ولست أريد أن أنتقل من هذا الموضوع دون أن أشير إلى هذه القصة التي اتفق عليها المؤرخون؛ وهي أن بعض تلاميذ سقراط هيأ له الهرب وأعد له وسائله وألح عليه فيه، ولكن سقراط أبى أن يهرب، ولو شاء لنجا: أبى الهرب إكبارا لقوانين الدولة، واحتراما لأحكامها. الحق أنا لا نستطيع أن نفهم الصلة بين هذا الموقف الذي وقفه سقراط بعد الحكم والذي يمثله خاضعا لنظام الدولة محترما له، وبين ذلك الموقف الذي وقفه أثناء المحاكمة والذي يمثله ساخرا من نظام الدولة عابثا به، وأكبر ظننا أن هذه القصة لا تخلو من مبالغة، أو قل: إن سقراط لم يأب الهرب إلا ازدراء للحياة وشوقا إلى الموت. فنحن نراه في حواره ينتظر الموت انتظار مشتاق إليه مؤمن بأنه سيكون سعيدا به. وقد تناول السم، وجاد بنفسه بين تلاميذه في فبراير أو مارس سنة 399 قبل المسيح، وهو في نحو السبعين من عمره.
أوجزت لك حياة سقراط، ولكني أشد حرصا على الأمانة التاريخية من أن أخفي عليك شيئا يضطرب في بعض أذهان العلماء العصريين من أمر سقراط، ذلك أن من العلماء المعاصرين من يشك في وجود سقراط أو ينكره ويريد أن يرى فيه رأيا يشبه رأي النقاد في واضع «الإلياذة» و«الأودسا» أي يريد أن يعتقد أن سقراط شخص خرافي اخترعه القدماء ليضيفوا إليه هذه الفلسفة التي تسمى السقراطية، والتي نشأت عنها فلسفة أفلاطون وأرسطاطاليس وغيرهما من الفلاسفة. ولست أخفي عليه أن هذا الرأي لا يزال شاذا، وأن الكثرة المطلقة من العلماء والمؤرخين لا تكاد تحفل به. ولكن من يدري! فقد كان رأي الذين أنكروا شخص «هوميروس» شاذا في عصر من العصور، وكان الكثرة المطلقة من العلماء والمؤرخين لا تحتفل به، ثم تمت له السيادة الآن. أليس من الممكن أن تتم السيادة في يوم من الأيام لهذا الرأي الذي ينكر وجود سقراط؟ نعتقد أن هذا لن يكون؛ ذلك لأن سقراط لم يعش في عصور جاهلية، وإنما عاش في عصر تاريخي معروف لا يخفى فيه على الناس شيء، ولا يمكن أن يجري فيه على الناس خداع غليظ كهذا الخداع. ليس عندنا شك في أن سقراط قد وجد وعلم وأثار العقل الأثيني، وأغضب الأثينيين، وحوكم وقضي عليه بالموت، وأنفذ فيه هذا القضاء، ولكن الذين ينكرون شخص سقراط معذورون:
أولا:
لأن الآثار التاريخية المباشرة التي تثبت وجود سقراط وما اعترض حياته من الخطوب قد فقدت منذ زمان طويل، فنحن لا نكاد نحقق تاريخ ميلاده، وليست لدينا نقوش معاصرة فيها اسمه أو فيها إشارة إلى ما أصابه. ولكن هذا كله لا يدل على شيء - فقد فقدنا من آثار القدماء معظمها، ولم يكد يبقى لنا منها شيء.
وثانيا:
لأن سقراط لم يكتب شيئا، وإنما كان تعليمه حوارا لا يسجل، فلم يبق لنا من سقراط كتاب يمثل شخصيته تمثيلا ما، وإنما نحن مضطرون إلى أن نلتمس شخصية سقراط فيما ترك تلاميذه من الكتب: نلتمسها عند أفلاطون وعند ذينوفون (Xénophon)
وعند أرسطاطاليس وعند غيرهم من الفلاسفة والكتاب الذين حاوروا تلاميذه. وهؤلاء الفلاسفة والكتاب لا يتفقون في تصوير سقراط، بل لا يكادون يتشابهون في هذا التصوير. أضف إلى هذا كله أن آثار هؤلاء الفلاسفة والكتاب قد أصابها شيء كثير من عبث الزمان، فهي لا تؤدي إلينا شخصية سقراط على وجه مرض.
وثالثا:
لأن الفلاسفة الذين حاوروا سقراط، وأخذوا عنه قد علموا الفلسفة بعده في مدن مختلفة، بل في أوقات مختلفة؛ وكان من المعقول أن تتشابه فلسفتهم ويتقارب تعليمهم؛ إذ كان كله منتهيا إلى مصدر واحد هو سقراط، ولكن هذه الفلسفة مختلفة وهذا التعليم متناقض؛ فإذا نطقت بلفظ الفلسفة السقراطية لم تفهم منها شيئا متشابها، وإنما فهمت منها أشياء متباينة تباينا شديدا، كما سنرى.
رابعا:
Bilinmeyen sayfa