Nur ve Kelebek
النور والفراشة: رؤية جوته للإسلام وللأدبين العربي والفارسي مع النص الكامل للديوان الشرقي
Türler
وعلى المترجم أن يحترم هذا الذي تتعذر ترجمته فيبتعد عن المعاظلة معه، وإرغامه على الدخول في قوالب مقحمة عليه وعلى إيقاعاته الأصلية؛ إذ ينبغي في هذه الحالة الاكتفاء بالاقتراب منه، وإشعارنا بأنه ينتمي إلى العبقرية الخاصة بلغة المصدر وعالم مشاعرها وأنماط التفكير فيها وإيماءاتها وظلالها وقيمها الموسيقية والمعنوية التي تنفرد بها عن غيرها من اللغات. وأحسب أنه سيفضل في هذه الحالات - التي تتعذر فيها الترجمة الموفقة التي تتوصل إلى نقل الأصل في نسق نغمي قريب من نسقه، أو التي لا تتوافر فيها للمترجم حساسية الشعر المبدع وأصالتها مع الالتزام الكامل بالدقة والأمانة الموضوعية، أقول إنه سيفضل في هذه الحالات ترجمة الشعر إلى نثر شاعري بسيط ينقل لنا روح القصيدة الأصلية وإن عجز عن نقل موسيقاها وإيقاعاتها (على نحو ما حدد ذلك في النوع الأول من أنواع الترجمة).
من هذا المفهوم للترجمة الشعرية الذي يصح أن نسميه المفهوم الرومانسي - على الرغم من زعم الرومانسيين مثل شيللي وغيره، ومن قبلهم الجاحظ في عبارته المشهورة في الحيوان بأن الشعر لا يترجم! - من هذا المفهوم يتحتم على المترجم أن يتغلغل في روح النص وروح صاحبه، وحبذا لو أمكنه أن يفنى فيه ويتقمصه تقمص الأرواح كما يقول شوبنهور، أو يتلبسه كما يقول طه حسين في مقدمته لترجمة المرحوم محمد عوض محمد للقسم الأول من فاوست. هنالك يمكنه أن يتجاوز المؤلف الأصلي فينجز ما كان يريده أو ما كان ينبغي عليه أن ينجزه. والغريب أن جوته قد صرح بأنه فعل هذا في الترجمات التي قام بها بنفسه، وإن كان قد تحفظ على عادته فلم يزعم أنه أمر جائز في كل الأحوال (غير أن الواقع والحقيقة يشهدان بأن ترجمته لرواية ديدرو «ابن أخت رامو» كانت ترجمته بطيئة الأسلوب ثقيلة الإيقاع ولم تنجح أبدا في إعادة إبداع الأصل، كما نقول اليوم، حتى بصورة تقريبية!) والمهم على أية حال أن شاعر الديوان قد استطاع بثاقب بصره أن يستبق ما يقوله اليوم بعض علماء الترجمة الأدبية وأصحاب فلسفة التأويل أو التفسير (الهيرمينويطيقا) من ضرورة الانصهار في النص الأصلي؛ أي التعاطف معه واستشعار روحه وقراءة ما بين سطوره أو ما تحتها لإبراز مكنونه الذي ربما يكون المؤلف قد أغفله أو اضطر إلى إغفاله والسكوت عنه لأسباب شخصية أو اجتماعية وسياسية مختلفة.
هكذا ترى أن ترجمة الشعر أشبه بالمخاطرة في أرض حرام، في منطقة غامضة تقع بين الإنشاء والإبداع الخالص (الذي يمكن أن «يخون » الأصل مهما تكن الخيانة خلاقة ومبدعة، كما حدث في المثل المشهور الذي يساق في هذا الصدد، وهي ترجمة فيتزجيرالد لرباعيات الخيام في شعر بديع أثرى به التراث الشعري الإنجليزي على حساب الدقة والوفاء بالأصل الفارسي!) وبين النقل الحرفي الدقيق والأمين مع القدر الواجب من الحساسية التي تتوقف في كل حالة على موهبة المترجم وذوقه ورهافة حسه، والسبب في ذلك كله بسيط: فالترجمة الأدبية، وترجمة الشعر بخاصة، تحاول إعادة إبداع عمل سبق إبداعه، ولا عجب أن تقع بدرجة متفاوتة في دائرة «الاستحالة» أو حتى «الخيانة» - كما سبقت الإشارة لذلك ولا بد من القول باختصار - ربما لتبرير محاولتي لترجمة الديوان الشرقي، ومحاولات أخرى سبقتها في ترجمة مئات القصائد من الشعر الشرقي والغربي القديم والحديث! لا بد من القول بإن التاريخ يشهد على حقيقة لا شك فيها، وهي أن جميع الشعوب في جميع الحضارات قد ترجمت عن بعضها البعض نثرا وشعرا. ويكفي أن نذكر في هذا الصدد تلك الألواح التي تعرف عند علماء الآثار والتاريخ القديم بألواح تل العمارنة - وهي مدينة أخناتون القديمة بالقرب من مدينة المنيا - التي تنطق بأن المصريين القدماء - على الأقل في الدولة الحديثة - كان لديهم ما يشبه أن يكون مركزا لترجمة الرسائل وغيرها من الوثائق البابلية والآشورية المكتوبة بالخط المسماري، ولم يكن من قبيل الصدفة أن يعثر العلماء بين هذه الألواح على كسر أو شذرات من ملحمة جلجاميش البابلية الشهيرة.
لن أسترسل أكثر من هذا في الكلام عن مشكلة ترجمة الشعر التي يمكن أن يرجع القارئ إلى تفصيلاتها الدقيقة في مواضع أخرى أشرت إلى أحدها في هامش سابق، ولهذا سأنتقل للإجابة عن السؤالين اللذين يخطران على بال القارئ في هذا السياق: ما الطريقة التي التزمت بها في ترجمة قصائد الديوان؟ وما الداعي لإعادة ترجمتها بعد أن قام بهذا العمل رائد جليل وأستاذ عظيم قبل ثلاثين سنة؟
أما عن السؤال الأول:
فأقول باختصار إنني اتبعت الأسلوب الذي سرت عليه في ترجماتي السابقة للأعمال الشعرية، وهي الترجمة النثرية الدقيقة والأمينة بقدر الطاقة مع حروف النص وروحه، وقد احتشدت لها بكل ما استطعت وما تعلمت من خبرتي المتواضعة من حساسية للنص الأصلي، تبلغ حد احتضانه والفناء فيه والتخلي بقدر الإمكان عن إقحام الذات الشخصية والجماعية عليه بتركيباتها وصيغها الموروثة، وكأني أحاول في كثير من الأحوال أن أترجم بدءا من «حالة الصفر» التي طالب بها «رولان بارت» في الكتابة، ومع أنني لا أتردد عن الاعتراف بتشككي في مدى حظي من التوفيق، لا سيما في القصائد التي لجأت فيها إلى نوع من التقفية أو التسجيع لمحاولة الإيحاء بالنغم والجرس الأصلي في إيقاعاته وقوافيه الرائعة التي قد تبلغ حد الإعجاز في كثير من الأحيان، فقد وضعت كل زيادة أضفتها من جانبي بين قوسين - حتى أخفف من الجناية الحتمية على جمال الأصل! - كما لجأت أيضا في بعض الأحوال إلى إضافة كلمات أو سطور وضعتها كذلك بين قوسين، وذلك توخيا للوضوح والإفهام والسهولة التي راعاها جوته نفسه ووضعها في مصاف المبادئ التي طبقها على إنتاجه الضخم، ولم يستثن منها شعره أيضا كما سبق القول (على الرغم من أن الشعر دائما - بما في ذلك شعره - لا يخلو من قدر ضروري من الغموض الذي يشبه السحابة التي تلف الشمس أحيانا وإن كانت توحي دائما بوجودها) أما القصائد التي أعترف بأنها فرضت علي أن أنظمها شعرا (ولا أقول أن أبدعها)، فهي لا تزيد في عددها على حوالي الثلاثين قصيدة طويلة وقصيرة. وأعترف للقارئ بأنني توخيت الأمانة الكاملة في نقلها، ولم أخرج أحيانا عن الأصل إلا في أضيق الحدود، وعذري على كل حال أنها هزت في النفس جذور شاعرية قديمة، قطعت شجرتها بنفسي في أول الشباب عندما تأكدت في لحظة صدق أنني لا أملك أصالة الشاعر الحقيقي، ولذلك اتجهت للسير على طرق أخرى كالفلسفة والقصة والمسرح، وصحبتني فيها مع ذلك أو طاردتني روح الشعر التي ظلت تسكن العظم واللحم وتتحكم في أسلوب وجودي كله.
وأما عن السؤال الثاني:
فالرد عليه أبسط من سابقه، فالمعروف أن الأعمال الأدبية الكبرى تحتمل في كل اللغات أن تترجم ترجمات مختلفة. ولو فكرت في روائع عالمية مثل أوديب وهاملت وفاوست وغيرها، لوجدت لها في كل اللغات، وفي لغتنا أيضا، ترجمات عديدة، وطبيعي أن تتفاوت هذه الترجمات في حظوظها من الجودة والدقة والحساسية والوفاء بجماليات الأصل؛ لأن الوفاء الكامل بمستويات النص الأصلي المتعددة، أي التطابق أو التكافؤ معه إلى حد التوحد أمر مستحيل في أي لغة وفي أي ترجمة كما سبق القول مرارا. وإذا كان الديوان الشرقي-الغربي هو أحد الروائع التي أراد لها صاحبها أن تكون كتابا للبشرية، وتمنى على القارئ أن يحبه ويتعاطف معه ويجرب تجربته الرحبة في سماحتها وإنسانيتها وشمولها، فمن الطبيعي أن يكثر عدد مترجميه في كل اللغات، وأن يختلف فهم المترجمين وتفسيرهم للنص وتجربتهم له باختلاف شخصياتهم وخبراتهم وقدراتهم ومواهبهم. ومن هذا ترى أن ترجمتي لا تحل «محل» ترجمة أستاذي الجليل عبد الرحمن بدوي ولا تلغيها ولا تدعي لحظة واحدة أنها أفضل منها، كما أن أي ترجمة ممكنة في المستقبل لن تلغي أيضا هذه الترجمة أو تقوم مقامها، وإن كان من حقها أن تزعم أنها تلافت أخطاءها أو تفوقت عليها بشكل من الأشكال. والأمر متروك في كل الأحوال للقارئ الذي يمكنه - بطبيعة الناقد الكامنة فيه! - أن يقارن بين الترجمات ويتذوق منها ما يشاء ويدع ما يشاء، ولا بد من الاعتراف مرة أخرى بأن هذه الترجمة تدين بالفضل العميم لترجمة أستاذنا الجليل، وأنها أفادت من عدد ضخم من سطورها - إلى حد «النقل الحرفي» لها في بعض الأحيان - ومن شروحها القيمة المستفيضة وتتبعها للأصول العربية والفارسية والتركية التي نهل منها شاعر الديوان إلى حد الترجمة الحرفية في بعض الأحيان (عن ترجماتها المتيسرة له في لغات مختلفة) مع الحرص على الإحالة إليها بصفة مستمرة، وعدم الإسراف في ذلك التتبع؛ لاقتناعي بأن غيري من الإخوة المتخصصين في الآداب واللغات الشرقية أقدر مني على مراجعة تلك الأصول نفسها وتحديد مدى التأثر والتأثير في كل حالة على حدة، وهو الأمر الذي نتمنى أن يشاركوا فيه في المستقبل القريب بإذن الله.
وأخيرا:
فقد عدلت عن ترجمة التعليقات والأبحاث التي تعين على فهم الديوان الشرقي، واكتفيت منها بما قاله جوته نفسه فيها للتعريف بكتب الديوان. ومع أن هذه التعليقات هي أهم عمل تاريخي كتبه جوته بعد كتابه عن تاريخ نظرية الألوان، ومع أنه قدم فيه لوحة حضارية شائقة فتحت لمعاصريه الأبواب لدخول عالم الشرق الغريب عليهم في ذلك الحين، بجانب ما فيها من آراء نقدية هامة عن فن الشعر وعن الدين وطغيان الحاكم الشرقي وتصدي الشعراء لاستبداده بالاتزان والثقة بالنفس والصبر مقابل رعايته لهم (كما فعل هو نفسه في علاقته بأمير فيمار وبغيره من الأمراء والنبلاء!) فإن معظم المعلومات التفصيلية الواردة فيها قد تجاوزها البحث العلمي الحديث عن الشرق الفارسي والعربي وشعرائه، كما أنني أخذت منها (أي من تلك التعليقات والأبحاث) كل ما يساعد على تذوق قصائد الديوان نفسها في الشروح التي ألحقتها بترجمتي، وتعمدت فيها أن أضع أشعار الديوان في سياق علاقتها الوثيقة بأشعار جوته السابقة أو اللاحقة وبسائر أعماله الأخرى على قدر الطاقة.
Bilinmeyen sayfa