إذا امتحن الدنيا لبيبٌ تكشفت ... له عن عدوٍ في ثياب صديق
حتى إن الرشيد أو المأمون قال: لو وصفت الدنيا نفسها، ما وصفت بأكثر من قول أبي نواس. أما سمع بشيء من أقوال أبي العتاهية، وصالح ابن عبد القدوس ومحمود الوراق، ومن تعرض لذمها من الشعراء كالمتنبي وأبي تمام وغيرهما.. أما سمع بقول الزمخشري تحلين لهم ثم تمرين، وتحلين لهم ثم تمرين. الأول من الحلاوة والمرارة، والثاني من الحلول والمرور. أما وقف على رسائل المعري في ذم الدنيا. أليس يقول في بعض رسائله: فلو كانت الدنيا عروسا لطلقت ولكنها أم أملقت، يحبها ولدها على العقوق، وتصدهم عن إدراك الحقوق، مالنا ومالك أم دفر أما أما يقنعك هلاك الوفر: أعييتني بأشر، فكيف بدردر. سؤتني غانية، فكيف بك عجوزا فانية، وهيهات ما أصابك الهرم ولا البرم، وإنما ذلك لأبنائك الذين شربوا من إنائك ... وهي طويلة أتى فيها على ذكر من درج من أعيان الأمم. وهي من الرسائل الطنانات.
ويقول ابن الشبل البغدادي.
إنما نحن بين ظفر ونابٍ ... من خطوب أسودهن ضراء
نتمنى وفي المنى قصر العم ... ر فنغدو كما نسر نساء
صحة المرء للسّقام طريقٌ ... وطريق الفناء هذا البقاء
بالذي نغتذي نموت ونحيا ... أقتل الدّاء للنفوس الدواء
ما لقينا من غدر دنيا فلا كا ... نت ولا كان أخذها والعطاء
صلفٌ تحت راعد وسراب ... كرعت منه مومسٌ خرقاء
راجعٌ جودها عليها فمهما ... يهب الصبح يستردّ المساء
وقليلا ما تصحب المهجة الجس ... م ففيم الشقاء وفيم العناء
قبح الله لذةً لشقانا ... نالها الأمهات والآباء
نحن لولا الوجود لم نألم الفق ... د فإيجادنا علينا بلاء
دع كل ذا. أما وقف على الخطب النباتية ورأى كلامه فيها ويحذو حذوه ويتلو تلوه حتى يقول: الهليلج واللوزينج والكبد والطحال. والناس يذكرون مثل هذا، ولكن يدرجونه في عبارة تكون مفحلة لها وقع في النفس.
قال: ومن ذلك ما ذكرته في الزهد وهو: الناس في الدنيا للساعة الراهنة، كما أن النفوس ليست فيها بقاطنة.
أقول: ما أدري معنى التشبيه هنا ما هو.. ووجه العلاقة في ذلك. فإن قوله: كما، الكاف للتشبيه ولا نسبة بين: أنهم أبناء الساعة الراهنة، وبين أنهم يزولون. ولو حذف لفظة كما لاستقام المعنى، لأنه يعود: والنفوس فيها ليست بقاطنة.
ألا ترى أن بعض الناس عاب على أبي الطيب قوله:
لبس الثلوج بها عليّ مسالكي ... فكأنها ببياضها سوداء
وكذا الكريم إذا أقام ببلدةٍ ... سال النّضار بها وقام الماء
وقال: بأي شيء شبه إقامة الكريم وما تقدمه ما يناسب ذلك: والجواب عن ذلك: إنه لما قال إن الثلوج سدت المسالك عليه فرجعت ببياضها سوداء. شبه ذلك بالحالة التي تكون للكريم أنه يسيل به جامد النضار ويجمد مائع الماء. فهذا الاتضاد كذاك. وهذا الموطن مما يسأل عنه من شعر المتنبي.
قال في آخر هذا الفصل: وغاية مطلوب الإنسان أن يمد له في عمره، ويملى له في امتداد أثره. أما تعميره فيعترضه المشيب الذي هو عدم في وجود، وهو أخو الموت في كل شيء إلا في سكنى اللحود، والجوارح التي يدرك بها الشهوات ترى وكل منها قد تحول، وأصبح كالطلل الدارس الذي ليس عنده من معول. فلا ليلى بليلي ولا النوار، ولا الأسماع الأسماع ولا الأبصار الأبصار.
أقول: وهذا من ذلك النمط في الركة والسماجة، خصوصا هذا الأخير: لا يخفى على من كان عنده أدنى نباهة ويسير ذوق انحلال هذه الألفاظ وسقوطها. وكأنه أراد أن يحذو حذو أبي تمام حيث قال:
لا أنت أنت ولا الدّيار ديار ... جفّ الهوى وتقضّت الأوطار
ولكن أين الثرى من الثريا، ويا بعد ما بين القفا والمحيا. ومن النصف الثاني تعلم فائدة التكرار في النصف الأول.
ومن العجيب أنه قال في النوع الرابع في توكيد الضميرين، وقد أورد قول أبي الطيب:
قبيلٌ أنت أنت وأنت منهم ... وجدك بشرٌ الملك الهمام
1 / 24