وإلى صديقي ن. ف. أقول: وصلني مكتوبك وعليه طابع بريد بيروت، وقد استعرضت أسماء جميع أصدقائي فلم أهتد إلى اسمك. ولكني أجاوبك وأشكرك؛ لأنك شققت لي طريقا إلى حديث كان يشغل بالي.
تسألني: لماذا لا أساهم في السياسة الكبرى؟ وعلى ذلك أجيب: لقد كفاني صديقي ورفيقي القديم، الأستاذ إميل الخوري، المفكر الكبير، شر السياسة، منذ كنا معا، ومنذ ذلك الحين لم أبحث شأنا خارجيا.
إن المبدأ الأول يقول: ابدأ بنفسك ، ثم ببيتك وموطنك، وأظنني أفعل ذلك. غيري يصب طسته المغلي على رءوس المسئولين، وإني أشاركهم أحيانا، ومع ذلك فقد يئست منهم؛ لأن الكلام لا قيمة له عندهم، وأنا، حامل قلم لا صاحب نبوت ... مهنتي أن أعد شبابا يحلون محل هؤلاء مؤهبين لحمل أعباء الحكم بنزاهة وحزم، وبدون محاباة.
ما لك وما لي يا صديقي ن. ف. فالذين يعالجون شئون الساعة لا يحصون، والطامحون إلى الكراسي من الأدباء لا يعدون، حتى إنني خفت على أدبهم أن يغرق في هذا البحر الطامي. فكل حامل قلم تقريبا لا يهمه إلا أن يلقي مغرفته في قدور السياسة ويشيل منها ما يطيب له.
ثم ألا ترى معي أن على كل منا أن يدور في دائرة معينة. فلو كان تطاول أحمد فارس الشدياق والبستاني واليازجي وصروف والجميل إلى الوظائف، فمن أين كان لنا شرف نصرة الفصحى في القرن التاسع عشر! ولو كان فلان وفلان، من علمائنا وفلاسفتنا وشعرائنا في مختلف العصور، وقد انصرفوا إلى سياسة الجماهير، فمن كان ساس العلم والأدب؟! ولو كان وسوس الخناس في صدر الريحاني وجبران، فمن أين كان لنا أديبان عالميان؟! من يذكر منا أمجاد الشدياق السياسية؟! ومن ينسى منا الفارياق وكشف المخبأ وسر الليال؟ إن مرض الأدباء اللبنانيين هو تلفتهم صوب الكراسي، والكراسي التي خلقت لهم هي غير كراسي الحكم، ولهذا نراهم يدرسون السياسة على ضوء شخصياتهم ويقدمونها مثلا عليا من حيث يدرون أو لا يدرون.
كان الأمير اللبناني يعرض السيف، ويشك الخنجر، وقد عمل لبنان السياسي الذي نراه. أما الفريق الذي عمل لبنان الثقافي الباقي؛ فهو الذي كان قلمه سيفه، ودواته خنجره، ودرعه جبته، وتاجه عمامته. نعم عمامته؛ لأنهم كانوا جميعا يتعممون.
فأي بأس علي إذا ظللت في دائرتي، ولم أتخط حدود منطقتي، فلا أكتب إلا في الشئون التي انتدبت لها. إن بنيان الوطن يقتضينا ترسيخ الأساس وتوطيد البنيان حتى يثبت في وجه الزلازل العتيدة، وهذا الأساس هو النشء. إن ثقافتنا مهددة بالانهيار، فعلينا تدعيمها وسندها بكل قوانا، وإلا صرنا بلد التعتيم بدلا من بلد الإشعاع.
إن اللبناني شبعان سياسة، وقد تسربت السياسة اليوم إلى المدارس فأغرقتها، ولكنها سياسة عرجاء تخمع وتظلع خلف أناس يريدون الوصول على ظهور غيرهم.
والآن أستأذنك يا عزيزي ن. ف. لأعود إلى أغنامي، كما قال رابليه، وما أغنامي غير التلاميذ. لقد صار الخريف قريبا وأخذت أوراق العريش والتين تصفر، فلأعد إلى طلابي، تاركا لغيري معالجة الطلاب الذين هم أكبر منهم سنا ...
يقول التلاميذ: ما بال هذا الرجل يلحقنا إلى بيوتنا! أما شبعنا من نصائحه! أليس الصيف للاستراحة؟
Bilinmeyen sayfa