مسكين أسامة؛ اتخذه أبوه سببا، وما كان سببا، وجعل من مجيئه مستدار حياة، وما يدري أسامة ولو درى لجثا على ركبتيه لأبيه يرجوه أن يظل كما عاش حياته سيد المال لا عبد المال.
إذا أصبح المال هو الهدف انعدم الهدف، فالأرقام لا تعرف نهاية، وما دمت لا تعرف لهدفك نهاية فأنت ومن لا هدف له سواء، وويل لإنسان انعدم من حياته الهدف. بل لعل الذي يحياها مصادفة يترك لأيامها أعنة قياده ومتجه أحلامه ومسار آماله؛ أعظم سعادة من إنسان جعل جمع المال هو الهدف وهو الحياة. فإن هذا الإنسان المسكين جهل أو أراد أن يجهل أن الهدف قد انعدم في حياته وأنه كان قد وضعه أمامه. فالمال المال والسعار السعار، والحياة إذن جحيم لا ينتهي إلى نعيم، ونيران لا برد لها ولا سلام، والإنسان يومئذ يجهل الرقم الذي يريد أن يقف عنده، فإن قدره وبلغه أغراه المال بما بعده، وتنهار حياة الإنسان تحت نعال المال ، ويصبح السيد عبدا وباختياره.
الفصل العاشر
خسر عدلي القضية ضد أبيه، وربما كان يعلم أنه سيخسرها على أية حال، فإن كان عقله قد حال دون هذه المعرفة فالذي لا شك فيه أن راوية زوجته كانت تعرف ذلك، وإنما حلا لها أن يصبح اسم الباشا وابنه على كل لسان. فالحياة مع عدلي راكدة، وراوية ليست خائنة بطبيعة تكوينها؛ فهي لم تخن زوجها ولا تنوي أن تخونه، وهي لهذا ضيقة بحياتها معه ضيق ملالة، وهو نوع من الضيق يجعلها تبحث دائما عن تسلية، قد تكون هذه التسلية كبيرة كقضية الباشا أو صغيرة كانضمامها إلى مجموعتين من السيدات، إحداهن للحديث وهذه تضم خديجة وشهيرة، ومجموعة أخرى للعب الكونكان لعبا لا تلقي فيه بكثير من الأموال؛ فهي ليست مغامرة بطبيعتها، وهي تعلم مقدار الغنى الذي انسكب على زوجها بعد وفاة أمه، خاصة وأن أباه في ترفعه أبى أن يأخذ نصيبه من تركة زوجته، وترك ذلك النصيب لابنه الذي رفع عليه دعوى السفه؛ فزاد هذا من إكبار الناس لزكريا ومن احتقارهم لعدلي. على أية حال لم يكن هذا الغنى سببا يجعل راوية تنفق المال فيما لا يفيد؛ فهي تقدر أن ابنتها التي جاءت بها والتي لا تنوي أن تجيء بغيرها لن تغفر لها تبديد أموال أبيها. وقد كانت ابنتها هالة هي كل شيء في حياتها.
فما دامت حياتها قد خلت من الزوج فلا أقل من أن تعمرها لابنه.
وهكذا استطاعت رواية أن تتواءم مع حياتها وتقبلها، وتخلق فيها المتعة التي حرمتها بزواجها من هذا الأبله.
وقد كان عدلي خليقا أن ينعم بحياته هو أيضا، فهو يستطيع دائما أن يجد أصناف الطعام التي يطهوها، ويستطيع دائما أن يجد مجالس النساء ويشاركهن الحديث. كان يستطيع هذا جميعه ولكن قضية أبيه حطمت كل المتع التي كان يستطيع أن يخلقها لنفسه. لقد وهم أن القضية ستحطم سمعة أبيه، فإذا هي لا تمس أباه في شيء، وإنما تحطم حياته هو تماما.
لقد وجد نفسه بين أصدقائه مجال سخرية لاذعة ، كانوا يخفونها عنه فأصبحوا يبدونها، بل لقد وجد السيدات من صديقات أمه يشحن عنه بحديثهن. حتى لقد أحس فجأة أنه لا يجد في حياته شيئا أو إنسانا، زوجه لا تحدثه إلا بصيغة الأمر، وهو بأوامرها هذه مطمئن أن شئون البيت لا تحتاج منه إلى رعاية.
ولكن هو؛ هو عدلي ماذا يصنع بحياته؟ إن أموال أمه كلها عمارات؛ فهي لا تحتاج إلى إدارة، وإنما هي الدائرة يذهب منها موظفان كل شهر يجمعان الإيجارات ثم لا شيء بعد ذلك، وهو يذهب إلى دائرة أمه كل يوم ولكن بلا عمل.
تاه عدلي في الحياة، وتاهت به الحياة. لا يرافقه في التيه الممتلئ بالحسرة إلا صديقه عزت بهادر. لعلك لا تذكره، فقد مر ذكره عليك مرورا لا بريق فيه ولا إمعان.
Bilinmeyen sayfa