهم» فإن سيلا من الأجانب القادمين من ميلفورد يغتصبون حقهم في أن يشهدوا المحاكمة. وهم أجانب مخادعون ومحتالون، أيضا، حيث قدموا رشوة إلى شباب من نورتون حتى يحتفظوا بأماكن في الطابور من أجلهم؛ وهو تدبير لم يخطر ببال الكبار من أهالي نورتون.
كانت الأجواء مثيرة للغاية، والمحكمة المزدحمة تتحرك في توتر طوال الإجراءات التمهيدية وخلال أغلب سرد مايلز أليسون لملابسات الجريمة. كان أليسون النقيض لشخصية كيفين ماكديرموت؛ وجهه أشقر مهذب له سمة مميزة عن أن يكون شخصا عاديا. صوته الباهت الجاف كان يخلو من أي انفعال، وكان له أسلوب واقعي. وحيث إن القصة التي تسرد كان الحاضرون قد قرءوا عنها وتباحثوا فيها حتى قتلت بحثا، فقد صرفوا انتباههم عنه وسلوا أنفسهم بالتعرف على أصدقاء لهم في المحكمة.
جلس روبرت يقلب مرارا وتكرارا في جيبه قطعة مستطيلة صغيرة من الورق المقوى كانت كريستينا قد دستها في يده عند مغادرته بالأمس، ثم أخذ يتدرب على الكلام الذي سيقوله فيما بعد. كانت قطعة الورق المقوى غلافا لزهرة غسيل ريكيت وكان محفورا عليها بحروف ذهبية تلك الكلمات: «لن يسقط يوما عصفور»، مع صورة في الزاوية العلوية على اليمين لطائر أبي الحناء، ذي صدر أحمر أكبر من الحجم الطبيعي. فتساءل روبرت، بينما يقلب هذه العبارة الصغيرة مرات ومرات بين أصابعه، كيف لشخص أن يخبر أحدا بأنه لم يعد لديه منزل؟
جاءت الحركة المفاجئة لمائة شخص والصمت الذي تبعه ليعيد انتباهه إلى قاعة المحكمة، فأدرك أن بيتي كين كانت تؤدي القسم تمهيدا للإدلاء بشهادتها. «لم يسبق لها تقبيل أي شيء سوى الكتاب المقدس»، كما كان بن كارلي قد قال عن هيئتها في مناسبة مشابهة. وهكذا كانت تبدو اليوم. مع الزي الأزرق نفسه الذي يوحي للمرء بحداثة السن والبراءة، وزهور الحبق، ودخان نيران المعسكرات، وأعشاب الجريس النابتة وسط الحشائش. لا تزال الحافة الملتوية إلى الخلف في قبعتها تكشف عن جبينها بمنبت الشعر الجذاب فيه. وروبرت، الذي صار ملما الآن بكل شيء عن حياتها في الأسابيع التي تغيبت فيها، وجد نفسه يفاجأ عند رؤيتها؛ كأنها أول مرة. إن القدرة على الإقناع هي أولى المواهب التي يتقنها المجرم، لكن حتى تلك اللحظة مثل تلك القدرة التي كان عليه أن يتعامل معها كانت من عينة الورقة النقدية من فئة العشرة شلنات للعساكر القدامى. فكان من السهل التعرف عليها بسبب ما كانت عليه. عمل الهواة في المجال. فخطر بباله أنه لأول مرة يرى شيئا حقيقيا وهو يعمل.
مرة أخرى أدلت بشهادتها بطريقة نموذجية، وصوتها اليافع الواضح مسموع لكل فرد في المحكمة. ومرة أخرى يصبح الحاضرون من أجلها ساكنين وثابتين. الفرق الوحيد هذه المرة أن القاضي لم يفرط في تدليلها. فالقاضي، في الواقع، إن كان لأحد أن يحكم من التعبير الذي اعتلى وجه حضرة القاضي ساي، كان أبعد ما يكون عن التدليل. وتساءل روبرت إلى أي مدى يكون السبب في نظرة القاضي الناقدة هو نفورا عاديا من الموضوع، وإلى مدى بسبب توصله إلى استنتاج أن كيفين ماكديرموت لن يجلس هناك مستعدا للدفاع عن السيدتين الماثلتين في قفص الاتهام إلا إذا كانت لديهما حجة قوية قاصفة.
إن الرواية التي أدلت بها الفتاة عن معاناتها فعلت ما لم يستطع محاميها فعله؛ إذ أثارت في الحضور رد فعل عاطفيا. ولأكثر من مرة أطلقوا تنهيدة جماعية، وهمسا ينم عن حنق؛ لم يكن واضحا قط بما يكفي ليوصف بأنه استياء عام؛ تفاديا لتوبيخ هيئة المحكمة، لكنه كان مسموعا بما يكفي ليظهر مواطن تعاطفهم. وبذلك في تلك الأجواء المشحونة نهض كيفين لاستجواب الشاهدة.
بدأ كيفين متحدثا بأسلوب بطيء لطيف: «آنسة كين، تقولين إن الجو كان مظلما عند وصولك إلى منزل فرنتشايز. أكان الجو شديد الظلمة حقا؟»
إن هذا السؤال، بنبرة الاستمالة التي نطق بها، جعلها تظن أنه لم يرد أن يكون الجو مظلما، فتجاوبت كما قصد.
قالت: «أجل. مظلم تماما.» «مظلم تماما لدرجة تمنعك من رؤية الجهة الخارجية من المنزل؟» «أجل، مظلم بشدة.»
بدا أنه عدل عن تلك الطريقة وحاول استخدام خطة جديدة. «ننتقل إلى الليلة التي هربت فيها. ربما لم يكن الجو مظلما تماما؟» «أوه، بلى. كان أشد ظلمة، إن جاز القول.» «وبذلك لم يكن ممكنا لك رؤية الجهة الخارجية من المنزل بشكل أو بآخر؟» «لم يكن ممكنا أبدا.» «أبدا. حسنا، بعد التأكيد على تلك النقطة، لنعد النظر فيما تقولين إنه كان بوسعك رؤيته من نافذة محبسك في العلية. قلت في أقوالك إلى الشرطة، عند وصفك لهذا المكان المجهول الذي حبست بداخله، إن مسار السيارات من البوابة وحتى باب المنزل كان يسير في خط مستقيم مسافة صغيرة، ثم ينقسم بعدها إلى نصف دائرتين تفضيان إلى باب المنزل.» «صحيح.» «كيف علمت أنه يسير هكذا؟» «كيف علمت بذلك؟ كان بإمكاني رؤية ذلك.» «من أين؟» «من نافذة العلية. كانت تطل على الفناء في الجهة الأمامية من المنزل.» «لكن من النافذة في العلية ليس ممكنا سوى رؤية الجزء المستقيم من المسار. فحدود السطح تقطع باقي المنظر. كيف علمت بأن مسار السيارات انقسم إلى مسارين يشكلان دائرة تفضي إلى الباب؟» «رأيته!» «كيف؟» «من تلك النافذة.» «تريدين منا أن نفهم أنك رأيت من واقع أساس مختلف عن الأشخاص العاديين؟ على هدى بندقية الرجل الأيرلندي التي تطلق النار على الزوايا. أم أن كل ذلك كان بالاستعانة بمرايا؟» «إنها الطريقة التي وصفت بها!» «بلا شك إنها الطريقة التي وصفت بها؛ لكن ما وصفته كان منظر الفناء كما يراه، لنفترض، شخصا ينظر إليه من فوق السور، وليس شخصا ينظر إليه من نافذة العلية. وهو ما أكدته لنا أنه كان المنظر الوحيد له الذي بدا إليك.»
قال القاضي: «أفترض أن لديك شاهدا على حدود المنظر من النافذة.» «شاهدين يا سيدي.»
قال القاضي بنبرة جافة: «سيكفي شخص واحد بمستوى نظر طبيعي.» «بهذا لا يمكنك التفسير، عند حديثك إلى الشرطة في ذلك اليوم في إيلزبري، كيف وصفت سمة مميزة لم يكن ممكنا لك أن تدري عنها شيئا، إن كانت قصتك صحيحة. هل سبق لك أن سافرت إلى الخارج، يا آنسة كين؟»
قالت، متفاجئة من تغيير الموضوع: «إلى الخارج؟ لا.» «أبدا؟» «نعم، أبدا.» «لم تسافري، على سبيل المثال، إلى الدنمارك مؤخرا؟ إلى كوبنهاجن، مثلا.» «لا.» لم يبد أي تغيير في تعبيرات وجهها، لكن روبرت ظن أن هناك ذرة من التردد في صوتها. «هل تعرفين رجلا يدعى برنارد تشادويك؟»
صارت حذرة فجأة. ذكر ذلك روبرت بالتغيير المفاجئ الذي يطرأ على حيوان كان مسترخيا ثم صار منتبها بشدة. لم يطرأ أي تغيير في جلستها؛ ولا تغيير فعلي على هيئتها. على النقيض، لم يبد إلا ثباتا إضافيا، وانتباها. «لا.» كانت نبرة الصوت باهتة غير مبالية. «هو ليس أحد أصدقائك؟» «كلا.» «ولم تقيمي، مثلا، معه في أحد الفنادق بكوبنهاجن؟» «كلا.» «هل سبق لك أن أقمت مع أي أحد في كوبنهاجن؟» «كلا، لم أسافر إلى الخارج قط.» «بهذا لو طرحت أنك قضيت تلك الأسابيع التي اختفيت فيها داخل أحد فنادق كوبنهاجن وليس في العلية بمنزل فرنتشايز، فهل من المفترض أني مخطئ؟» «مخطئ تماما.» «شكرا لك.»
نهض مايلز أليسون، كما كان كيفين قد توقع، لينقذ الموقف.
فقال: «آنسة كين، لقد وصلت إلى منزل فرنتشايز بالسيارة.» «أجل.» «وتقولين في أقوالك إن تلك السيارة سارت حتى باب المنزل. الآن، إذا كان الجو مظلما، كما تقولين، فلا بد أنه كان هناك مصابيح جانبية في السيارة، إن لم تكن مصابيح أمامية، وتلك المصابيح لن تضيء مسار السيارات فحسب، بل أغلب الفناء.»
فقاطعته قبل أن يتمكن من عرض الفكرة عليها: «أجل، أجل، بالطبع لا بد أني رأيت الدائرة آنذاك. كنت مدركة أني قد رأيتها. كنت مدركة لذلك.» نظرت إلى كيفين لوهلة، فذكرت روبرت بوجهها لما تبين لها أنها كانت قد أصابت في تخمينها بشأن حقائب السفر داخل الخزانة، خلال ذلك اليوم الأول له في منزل فرنتشايز. فخطر ببال روبرت، لو أنها عرفت ما كان لدى كيفين بانتظارها، لما فكرت ولو ثانية في أي انتصار عابر.
تبعها في منصة الشهود تلك الفتاة التي وصفها كارلي ب «المسخ»؛ والتي أحضرت فستانا جديدا وقبعة جديدة من أجل ظهورها في محكمة نورتون - فستان أحمر داكن وقبعة لونها أحمر قان بها شريط بلون أزرق وآخر بلون وردي فاتح - وبدت أكثر بهرجة وأكثر إثارة للاشمئزاز عن ذي قبل. ومرة أخرى يثير اهتمام روبرت أن يلاحظ كيف أن إعجابها بنفسها قد انتقص، حتى مع وجود هؤلاء الحضور الأكثر عاطفية، من تأثير ما قالته. لم يبدوا إعجابا بها، وبالرغم من موقفهم المتحيز، فإن انعدام الثقة الإنجليزي في الخبثاء قد أراح عقولهم نحوها. عندما طرح كيفين، أثناء الاستجواب، أنها في الحقيقة كانت قد طردت ولم تقدم «إخطارا بترك العمل» نهائيا، ساد تعبير «هكذا إذن ذلك الأمر وما فيه!» على وجوه الحاضرين في المحكمة. وبخلاف محاولة هز الثقة في مصداقيتها، لم يكن أمام كيفين الكثير ليفعله معها، فسمح لها بالانصراف. كان ينتظر دميتها المسكينة التي تحركها بيديها.
بدت الفتاة الدمية، عند وصولها، حتى أقل سعادة مما كانت عليه في محكمة المخالفات والجنح في ميلفورد. كان من الواضح أنها صدمت بذلك الحشد المبهر من الأرواب والشعر المستعار. كان الزي الرسمي للشرطة مؤثرا بما يكفي، لكن بالنظر إلى الماضي فكان يبدو شبيها بملابس المنزل إلى أبعد حد مقارنة بهذه الأجواء الرسمية، هذه المراسم. إذا كانت شعرت في محكمة ميلفورد بأن الموقف فوق احتمالها، فكان من الواضح أنها تموت غرقا هنا. رأى روبرت عيني كيفين المتفحصتين تستقران عليها، وقد أخذ يحلل ويفهم ويقرر النهج الذي سينتهجه. كان يميتها رعبا مايلز أليسون، رغم حلمه؛ كان واضحا أنها تنظر إلى أي شخص في شعر مستعار وروب بوصفه عدوانيا وموزعا محتملا للعقوبات. لهذا صار كيفين حاميا لها ومتوددا إليها.
كان من غير اللائق حتما، نبرة الملاطفة التي تمكن كيفين من إظهارها في صوته، هكذا ظن روبرت، وهو يستمع إلى جملته الأولى التي وجهها إليها. حيث بث الطمأنينة في نفسها كلامه المتأني الهادئ. استمعت لحظة ثم ما لبثت أن شعرت براحة. رأى روبرت اليدين الصغيرتين النحيلتين اللتين كانتا قد قبضتا بإحكام على حاجز منصة الشهود وقد صارتا مرتخيتين ومبسوطتين في وضع الارتخاء. وبدأ يسألها عن مدرستها. فكان الخوف قد تبدد من عينيها وأخذت تجيب بهدوء تام. وعند تلك اللحظة، بدا واضحا وضوح الشمس أنها شعرت بأنه صديق. «والآن، يا جلاديس، سأقترح أنك لم تريدي المجيء اليوم إلى هنا والإدلاء بشهادتك ضد ساكنتي فرنتشايز هاتين.» «لا، لم أرد. حقا لم أرد!»
قال؛ دون توجيه اتهام، مجرد أنه كان يوضح ما قيل: «لكنك أتيت.»
قالت؛ على استحياء: «أجل.» «لم؟ هل لأنك ظننت أن ذلك واجب عليك؟» «لا، أبدا.» «أكان السبب هو أن أحدا أجبرك على المجيء؟»
رأى روبرت رد فعل فوريا من القاضي على هذا، وكذلك فعل كيفين بطرف عينيه. أنهى كيفين حديثه بسلاسة قائلا: «أهناك شخص يمسك عليك زلة؟» ثم توقف سيادته. «شخص قال: «ستقولين ما أمليه عليك وإلا سأكشف أمرك»؟»
بدت من ناحية متفائلة، ومتحيرة من الناحية الأخرى. فقالت، وهي تلجأ إلى مهرب الجاهلين بالقراءة والكتابة: «لا أعرف.» «لأنه إذا دفعك أي شخص إلى الكذب بتهديدك بما سيفعله بك إذا لم تكذبي، فمن الممكن معاقبته على ذلك.»
كان من الواضح أنها فكرة جديدة عليها. «هيئة المحكمة هذه، وجميع هؤلاء الناس الذين ترينهم هنا، قد جاءوا إلى هنا اليوم لاكتشاف الحقيقة بشأن أمر ما. وسيادة القاضي الجالس في الأعلى هناك سيتعامل بصرامة وحزم مع أي شخص استخدم أسلوب التهديد لإجبارك على المجيء إلى هنا والإدلاء بشيء ليس حقيقيا. والأكثر من ذلك، ستفرض عقوبة مشددة على أولئك الذين أقسموا على قول الحق ثم أدلوا بشهادة زور، لكن إذا حدث أن أولئك الأشخاص قد أرهبهم شخص ما بتهديدهم للإدلاء بشهادة زور، فإن الشخص الذي ستفرض عليه أقصى عقوبة سيكون ذلك الذي ارتكب التهديد. هل تفهمين ذلك؟»
قالت بصوت هامس: «أجل.» «سأقترح عليك الآن ما حدث بالفعل، وستخبرينني إن كنت محقا أم لا.» انتظر موافقتها، لكنها لم تنطق بشيء، ومن ثم واصل حديثه. «شخص ما - ربما أنها صديقة لك - سرقت شيئا من منزل فرنتشايز؛ لنفترض بأنها ساعة يد. لم تكن ترغب في الساعة لنفسها، ربما لهذا أعطتها إليك. وربما أنك لم ترغبي في أخذها، لكن صديقتك ربما أنها شخص متسلط وأنت لم تريدي رفض هديتها. لهذا أخذتها. فأقترح الآن بأن في الوقت الحاضر عرضت تلك الصديقة عليك أنه يجب عليك تأييد قصة ستدلي هي بها في المحكمة، ولأنك تكرهين الكذب، قلت لا. وبناء على ذلك قالت لك: «إذا لم تؤيديني فسأقول إنك سرقت الساعة من منزل فرنتشايز ذات يوم لما أتيت لرؤيتي» أو تهديد آخر من ذلك النوع.»
توقف لحظة لكنها لم تبد إلا حائرة. «والآن، أقترح أنك بسبب تلك التهديدات ذهبت بالفعل إلى محكمة المخالفات والجنح ودعمت القصة الكاذبة لصديقتك، لكنك شعرت بالحزن والخجل عند عودتك إلى المنزل. حزينة وخجلة لدرجة أن فكرة الاحتفاظ بتلك الساعة أكثر من ذلك كان أمرا يفوق احتمالك. ومن ثم بعدها غلفت الساعة، وأعدتها إلى منزل فرنتشايز بالبريد مرفقا معها رسالة تقول: «أنا لا أريدها على الإطلاق».» ثم توقف. «هذا ما أقترحه عليك، جلاديس، بأنه ما حدث بالفعل.»
لكنها كانت قد استغرقت وقتا حتى يصيبها الذعر. قالت: «لا، لا، لم أمتلك تلك الساعة قط.»
تجاهل إقرارها بالأمر، وقال بهدوء: «هل أنا مخطئ تماما بخصوص ذلك؟» «أجل. لست أنا من أعدت الساعة.»
أمسك ورقة ثم قال بلطف: «لما كنت في تلك المدرسة التي كنا نتحدث عنها، كنت بارعة في الرسم. بارعة لدرجة أن رسما لك قد وضع في معرض المدرسة.» «صحيح.» «معي هنا خريطة كندا - خريطة دقيقة للغاية - كانت واحدة من الرسومات المعروضة لك، وكانت سببا في الواقع لفوزك بجائزة. قد وقعت هنا في الجانب الأيمن، ولا شك لدي أنك كنت فخورة بالتوقيع على مثل هذا العمل المتقن. أتوقع أنك ستتذكرين هذا.»
مررت الورقة من هيئة المحكمة إليها، بينما كان كيفين يضيف قائلا: «أيها السيدات والسادة أعضاء هيئة المحلفين، إنها خريطة كندا التي رسمتها جلاديس في العام الأخير من المدرسة. عندما ينتهي سيادته من معاينتها سيمررها إليكم بلا شك.» ثم وجه حديثه إلى جلاديس قائلا: «هل رسمت تلك الخريطة بنفسك؟» «أجل.» «وكتبت اسمك في الزاوية.» «أجل.» «وكتبت في الجزء السفلي بحروف كبيرة متفرقة «الأراضي التابعة لسيادة كندا».» «أجل.» «كتبت تلك الحروف المتفرقة في الجزء السفلي التي تقرأ: «الأراضي التابعة لسيادة كندا». جيد. والآن، معي قصاصة ورق كتب عليها شخص الكلمات الآتية: «أنا لا أريدها على الإطلاق». قصاصة الورق هذه، بحروفها الكبيرة، كانت مرفقة مع الساعة التي أرسلت إلى منزل فرنتشايز. ساعة اليد التي اختفت في الوقت الذي كانت تعمل فيه روز جلين هناك. وأشير هنا إلى أن طريقة كتابة الحروف في «أنا لا أريدها على الإطلاق» هي نفسها الطريقة التي كتبت بها «الأراضي التابعة لسيادة كندا»، أي إنها كتبت بخط اليد نفسه. وأن تلك اليد كانت يدك.»
قالت: «لا»، وهي تأخذ قصاصة الورق عندما أعطيت لها وتلقيها سريعا على حافة المنصة وكأنها ستلدغها. «لم أفعل ذلك أبدا. لم أرسل الساعة أبدا.» «لم تكتبي تلك الحروف التي تقرأ «أنا لا أريدها على الإطلاق»؟» «لم أفعل.» «لكنك كتبت تلك الحروف التي تقرأ «الأراضي التابعة لسيادة كندا»؟» «أجل.» «حسنا، في وقت لاحق من هذه القضية، سأحضر دليلا على أن هاتين المجموعتين من الحروف كتبتا بخط اليد نفسه. في تلك الأثناء، يمكن لهيئة المحلفين معاينتهما على مهل والتوصل إلى استنتاجهم. شكرا لك.»
قال مايلز أليسون: «اقترح صديقي المحنك أنه مورس ضغط عليك لتأتي إلى هنا. أهناك أي شيء حقيقي فيما اقترحه؟» «لا.» «لم تأت إلى هنا لأنك خائفة مما قد يحدث إليك إن لم تأتي؟»
استغرقت بعض الوقت لتمعن التفكير فيما قيل، فكان واضحا أنها تحل تعقيدات الأمر في عقلها. ثم في النهاية جازفت قائلة: «لم أفعل.» «ما قلته في منصة الشهود في محكمة المخالفات والجنح، وما أدليت به اليوم، هو الحقيقة؟» «أجل.» «لم تقولي شيئا أوعز إليك شخص به؟» «لم أفعل.»
لكن الانطباع الذي ترك لدى هيئة المحلفين كان كذلك بالضبط: أنها شاهدة كارهة لإدلاء الشهادة تكرر قصة من تأليف شخص آخر.
عند ذلك الحد انتهت الشهادة بالنسبة إلى الادعاء، ثم تطرق كيفين مباشرة إلى مسألة جلاديس ريس؛ عملا بمبدأ ربة المنزل ب «تنظيف القدمين» قبل البدء في أي عمل فعلي اليوم.
أدلى خبير خطوط بشهادته أن نموذجي الكتابة اللذين قدما إلى المحكمة كتبا باليد نفسها. لم يكن ليساوره أدنى شك في ذلك فحسب، إنما كان نادرا ما يسند إليه مهمة أسهل منها. ولم تكن الحروف في النموذجين مطابقة فحسب، بل مجموعات الحروف كانت مطابقة على نحو مماثل. وكما كان من الواضح أن هيئة المحلفين قد اتخذوا قرارهم بأنفسهم على هذه النقطة - لم ير أحد النموذجين واعتراه شك بأنهما كتبا باليد نفسها -كان تلميح أليسون باحتمال أن يكون الخبراء مخطئين أمرا بديهيا وغير مثير للاهتمام. دحض كيفين هذا الاحتمال بإحضار خبير بصمات، والذي شهد بأن بصمات الأصابع نفسها وجدت على النموذجين. وإشارة أليسون إلى أن بصمات الأصابع ربما أنها ليست لجلاديس ريس كانت آخر محاولة متبقية. ولم تكن له رغبة أن تخضعها المحكمة إلى الفحص.
الآن وبعد أن أثبت حقيقة حيازة جلاديس ريس، عند شهادتها في المرة الأولى، لساعة يد سرقت من منزل فرنتشايز وأنها كانت قد أرجعتها مباشرة بعد تلك الشهادة، مرفقة برسالة تعكس شعورا بوخز في الضمير، صار كيفين متفرغا للتعامل مع قصة بيتي كين. إذ إن روز جلين وقصتها قد فقدت مصداقيتها بما يكفي في نظر الشرطة ليتشاورا بشأنها. فكان بإمكانه أن يترك روز إلى الشرطة بنفس مطمئنة.
عند استدعاء برنارد ويليام تشادويك، اشرأبت الأعناق إلى الأمام وانتشر صوت استفسار هامس. فكان هذا اسما لم يتعرف عليه قراء الصحف. ماذا عساه يفعل في القضية؟ ما الشيء الذي أتى ليخبر به هنا؟
كان هنا ليخبر بأنه أحد مشتري البورسلين، والأواني الخزفية الفاخرة، وسلع فاخرة من شتى الأنواع لصالح شركة في لندن للبيع بالجملة. وأنه متزوج ويعيش مع زوجته في منزل بمنطقة إيلينج.
قال كيفين: «تسافر لصالح الشركة التي تعمل فيها؟» «أجل.» «في مارس من هذا العام هل أجريت زيارة إلى لاربورو؟» «أجل.» «أثناء وجودك في لاربورو هل التقيت ببيتي كين؟» «أجل.» «كيف التقيت بها؟» «توددت إلي.»
علا صوت اعتراض فوري وجماعي من الحاضرين في المحكمة. بصرف النظر عن التشويه الذي كانت روز جلين وصديقتها قد قاستاه، فإن بيتي كين كانت لا تزال إنسانة مقدسة. بيتي كين، التي بدت شبيهة بدرجة كبيرة بالقديسة بيرناديت، لا يليق الحديث عنها باستهتار.
وبخهم القاضي على هذا الاعتراض العام، رغم أنه قد صدر منهم دون عمد. ووبخ كذلك الشاهد. لم يكن واضحا له تماما، كما استدل، ما تنطوي عليه عبارة «توددت إلي» وسيكون ممتنا إذا ألزم الشاهد نفسه باستعمال لغة فصحى في ردوده.
قال كيفين: «هل لك أن تخبر هيئة المحكمة كيف التقيت بها؟» «أجريت ذات يوم زيارة خاطفة إلى ردهة فندق ميدلاند لتناول الشاي، ثم بدأت هي ... في التحدث إلي. بينما تتناول الشاي هناك أيضا.» «وحدها؟» «وحدها تماما.» «لم تبادر أولا بالحديث إليها؟» «لم ألاحظها من الأساس.» «كيف جذبت انتباهك إلى وجودها، إذن؟» «ابتسمت، فابتسمت إليها ثم واصلت قراءة أوراقي. كنت منشغلا. ثم تحدثت إلي. سألت عن طبيعة هذه الأوراق، وهكذا.» «وبهذا تطورت المعرفة.» «أجل. قالت إنها ستذهب إلى السينما - لمشاهدة أفلام - ولماذا لا أذهب أنا أيضا؟ حسنا، كنت قد أنهيت يومي وهي كانت فتاة لطيفة، لهذا وافقت، إذا كانت ترغب في ذلك. وكانت النتيجة أنها قابلتني اليوم التالي وذهبت معي في سيارتي إلى الريف.» «تقصد، في رحلاتك من أجل العمل.» «أجل؛ جاءت للتنزه، وكنا نتناول الغداء في أي مكان في الريف ونشرب الشاي قبل أن تعود إلى منزل عمتها.» «هل حدثتك عن أهلها؟» «أجل، أخبرتني كم تحيا حياة تعيسة في المنزل، حيث لا أحد يلتفت إليها. كانت لديها سلسلة طويلة من الشكاوى عن منزلها، لكني لم أنتبه إليها كثيرا. بدت لي صحبة صغيرة أنيقة تماما.»
سأل القاضي: «بدت لك ماذا؟» «فتاة صغيرة تحظى برعاية جيدة يا سيدي.»
قال كيفين: «صحيح؟ كم استمرت هذه المدة الرومانسية في لاربورو؟» «تبين أننا سنغادر لاربورو في اليوم نفسه. كانت ستعود إلى أهلها لأن إجازتها انقضت - فكانت قد مدتها بالفعل حتى تتمكن من التسكع معي - وكان علي أن أسافر إلى كوبنهاجن في مهمة عمل. فقالت حينها إنها لا تنوي العودة إلى المنزل وطلبت مني أن آخذها معي. فقلت بالتأكيد لا. لم أعد أظن أنها طفلة بريئة بهذه الدرجة التي بدت بها في ردهة فندق ميدلاند - عرفتها بعمق أكبر أثناء تلك المدة - لكني لا أزال أعتقد أنها كانت غير متمرسة. فلم تكن سوى في السادسة عشرة من عمرها، رغم كل ذلك.» «أخبرتك بأنها في السادسة عشرة من عمرها.»
قال تشادويك لاويا فمه بسخرية من أسفل شاربه الأسود الصغير: «قضت عيد ميلادها السادس عشر في لاربورو. كلفني الأمر أحمر شفاه ذهبيا.»
نظر روبرت إلى السيدة وين في الجهة المقابلة ورآها تغطي وجهها بيديها. وبدا ليزلي وين، الذي كان يجلس إلى جوارها، غير مصدق ولا يظهر عليه أي تعبير. «لم تكن لديك فكرة أنها كانت فعليا لا تزال في الخامسة عشرة من عمرها؟» «لا. ليس إلا مؤخرا.» «وبهذا عندما اقترحت أن تذهب معك كنت تظنها طفلة غير متمرسة في السادسة عشرة من عمرها.» «أجل.» «لم غيرت رأيك فيها؟» «هي؛ أقنعتني أنها لم تكن هكذا.» «لم تكن هكذا كيف؟» «لم تكن غير متمرسة.» «لهذا بعد ذلك لم يؤنبك ضميرك لأن تأخذها معك في رحلة إلى الخارج؟» «كان ضميري يؤنبني كثيرا، لكني بعدها كنت قد علمت ... طبيعة التسلية التي يمكن أن توفرها لي، ولم يكن لي أن أتركها لو أردت ذلك.» «لهذا أخذتها إلى الخارج معك.» «أجل.» «بصفتها زوجتك؟» «أجل، بصفتها زوجتي.» «ألم يؤنبك ضميرك بشأن القلق الذي ربما قد يعانيه أهلها؟» «كلا. قالت لا يزال لديها أسبوعان في إجازتها، وسيعتقد أهلها كأمر مسلم به أنها لا تزال مع عمتها في لاربورو. وأخبرت عمتها بأنها ستعود إلى المنزل، لكنها كانت قد أخبرت أهلها بأنها ستواصل إقامتها هناك. ولأنهم لم يتراسلوا قط فكان مستبعدا أن يصبح غيابها عن لاربورو معروفا لأهلها.» «هل تتذكر التاريخ الذي غادرتما فيه لاربورو؟» «نعم؛ أخذتها بسيارتي من موقف حافلات في مينشيل عصر يوم 28 مارس. كان ذلك المكان الذي تستقل فيه عادة حافلة العودة إلى منزلها.»
ترك كيفين مهلة من الوقت بعد هذه المعلومة ، حتى تحظى أهمية ما قيل بفرصة كاملة. فكر روبرت، مرهفا السمع إلى هذا الهدوء العابر، أنه لو كانت قاعة المحكمة خاوية من جنس بشر لم يكن ليسودها هدوء مطلق أكثر من ذلك. «وبذلك اصطحبتها معك إلى كوبنهاجن. أين أقمتما؟» «في فندق ريد شوز.» «كم كانت مدة إقامتكما؟» «أسبوعين.»
سرى همس طفيف من التعليق أو الدهشة بسبب ذلك. «ثم ماذا حدث؟» «عدنا معا إلى إنجلترا يوم 15 أبريل. كانت قد أخبرتني أن الموعد المقرر لعودتها إلى المنزل هو 16 أبريل. لكنها أثناء العودة أخبرتني بأن موعد عودتها الفعلي كان يوم 11 أبريل وأنها صارت متغيبة عن المنزل آنذاك أربعة أيام.» «هل ضللتك عن عمد؟» «أجل.» «هل أخبرتك بالسبب الذي دفعها لأن تضللك؟» «أجل. حتى تصير العودة مستحيلة عليها. قالت إنها ستكتب إلى أهلها وتخبرهم بأنها قد حصلت على وظيفة وأنها في غاية السعادة، وأن ليس عليهم أن يبحثوا عنها أو يقلقوا بشأنها.» «ألم تشعر بتأنيب لما تسببت فيه من معاناة لوالديها اللذين كانا مخلصين لها؟» «لا. قالت إن منزلها يشعرها بالملل الشديد.»
رغما عنه، اتجهت عينا روبرت إلى السيدة وين، وانصرفتا عنها مرة أخرى في الحال. إذ كانت في محنة قاسية. «ما كان رد فعلك تجاه الموقف الجديد؟» «بداية كنت غاضبا. فقد وضعتني في موقف صعب.» «هل كنت قلقا على الفتاة؟» «لا، ليس بالدرجة.» «لم؟» «بمرور الوقت علمت أنها قادرة تماما على الاعتناء بنفسها.» «ماذا تقصد بهذا تحديدا؟» «أقصد: أيا كان الشخص الذي سيعاني من أي وضع تسببت فيه، فلن يكون هذا الشخص هو بيتي كين.»
إن ذكر اسمها ذكر الحضور فجأة بأن الفتاة التي كانوا يستمعون إليها منذ قليل كانت بيتي كين «بعينها». بيتي كين «التي عرفوها». الإنسانة التي تشبه القديسة بيرناديت. فسرت حركة بسيطة مضطربة؛ حركة لالتقاط الأنفاس. «ثم ماذا بعد؟» «بعد كثير من المعافرة ...»
قال سيادته: «بعد ماذا؟» «الكثير من المناقشة يا سيادة القاضي.»
قال سيادته: «أكمل، لكن التزم باستعمال اللغة الفصحى أو البسيطة.» «بعد حوار طويل توصلت إلى أن أفضل ما يمكن فعله هو أخذها إلى منزل لي على النهر، قريب من قرية بورن إند. اعتدنا ارتياده في عطلات نهاية الأسبوع في فصل الصيف وفي إجازات الصيف، لكن قلما نأتي إليه باقي أيام السنة.» «عندما تستخدم صيغة الجمع، تقصد أنت وزوجتك.» «أجل. فوافقت على ذلك الاقتراح بسرعة تامة، ثم أوصلتها إلى هناك.» «هل بقيت معها هناك تلك الليلة؟» «أجل.» «وماذا عن الليالي التالية؟» «الليلة التالية قضيتها في المنزل.» «في إيلينج؟» «أجل.» «والليالي التي بعدها؟» «لمدة أسبوع بعدها قضيت أغلب الليالي في منزلي على النهر.» «ألم تفاجأ زوجتك بأنك لم تبت في المنزل؟» «ليس بالدرجة التي يصعب احتمالها.» «وكيف انتهى الوضع في منزل بورن إند؟» «ذهبت إليه ذات ليلة ووجدتها قد غادرت المنزل.» «ماذا ظننت أنه قد حدث لها؟» «حسنا كان يزداد شعورها بالملل خلال اليوم أو اليومين الأخيرين - وجدت أعمال المنزل مسلية نحو ثلاثة أيام وليس أكثر من ذلك، ولم يكن لديها الكثير لتشغل به وقتها هناك - لهذا عندما وجدتها قد غادرت المنزل ظننت أنها سئمت مني وقد وجدت شخصا آخر أو شيئا أكثر إثارة.» «هل علمت فيما بعد إلى أين ذهبت، ولماذا؟» «أجل.» «هل سمعت الفتاة بيتي كين تدلي بشهادتها اليوم؟» «أجل سمعتها.» «شهادتها بخصوص حبسها عنوة في منزل قريب من ميلفورد؟» «أجل.» «هل هذه هي الفتاة التي سافرت معك إلى كوبنهاجن، ومكثت معك هناك مدة أسبوعين، ثم أقامت بعدها في منزل قريب من بورن إند؟» «أجل، تلك هي الفتاة نفسها.» «ألديك أي شكوك حيال ذلك؟» «لا.» «شكرا لك.»
أطلقت تنهيدة كبيرة من جموع الحاضرين عندما جلس كيفين وانتظر برنارد تشادويك تعقيب مايلز أليسون. تساءل روبرت إن كان وجه بيتي كين قادرا على إظهار أي مشاعر غير مشاعر الخوف والانتصار. سبق له أن رأى وجهها مرتين ينبض بفرحة الانتصار، ومرة واحدة - عندما اجتازت السيدة شارب العجوز غرفة الجلوس متجهة ناحيتها في تلك المرة الأولى - رآه يعكس خوفا. لكن كل الانفعال الذي أظهره في تلك اللحظة تحديدا بدا كأنها ربما تستمع إلى قراءة لأسعار سوق الماشية. فتوصل إلى أن مظهر وجهها الذي يعكس هدوءا داخليا لا بد أنه نتيجة خلقة طبيعية. نتيجة ما توحي بها عيناها المتباعدتان، وتعابير وجهها الهادئة، وثغرها الصغير الوضيع الذي يتخذ دوما وضع الاستياء الطفولي نفسه. هذه الخلقة الطبيعية هي التي قد أخفت، طوال تلك السنوات، شخصية بيتي كين الحقيقية حتى من المقربين إليها. كان تمويها مثاليا. مظهر مصطنع كان بإمكانها أن تتخفى وراءه بالهيئة التي تحلو لها. وها هو في تلك اللحظة، قناع طفولي وهادئ مثلما قد رآه في أول مرة يعتلي معطفها المدرسي في قاعة الاستقبال بمنزل فرنتشايز؛ رغم أنه يتوارى خلفه صاحبته التي لا بد أنها تغلي بانفعالات يستحيل تسميتها.
قال مايلز أليسون: «سيد تشادويك، هذه قصة متأخرة كثيرا عن أوانها، أليس كذلك؟» «متأخرة عن أوانها؟» «أجل. كانت هذه القضية هي الشغل الشاغل لتقارير الصحف والرأي العام طيلة الثلاثة الأسابيع الأخيرة، أو نحو ذلك. لا بد أنك كنت على خبر بأن هاتين السيدتين متهمتان ظلما - إن كانت قصتك صحيحة. وإذا كانت بيتي كين، كما تدعي أنت، معك خلال تلك الأسابيع، وليست، كما تدعي هي، في منزل هاتين السيدتين، فلماذا إذن لم تتوجه مباشرة إلى الشرطة وتخبرهم بذلك؟» «لأني لم أعرف أي شيء عن ذلك.» «عن ماذا؟» «عن اتهام هاتين السيدتين. أو عن القصة التي روتها بيتي كين.» «كيف ذلك؟» «لأني سافرت إلى الخارج مرة أخرى لدواع خاصة بالشركة التي أعمل بها. لم أعرف أي شيء عن هذه القضية إلا منذ يومين.» «فهمت. لقد سمعت الفتاة تدلي بشهادتها، وسمعت شهادة الطبيب بخصوص الحالة التي وصلت بها إلى المنزل. هل أي شيء في قصتك يفسر ذلك؟» «لا.» «لم تكن أنت الذي ضربت الفتاة؟» «لست أنا.» «تقول إنك ذهبت إلى هناك ووجدتها قد غادرت المنزل.» «صحيح.» «أكانت قد حزمت أمتعتها وغادرت؟» «أجل؛ هكذا بدا الأمر حينها.» «يعني ذلك أن جميع متعلقاتها والحقائب التي كانت فيها قد اختفت معها.» «أجل.» «لكنها عادت إلى منزلها من دون أي نوع من المتعلقات، ولم تكن ترتدي سوى فستان وحذاء.» «لم أعرف ذلك إلا بعد الواقعة بكثير.» «تريد منا أن نفهم بأنك ذهبت إلى المنزل فوجدته مرتبا وخاليا، ولا يوجد به أي دليل على رحيل متعجل.» «أجل. هكذا وجدته.»
عندما استدعيت ماري فرانسيس تشادويك لتدلي بشهادتها انتشر في قاعة المحكمة ما يرقى لوصفه بالضجة، حتى قبل ظهورها. كان واضحا أنها «الزوجة»؛ وهذا أمر لم يتوقعه أحد من الحشد المصطف خارج المحكمة، حتى الأكثر تفاؤلا.
كانت فرانسيس تشادويك امرأة طويلة لها طلة جميلة؛ ذات شعر أشقر طبيعي ولها ملابس وملامح عارضة أزياء؛ لكن جسدها أصبح ممتلئا بعض الشيء الآن، وإذا حكم عليها أحد من وجهها الحسن، فإنها لم تكن تبالي كثيرا.
قالت إنها متزوجة بالفعل من الشاهد السابق، وعاشت معه في إيلينج. ولم ينجبا أطفالا. وهي لا تزال تعمل في تجارة الملابس من حين لآخر. ليس لأنها في حاجة إلى العمل، لكن من أجل اكتساب مصروفها الخاص ولأنها أحبت المجال. أجل، هي تتذكر ذهاب زوجها إلى لاربورو ورحلته بعد ذلك إلى كوبنهاجن. وأنه وصل من كوبنهاجن متأخرا بيوم عن اليوم الذي حدده، وقضى الليلة معها. وخلال الأسبوع التالي بدأت الشكوك تساورها أن زوجها قد نشأ لديه اهتمام في مكان ما. وتأكد الشك عندما أخبرتها صديقة بأن زوجها لديه ضيفة حلت في منزلهما على النهر.
سأل كيفين: «هل تحدثت إلى زوجك بشأن هذا الأمر؟» «لا. لم يكن ذلك ليمثل أي حل. فهو يجذبهن كالذباب.» «ماذا فعلت، إذن؟ أو خططت كي تفعلي؟» «الشيء الذي أفعله دائما مع الذباب.» «ما ذلك الشيء؟» «أسحقه.» «وبهذا توجهت إلى المنزل من أجل سحق الذبابة التي هناك أيا كانت.» «هكذا بالضبط.» «وماذا وجدت في المنزل؟» «ذهبت في ساعة متأخرة من المساء على أمل أن أمسك ببارني هناك أيضا ...» «بارني زوجك؟»
أضافت على عجل، لافتة انتباه القاضي: «هكذا هو. أقصد، أجل.» «ثم ماذا حدث؟» «كان الباب مفتوحا؛ لهذا دخلت على الفور وتوجهت إلى غرفة الجلوس. ثم جاء صوت امرأة مناديا من غرفة النوم: «أهذا أنت يا بارني؟ لقد اشتقت إليك كثيرا.» فدخلت ووجدتها مستلقية على الفراش بملابس مبتذلة اعتدت مشاهدتها في أفلام الرعب منذ نحو عشر سنوات. كانت متسخة، وفوجئت قليلا من ذوق بارني. كانت تأكل شوكولاتة من صندوق كبير بجانبها على الفراش. المنظر بأكمله كان يشبه بشدة فيلما لمصاصي الدماء لعام ألف وتسعمائة وثلاثين.» «من فضلك اقتصري في قصتك على المعلومات الأساسية يا سيدة تشادويك.» «أجل. أعتذر. حسنا، تبادلنا الكلام المعتاد ...» «المعتاد؟» «أجل. كلام من قبيل ما الذي تفعلينه هنا. الزوجة المخدوعة والفتاة العشيقة، كما تعرف. لكن لسبب أو لآخر أزعجتني بشدة. لا أعرف ما السبب. لم أكن قد أبديت اهتماما كبيرا قط في مناسبات أخرى. أقصد، يدور بيننا جدال هادئ من دون أن تحمل أي منا مشاعر كره تجاه الأخرى. لكن ثمة شيء كان في هذه العاهرة الصغيرة أصابني بالغثيان. لهذا ...» «من فضلك يا سيدة تشادويك!» «لا بأس. أعتذر. لكنك أخبرتني بأن أحكي بأسلوبي الخاص. حسنا، وصل الوضع إلى نقطة لم يكن بوسعي احتمال هذه العا ... أقصد، وصلت إلى مرحلة أغضبتني فيها لدرجة تفوق احتمالي. فسحبتها من السرير وصفعتها على جانب الرأس. بدت متفاجئة كثيرا لدرجة مضحكة. بدت كما لو لم يضربها أحد في حياتها. فقالت: «تضربينني أنا» بهذه الطريقة بالضبط؛ فقلت: «سيضربك كثير من الناس من الآن فصاعدا، يا حلوتي»، ثم صفعتها صفعة أخرى. حسنا، من تلك اللحظة وحتى النهاية كان مجرد شجار. أعترف بصراحة تامة أن جميع التصرفات الغريبة كانت من جانبي. من ناحية لأني كنت الأكبر حجما وأعصابي تتقد غضبا. مزقت ملابسها السخيفة، واستمر الشجار حتى تعثرت في أحد خفيها لدرجة أنها استلقت على الأرض وصار جسدها راقدا. انتظرتها حتى تنهض، لكنها لم تنهض، فظننت أنها قد فارقت الحياة. ذهبت إلى المرحاض لأحضر قماشا مبللا بماء بارد ثم مسحت على وجهها. ثم ذهبت إلى المطبخ لأعد بعض القهوة. كنت قد هدأت حينها وظننت أن سيروقها تناول شيء لما تهدأ أيضا. صببت القهوة ثم تركتها. وعندما عدت إلى غرفة النوم وجدت أن الإغماء كان مجرد تمثيل. فالصغيرة ... الفتاة كانت قد هربت. كان لديها الوقت لترتدي ثيابها؛ لهذا فقد سلمت بأنها قد ارتدت فستانها في عجالة وهربت.» «وهل ذهبت أنت أيضا؟» «انتظرت ساعة؛ ظنا مني أن بارني ربما سيأتي. زوجي. لكن جميع أغراض الفتاة كانت ملقاة هنا وهناك؛ لهذا رميتها كلها في حقيبتها ثم وضعتها في الخزانة تحت السلم المؤدي إلى العلية. ثم فتحت جميع النوافذ. لا بد أنها كانت تضع عطرها بكميات كبيرة. ولما لم يأت بارني انصرفت. لا بد أني لم ألحق به؛ لأنه ذهب بالفعل إلى هناك تلك الليلة. لكن بعد مرور يومين أخبرته بما فعلته.» «وما كان رد فعله؟» «قال إنه من المؤسف أن والدتها لم تفعل الشيء نفسه منذ عشر سنوات.» «لم يساوره قلق بخصوص ما حل بها؟» «لم يفعل. أنا كنت قلقة، نوعا ما، إلى أن أخبرني أن منزلها في إيلزبري فحسب. بإمكانها بسهولة تامة أن تحصل على توصيلة إلى تلك المسافة.» «لهذا سلم بتفكيره أنها قد عادت إلى منزلها.» «أجل. قلت ألم يكن من الأفضل أن يتأكد. فرغم كل هذا، هي مجرد طفلة.» «وماذا قال ردا على ذلك؟» «قال: «فرانكي، يا حبيبتي، تلك «الطفلة» تعرف عن وسائل المحافظة على النفس أكثر مما تعرفه الحرباء».» «وبهذا أخرجت الأمر من تفكيرك.» «أجل.» «لكن لا بد أن الأمر جال بخاطرك مرة أخرى عند قراءة التقارير عن قضية منزل فرنتشايز؟» «لا، لم يحدث ذلك.» «ما السبب في ذلك؟» «لسبب واحد، أني لم أعرف مطلقا اسم الفتاة. بارني كان يطلق عليها ليز. ولم أربط قط بين فتاة المدرسة في عمر الخامسة عشرة التي خطفت وضربت في مكان ما في منطقة ميدلاندز وفتاة بارني. أقصد، الفتاة التي كانت تأكل الشوكولاتة على فراشي.» «لو كنت قد أدركت أن الفتاتين هما الشخص نفسه، فهل كنت ستخبرين الشرطة بما عرفته عنها؟» «بالتأكيد.» «هل كنت ستترددين نظرا إلى أنك أنت من أوسعتها ضربا؟» «كلا. كنت سأوسعها ضربا مرة أخرى في الغد لو أتيحت لي الفرصة.» «سأوفر على صديقي المحنك سؤالا وأسألك: هل تنوين الطلاق من زوجك؟» «لا. بالتأكيد لا.» «هل شهادتك وشهادته مؤامرة عامة محبوكة بإتقان؟» «كلا. لم أكن لأحتاج إلى مؤامرة. لكن لا نية لي في الطلاق من بارني. فهو رجل ظريف، ومعيل جيد. ما الذي تحتاج إليه في زوج أكثر من ذلك؟»
سمع روبرت كيفين يغمغم قائلا: «ليس لي أن أعرف.» ثم بنبرة صوته المعتادة طلب منها التأكيد على أن تلك الفتاة التي كانت تتحدث بشأنها هي نفسها الفتاة التي أدلت بشهادتها؛ الفتاة التي كانت تجلس في تلك اللحظة داخل المحكمة. وبذلك شكرها ثم جلس.
لكن مايلز أليسون لم يجر أي محاولة لاستجواب الشاهدة. فهم كيفين للنداء على شاهده التالي. لكن رئيس المحلفين سبقه قبل أن يتكلم.
قال رئيس المحلفين إن هيئة المحلفين أرادت أن تعلم سيادة القاضي بأنه قد صار لديها كافة الأدلة التي تحتاج إليها.
سأل القاضي: «من الشاهد الذي كنت على وشك النداء عليه يا سيد ماكديرموت؟» «إنه صاحب الفندق في كوبنهاجن يا سيدي. حتى يتحدث عن إقامتهما هناك طيلة المدة المعنية.»
استدار القاضي إلى رئيس المحلفين مستفسرا.
تشاور رئيس المحلفين في الأمر مع هيئة المحلفين. «لا يا سيدي؛ لا نظن أنه ضروري، مع مراعاة أن أمر الاستماع إلى الشاهد قابل للتعديل، من جانب سيادتكم.» «إذا كنتم مقتنعين بأنكم قد سمعتم ما يكفي للتوصل إلى حكم صائب - وأنا نفسي لا أرى أن أي شهادة أخرى قد توضح الأمر إلى حد كبير - فليكن الأمر على ما هو عليه. هل ترغبون في سماع محامي الدفاع؟» «لا يا سيادة القاضي، شكرا لك. لقد وصلنا إلى قرارنا بالفعل.» «في تلك الحالة، أي تلخيص من جانبي سيصبح إسهابا بدرجة واضحة. هل ترغبون في التداول منفردين؟» «لا يا سيدي. فنحن مجمعون على رأي واحد.»
الفصل الثالث والعشرون
قال روبرت: «من الأفضل أن ننتظر حتى تتفرق جموع الحاضرين.» ثم أردف قائلا: «وبعدها سيفسحون المجال لنا حتى نخرج من الطريق الخلفي.»
كان يتساءل عن السبب الذي جعل ماريون تبدو عابسة، وغير مبتهجة. كادت تبدو كما لو أنها تعاني من صدمة ألمت بها. أكان التوتر الذي مرت به سيئا لهذه الدرجة؟
وكأنها أدركت حيرته، فقالت: «تلك السيدة. تلك السيدة المسكينة. يعجز عقلي عن التفكير في أي شيء آخر.»
سأل روبرت، بغباء: «من هي؟» «والدة الفتاة. هل لك أن تتخيل أي شيء أكثر بشاعة من ذلك؟ أن تفقد السقف الذي تستظل به هو أمر بشع - بالمناسبة، يا عزيزي روبرت، لست مجبرا أن تخبرنا ...» ومن ثم فتحت الإصدار الأخير من صحيفة «لاربورو تايمز» الذي يعرض خبرا في قسم آخر الأخبار عنوانه: «منزل فرنتشايز، الذي ذاع صيته بسبب قضية اختطاف ميلفورد، احترق بأكمله الليلة الماضية». وأضافت: «ربما كانت البارحة ستبدو لي فاجعة مأساوية. لكن مقارنة بالعذاب النفسي الذي تقاسيه تلك السيدة فيبدو لي الأمر حادثة هينة. ما الذي قد يكسر أكثر من اكتشاف أن الإنسان الذي عشت معه وأحببته طيلة كل تلك السنوات ليس فقط غير موجود، وإنما لا وجود له من الأساس؟ ذلك الشخص الذي أحببته كثيرا لم يكتف بأنه لم يحبك فحسب، بل إنه لا يلقي لك بالا ولم يأبه بك قط؟ ليس بإمكانها أبدا مرة أخرى أن تخطو خطوة على عشب أخضر من دون أن تتساءل إن كان ذلك مستنقعا.»
علق كيفين: «أجل، لم أحتمل النظر إليها. ما كانت تمر به كان مخزيا.»
قالت السيدة شارب: «لها ابن وسيم. آمل أن يكون سلوانا لها.»
قالت ماريون: «لكن ألا ترين حالها؟ لن يشعرها ابنها بالسلوان. ليس لديها أي شيء الآن. ظنت أن لديها بيتي كي تفرح بها كابنة. أحبتها ووثقت فيها مثلما أحبت ابنها ووثقت فيه. والآن تخلى عنها العماد الأساسي في حياتها. كيف لها أن تحكم، بعد ذلك، إذا كانت المظاهر خداعة لهذه الدرجة؟ لا، لم يعد لديها أي شيء. ليس سوى الوحدة. قلبي ينفطر حزنا عليها.»
تأبط كيفين ذراعها ثم قال: «كان لديك ما يكفي من المشكلات الخاصة بك في الآونة الأخيرة من دون أن تثقلي على نفسك بمشكلات الآخرين. تعالي، أظن أنهم سيسمحون لنا بالذهاب الآن. هل أسعدك أن تري الشرطة محتشدة بطريقتها المهذبة غير الرسمية حول أولئك الذين حلفوا كذبا؟» «لا، ليس بوسعي التفكير سوى في محنة تلك السيدة.»
وبهذا كانت لا تزال ثابتة على تفكيرها.
تجاهلها كيفين. «والتدافع الشائن من جانب الصحفيين للوصول إلى هاتف فور خروج الطرف الأحمر لروب القاضي من الباب؟ سوف تبرئين على نطاق واسع في جميع صحف بريطانيا، أعدك بذلك. ستصبح أكبر تبرئة علنية منذ قضية دريفوس. انتظريني هنا، بينما أتخلص من هؤلاء، لن أستغرق سوى دقيقة.»
قالت السيدة شارب: «أفترض أنه من الأفضل لنا الذهاب إلى فندق ليلة أو ليلتين.» ثم أضافت قائلة: «هل تبقت لنا أي متعلقات بأي شكل من الأشكال؟»
أخبرها روبرت: «أجل، سيسعدني أن أقول لك تبقى عدد لا بأس به من الأشياء»، ووضح لها ما تمكنوا من إنقاذه. «لكن يتوفر خيار آخر بديل عن الفندق.» وأخبرهما باقتراح ستانلي.
كان ذلك المنزل الصغير على الحدود الخارجية من البلدة «الجديدة» هو المنزل الذي ذهبت إليه ماريون ووالدتها، وفي الحجرة الأمامية لمنزل الآنسة سيم جلسوا للاحتفال، مجموعة صغيرة بسيطة: ماريون، ووالدتها، وروبرت، وستانلي. وعلى المنضدة باقة كبيرة من الزهور جاءت مع واحدة من أفضل رسائل العمة لين. كانت الرسالة المقتضبة اللطيفة والودودة للعمة لين تحمل معنى مؤثرا وبسيطا مثل قولها «هل كان يومك حافلا يا عزيزي؟» لكن كان لها المفعول اللطيف نفسه على الحياة. كان ستانلي قد جاء بنسخة من صحيفة «لاربورو إيفينينج نيوز» التي تعرض على صفحتها الأولى التقرير الأول عن المحاكمة. نشر التقرير تحت العنوان الرئيسي: «الكاذبون لا يحالفهم النصر».
سأل روبرت ماريون: «هل ستلعبين الجولف معي عصر الغد؟ لقد قضيت وقتا طويلا في معزل. يمكننا أن نبدأ مبكرا، قبل أن ينتهي اللاعبان من غدائهما وبذلك نستأثر بالملعب لأنفسنا.»
قالت: «حسنا، أود ذلك.» وتابعت: «أعتقد أن الحياة ستبدأ من جديد غدا، وتصبح ذلك المزيج المعتاد بين الأمور المستحسنة والأمور السيئة. لكن الليلة هي مجرد مساحة لأن يحدث فيها كل الأشياء المفزعة للمرء.»
عندما زارها في اليوم التالي، بدا أن كل شيء في الحياة يسير على أكمل وجه. قالت: «لا يمكنك أن تتخيل، يا له من نعيم! أقصد أن تعيش في هذا المنزل. ليس عليك سوى تدوير الصنبور والماء الساخن سيتدفق.»
قالت السيدة شارب: «كذلك إنه يكسبك الكثير من المعلومات.» «المعلومات؟» «بإمكانك سماع كل كلمة تقال في الغرف المجاورة لك.» «أوه، توقفي يا أمي! ليست كل كلمة!»
صححت السيدة شارب: «كل ثالث كلمة.»
وبهذا اتجها إلى ملعب الجولف بمعنويات عالية، وقرر روبرت أنه سيطلب منها الزواج وهما يتناولان الشاي في مبنى النادي بعد اللعب. أم أنه سيكون هناك كثير من الناس ليقاطعوهما، بتعليقات لطيفة على نتيجة المحاكمة؟ هل عليه فعل ذلك في طريقهما للعودة إلى المنزل؟
كان قد توصل إلى أن أفضل خطة هي أن يترك في حيازة العمة لين ذلك المنزل العتيق - ذلك المكان الذي يعد جزءا منها، لدرجة أنه كان مستحيلا ألا تعيش فيه حتى مماتها - وأن يجد مكانا صغيرا لنفسه ولماريون في مكان آخر في ميلفورد. لن يصبح الأمر سهلا، في هذه الأيام، لكن في أسوأ الظروف بإمكانهما تأسيس شقة صغيرة في الطابق العلوي من مكتب بلير وهيوارد وبينيت. هذا قد يعني إزالة سجلات يصل عمرها إلى مائتي سنة أو ما يقارب؛ لكن السجلات سرعان ما تصل جودتها إلى جودة الأشياء المحفوظة في المتاحف، ومن المفترض إزالتها في جميع الأحوال.
حسنا، سيطلب منها الزواج في طريق العودة إلى المنزل.
ظل هذا القرار قائما حتى وجد أن التفكير فيما سيحدث يكدر عليه لعبته. لهذا عند الحفرة العشبية التاسعة توقف فجأة عن أرجحة مضربه عند الكرة، وقال: «أريد أن أتزوجك يا ماريون.»
أخرجت مضربها من حقيبتها، ثم ألقت الحقيبة على الحدود العشبية: «أتريد ذلك حقا يا روبرت؟» «ستوافقين، أليس كذلك؟» «لا يا عزيزي روبرت، لن أوافق.» «لكن يا ماريون! لم؟ أقصد، لم لا؟» «أوه ... كما يقول الأطفال، «لأن».» «لأن ماذا؟» «لعدة أسباب ، وكل سبب منهم كاف في حد ذاته. أحد الأسباب أنه إذا لم يتزوج رجل في الوقت الذي بلغ فيه سن الأربعين، فإن الزواج ليس من بين الأشياء التي يريدها من الحياة. سيصبح الزواج حينها كشيء أصابه فجأة؛ مثل زكام وآلام في المفاصل والمطالبة بدفع ضرائب على الدخل. ولا أريد أنا أن أكون تحديدا الشيء الذي أصابك فجأة.» «لكن ذلك ...» «وكذلك، لا أعتقد أنني قد أضر بسمعة مكتب بلير وهيوارد وبينيت. حتى ...» «أنا لا أطلب منك أن تتزوجي مكتب بلير وهيوارد وبينيت.» «حتى إثبات أني لم أضرب بيتي كين لن يعفيني من كوني «السيدة المتهمة في قضية بيتي كين»؛ نوع مزعج من الزوجات بالنسبة إلى الشريك الأساسي في المكتب. هذا لن يأتي بأي خير يا روبرت، صدقني.» «ماريون، أرجوك! كفاك ...»
فأضافت، وهي تظهر ابتسامة إليه: «يأتي بعد ذلك، أنه عندك العمة لين وعندي أمي. ليس بيدينا أن نتخلص منهما كقطعتي علكة. أنا لا أحب أمي فحسب، إنما يعجبني كل شيء فيها. أعشقها واستمتع بالحياة معها. وأنت على الجانب الآخر، تعتاد على أن تدللك العمة لين - حقا، هذه حقيقة، اعتدت على ذلك! - وستفتقد أكثر مما تدرك جميع الرفاهيات ومظاهر التدليل التي لن أعرف كيف أمنحها لك - ولن أمنحها لك إذا كنت أعرف كيف أفعل ذلك.» «ماريون، أريد الزواج منك لهذا السبب تحديدا؛ لأنك لا تدللينني. لأن لك عقلا ناضجا و...» «هذا العقل الناضج سيصبح لطيفا أن تتناول معه العشاء مرة في الأسبوع، لكن بعد العيش لفترة طويلة مع العمة لين ستجد أنه بديل سيء جدا لحلوى شهية في أجواء جيدة.»
قال روبرت: «هناك شيء واحد لم تذكريه ولو مرة.» «ما ذلك؟» «هل يهمك أمري بأي شكل من الأشكال؟» «أجل. يهمني أمرك إلى حد كبير. وأعتقد أكثر من اهتمامي بأي أحد على الإطلاق. وذلك جزئيا أحد أسباب أني لن أتزوج منك. أما السبب الآخر فله علاقة بي.» «له علاقة بك؟» «كما ترى، أنا غير متزوجة. فلا أريد أن أتحمل تعقيدات شخص آخر، ومتطلبات شخص آخر، والمزاج السيئ لشخص آخر. أنا وأمي مناسبان بعضنا لبعض على نحو مثالي؛ لأنه لا أحد منا يفرض متطلبات على الآخر. إذا شعر أحدنا بأن زكاما أصابه فبإمكانه الانزواء في غرفته دون ضجة ومداوة نفسه المريضة حتى يصبح مؤهلا للتعامل مع البشر مرة أخرى. لكن لا زوج سيفعل ذلك. فقد ينتظر التعاطف معه - حتى لو كان هو الذي جلب الزكام إلى نفسه لما خلع ملابسه عندما صار جسده دافئا، بدلا من الانتظار بعقلانية حتى يهدأ جسده - التعاطف والاهتمام والإطعام. كلا يا روبرت. هناك مئات الآلاف من السيدات يتلهفن نحو العناية برجل أصابه زكام؛ لم تختارني بالذات؟» «لأنك أنت السيدة الوحيدة الفريدة بين مئات الآلاف من السيدات، ولأني أحبك.»
بدت نادمة قليلا. ثم قالت: «أبدو قليلة الاحترام، أليس كذلك؟ لكن ما أقوله هو عين العقل.» «لكن يا ماريون، إنها حياة في وحدة ...» «إن الحياة «الحافلة» من واقع خبرتي هي غالبا حافلة فقط بمتطلبات الآخرين.» «لكن والدتك لن تبقى معك إلى الأبد.» «من خلال معرفة أمي مثلما أعرفها، ليس لدي شك في أنها ستعمر في الحياة أطول مني بسهولة تامة. من الأفضل أن تدخل الكرة في الحفرة: أرى الكرة الرابعة للكولونيل وايتيكر العجوز تلوح في الأفق.»
دفع تلقائيا كرته داخل الحفرة. ثم سأل: «لكن ماذا ستفعلين؟» «إذا لم أتزوج منك؟»
جز على أسنانه. كانت محقة: ربما أن طابعها التهكمي لن يكون مريحا العيش معه. «ما الذي فكرت في فعله أنت ووالدتك بعد أن فقدتما منزل فرنتشايز؟»
تباطأت في الإجابة عنه، وكأنه كان صعبا النطق به. فظلت تعبث بحقيبتها، وتدير ظهرها إليه.
قالت: «سنسافر إلى كندا.» «ستهاجران!»
ردت عليه بينما كانت لا تزال تدير ظهرها إليه. فقالت: «أجل.»
بدا مصدوما. «لكن، لا يمكنك ذلك يا ماريون. ولماذا إلى كندا؟» «لي ابن خالة يعمل أستاذا جامعيا في جامعة ماكجيل. ابن الأخت الوحيدة لأمي. كتب لنا منذ مدة طويلة مضت ليسأل أمي إن كنا نود السفر لنتولى مهام المنزل من أجله، لكننا في ذلك الوقت كنا قد ورثنا منزل فرنتشايز، وكنا سعيدتين بالعيش في إنجلترا. لهذا رفضنا. لكن العرض لا يزال قائما. ولهذا فنحن ... نحن الاثنان سيسعدنا السفر الآن.» «فهمت.» «لا تبد حزينا هكذا. أنت لا تدرك مدى جودة المهرب الذي صار أمامك يا عزيزي.»
أنهيا جولتهما في صمت جاد.
لكن وهو يقود سيارته عائدا إلى سين لين بعد أن أوصل ماريون إلى منزل الآنسة سيم، ابتسم روبرت بسخرية عند التفكير بأنه إلى جانب الخبرات الجديدة التي قد اكتسبها من معرفته بالسيدتين شارب، صار لديه الآن خبرة أخرى وهو أنه خاطب مرفوض. إنها الأخيرة، وربما أنها أكثر خبرة مفاجئة له.
بعد مرور ثلاثة أيام، بعد أن باعا إلى تاجر محلي ما أنقذ من أثاثهما، وبعد أن باعا إلى ستانلي السيارة التي احتقرها كثيرا، غادرتا ميلفورد بالقطار. بقطار صغير غريب يسير من ميلفورد إلى تقاطع السكك الحديدية في نورتون. فوصل روبرت معهما إلى ذلك التقاطع حتى يراهما وهما تستقلان القطار السريع.
قالت ماريون، وهي تشير إلى حقيبتيهما الضئيلتين: «كنت مولعة دائما بالسفر بأحمال خفيفة، لكني لم أتخيل أبدا أني سأصل إلى حد السفر إلى كندا بحقيبة سفر صغيرة.»
لكن لم يكن بوسع روبرت أن يفكر في دخول أي حوار قصير. كان يمتلئ بؤسا وكآبة لم يكن قد عهدها منذ أن كانت نفسه الصغيرة تمتلئ حزنا عند عودته إلى المدرسة. أينعت الزهور على امتداد رصيف المحطة، وتألقت الحقول بأزهار الحوذان، لكن العالم في عين روبرت صار رمادا محترقا وسماء تذرف قطرات مطر.
شاهد قطار لندن وهو يحملهما بعيدا، ثم عاد إلى المنزل متسائلا كيف بإمكانه أن يحتمل ميلفورد من دون الأمل في رؤية وجه ماريون الأسمر النحيل على الأقل لمرة واحدة في اليوم.
لكنه بوجه عام احتملها بروح عالية. ذهب مرة أخرى إلى الجولف في عصر أحد الأيام؛ ورغم أن الكرة دائما لن تمثل إليه في المستقبل سوى «قطعة من المطاط»، فإن طريقته في اللعب لم تتدهور تدهورا خطيرا. كما أسعد قلب السيد هيزيلتاين بإبداء اهتمامه بالعمل. واقترح على نيفيل فيما بينهما أنهما ربما يصنفان السجلات التي في العلية ويعدان فهرسا لها وربما يضعان الناتج في دفتر. في تلك الأثناء وصل من لندن خطاب وداع من ماريون، بعد مضي ثلاثة أسابيع، بعد أن كانت ثنايا الحياة الهادئة في ميلفورد تلملم نفسها لتحاوطه. (كتبت ماريون) عزيزي المقرب إلى قلبي روبرت
هذه رسالة وداع سريعة، كتبتها لأعلمك فحسب أنك لا تغيب عن ذهنينا. سنغادر إلى مونتريال في طائرة الصباح ليوم بعد غد. والآن ومع اقتراب وقت الرحيل لقد اكتشفنا أن ما يتذكره كلانا هو الذكريات اللطيفة والجميلة، وأن باقي ما حدث تضاءل في أعيننا حتى صار شيئا تافها نسبيا. ربما أن هذا حنين إلى الذكريات نشعر به مقدما. لا أعرف. لا أعرف سوى أنه سيكون من دواعي السعادة دائما أن أتذكرك. وأتذكر ستانلي، وبيل ... وإنجلترا.
خالص الحب، والامتنان منا إليك.
ماريون شارب
وضع الخطاب على مكتبه الماهوجني المطعم بالنحاس. وضعه في رقعة الشمس الخاصة بوقت ما بعد الظهر.
غدا في نفس الوقت لن تعود ماريون في إنجلترا.
كانت فكرة كئيبة، لكن لم يكن هناك ما يمكن فعله غير التفكير في الأمر بعقلانية. ما هو، بالفعل، الشيء الذي يمكن فعله حيال الأمر؟
ثم حدثت ثلاثة أشياء في الآن نفسه.
دخل السيد هيزيلتاين ليخبره بأن السيدة لوماكس أرادت تغيير وصيتها مرة أخرى، وما إذا كان سيتجه إلى المزرعة في الحال.
والعمة لين اتصلت به لتطلب منه إحضار السمك في طريق عودته إلى المنزل.
والآنسة تاف أحضرت إليه الشاي.
نظر لحظة طويلة إلى قطعتي بسكويت الدايجستف على الطبق. ثم، بحسم معتدل، دفع الصينية بعيدا عنه واتجه إلى الهاتف.
الفصل الرابع والعشرون
اجتاحت الأمطار الصيفية مدرج الطائرات بثبات باعث على الكآبة. ومن حين لآخر كانت ترفعه الريح وتطيح به وبمباني المطار بضربة واحدة طويلة. الطريق المغطى إلى طائرة مونتريال كان مفتوحا من الجانبين فأحنى الراكبون رءوسهم للاحتماء من الجو وهم يصطفون ببطء لدخوله. وكان بإمكان روبرت، وهو يتقدم عند نهاية الصف، أن يرى القبعة المسطحة من الستان الأسود الخاصة بالسيدة شارب، وخصلات قصيرة من شعرها الأبيض تهفهف.
في الوقت الذي صار فيه على متن الطائرة كانتا جالستين، والسيدة شارب كانت بالفعل تنقب في حقيبتها. وعندما سار نحو الممر بين المقاعد رفعت ماريون بصرها لأعلى ورأته. فأشرق وجهها بالترحاب والمفاجأة.
قالت: «روبرت!» وتابعت: «أجئت لتودعنا؟»
قال روبرت: «لا، سأسافر على هذه الطائرة.»
قالت وهي تحدق: «ستسافر! أنت؟» «إنها وسيلة نقل عامة، كما تعرفين.» «أعرف، لكن ... أستسافر إلى كندا؟» «أجل سأسافر.» «لأجل أي شيء ستسافر؟»
أخبرها روبرت بوقار: «لرؤية أختي في مقاطعة ساسكاتشوان. حجة أفضل كثيرا من حجة ابن خالة في جامعة ماكجيل.»
أخذت تضحك؛ برقة ودون انقطاع.
وقالت: «أوه، روبرت، يا عزيزي، لا يمكنك أن تتخيل كم تصبح منفرا عندما تبدو معجبا بنفسك!»
Bilinmeyen sayfa