أي نعمة ينالها المرء أعظم من أن تعي ذاكرته كل ما تريد وعيه، وتدخره إلى ساعة الحاجة للانتفاع به، الحافظة من العوامل المؤثرة في ترقية الأفراد والجماعات، وبدونها يصعب الوصول إلى إدراك الحقائق وتمحيصها؛ لأنا إذا لم نستعن في كل مطلب من مطالب الحياة بتجارب من سبقونا، ونحفظ المأثور عنهم لننسج على منواله، كنا أشبه بمن يريد أن يبني له كل يوم بناء، وظلت العلوم والصناعات والآداب في طفولتها الأولى تجري على نظام مضطرب، إذ يكون كل امرئ وما يختار.
والذاكرة أو الحافظة حاسة يحفظ بها الذهن على صورة دائمة أمورا مضت وتأثرات وقعت، فهي بذلك كما قال مونتين الفيلسوف (1592م): وعاء العلم وصوان الحكمة. وقال لاروشفو كولد الكاتب (1680): جميع الناس يشكون من حافظتهم، وما شكا قط أحد من عقله. قال آخر: إن الذكاء بدون حافظة أشبه بغربال لا يكاد يمسك ما تضعه فيه. وقال أحدهم: الحافظة واسطة من وسائط الكمال، وبدونها لا يستطيع امرؤ أن يقلد شيئا وينسج على منواله. وقال كورنيل الشاعر: يجب لمن يتعمد الكذب أن يكون ذا ذاكرة جيدة . وهذا مثل قولهم: إذا كنت كذوبا فكن ذكورا، وقال بيكته الأديب السويسري (1875): لقد كان للحافظة شأن مهم جدا عند الناس في العصور الأولى، أكثر مما صار لها في القرون اللاحقة، كانت الحافظة قبل اختراع الكتابة هي التي تتولى خاصة نقل التقاليد الوطنية والدينية، وعامة القوانين والعادات والشعر؛ ولذلك كانت هذه الحاسة التي قلما نحفل الآن بأمرها عند قدماء الآريين مشابهة للفكر نفسه.
اختلف مذهب الفلاسفة فيما إذا كانت الحافظة حاسة قائمة بذاتها، أو فيما إذا كان لكل حاسة فينا ذاكرة معينة، ومعظم الحكماء وعلماء النفس على أن الحافظة حاسة مستقلة عن بقية حواس الإنسان، ولا يكاد أحد يدرك كيف تعي الحافظة الأرقام والأعداد، وتحفظ العبارات والمفردات، وتحكم اللغات واللهجات، وتردد الألحان والأصوات، ويقول علماء النفس: إن الشروط النفسية اللازمة لجودة الذهن متوقفة على جودة تركيب أنسجة الدماغ، وحسن تغذية هذه الأنسجة، والتعب والشيخوخة من العوامل المؤثرة في ضعف الحافظة؛ لأنهما ملازمان لضعف تغذية الأنسجة، ولذلك قالوا: إن درجة الحافظة لا تختلف بحسب الأشخاص، بل تختلف في الشخص الواحد في أدوار مختلفة من حياته، وإذا صرفنا النظر عن الآفات العضوية التي تضر بها، فإن هناك أيضا أحوالا أقل منها تزيدها ضعفا إلى ضعفها، مثل اضطرابات المعدة، وسوء الهضم والشقيقة، فإن جميع هذه العوارض على الجسم يغيرها تغييرا محسوسا.
ولتركيب الدماغ وحالته تأثير ظاهر في الحافظة، فقد ذكر بلين الطبيعي الروماني أن رجلا نسي حتى رسائله بعد أن أصيب بشجة في رأسه. وزعم البابا كليمان السادس أن حافظته قويت قوة عجيبة عقب أن أصيب برضة شديدة في دماغه. وكيفما كانت الحال فللتمرين يد طولى في تخصيص الحافظة بشيء معين، فالممثلون تقوى فيهم الملكة الحافظة الشفاهية، وهي من اللوازم لهم في صناعتهم، ورجال الشرطة تقوى فيهم الحافظة في تذكر صور الأشخاص، وليس البشر كلهم سواء في الحفظ والاستظهار، فمنهم من يحفظون الأشكال الهندسية، وهم الذين خلقوا رياضيين بالفطرة، ومنهم من يرزقون حافظة قوية في الأنغام كالموسيقيين وغيرهم في غير ذلك، ومن الناس من يذكرون الكلمات بسرعة غريبة، ومن الأطفال من تقرأ لهم بصوت عال عدة صفحات، فيستظهرونها في الحال، ويتلونها على مسامعك لأول مرة، وتذكر الألفاظ خاصة يمتاز بها الأولاد في العادة أكثر من الكبار في السن، ممن لا تكون قويت فيهم حاسة التفكر، فيحفظون الكلمات التي يسمعونها على أيسر وجه بدون أن يفهموها، والسبب في سهولة الحفظ عليهم فقدان قوة التفكر فيهم، وعندما يبدأ التفكر في معظم الناس تضعف الحافظة فيهم، وقد تزول من بعضهم. والحافظة الشفاهية إذا كانت هي وحدها في الإنسان لا تكون له سبيلا إلى التفكر، ومن فقد الأولى فلا يأسف لحاله؛ لأنه يستطيع بقوة التفكر أن يأتي بالجيد من الأفكار، ولكن الحافظة وحدها قد تكون من أكبر العوائق عن جودة التصور.
وبعد، فإن للحافظة شأنا عظيما في ترقية الفكر الإنساني، وبدونها يكون كل شيء عقيما لا ثمرة له؛ لأنها واسطة لبقاء الأفكار التي صدرت، وأحسن ذريعة للحصول على أفكار جديدة، ولم يعرف القانون الذي تسير عليه، كما أن جوهرها لم يدرك الباحثون حقيقته، وغاية ما عرف من أمرها أنها تقوى بالانتباه والتمرن كما تقدم، وإن الكسل ابن الترف، والكسل يجرح الحافظة إن لم نقل يقتلها.
ذكر التاريخ كثيرين من أرباب الحافظة النادرة، فمنهم في القديم ميتريداتس الكبير - ملك شمالي غربي آسيا الصغرى (123-63ق.م) - فقد كان يحكم على اثنين وعشرين أمة مختلفة، ويخطب أمام كل منها بلغتها، ويدعو كل واحد من جنده باسمه، وذكروا مثل ذلك عن قورش ملك الفرس، وتيمو ستقلس، وسيبيون الآسياوي، والإمبراطور أدريان، ويقال: إن مزية الحافظة هيأت لأوتون الروماني تولي الملك، وتعلم تيمو ستقلس اللغة الفارسية في سنة.
وكان ليبس اللغوي الأديب البلجيكي (1606) يحفظ تاريخ تأسيت المؤرخ اللاتيني بألفاظه حرفا بحرف، وقد قال: إنه يرضى أن يقف جلاد وبيده سيف على رأسه وهو يتلو هذا التاريخ، فإذا أخل بحرف واحد يضرب عنقه.
وكان لرينودي بون حافظة سعيدة، يذكر جميع الأبيات اللاتينية واليونانية التي قرأها في صباه، ويتلو صفحات برمتها من ديوان هو ميروس وإن كان مضى عليه أربعون سنة وهو لم ينظر فيه نظرة واحدة، وكان هودج دونو الفقيه المشهور في القرن السادس يستظهر القوانين المعروفة في عصره بالحرف الواحد، وحفظ يوسف سكاليجه الأديب (1609) الإلياذة والأوذيسية في واحد وعشرين يوما. ومن ألطف ما يروى في باب الحافظة أن أحد الفلاحين في فرنسا جاء إلى باريز يقصد صاحبا قديما له كان استلف منه خمسة فرنكات منذ خمس عشرة سنة، وطلب إليه أن ينقده ما له قبله، فتركه صاحبه وعاد فدفع إليه ليرة واحدة وخمسة فرنكات ، وقال له: هذا يا صاح فقد كنت نلت وأنا في المدرسة ليرة جائزة على حافظتي، فرأيتك أحد مني ذاكرة، وإنك أحق بهذه الجائزة مني. •••
ليس في الدنيا خير محض، فقد اخترعت الطباعة منذ نحو خمسمائة سنة، فعم نفعها أهل الأرض كافة، ولكن ما عتمت أن نتج عنها بعض شر، إذ أصبح الناس يعتمدون على الكتب في جماع علومهم وآدابهم، بعد أن كان جل اعتمادهم على محفوظاتهم ومخطوطاتهم، والغالب أن الاعتماد على الحافظة والحفاظ كان في الإسلام على أشده قبل تدوين الكتب، وتأليف الرسائل والمصنفات، ولما بلغ بعض الأئمة تدوين الكتب أسفوا، وعدوه من دواعي تقهقر العلم وانقطاع سند الرواية، وما زالت الحال ترتقي بعض الشيء في بعض الأعوام، ثم يزهد في الحفظ حتى انتشرت الطباعة في بلادنا بانتشار الصناعات الفكرية، فأمسى الناس يستندون إلى السطور بدل الصدور، والقراطيس والأسفار بدل الحفظ والاستظهار؛ فضعفت بهذا الضعف الحافظة وإن قويت المفكرة، وقلت الرواية وإن لم تقل الدراية.
انقطع سند الحفظ إلا في بعض ما لا يسع الأمة جهله من القرآن وعلومه، فأخذ بعضهم يفتاتون على من عرفوا قديما بسعة محفوظهم ويزيفون، ولكن بدون برهان ما رواه طائفة الراوين من أنباء الأذكياء الحافظين، ولو صح الاعتماد على إلقاء الكلام على عواهنه في هذا الباب، إذن لسقط التاريخ وارتفعت الثقة من كل خبر حتى من مجيء الرسل، وحروب الملوك، ودثور الشعوب والمدن وما إليها، وما أشبه من يكذب بادئ الرأي بلا دليل قاطع بمن يؤثر الهدم على البناء، وشتان بين المخرب والمعمر، والمتلف والمخلف، والمفسد والمصلح. •••
Bilinmeyen sayfa