النور لعثمان الأصم
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
هذا
كتاب النور
الشيخ العالم الفقيه عثمان بن أبي عبدالله الأصم
الحمد لله الأول الذي لم يزل قبل كل شئ, والآخر الذي لا يزال بعد كل شئء, والعالم بكل شئ, والخالق لكل شئ, والقادر على كل شئ, والمالك لكل شئء, والمحصي لعدد كل شئء, لا محدود كالمحدوادت, ولا كيفية له كالمكيفيات, فنفسه ذاته, وذاته إثباته, لا أداة كالأدوات, ولا نفس كأنفس المنفوسات, ليس كمثله شئء في الأرض ولا في السماوات.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالحق بشئرا ونذيرا, وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, وسلم تسليما كثيرا.
الباب الأول
في التوحيد
واختلاف الناس في البارئ عز وجل
اختلاف الناس في البارئ عز وجل.
فقال الموحدون: أهل العدل: إنه تعالى واحد ليس كمثله شئء.
وقالت الدهرية بالنفي المحض ليس بشئء, وإنما الدنيا لم تزل كما ترى (نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون).
وقالت الثنوية: اثنين.
وقالت النصارى: ثلاثة.
ثم اختلف الذين قالوا بوحدانية الله - عز وجل - على وجهين: وجه أثبتوا معبودهم واحدا (ليس كمثله شئء) وهم أهل العدل, والباقون مشبهة, وإن اختلفوا في كيفية البارئ, وما هو من شئ.
وقال بعض من قال: إن البارئ هو هذا الهواء المحيط بالأشئاء, ونفى ذلك آخرون وقالوا: هو هذه الرياح العاصفة, وكيف يكون الهواء, والهواء له بعض, وما كان له بعض فله كل, وكله مجتمع في الحرارة, والحرارة محيطة به, وكل ذلك في العقل, والعقل محيط بالهواء, والهواء وما في الهواء من السماوات والأرض وما فيهما في العقل كحلقة في أرض فلاة, وهذا العقل خلفه.
وعبره بعض بالعقل الفعال, وبعض عبره بالعقل الكلي.
Sayfa 1
وقولنا وقول أهل العدل أجمع: إن الله تعالى واحد ليس كمثله شئ, والتوحيد هو الإقرار بالله والوصف له, والتسمية بأنه تبارك وتعالى واحد, لا خلاف بين أحد من أهل اللغة أن من وصف شيئا واحدا, وأفرده بالتسمية له فقد وحده, ومعنى التسمية الموحدين بأنهم موحدون: أنهم يثبتون معبودهم أنه واحد. وإذا قال واعتقد أنه واحد, ولم يقل ويعتقد أنه ليس كمثله شئ, فهو كان ولم يوحده بعد حتى يعتقد أنه واحد ليس كمثله شئ, قال الله تعالى: { ليس كمثله شئ وهو السميع البصير } .
الباب الثاني
في جملة التوحيد
قال المؤلف:وأما جملة التوحيد فهي ما ذكر الله تعالى من صفته, في هذه الآية وهي: { ليس كمثله شئ وهو السميع البصير } .
قال أبو المؤثر: من عرف الله عز وجل, أنه واحد ليس كمثله شئ فقد عرفه, وهذا أقل ما يكون به الإنسان موحدا.
قال المؤلف: فكل من ألحد في - الله عز وجل - ومال به الهوى عن التوحيد, فعليه التوبه والإستغفار, وعليه أن يرجع يتمسك بهذه الجملة التي أبطلها بما ارتكبه من الكفر والإلحاد في الله - عز وجل - وليرجع إلى التمسك بهذه الجملة,
ويعتقد أنه تعالى عز وجل واحد, ليس كمثله شئ وهو السميع البصير وعليه أن ينفي عن الله عز وجل ما خالف جملة التوحيد التي بها يسلم من الهلاك, وعليه السؤال عن بليقه تلك التي وقع فيها, حتى يرجع إلى الحق والعدل من أمر التوحيد.
وبالله التوفيق.
الباب الثالث
في الإلحاد
والإلحاد: هو الإنحراف والميل عن التوحيد لله عز وجل, بأنه واحد ليس كمثله شئ.
فإذا مال وعدل عن هذا التوحيد الذي هو اعتقاد أهل العدل, من أهل التوحيد ومال عن ذلك الحد, سمي ملحدا، لأن الإلحاد في اللغة هو الإنحراف عن الشئ, والعدول عنه إلى ناحية. ومنه سمي لحد القبر, لأنه عذل به إلى ناحية القبر. فكأن الملحد عدل عن التوحيد إلى الشرك, وعن الإثبات إلى التعطيل، ومال عن الحق إلى الباطل.
الباب الرابع في لزوم النظر والإستدلال على الله عز وجل
Sayfa 2
فلزوم النظر، وكيفية الإستدلال على الله بارئ الصور، من طريقين: من كتاب الله عز وجل، ومن حجة العقل.
أما من كتاب الله فكثير ، يلوح ذلك عند تلاوة القرآن، منت ذلك قوله عز وجل: (قل أنظروا ماذا في السماوات والأرض) فلم يأمرهم - عز وجل - نظر العين، دون التفكير والإعتبار في المنظور إليه, أن له خالقا خلقه، وبارئا برأه، وأخرجه من العدم إلى الوجود.
فإذا علم ذلك علم أن جميع الأشئاء كلها أجمع محدثة, أحدثها الله الذي ليس كمثله شئ، واخترعها من العدم إلى الوجود, وقد قال الله تعالى: { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) فلم يرد البارئ عز وجل أن يريهم بالعين خاصة، دون الفكرة بالعقل، لأنه تعالى يقول: ( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب } أي عقل، لأن القلب بضعة لحم لا تغنى شيئا، دون نور العقل الذي يحل في القلب.
والقعل في القلب أصله، وفرعه في الرأس، كالشجرة أصلها في الأرض، وفرعها في السماء.
وأما دليل وجوب الإستدلال على الله عز وجل, من جهة القعل, وما أمر به, من الأستدلال والتفكير، من العصل: لو أن رجلا لما يشاهد كتاب الله,
ولا أحدا من عباده، لما كان له عذر من معرفة الله؛ إذ لم يشاهد الكتاب بأمر الله تعالى فيه بمعرفته، ولا شاهد أحدا من المخلوقين، يأمرونه بذلك، فعليه من حجة العقل أن يعلم بحجة عقله، أن يأتي إلى دار مفروغة البناء فيكم عليها أن لا باني لها, أو يأته إلى كتابة قد كتبت، وأحكمت نظما فيكم عليها أن لا كاتب لها. فلما أن كان ذلك فاسدا في العقل، وجب في العقل ولزم لوزم النظر الدال على بارئ الصور. فهذا دليل وجوب النظر، من الكتاب وحجة العقل.
وبالله التوفيق
الباب الخامس
Sayfa 3
في معرفة الله قال المؤلف: أول ما افترض الله على عباده المكلفين العقلاء البالغين الحلم: معرفته عز وجل أنه الله الذي لا إله إلا هو واحد، فرد صمد أحد، ليس كمثله شئ، وأنه تعالى لهم خالق ورازق.
وإنما صارت معرفته الله أول المفترضات، لأنه لا تصح عبادة الله إلا حتى يعرف الله؛ إذ كان من يعرف الله، فهو يعبد غير الله. ومن عبد غير الله، فقد أشرك بالله { ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق } .
فمعرفته الله تعالى أول المفترضات، وأول العبادات وأفضلها. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: أفضلكم إيمانا أفضلكم معرفة.
فمن لم يكن بالله عارفا كان به جاهلا ومن كان به جاهلا، لم يكن موحدا ومن لم يكن موحدا، كان ملحدا.
فعلى كل بالغ عاقل: أن يوحد الله، ولا يوحده إلا من عرفه ومن لا يعرفه فلا يوحده بل يجحده. وإذا عرف الله: أنه واحد ليس كمثل شئ، فقد عرفه.
الباب السادس
في كيفية استدلال المنقطع عن الناس
أو في أرض الكفرة
قال المؤلف: ومن كان منقطعا عن الناس، في بعض الجزائر أو غيرها، لا يرى الناس، أو في أرض أهل الكفر فعلى كل هؤلاء - إذا بلغ وصح عقله، وزالت عنه الآهات، ونظر إلى السماء سقفا مرفوعا، إلى الأرض مهادا موضوعا، كالبيت المصنوع - أن يعلموا بغرائز عقولهم، أن هذا البناء لا بد له من بان، كالكتاب لا بد له من كاتب، والمصور لا بد له من مصور. وكل صنعة لا بد لها من صانع، كما يشاهدون ذلك في دار الدنيا.
فعلى كل بالغ عاقل - في خاصة نفسه - أن يعلم أن له خالقا خلقه، كما يعلم يقينا بقلبه: أن جوارحه التي به مخلوقه، خلقها خالق، إذ لا قدره له على خلق شئ منها، ولا على تقويم ما أعوج منها، ولا تطويل ما قصر، وتقصير ما طال. ولا تغيير ما هو عليه ولا قبحها.
ولو كان المرء البالغ، الصحيح العقل، أعمى البصر، أصم الأذنين. فواجب عليه ولازم له ما وصفنا، في متقدم الكتاب.
الباب السابع في بيان معرفة الله تعالى تقع أضرارا أو كسبا
Sayfa 4
أختلف الناس في معرفة الله تعالى، تقع أضرارا أو كسبا.
نذهب ذاهبون: إلى أن معرفة الله تعالى أضطرارية، جبلت في قلب الإنسان، معلقه بالعقل، ولا تنفصل لإستحالة انفصالها عن العقل، وأنه يستحيل أنفصالها عن عقله، كإستحالة زوال بعض أعضائه.
وذهب ذاهبون إلى أن معرفة الله تعالى معرفتان: أولاهما: اضطرارية وهي غريزة. والثانية اكتسابية.
ومن قال: إن معرفة الله تعالى اكتسابية: منهم الشئخ أبو الحسين البسياني. ودليل من قال: إن معرفة الله تعالى اكتسابية: أن الله تعالى لما نصب عليها الدلائل، وأمرنا بالنظر العلمي والذكرى, في تلك الدلائل المنصوبة، وأعد الثواب لمن أمتثل ذلك، والعقاب على المفرط الراد التارك لما أمر به من ذلك، دل أنها اكتسابيات؛ لأن الاضطراريات لا يعد الله تعالى عليها ثوابا، ولا يتوعد عليها عقابا. كما لا يعد على ما خلق فينا من الجوارح، بالثواب، ويتوعدنا عليها بالعقاب فدل عند هؤلاء أن معرفة الله تعالى اكتسابية لا اضطرارية. ومن قال: أولاها: اضظرار خلق من الله. والثانية: اكتساب - من أصحابنا بشير.
الباب الثامن
كيف يستدل بالشاهد على الغائب
قال المؤلف: وذلك أن العاقل إذا رأى نارا، علم أن كل نار كذلك حكمها، كما رأى تلك النار في الشاهد.
وكذلك إذا رأى الحيوان، لا يقع إلا على التناسل، حكم بذلك على على ما غاب عنه من جنس الحيوان، أنه واقع على التناسل. ويستدل بالبناء على الباني، والكتاب على الكاتب، والأثر على المؤثر، وأمثال هذا، مما يستدل بالشاهد على الغائب.
وبالله التوفيق
الباب التاسع
في البارئ عز وجل
هل عرف برسله؟ أم رسله عرفوا به؟
من جامع الشئخ أبي الحسن البسياني:
وسأل فقال: أخبروني عن الله - عز وجل - أعرف برسله؟ أم رسله به عرفوا؟ فقال: بل رسله عرفوا به، وأنه حكيم لا يبعث بكتب الحق كاذبا - تعالى الله.
Sayfa 5
وإنما دعت الرسل إلى الله، من قد عرفه، ثم جحد، وقد يكون بعض يعرفه، وبعض لا يعرفه، فبينت الرسل ذلك، ودعت إلى الله، بالدلائل والعلامات التي نصبها الله تعالى، من ملكوت السموات والأرض، ومما في السموات والأرض، وفي خلق الإنسان، كما قال الله تعالى: { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } .
قال: وقد كانت العرب يحجون البيت ويعظمونه. وإنما يعبدون الأصنام، لتقربهم إلى الله زلفى.
وإنما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ترك الأصنام وعبادة الرحمن، فلم يصدقوه وقد قال الله تعالى: { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } .
قال: ألا ترى أن الإنسان إنما يرسل الرسل فيما يريد إلى غيره، إذا كان المرسل إليه، يعرف المرسل. وإن أنكر الرسول أتاه بالعلامة والدلالة، حتى تقع له الصحة. ولو كان لا يعرف الرسول ولا المرسل، لم يلتفت إلى ما أرسل إليه، وأنكره قلبه. فهذا قول المسلمينالذين قالوا: إن رسل الله عرفوا بالله.
وقد قال آخرون: إنه بهم عرف, وبه عرفوا وبهذا يوجب أنهم دعوا إلى الله من عرفه ومن لم يعرفه، فعرفوا بالله عند من عرف الله، وعرف الله بهم من لم يكن به عارفا. والله أعلم.
الباب العاشر
في الدليل على أن الله تعالى شئ موجود
الدليل على أن الله تعالى شئ موجود: إطباق عقلاء الأمة بأسرها، من موحدها وملحدها: أن المعدوم لا يتأتي منه الفعل، ولا يفعل شيئا. فلما فسد هذا ثبت وصح أنه لا يفعل الأفعال إلا الموجود؛ إذ لا فعل المعدوم في العقل، عند كافة العقلاء، من الإنس والجن أجمعين.
الباب الحادي عشر
في الدليل على أن الله شئ لا كالأشئاء
الدليل على أن الله تعالى شئ: أنه قد دلت الدلالة أنه تعالى موجود. ولا يوجد إلا شئ. والدليل على أنه شئ لا كالأشئاء: أن الأشئاء لا تخلوا من أن يكون ترى بعين، أو تحس كالريح العاصف . وما كان يرى، أو يحس من الأجسام، فيحتاج إلى مكان والبارئ تعالى لا يرى ولا يحس.
Sayfa 6
وإنما قلنا: إنه شئ لا كالأشئاء، نخبر عن كونه معلوما موجودا، يمكن الإخبار عنه، إذ لا فاعل للأشئاء إلا شئ. ولا خالقها إلا شئ، موجود غير معدوم؛ لأن المعدوم لا يفعل شيئا.
فإن قيل: إذا قلتم: إنه تعالى شئ لا كالأشئاء. فلم لم تقولوا أنه جسم لا كالأجسام؟
قيل له: لأنه قد يقال: جسم أجسم من جسم ولا يقال: شئ أشئاء من شئ.
فلا يجوز هذا, مع أن الجسم هو الطويل العريض العميق لا غير ذلك فقط. فلذلك لم نقل: جسم لا كالأجسام، إذا كانت الأجسام إنما هي ما كان طويلا عريضا عميقا.
والدليل من الكتبا على أن الله تعالى شئ: قوله تعالى: { أي شئ أكبر شهادة قل الله } فهو كذلك.
فمن سمى الله تعالى شيئا، فقد أثبته شيئا؛ إذ لا موجود إلا شئ. فلما كان الله تعالى كذلك، كان شيئا لا كالأشئاء.
والدليل من الكتاب، أنه تعالىشئ لا كالأشئاء: قوله تعالى: { ليس كمثله شئ وهو السميع البصير } .
المعنى: ليس كهو شئ، وليس مثله شئ من أشايء. تعالى الله عز وجل.
الباب الثاني عشر
في الدليل على حدث العالم
الدليل على حدث العالم: أنها لا تخلوا من أن تكون أحدثت أنفسها، أو أحدثها محدث، فإن كانت أحدثت أنفسها وهي عدم، ليست بشئ، أو أحدثت أنفسها، وهي موجودة.
فإن كانت أحدثت أنفسها، وهي عدم، غير موجودة فمحال أن يفعل ما لا شئ موجود، شيئا موجودا، لأن المعدوم لا يفعل شيئا.
وإن كانت أحدثت أنفسها، وهي موجودة. فمحال أيجاد الموجود؛ لأن الموجود إذا وجد، فقد كفى عن إيجاده ثانية، فلم يبق إلا أنها محدثة، أحدثها محدث، وأخرجها من العدم إلى الوجود. وهو الله - عز وجل.
ومما يدل على أن الأشئاء لم تحدث أنفسها: أنا قد نراها في حال وجودها وكمالها وقوتها، لا تقدر أن تخلق من النطفة جسما.
Sayfa 7
فإذا كانت في حال وفورها، وصحتها وقوتها وكمال خلقها، لم تقدر على خلق جسم، وإن صغر ذلك الجسم ولو ذرة، فكيف تحدث أنفسها، وهي عدم! وقد قال الله تعالى: { ان الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم شيئا لا يستنقذوه منه } .
فمن أضعف ممن إذا سلبته الذبابة شيئا، لا يقدر أن ينتزعه منها. فكيف يقدر أن يخلق خلقا؟! وبالله التوفيق.
الباب الثالث عشر
في الدليل على أنه لا بد للعالم من محدث أحدثه
الدليل على ذلك أنا وجدنا المحدث في الشاهد، لا يكون إلا من محدث، كالبناء لا يكون إلا من بناء بناه، والصورة لا تكون إلا من مصور صورها. والكتابة لا تكون إلا من كاتب كتبها. فعلمنا أن لها العالم محدث أحدثه، وهو الله الذي ليس كمثله شئ. وهو السميع البصير.
فإن قال: فما أنكرت أن يكون كل ما وصفت، لا فاعل له.
قلنا: لو جاز ذلك، لجاز أن يكون دارا مفروغة البناء محكمة، في حال كمالها، أن يحكم عليها أنها أحكمت نفسها، وأخرجت نفسها، من العدم إلى الوجود فلما فسد في العقل هذا، دل أنا لا بد للبناء من بان بناه، ولو جاز ما قلت، لجاز أن يكون مضروب ولا ضارب له، ومكتوب ولا كاتب له، ومقتول ولا قاتل له. فلما فسد في العقل هذا، فسد ما قلت. وبالله التوفيق
الباب الرابع عشر
Sayfa 8
في الدليل على أن خالق الأشئاء واحد الدليل على أن خالق الأشئاء واحد: أنه لو كان اثنين لكان لا يخلو أحدهما من أن يكون قادرا، على منع الآخر، مما يريد أن يعمله، أو غير قادر على منعه، فإن كان قادرا على منع الآخر، فالآخر المقدور عليه عاجز. والعاجز ليس بإله قدير؛ لأن القدير الذي لا يعجزه شئ، إن أراد فعله، وإن يكن هذا لا يقدر على منع اآخر عن شئ، أراد أن يعمله، فهو عاجز. والعاجز ليس بأله قدير، له الربوبية والمقدم والألوهية والديم. فلما فسد هذا، دل أن محدث الأشئاء واحد، ليس كمثله شئ، وهو الله الواحد القهار. ليس كمثله شئ من مخلوقاته. وهو السميع البصير.
وفي كتاب الله تعالى: { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم } .
وبالله التوفيق
الباب الخامس عشر
في الدليل على أن الخالق لا يشبه المخلوق
قال المؤلف: الدليل على أن الخالق لا يشبه المخلوق: أن البارئ عز وجل لو أشبه الأشئاء التي خلقها، وأخرجها من العدم إلى الوجود، لكان حكمه حكما في الحدث. فلا يخلو من أن يكون يشبه الأشئاء، من كل الجهات، أو من بعض الجهات، فلو أشبه من كل الجهات، لكان محدثا مثلها، ولو أشبهها من بعض الجهات، لكان محدثا من حيث أشبهها. فلما أستحال أن يكون المحدث قديما، دل على أن الخالق لا يشبه المخلوق، وقد قال الله تعالى: (ليس كمثله شئ وهو السميع البصير). وقال عز وجل: { فلا تضربوا لله الأمثال } تعالى الله عز وجل، الذي لا شبه له، ولا مثل له، ولا ند له، ولا كفو له. تعالى الله علوا كبيرا.
الباب السادس عشر
في الموات التي ذكرتها الديصانية أنها عند الله
إن قالت الديصانية: ما أنكرتم أن يكون الإله سبحانه هو الواحد الأزلي القديم، ولكن كان معه موات قديم، فمن ذلك الموات: أبدى الأشئاء على ما هي عليه، وأظهرها من العدم إلى الوجود.
Sayfa 9
قيل لهم: هذا باطل، من قبل أن الإله إنما وجب أن يكون إلها، إذ لا مماثل له في الأزاية والقدم والربوبيه، فلو كان مع الله غيره. قديم أزلي فيما لم يزل، لوجب أن يكون ذلك القديم الذي معه مماثلا له، في أخص الأوصاف الألوهية. فيبطل أن يكون الله عز وجل إلها، إذ كان معه غيره في الأزل قديما، كقدمه. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
الباب السابع عشر
في الرد على من قال: إن هذه الأجسام يحدثها محدث
أحدثه الله عز وجل
من بعض الكتب: إن قال قائلون: ما تفكرون أن هذه الأجسام يحدثها محدث، أحدثه الله عز وجل وذلك المحدث جسم.
قيل: الدليل على ابطال ذلك: أن الجسم لا يكون قادرا إلا بقدرة هي غيره، فلو جاز أن يفعل قادر بقدرة شيئا من الأجسام، لكنا نقدر أن نفعل بقدرتنا، بعضا من ذلك لعلمنا أن من كان قادرا بقدرة، فلا يقدر أن يفعل الأجسام.
فإن قال: لم قلتم: إن الجسم لا يكون قادرا إلا بقدرة، هي غيره؟
قيل له الدليل على ذلك: أنه ليس فيما بيننا جسم قادر إلا بقدرة، هي غيره، ولو كان الجسم قادرا بلا قدرة، لكان الجماد وهذه الأجسام بالموات قادرين. وفي استحالة ذلك دليل على أنه لا جسم يقدر إلا بقدرة هي غيره.
الباب الثامن عشر
في الرد على من قال: إن الله خلق خلقه لعلة
الدليل على بطلان ذلك: أن العلة أنما تتصور فيمن يروم دفع مضرة أو استجلاب منفعة. والله عز وجل منزه عن ذلك فلا ضرر يلحقه، ولا نفع يجلبه فلا تتصور في أفعاله علل. والواحد منا يفعل كل ما يفعله، إما يستجلب به منفعة إلى نفسه، أو يروم به دفع مضرة، بخلاف أوصاف البارئ عز وجل.
والدليل على أن العالم المصنوع ليس بمعمول، إنما المصنوع لو كان معلولا لعلة، لولاها لم يكن مصنوعا، لجاز أن تعدم العلة، فيكون مع عدم العلة غير مصنوع، كما أن المتحرك، إذا كان متحركا لعلة، لولاها لم يكن متحركا فهو مع عدم العلة غير متحرك، لكن البارئ عز وجل خلق خلقه على ما يشاء. ولا علة لفعله.
Sayfa 10
وسأل أهل الدهر. فقالوا: حدثونا عن محدث الأشئاء، أحدثها لعينه، أم لعلة؟
قيل لهم: بل أحدثها لعينه. ولا لعله هي غير الفعل، بل الفعل هو العلة التي كان لها فاعلا.
الباب التاسع عشر
في حدث الجواهر التي هي أصول الأجسام المركبة
وعرض وحدث الأعراض الفانية بالجوهر
الدليل على حدوث الجواهر: أنها لا تنفك من الحوادث ولا يصح أن تخلق من أعراض حادثة. وما لا ينفك من حادث فحادث. وأيضا فأنها متحركة دار حرارة حالة فيها.
والدليل على حدوث الأعراض أنه قد صح وجود الجسم في حال. ومحال أن يوجد ساكنا متحركا في حال من الأحوال. فالذي صح وجوده وهو الجسم، غير الجسم الذي يستحيل وجوده. وهو الحركة والسكون.
الباب العشرون
في الدليل على المجتمع أنه مجتمع باجتماع هو غيره
والمتفرق متفرق بافتراق هو غيره
مما يدل على أن اجتماع كل مجتمع محدث: أنا نتوهم بطلانه، فيصح ذلك في الوهم، ولو كان قديما لما صح أن يبطل غير محدث، جاز أن يكون محدثا يستحيل بطلانه فدل أن كل ما يصح بطلانه فنحدث.
الباب الواحد والعشرون
في الدليل على حدث الاجتماع والافتراق
من الدليل على حدث الاجتماع والافتراق: أنا تقصد إلى الجسم المجتمع فنفرقه، فيوجد فيه افتراق. فلا يخلو ذلك الإفتراق من أن يكون كان موجودا فيه، قبل الحال التي فرقناه فيها، أو يكون حدث في هذا الوقت. فإن يكن كان موجودا فيه قبل تفريفنا إياه، فقد كان مجتمعا متفرقا في حال.
فإذا بطل أن يكون الافتراق، فقد كان موجودا فيه في حال اجتماعه، فقد صح أنه محدث عند ما فرقناه.
وكذلك القول في الجسم المفترق، إذا قصدنا إليه فجمعناه، فقد صح أن الاجتماع والافتراق محدثان.
الباب الثاني والعشرون
Sayfa 11
في المكان والدليل على حدوثه قيل: ان المكان والزمان ليس هما من العالم، وهما من غير العالم. والمكان هو سطح مستو من لطائف الأجزاء المستفردة، فانعقد والتأم، فصار للأشئاء حاويا. وحده أن يكون حاويا من سائر الجهات وهي البسائط الست التي هي يمين وشمال وخلف وقدام وفوق وتحت.
والدليل على حدث المكان من أوجه: أحدها أن كل بيسط وان اتصل، فلا يخلو من أن يكون عاليا إلى نهاية توقعه، فيكون له مستقرا ولو جاز أن يكون عاليا إلى غير نهاية، لجاز أن يكون كل كثيف راسيا إلى غير نهاية. فدلت تلك النهاية على الإستقرار.
وإنما وجب أن يكون القديم قديما، إذ لا نهاية له. وأيضا فإن البسائط وإن لطفت فلا تخلو من طبائع مقرونه بها، كما أن الكثائف لا تخلو من طبائع تكون مقرونه بها، وأيضا ان الحرارة التي هي طبائع المكان، لا بد لها من زيادة ونقصان والزيادة والنقصان ضدان متعاقبان. ومن تعاقب عليه العرضان وتراكم عليه الضدان كان محدثا.
الباب الثالث والعشرون
في الزمان والدليل على حدثه
اختلف الناس في الزمان، فقيل: هو الحركة نفسها.
وقيل: هو اعداد الحركة.
وقيل: هو القدر الذي يكون بين الحركات، فلما أن تبين فساد الأقاويل، صح وثبت ما قلنا: إن الزمان هو القدر الذي تكون به الحركة، يريد أن الزمان يكون فيه إعداد الحركة والفرق بين الاعداد.
والدليل على حدث الزمان: أن له بعضا. وما كان له بعض كان له كل.
مسألة: والزمان من غير العالم وهو المشتمل يعني على المكان، حد الزمان أن يكون مشتنلا على المزمن من سائر الجهات.
الباب الرابع والعشرون
في الوقت والدليل على حدثه من كتاب الأكلة
اختلف في الوقت، فقال بعض: الوقت مدى ما بين الأفعال، وإن معناه: أن الليل والنهار هما الأوقات.
وقال بعض: هو حركات الفلك.
وقال بعض هو شئ غير حركات الفلك، وغير الليل والنهار، وليس بجسم ولا عرض.
Sayfa 12
اعلم أنه قد قالت العلماء: إن الوقت هو كل حدث كان معلوما حال حدوثه، فمتى علق به ما يجهل حال حدوثه، قيل: إنه وقت له.
وكذلك كان الوقت والمؤقت جميعا حادثين. ولذلك لا يصح التوقيت بالقديم تعالى الله عز وجل، وإنما يصح بالحادث، أو ما يجري مجراه من حكم متحدد، من عدم، أو وجود.
وكذلك يصح أن تقول: إن زبدا يقدم، إذا طلعت الشمس، ويقول الآخر: إن الشمس تطلع إذا قدم زبد فيصح أن يجعل كل واحد منهما وقتا للآخر، بحسب حال المخاطب ومعرفته بأحدهما دون الآخر فلا يعتبر في كون الشئ وقتا، إلا بأن يكون حادثا فقط، ويعتبر في حسن جعلك له بالمخاطبة، بأن يكون عالما. وأن يكون جالهلا بالوقت، وكيفية حدوثه، فلا يجوز أن يختص بذلك الليل والنهار، وحركات الفلك. بل يجب في كل ذلك وسائر الحوادث: أن يكون وقتا. لكن حركات الفلك لما كانت أظهر، والعلم بها أشهر، غلب على الناس التوقيت بها. وإلا فحال غيرها كحالها، على ما قدمنا.
الباب االخامس والعشرون
في الهواء والاختلاف فيه
والدليل على حدثه
والرد على الهوائية
اختلف الناس في الهواء.
فقيل: هو جسم لطيف دقيق، قال أبو الهذيل: هو شئ ليس بجسم، بل هو مكان للأجسام. ولو كان جسما لاحتاج إلى مكان وكان ذلك لا يتناهى.
وقيل: إن الهواء ليس بشئ، والصحيح ما قيل: إنه جسم دقيق وهو يبين بالتحريك ومتى حصلت فيه الحركة شائعة، وصف بأنه ريح.
وإذا حصل في محاريق الإنسان، وصف بأنه روح، وهو يمتلئ من الزق عند النفخ ، ولو كان غير جسم، لاستحال جميع ما ذكرناه فيه، لأن العرض لا يملأ الظروف، ولو لم يكن الهواء جسما، لوجب على الملائكة والجن أن لا يكونوا أجساما. وقد علمنا أستحالة ما ليس بجسم حيا قادرا بحياة وقدرة.
مسألة: في الدليل على حدثه، والرد على من قال بقدمه من الهوائية، يقال لمن قال بقدمه: أن الهواء كل؟
فإن قال: لا، كذبه كل ذي عقل لما يشاهدون، ويرون بعضه دون بعض.
Sayfa 13
فقد أطبقت الأمة بأسرها أن له بعضا، وكل من كان له بعض، فله كل، وكل من كان له كل، فله حد ونهاية، وله قاهر قهره،، وقاسر قسره، على ما هو به من حدثه وكليته، لا يستطيع خلاف ذلك، فدل أنه مخلوق وله خالق خلقه، وليس هو بإله قديم.
وإن قال: نعم له كل، قيل له: فما كان له كل، وحد ونهايه وبداية، ولم يوصف بالأزل والقديم، لأن ما كان هذا سبيله كان محدثا؛ لأن الهواء متحرك، والحركة عرض وما حله العرض كان محدثا.
والدليل على حركته: أن ينظر إلى الشمس التي في قوة كوة البيت، أو كوة في أوسط الغما، فتراه يتحرك. وترى الهبو يطلع من حركة الهواء الفوقانية، وفي الهواء الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، وكل ما تغاير فيه المتغايرات، بعضها عن بعض وحله المرض محدث.
الباب السادس والعشرون
في الفلك والرد على الفلكية
اعلم أن الفلك الدائر لا بد له من قطب على أنه حال دار، فلا خفا أن حركة قطبه وما بلى قطبه، أقل من حركة ما بعد عن قطبه من حرمه؛ لأنه كلما أتسع الحرم عن نقطة مركز، كان أوسع لدوره، كدوام الذي دوران متسعه أكثر من دوران مركزه، فلا خفا أن لو توهمنا حركات القطبية، فما خلا من الزمان، لوجدناها لا تعادل إلا حركة أقل أجزاء الحرم، فقد صح أن حركات سعة الحرم، أكثر من حركات قطبه فصارت حركات القطب من الفلك متناهية، فإذا وضعت حركات القطب من الحرم، صار ما بقى من الحركات، أقل منه قبل أن يوضع ذلك فهذا هو التناهي على أنه لو لم يكن في الفلك قطب، لعلمنا أن حركة بعض أجزائه جزء من حركة كل أجزائه، وأنها متناهية، فيما خلا من الزمان، إذا كانت جزاء مما خلا من سائر حركاته.
قال المؤلف: ولعله يعني إذا كان له جزء، فله كل، وبداية يدور منها، إلى أن ينتهي إليها في دورانه دورا دورا. والله أعلم.
الباب السابع والعشرون
في الدليل على حدث النجوم
Sayfa 14
والرد على أصحاب النجوم نقول: ان النجوم أجسام، وصور مركبات، تحركها القدرة وما كان هذا سبيله كان محدثا. والمحدث لا يجوز أن يكون محدثا للحوادث.
والدليل على حدث النجوم: انتقالها من برج إلى برج، فلا تخلو من أن تكون كونها في ذلك البرج لعينها، أو لمعنى، فإن كان كونها في ذلك البرج لعينها، وجب أن لا تزول منه فقط؛ لأن الحكم العيني لا يزول إلا بزوال العين. وليس الأمر على ذلك؛ لأنا نعلم إنتقالها من برج إلى برج، فلا يجوز أن يكون كونها في البرج لعينها. ولا يجوز أن يكون بمعنى قديم؛ لأنه لو كان ذلك قديما لوجب أن لا يزول إلا بزوال ذلك المعنى، والمعنى القديم لا يعدم، فوجب أن لا يزول عن ذلك البرج أبدا، فإذا بطل أن يكون كونها في ذلك البرج لعينها، أو بمعنى قديم، لم يبق إلا أنها كانت فيها، بمعنى حدوث وانتقلت بمعنى حادث، فهي لا تخلو من أن تحلها الحوادث، وما حلتها الحوادث لم تخل منها، وان لم تخل منها لم تسبقها، وكانت حادثة مثلها.
فإذا صح أن النجوم محدثات، لم يجز أن يكون لها أفعال؛ لأن المحدث لا يفعل في غيره سيئا ولا يوجد عدما، ولا يعدم وجودا، فبطل أن يكون للنجوم تأثير في ايجاد ما يوجد وإعدام ما يعدم. وبالله التوفيق.
الباب الثامن والعشرون
في الرد على من أحتج بقدم العالم
بأن لا نطفة إلا من انسان ولا انسان إلا من نطفة
ولا بيضة إلا من طير ولا طير إلا من بيضة
فإن قال قائل: أخبرونا أليس لم تشاهدوا إنسانا إلا من نطفة، ولا نطفة إلا من إنسان، ولا طيرة إلا من بيضة ولا بيضة إلا من طيرة؟
قلنا: نعم.
فإن قال: فهلا قضيتم بذلك على الغائب؟
قلنا له: إن الطيرة لم تكن موجودة لوجود الطيرة قبلها.
وذلك أن الدلالة قد دلت على حدث الأجسام، وعلى قدرة محدثها فإذا كان ذلك كذلك، فالذي خلق نطفة فجعلها مضغة وعظاما وكسا العظام لحما، قادر على أن يخلق إنسانا كاملا، وإن لم يخلق قبل ذلك نطفة، ينقلها من حال إلى حال، وكذلك القول في الطيرة والبيضة.
Sayfa 15
وإذا كانت دلالات العقول قائمة على ما قلناه وشرحناه، فقد بطل أن يكون الإنسان إنما وجد بوجود نطفة قبله، ولا أن الطيرة إنما كانت موجودة لوجود البيضة قبلها، لأن الدلالة قد دلت على حدث العالم، وأن لوجوده أولا، فبطل أن يكون الإنسان إنما وجد لوجود نطفة قبله، وأن النطفة إنما وجدت لوجود إنسان قبلها.
وكذلك القول في الطيرة والبيضة.
فإذا بطل ذلك لم يلزم القضاء، على أنه لا إنسان إلا من نطفة، ولا نطفة إلا من إنسان، ولا طيرة إلا من بيضة، ولا بيضة إلا من طيرة، ولا حادث إلا وقبله حادث، وبالله التوفيق.
وأيضا فقد شاهدنا إنسانا، لم يكن مته نطفة، ونشاهد نطفة لم يخلق منها إنسان، فلم يجب أن يقضى على الإنسان، بأنه إنما وجب وجوده لوجود نطفة قبله، أو لوجود انسان بعده، أو لوجود انسان قبله، فلم يجب أن يحكم على البيضة، إنما يجب وجودها لوجود طيرة قبلها.
فإذا لم يجب ذلك في المستقبل، وكان هذا شاهدا على ترتيب ما قلناه، لم يجب أيضا أن نقضى على الإنسان، إنما كان إنسانا لوجود نطفة قبله، وكذلك الطيرة، إنما كانت طيرة لوجود بيضة قبلها. وبالله التوفيق.
ولو كان الإنسان لا يوجد إلا من بعد تقدم النطفة، والنطفة لا توجد إلا من بعد تقدم الإنسان، لم يصح وجود الإنسان، ولا النطفة.
وكذلك القول في البيضة والطيرة. وبالله نستعين.
وكذلك الليالي والأيام، أو كان لا يوم أو قبله يوم، ولا ليلة إلا وقبلها يوم، استحال وجود الليالي والأيام.
فإن قالوا: لو جاز أن يحدث إنسان لا من إنسان، لجاز أن يحدث فعل لا من فاعل.
قلنا: ليس كذلك، لأنا قد علمنا في أفعالنا، أنها تحتاج إلينا في حدوثها،
فقسناها على كل حادث، وليس يمكن مثل ذلك في الإنسان والنطفة؛ لأن النطفة هي الجوهر، وإنما صارت إنسانا بما يوجد فيها من الإستحالة. وهي حدوث أعراض وبطلان أعراض، والجسم واحد، ليس ذلك بمشبه بحدوث الفعل، من جهة الفاعل، فافترقا. وبالله التوفيق.
Sayfa 16
الباب التاسع والعشرون
في الرد على الدهرية الذين ذكرهم الله في القرآن
الدهرية وجماعة الهند وأصناف اليونانية، والمتانية والديصانية والمفرونية والمجوس وعبدة الصور والحريانية والصابئون والمدركية، وغيرهم من الملحدة، كلهم أنكروا حدوث العالم، وقالوا بقدمه.
فقالت الدهرية: ان الدنيا لم تزل كما ترى، من مرور الليالي والأيام والشهور والأعوام، ونموت ونحيا، وما يهلكنا إلا الدهر، يعنون مرور الليالي والأيام.
فقال الله تعالى تكذيبا لهم: { وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون } حيث أنكروا الخالق، وحدوث العالم، وأن له محدثا أحدثه، وإنما هذه الأجسام أحدثت أنفسها، وقد مر الرد عليهم - فيما تقدم - في باب حدوث العالم.
فإن قال قائل إذا قلتم: إن البارئ - عز وجل - غني لا مغني له، عزيز لا معز له، سميع لا مسمع له، بصير لا مبصر له، عليم لا معلم له، قادر لا مقدر له. فلم لا أثبتم مفعولا لا فاعل له؟
قيل له: لا يجب ما قلت، وذلك أن الغنى الذي قلنا: لا مغني له، والعزيز الذي قلنا: لا معز له، والعليم الذي قلنا: لا معلم له قلنا: ليس معزوز فيقتضي ذلك معزا وليس بمعلم فيقضي ذلك معلما.
وكذلك ما سألتمونا عنه، فليس يجب أنه إذا قلنا: حيا ليس بمعز ولا معلم، لا يقتضي معزا، ولا معلما، أن يزعم المعز لا يقتضي معزا، والمعلم لا يقتضي معلما، أن المفعول لا يقتضي مفعولا، وعليم وعزيز وزنه فعيل، وفعيل لا يقتضي مفعولا.
ومفعول يقتضي فاعلا، فالعالم العزيز الذي بيناه، لا معلم له، ولا مقدر له، لم يزل قديما؛ لأن معنى المفعول: أنه لم يكن ثم كان، ومعنى القديم: أنه لم يزل موجودا، فإذا لم يجز أن يثبت المفعول قديما، فقد وجب أن المفعول يقتضي فاعلا فعله، بعد أن لم يكن فكان.
فصل
إن قالت الدهرية: ما تنكرون أن تكون الأجسام التي دللتم أنها محدثه، أحدثت بعضها بعضا.
Sayfa 17
قيل له هذا فاسد، من قبل أن كل متماثلين، لا يكون أحدهما موصوفا بالقدرة على صاحبه، أولى من أن يكون الآخر موصوفا بالقدرة عليه، إذ المثلية بينهما حاصلة. والمكافأة بينهما واقعة، ألا ترون أنهما إذا تكامآ في الحدث، بأن يكون كل واحد منهما هو الراهب في الجهات الست، لا يمكن أحدهما أن تكون جهاتهسبعا ولا خمسا، فلا يجوز أن يكون موصوفا بالقدرة على الآخر؛ إذ العلة مشتملة عليها.
دليله: أنه لو جاز أن يكون بعض المحدثات أحدث بعضها بعضا، لجاز أن تكون الكتابة أحدثت كاتبا، والصناعة أحدثت صانعا مثلها، وهذا فاسد في العقول جدا.
دليل آخر: وهو لو جاز أن يحدث بعضها بعضا، لتم مراد أحد المحدثين في الآخر، ولا ينبغي أن يتعذر عليه، ووجدنا الأجسام فيما نشاهده، يتعذر منها وقوع الأجسام، فدل ذلك على أنها لم يحدث بعضها بعضا. وبالله نستعين.
الباب الثلاثون
في الرد على أهل الطبائع
الطبائع: هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، فقالوا: باجتماعها صح تركيب العالم. وهذا لا يصح، لأن الحرارة ضد البرودة، والرطوبة ضد اليبوسة، ولا يجوز إجتماع الضدين، في ذات واحدة. كما أن الحركة ضد الكون، والسواد ضد البياض، فلا يجوز إجتماع هذه المتضادات، فبطل ما قالوه: إن باجتماعها تركيب العالم؛ لأن الطبائع محتاجة إلى المكان، وليست بقائمة بأنفسها، وفي وجودنا لها محتاجة إلى المكان، غير مستطيعة على القيام بنفسها على حدثها، إذ حقيقة القديم: استغناؤه عن المكان والزمان. والله تعالى أعلم. وبه التوفيق.
الباب الحادي والثلاثون
في الرد على من قال بالظلمات والنور
Sayfa 18
من المجوس وهم الماتوتية زعمت الماتوتية أن الأشئاء من أصلين قديمين: أحدهما: نور، والآخر ظلمة، وأن النور خير يفعل الخير، والظلمة شر يفعل الشر، فما كما من الخير فهو من النور، وما كان من الشر فهو من الظلمة، وأنهما لا يزالا حيين حساسين دراكين سميعين بصيرين، وهما مع ذلك مختلفان، في النفس والصور، متضادان في الفعل والتدبير، ولم يزالا متباينين متحادين، يحادان الشمس والظل، ثم امتزجا بعد ذلك، فقال بعضهم لأبي الهذيل: أخبرنا عن النور، أليس قد كان مباينا للظلمة؟
قال: نعم.
قال: فما مجيئه إليها بعد المباينة، أداء إلى أنسه زمستراحه؟ أم إلى ضده وعدوه؟
قال: إلى ضده وعدوه.
قال: فإن كان جاء إلى عدوه طوعا، فهو شرير أحمق، وإن كان جاء إليه قسرا فهو ضعيف عاجز، فرجع الماتي عند ذلك وأسلم.
قال الشئخ أبو الحسن البسياني - في الرد عليهم - : إنه لا يخلو أن يكونا متباينين؛ أو متمازجين، وأيهما كان، فقد صح، وثبت لهما الحدث والحد والنهاية.
وقد دللنا أن الأجسام محدثة، وقد صح أنهما جسمان. وقد ثبت أنهما محدثان، والمحدث مصنوع، وله صانع ووجه آخر؛ أم لا يخلو من أن يكونا متباينين، لم يصح امتزاجهما أبدا، لأن أحدهما نور، والآخر ظلمة، فهما ضدان لا يزدادان إلا تباعدا.
وإن كانا متباينين، على ما قالوا، ثم امتزجا، لم يخل أن يكون التباين هو هما، أو غيرهما، وكذلك الامتزاج فقد ثبت أصل ثالث، وفسد قولهم.
وإن قالوا: التباين والإمتزاج غيرهما، وقد ثبت أصل ثالث.
قيل لهم: فقد تغير التباين والامتزاج، واذا تغير فهو محدث فهما محدثان، والقديم لا يتغير كالمحدث، وقد أكذبهم الله بقوله: { الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } نقض لقولهم: إن النور يفعل الخير، والظلمة تفعل الشر.
يقال لهم: فما قولكم فيمن يقول: أنا طلام من القائل: أنا ظلام الظلام القائل: أنا ظلام أم المور؟
Sayfa 19
فإن قالوا: النور هو القائل أنا ظلام، فقد كذب النور في قوله، والكذب شر عندكم.
وإن قالوا: الظلام هو القائل: أنا ظلام، والصدق خير فقد فعل الظلام الخير، وعندكم أن الظلام لا يفعل الخير، فلا يجدون سبيلا.
من هذه المسألة مقالة الديصانية: زعمت الديصانية: أن الأشئاء من أصلين - على ما زعمت الماتو تية - نور وظلمة، وأن الخير من النور والشر من الظلمة.
وأن النور حي عالم قادر حساس دراك منه يكون الفعل والحركة؟ والظلمة: موات عاجزة جاهلة راكدة لا فعل لها ولا تمييز معها، وإن الشر يقع منها طباعا، وإن النور جنس واحد، والظلمة جنس واحد،والنور: بياض كله، والظلمة سواد كلها، وإن الظلمة ضد النور، وأشئاء كثيرة تركتها.
يقال لهم: إذا كانت الظلمة غير فاعلة، والأفعال كلها للنور، فكل ما في العالم من سفك الدماء وإيلام الحيوان، ةسائر الضرر والفساد، وكل كذب وفجور وشتم وجور، فمن النور الذي زعمتم أنه لا يفعل إلا الخير.
ويقال لهم: إذا كان لون النور هو البياض، ولون الظلمة هو السواد، فأخبونا عن البرص أخير هو؟ أم شر محبوب هو؟ أم مكروه؟
فإن قالوا: محبوب وخير، كابروا وإن قالوا: مكروه وشر، فقد وجب أن يكون لون النور شرا،
ويسألون عن سواد العيون، وسواد الشعر: حسنان هما أم قبيحان؟ فهذا مالا محيض لهم منه.
ويقال لهم: إذا كان لا شئ إلا نور وظلمة، فمن أين جاءت الحمرة والصفرة؟ فإن قالوا: لاختلاف الأخلاط من القلة والكثرة.
قيل لهم: إن السواد والبياض قد عرف اختلاطهما، ولو خلطا بكل نوع، ما جاءت منهما حمرة وإنما يأتي منهما ألوان بين السواد والبياض، في الكثرة والقلة، فمتى أردتم أن تتأملوا ذلك، فتأملوا. وبالله التوفيق.
الباب الثاني والثلاثون
Sayfa 20