فقد فصل ابن عامر بين المصدر وفاعله المضاف إليه، وهو غير ما قرره النحاة. وأفرطوا في الشناع عليه، وهو جائز. وقد جاء عن العرب كثيرًا في شعورهم، واستشهد له الشيخ جمال الدين بن مالك ﵀ في شرح الكافية بشواهد عديدة ومنع الخصم بأن هذا الباب جائز في ضرورة الشعر، وليس في القرآن ضرورة. وانتصر الكواشي لابن عامر في تفسيره وأيد هذه القراءة.
وهذا شأن الفقهاء، أكثر تعليلاتهم لما ورد في أحكام الشرع الشريف في غاية الحسن والقوة، وفي بعض ذلك تسامح. كمن أراد تعليل بعض مناسك الحج فإنه ليس بقوي قوة غيره. والغزالي في الإحياء تكلم في هذا كلاما حسنا، وكذلك شأن المتكلمين، فإن بعض أدلتهم لا تبلغ القوة فيما أتوا به. من حدوث العالم والنفس وإثبات الوحدانية وعدم الجهة. فقد تجىء معهم مسائل قليلة أدلتها عليلة لا تبلغ في القطع والجزم وإلزام الخصم مبلغ تلك. ولولا ذلك لما وقع في النحو خلاف بين البصريين والكوفيين، ولا بين أصحاب المذاهب في الفروع، كالأئمة الأربعة ومن عداهم من الفقهاء التابعين وأصحاب الظاهر ﵃ أجمعين، ولا بين المتكلمين في أصول الدين من الأشاعرة والمعتزلة والإمامية والخوارج والحشوية. وكأنه نظر إلى قول ابن فارس صاحب المجمل:
مرت بنا هيفاء مجدولة ... تركية تعزى لتركي
ترنو بطرف فاتن فاتر ... أضعف من حجة نحوي
ألم يعلم أن الشعر والخطابة يروج فيهما أدنى شبهة، وتضيء فيهما أقل لمعة. وقول الشاعر هنا إنما هو بالنسبة إلى الأمور الضرورية، كتنافي الضدين، وأن الواحد نصف الاثنين، وأن الجسم الواحد لا يشغل الحيزين معا في وقت واحد وما أشبه ذلك، على أن من الناس من أنكر هذه البديهيات وطعن في صحتها واعترف بالحسيات. ومن الناس من أنكر الحسيات وطعن فيها وجزم بالبديهيات. ومن الناس من طعن فيهما وأنكر الحسيات والبديهيات وهم السوفسطائية.
حكي أن صالح بن عبد القدوس مات له ولد فمضى إليه أبو الهذيل ومعه النظام وهو غلام حدث، فرأى من جزعه فقال له: لا أعلم لجزعك وجها إذ كان الناس عندك كالزرع! فقال صالح: يا أبا الهذيل، إنما أجزع عليه لأنه لم يقرا كتاب الشكوك فقال وما هو؟ قال: كتاب وضعته، من قرأه شك فيما كان حتى يتوهم أنه لم يكن، وفيما لم يكن حتى يظن أنه قد كان. فقال له النظام: فشك أنت في ابنك أنه لم يمت وإن كان مات واعمل على أنه عاش إلى أن قرا الكتاب وإن كان ما عاش إلى أن قرأه. فبهت صالح وحصر.
وإذا كان الأمر وصل في المكابرة إلى هذا الحد، فما ظنك بمن يعلل رفع الفاعل ونصب المفعول وعمل لم الجزم وإن جزم الشرط والجزاء وغير ذلك. وباب الجدل مفتوح لكل من أراد أن يمنع شيئا. ولهذا يقال: إذا ناظرت المعتزلي في مسألة الرؤية الزم جانب المنع، ومن أراد أن ينكر شيئًا أنكره وأتعب خصمه، فلا يستطيع أن يقهره.
وليس يصحّ في الأفهام شيءٌ ... إذا احتاج النهار إلى دليل
نعم إذا لزم خصمك الحق وقصده ظفرت منه بالمراد، وجذبته بعد العناد إلى الصواب سلس القياد وإذا كان متعنتا أو جاهلا أو جاحدا، فإنما تضرب في حديد بارد وقد ضيعت نفخك في الرماد.
وما يقوم لأهل الحب بينةٌ ... على بياض صباحٍ أو سواد دجا
ويابن الأثير: إن كانت تعليلات النحاة واهية لم تثبت على محك النظر، فماذا الذي يثبت على محك النظر من تعليلات أصحاب المعاني وهي ما هي؟ أكثر ما يستندون إليه شبه خطابية لا يقطع بها. ولو عورضوا فيها وقفوا في الكثير منها.
وكان الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد رحمه الله تعالى يقول: علم المعاني والبيان إلى الآن بعد ما أنضجته الطبيعة. حكى لي ذلك عنه الشيخ فتح الدين ابن سيد الناس بالديار المصرية في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، فإنه تلميذه الخاص به.
وما أشك أن الكثير من الحجج أقوى وأقطع وأقرب إلى الجزم من الكثير من حجج أرباب المعاني، بل ما بينهما صيغة أفعل. فأت في ذلك بحجة قاطعة:
أو فدع الأشياء مستورةً ... وادخل بنا في النسب الواسع
ما يشترك فيه الكاتب والشاعر
قال في الفصل التاسع في أركان الكتابة: إن الكاتب من أجاد المطلع والمقطع، أو يكون مبنيًا على مقصد الكتاب. ثم قال: وهذا يشترك فيه الكاتب والشاعر.
1 / 14