فكأنهم جعلوا تأمين الطرقات ركنا من أركان الدين، ويفهم عقلا من سياستهم، أنه إذا فقد القاتل والسارق والناهب فأي سبب يمنع عموم الناس من الاشتغال بالزراعة والتجارة، واقتناء المواشي في البادية المخصبة؛ للتكسب من ألبانها وأصوافها وجلودها، وإذا اشتغلوا بالكسب الحلال فلا يسرقون، ولا ينهبون، ولا يقتلون، فكأن المسألة شبيهة بالدورية؛ أي إنه متى وجد الأمان ارتفع السارق والقاتل لاشتغالهم بمعاشهم الحلال، ومتى اشتغلوا بالمعاش الحلال وجد الأمان، ولكن هذا الدور منفك الجهة.
ولولا ما في الوهابيين من هذه النزعة؛ أعني تكفير من عداهم لملكوا جميع بلاد الإسلام، وأدخلوهم تحت حكمهم بطوعهم واختيارهم، ولكن بسبب هذه النزغة أبغضتهم الأمم، وتسلطت عليهم الدول، وغزاهم أسد الديار المصرية إبراهيم باشا بن محمد علي باشا، بأمر السلطان محمود سنة 1228، وملك بلادهم، ومحا آثارهم وأبادهم وأسكن عائلة المقرن - أي بيت الملك - وعائلة ابن عبد الوهاب الديار المصرية (وما رجعوا إلى بلادهم إلا بعد أن عاد الحجاز إلى الدولة العلية)، وهذه الفرقة المعبر عنها بالوهابيين هم أتباع محمد بن عبد الوهاب النجدي، ولكنهم في الحقيقة يسمون أهل الحديث؛ لأنه كان نظيرهم موجودا في زمن الدولة العباسية، وينكرون المناكير بالشدة والغلظة مثل الوهابيين، ويثورون على الخلفاء بسبب أن الجهاد في اعتقادهم ركن من أركان الدين، انظر تاريخ النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة من سنة 300 هجرية، وكانوا يسمونهم الحنابلة، وأهل الحديث في ذلك الزمن، ويقولون: قام الحنابلة وثار الحنابلة، وكسر الحنابلة حانات الخمور، وأدبوا من شربها، وكان بينهم وبين العباسيين مقابلات وحروب، ثم ثارت منهم فرق بالمشرق وبجزيرة الأندلس ويسمون الظاهرية، وهم أيضا أهل الحديث، وكانوا ينكرون المناكير مع الغلظة، ويثورون على الملوك، وأكثرهم يموت بين قتيل وطريد، ثم إنه ظهر لهم فرق في دولة يوسف صلاح الدين، وكانوا يسمون أهل الحديث، ولهم ثورات وعداوات مع الملوك أيضا، وينكرون المنكر بغلظة وفظاظة، وتسلسلوا إلى زمن ابن تيمية الحراني، وتلاميذه ابن مقلح، وابن القيم، وابن عبد الهادي، ثم ظهرت هذه الفرقة التي عمت وطمت في القرن الثاني عشر ويسمون بالوهابيين، نسبة إلى محمد بن عبد الوهاب النجدي، وإلا ففي الحقيقة أفعالهم وآثارهم هي أفعال الحنابلة الأقدمين، وهي أفعال أهل الحديث في القرون المتوسطة وأفعال الظاهرية، فالمعنى واحد إنما يسمون في كل عصر باسم على اصطلاح أهل ذلك العصر. ا.ه. •••
أما ناظم عقد هذه الجماعة وصاحب دعوتها محمد بن عبد الوهاب النجدي الآنف ذكره، فقد ورد في كتاب بنصرة الناقد لأبي الفتح عبد النصير الهندي، ثم المدني نقلا عن محمد بن ناصر الحازمي في رسالة فتح المنان، في ترجيح الراجح، وتزييف الزايف من صلح الإخوان أنه محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد بن يزيد بن محمد بن يزيد بن مشرف، هذا هو المعروف من نسبه، ويذكر أنه من مضر، ثم من بني تميم والله به عليم، أخذ عن أبيه وهم بيت فقه حنابلة، ثم حج وقصد المدينة، ولقي بها شيخا عالما من أهل نجد اسمه عبد الله بن إبراهيم، قد لقي أبا المواهب البعلي الدمشقي، وأخذ عنه وانتقل مع أبيه إلى حريملا من نجد أيضا، ولما مات أبوه رجع إلى العينية وأراد نشر الدعوة، فرضي أهل العينية بذلك، ثم جرج عنها بسبب إلى الدرعية، وأطاعه أميرها محمد بن سعود من آل مقرن ، ويذكر أنهم من بني حنيفة، ثم من ربيعة والله أعلم، وهذا في حدود سنة تسع وخمسين بعد المائة وألف، وانتشرت دعوته في نجد وشرق بلاد العرب إلى عمان، ولم يخرج عنها إلى الحجاز واليمن إلا في حدود المائتين والألف، وتوفي سنة ست بعد المائتين والألف. ا.ه.
وقال أيضا: هو رجل عالم متبع الغالب عليه في نفسه الاتباع، ورسائله معروفة، وفيها المقبول والمردود، وأشهر ما ينكر عليه خصلتان كبيرتان، الأولى تكفير أهل الأرض بمجرد تلقيات لا دليل عليها، والثانية الاجتراء على سفك الدم المعصوم بلا حجة وإقامة برهان، وتتبع هذه جزئيات، وهي حقيرة تغتفر مع صلاح الأصل وصحته - والله أعلم - وقد بنى الشيخ محمد المذكور طريقته على اتباع ابن تيمية، وابن القيم في زعمه، وأخذ من أقوالهما أطرافا بحسب ما وقع له من الاطلاع والإشراف، وقد أصاب في بعض ما نقله، وأخطأ في البعض، وساء فهما، وأخذ على غير القصد في بعض، وقد أحيت دعوته بعضا من الشريعة، وأماتت كثيرا من الباطل في نجد والحجاز، رحمه الله وتجاوز عنه فيما أخطأ فيه، وجزاه أحسن ما عمل به. انتهى ملخصا.
وكتب العلامة الشوكاني اليماني في البدر الطالع في ترجمة سعود بن عبد العزيز ما نصه: «فوصل إليه الشيخ العلامة محمد بن عبد الوهاب، الداعي إلى التوحيد المنكر على المعتقدين في الأموات، وقال أيضا في ترجمة غالب بن ساعد شريف مكة في بيان أتباع صاحب نجد: وتبلغنا عنهم أخبار الله أعلم بصحتها، من ذلك أنه يستحل دم من استغاث بغير الله من نبي أو ولي أو غير ذلك، ولا ريب إن كان ذلك عن اعتقاد تأثير المستغاث به كتأثير الله يصير به صاحبه مرتدا، كما يقع من كثير من هؤلاء المعتقدين للأموات الذين يسألونهم قضاء حوائجهم، ويعولون عليهم زيادة على تعويلهم على الله - سبحانه وتعالى - ولا ينادون الله جل وعلا إلا مقترنا بأسمائهم، ويخصونهم بالنداء منفردين عن الرب، فهذا كفر لا شك فيه ولا شبهة، وصاحبه إذا لم يتب كان حلال الدم والمال كسائر المرتدين، وقال: وبعض الناس يزعم أنه - يعني صاحب نجد - يعتقد اعتقاد الخوارج، وما أظن ذلك صحيحا؛ فإن صاحب نجد وجميع أتباعه، يعملون بما يعلمونه من محمد بن عبد الوهاب وكان حنبليا، ثم طلب الحديث بالمدينة المشرفة فعاد إلى نجد، وصار يعمل باجتهادات جماعة من متأخري الحنابلة، كابن تيمية وابن القيم، وأضرا بهما وهم من أشد الناس على معتقدي الأموات «وقد رأيت كتابا من صاحب نجد الذي هو الآن صاحب تلك الجهات أجاب على بعض أهل العلم، وقد كاتبه وسأله بيان ما يعتقده، فرأيت جوابه مشتملا على اعتقاد حسن موافق للكتاب والسنة والله أعلم بحقيقة الحال»، وبلغنا أنه وصل إلى مكة بعض علماء نجد لقصد المناظرة، فناظر علماء مكة بحضرة الشريف في مسائل تدل على ثبات قدمه وقدم صاحبه في الدين، وفي سنة 1215 وصل من صاحب نجد المذكور مجلدان لطيفان، أرسل بهما إلى حضرة مولانا الإمام - حفظه الله - أحدهما يشتمل على رسائل لمحمد بن عبد الوهاب، كلها في الإرشاد إلى إخلاص التوحيد، والتنفير من الشرك الذي يفعله المعتقدون في القبور، وهي رسائل جيدة مشحونة بأدلة الكتاب والسنة، والمجلد الآخر يتضمن الرد على جماعة من الفقهاء المقصرين من فقهاء صنعاء وصعدة، ذاكروه في مسائل متعلقة بأصول الدين، وبجماعة من الصحابة، فأجاب عليها جوابات محررة مقررة محققة، تدل على أن المجيب من العلماء المحققين العارفين بالكتاب والسنة، وقد هدم عليهم جميع ما بنوه، وأبطل جميع ما دونوه؛ لأنهم مقصرون متعصبون؛ فصار ما فعلوه خزيا عليهم وعلى أهل صنعاء وصعدة، وهكذا من تصدر ولم يعرف مقدار نفسه.» انتهى ملخصا.
وقال القاضي العلامة عبد الرحمن بن أحمد البهكلي في كتاب نفح العود في أيام الشريف حمود: ومن كتب عبد العزيز بن سعود هذا الكتاب:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز بن سعود إلى من يراه من أهل المخلاف السليماني، خصوصا أولاد الشريف حمود، وناصر ويحيى وسائر إخوانهم، وأولاد إخوانهم، وكذلك أشراف بني النعمى وكافة أشراف تهامة، وفقنا الله وإياهم إلى سبيل الحق والهداية، وجنبنا وإياهم طريق الشرك والغواية، وأرشدنا وإياهم إلى اقتفاء آثار أهل العناية، أما بعد: فالموجب لهذه الرسالة أن الشريف أحمد بن حسين الفلقي قدم إلينا فرأى ما نحن فيه، وتحقق صحة ذلك لديه، فبعد ذلك التمس منا أن نكتب لكم ما يزول به الاشتباه، فتعرفوا دين الإسلام الذي لا يقبل من أحد سواه، فاعلموا - رحمكم الله تعالى - أن الله سبحانه أرسل محمدا
صلى الله عليه وسلم
على فترة من الرسل، فهدى به إلى الدين الكامل والشرع التام، وأعظم ذلك وأكبره وزبدته إخلاص العبادة لله لا شريك له، والنهي عن الشرك، وذلك هو الذي خلق الله تعالى الخلق لأجله، ودل الكتاب على فضله كما قال تعالى:
Bilinmeyen sayfa