اللباب في علوم الكتاب
اللباب في علوم الكتاب
Araştırmacı
الشيخ عادل أحمد عبد الموجود والشيخ علي محمد معوض
Yayıncı
دار الكتب العلمية
Baskı Numarası
الأولى
Yayın Yılı
١٤١٩ هـ -١٩٩٨م
Yayın Yeri
بيروت / لبنان
Türler
ـ[اللباب في علوم الكتاب]ـ
المؤلف: أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني (المتوفى: ٧٧٥هـ)
المحقق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود والشيخ علي محمد معوض
الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت / لبنان
الطبعة: الأولى، ١٤١٩ هـ -١٩٩٨م
عدد الأجزاء: ٢٠
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير]
Bilinmeyen sayfa
الْفَاتِحَة
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم. وَبِه نستعين.
الْحَمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستهديه، وَنَسْتَغْفِرهُ، ونعوذ بِاللَّه من شرور أَنْفُسنَا، وَمن سيئات أَعمالنَا، من يهده الله فَلَا مضل لَهُ، وَمن يضلل فَلَا هادي لَهُ، وَأشْهد أَلا إِلَه إِلَّا الله وَحده، لَا شريك لَهُ، وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله، أرْسلهُ بَين يَدي السَّاعَة بشيرا وَنَذِيرا - صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَصَحبه وَسلم تَسْلِيمًا كثيرا.
وَبعد، فَهَذَا كتاب جمعته من أَقْوَال الْعلمَاء فِي عُلُوم الْقُرْآن وسميته: " اللّبَاب فِي عُلُوم الْكتاب "، وَمن الله أسأَل العون، وبلوغ الأمل، والعصمة من الْخَطَأ والزلل.
الِاسْتِعَاذَة: أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم.
هَذَا لَيْسَ من الْقُرْآن إِجْمَاعًا، وَإِنَّمَا تعرضت لَهُ؛ لِأَنَّهُ وَاجِب فِي أول الْقِرَاءَة، أَو مَنْدُوب، وَقيل: وَاجِبَة على النَّبِي ﷺ وَحده.
وَأَصَح كيفيات اللَّفْظ هَذَا اللَّفْظ الْمَشْهُور؛ لموافقته قَوْله تَعَالَى: ﴿فاستعذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم﴾ [النَّحْل: ٩٨] . وَرووا فِيهِ حديثين:
قَالَ الشَّافِعِي ﵁: وَاجِب أَن يَقُول: أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم،
1 / 79
وَهُوَ قَول أبي حنيفَة ﵁ قَالُوا: لِأَن هَذَا النّظم مُوَافق لِلْآيَةِ الْمُتَقَدّمَة، وموافق لظَاهِر الْخَبَر.
وَقَالَ أَحْمد - رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ -: الأوْلى أَن يَقُول: أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم، إِنَّه هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم؛ جمعا بَين الْآيَتَيْنِ.
وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: الأوْلى أَن يَقُول: أعوذ بِاللَّه السَّمِيع الْعَلِيم من الشَّيْطَان الرَّجِيم؛ لِأَن هَذَا - أَيْضا - جمع بَين الْآيَتَيْنِ.
وروى الْبَيْهَقِيّ فِي كتاب " السّنَن " بِإِسْنَادِهِ، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: كَانَ رَسُول الله ﷺ إِذا قَامَ من النّوم كبّر ثَلَاثًا، وَقَالَ: أعوذ بِاللَّه السَّمِيع الْعَلِيم من الشَّيْطَان الرَّجِيم.
1 / 80
وَقَالَ الثَّوْريّ، وَالْأَوْزَاعِيّ: الأوْلى أَن يَقُول: أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم إِن الله هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم.
وروى الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس: أَن أول مَا نزل جِبْرِيل ﵇ على مُحَمَّد ﵊ قَالَ: قل يَا مُحَمَّد: استعذ بِاللَّه السَّمِيع الْعَلِيم من الشَّيْطَان الرَّجِيم، ثمَّ قَالَ: قل: ﴿بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم﴾ ﴿اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق﴾ [العلق: ١] .
وَنقل عَن بَعضهم، أَنه كَانَ يَقُول: أعوذ بِاللَّه الْمجِيد من الشَّيْطَان المريد.
فصل
اتّفق الْأَكْثَرُونَ على أَن وَقت الِاسْتِعَاذَة قبل قِرَاءَة الْفَاتِحَة.
وَعَن النَّخعِيّ: أَنه بعْدهَا، وَهُوَ قَول دَاوُد الْأَصْفَهَانِي، وَإِحْدَى
1 / 81
الرِّوَايَتَيْنِ عَن ابْن سِيرِين.
وَقَالُوا: إِذا [قَرَأَ] الْفَاتِحَة وأمّن، يستعيذ بِاللَّه.
دَلِيل الْجُمْهُور: مَا روى جُبَير بن مطعم ﵁: أَن النَّبِي - ﷺ وَشرف وكرم وبجل وَعظم وفخم - حِين افْتتح الصَّلَاة قَالَ: " الله أكبر كَبِيرا، ثَلَاث مَرَّات، وَالْحَمْد لله كثيرا، ثَلَاث مَرَّات، وَسُبْحَان الله بكرَة وَأَصِيلا، ثَلَاث مَرَّات، ثمَّ قَالَ: أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم من همزه ونفخه ونفثه ".
وَاحْتج الْمُخَالف بقوله تَعَالَى: ﴿فَإِذا قَرَأت الْقُرْآن فاستعذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم﴾ [النَّحْل: ٩٨] دلّت هَذِه الْآيَة على أَن قِرَاءَة الْقُرْآن شَرط، وَذكر الِاسْتِعَاذَة جَزَاء، وَالْجَزَاء مُتَأَخّر عَن الشَّرْط؛ فَوَجَبَ أَن تكون الِاسْتِعَاذَة مُتَأَخِّرَة عَن الْقِرَاءَة.
ثمَّ قَالُوا: وَهَذَا مُوَافق لما فِي الْعقل؛ لِأَن من قَرَأَ الْقُرْآن، فقد اسْتوْجبَ الثَّوَاب الْعَظِيم، فَرُبمَا يداخله الْعجب؛ فَيسْقط ذَلِك الثَّوَاب، لقَوْله ﵊: " ثَلَاث مهلكات " وَذكر مِنْهَا إعجاب الْمَرْء بِنَفسِهِ؛ فَلهَذَا السَّبَب أمره الله - تَعَالَى -[بِأَن
1 / 82
يستعيذ من الشَّيْطَان؛ لِئَلَّا يحملهُ الشَّيْطَان بعد الْقِرَاءَة] على عمل محبط ثَوَاب تِلْكَ الطَّاعَة.
قَالُوا: وَلَا يجوز أَن يكون المُرَاد من قَوْله تَعَالَى: ﴿فَإِذا قَرَأت الْقُرْآن فاستعذ بِاللَّه﴾ أَي: إِذا أردْت قِرَاءَة الْقُرْآن؛ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة فَاغْسِلُوا﴾ [الْمَائِدَة: ٦] .
وَالْمعْنَى: إِذا أردتم الْقيام فَتَوضئُوا؛ لِأَنَّهُ لم يقل: فَإِذا صليتم فَاغْسِلُوا؛ فَيكون نَظِير قَوْله: ﴿فَإِذا قَرَأت الْقُرْآن فاستعذ﴾ وَإِن سلمَان كَون هَذِه الْآيَة نَظِير تِلْكَ، فَنَقُول: نعم، إِذا قَامَ يغسل عقيب قِيَامه إِلَى الصَّلَاة؛ لِأَن الْأَمر إِنَّمَا ورد بِالْغسْلِ عقيب قِيَامه، وَأَيْضًا: فالإجماع دلّ على ترك هَذَا الظَّاهِر، وَإِذا ترك الظَّاهِر فِي مَوضِع لدَلِيل، لَا يُوجب تَركه فِي سَائِر الْمَوَاضِع لغير دَلِيل.
1 / 83
أما جُمْهُور الْفُقَهَاء - رَحِمهم الله تَعَالَى - فَقَالُوا: إِن قَوْله تَعَالَى: ﴿فَإِذا قَرَأت الْقُرْآن
1 / 84
فاستعذ﴾ يحْتَمل أَن يكون المُرَاد مِنْهُ: إِذا أردْت، وَإِذا ثَبت الِاحْتِمَال، وَجب حمل اللَّفْظ عَلَيْهِ تَوْفِيقًا بَين الْآيَة وَبَين الْخَبَر الَّذِي روينَاهُ، وَمِمَّا يُقَوي ذَلِك من المناسبات الْعَقْلِيَّة، أَن الْمَقْصُود من الِاسْتِعَاذَة نفي وساوس الشَّيْطَان عِنْد الْقِرَاءَة؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا أرسلنَا من قبلك من رَسُول وَلَا نَبِي إِلَّا إِذا تمنى ألْقى الشَّيْطَان فِي أمْنِيته﴾ [الْحَج: ٥٢] فَأمره الله - تَعَالَى - بِتَقْدِيم الِاسْتِعَاذَة قبل الْقِرَاءَة؛ لهَذَا السَّبَب.
قَالَ ابْن الْخَطِيب - رَحمَه الله تَعَالَى -: " وَأَقُول: هَا هُنَا قَول ثَالِث: وَهُوَ [أَن]
1 / 85
يقْرَأ الِاسْتِعَاذَة قبل الْقِرَاءَة؛ بِمُقْتَضى الْخَبَر، وَبعدهَا؛ بِمُقْتَضى الْقُرْآن؛ جمعا بَين الدَّلَائِل بِقدر الْإِمْكَان ".
قَالَ عَطاء - رَحمَه الله تَعَالَى -: الِاسْتِعَاذَة وَاجِبَة لكل قِرَاءَة، سَوَاء كَانَت فِي الصَّلَاة أَو غَيرهَا.
وَقَالَ ابْن سِيرِين - رَحمَه الله تَعَالَى -: إِذا تعوذ الرجل مرّة وَاحِدَة فِي عمره، فقد كفى فِي إِسْقَاط الْوُجُوب، وَقَالَ الْبَاقُونَ: إِنَّهَا غير وَاجِبَة.
حجَّة الْجُمْهُور: أَن النَّبِي ﷺ وَشرف وكرم وبجل وَعظم - لم يعلم الْأَعرَابِي الِاسْتِعَاذَة فِي جملَة أَعمال الصَّلَاة.
وَلقَائِل أَن يَقُول: إِن ذَلِك الْخَبَر غير مُشْتَمل على بَيَان جملَة وَاجِبَات الصَّلَاة، فَلم يلْزم من عدم الِاسْتِعَاذَة فِيهِ، عدم وُجُوبهَا.
وَاحْتج عَطاء على وجوب الِاسْتِعَاذَة بِوُجُوه:
الأول: أَنه ﵊ واظب عَلَيْهِ؛ فَيكون وَاجِبا - لقَوْله تَعَالَى: ﴿واتبعوه﴾ [الْأَعْرَاف: ١٥٨] .
الثَّانِي: أَن قَوْله تَعَالَى: ﴿فاستعذ﴾ أَمر؛ وَهُوَ للْوُجُوب، ثمَّ إِنَّه يجب القَوْل بِوُجُوبِهِ عِنْد كل [قِرَاءَة]، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: ﴿فَإِذا قَرَأت الْقُرْآن فاستعذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم﴾ [النَّحْل: ٩٨] وَذكر الحكم عقيب الْوَصْف الْمُنَاسب يدل على التَّعْلِيل، وَالْحكم يتَكَرَّر بِتَكَرُّر الْعلَّة.
الثَّالِث: أَنه - تَعَالَى - أَمر بالاستعاذة؛ لدفع شَرّ الشَّيْطَان؛ وَهُوَ اجب، وَمَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ، فَهُوَ وَاجِب.
1 / 86
فصل فِي حكم التَّعَوُّذ قبل الْقِرَاءَة
التَّعَوُّذ فِي الصَّلَاة مُسْتَحبّ قبل الْقِرَاءَة عِنْد الْأَكْثَرين.
وَقَالَ مَالك - رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ - لَا يتَعَوَّذ فِي الْمَكْتُوبَة، ويتعوذ فِي قيام شهر
1 / 87
رَمَضَان لِلْآيَةِ وَالْخَبَر، وَكِلَاهُمَا يُفِيد الْوُجُوب، فَإِن لم يثبت الْوُجُوب، فَلَا أقل من النّدب.
فصل فِي الْجَهْر والإسرار بالتعوذ
رُوِيَ أَن عبد الله بن عمر - رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا - لما قَرَأَ أسر بالتعويذ.
وَعَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ -: أَنه جهر بِهِ؛ ذكره الشَّافِعِي - رَحمَه الله تَعَالَى - فِي " الْأُم " ثمَّ قَالَ: فَإِن جهر بِهِ جَازَ، [وَإِن أسر بِهِ جَازَ] .
فصل فِي مَوضِع الِاسْتِعَاذَة من الصَّلَاة
قَالَ ابْن الْخَطِيب: " أَقُول: إِن الِاسْتِعَاذَة إِنَّمَا تقْرَأ بعد الاستفتاح، وَقبل الْفَاتِحَة، فَإِن ألحقناها بِمَا قبلهَا، لزم الْإِسْرَار، وَإِن ألحقناها بِالْفَاتِحَةِ، لزم الْجَهْر، إِلَّا أَن المشابهة بَينهَا، وَبَين الاستفتاح أتم؛ لكَون كل مِنْهُمَا نَافِلَة ".
1 / 88
فصل فِي بَيَان هَل التَّعَوُّذ فِي كل رَكْعَة؟
قَالَ بعض الْعلمَاء ﵏: إِنَّه يتَعَوَّذ فِي كل رَكْعَة.
وَقَالَ بَعضهم: لَا يتَعَوَّذ إِلَّا فِي الرَّكْعَة الأولى.
حجَّته: أَن الأَصْل هُوَ الْعَدَم، وَمَا لأَجله أمرنَا بالاستعاذة؛ هُوَ قَوْله تَعَالَى: ﴿فَإِذا قَرَأت الْقُرْآن فاستعذ بِاللَّه﴾ [النَّحْل: ٩٨] وَكلمَة " إِذا " لَا تفِيد الْعُمُوم.
وَلقَائِل أَن يَقُول: إِن تَرْتِيب الحكم على الْوَصْف الْمُنَاسب يدل على الْعلَّة؛ فيتكرر الحكم بِتَكَرُّر الْعلَّة.
فصل فِي بَيَان سَبَب الِاسْتِعَاذَة
التَّعَوُّذ فِي الصَّلَاة، لأجل الْقِرَاءَة، أم لأجل الصَّلَاة؟
عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد - رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنه للْقِرَاءَة [وَعند أبي يُوسُف:
1 / 89
أَنه للصَّلَاة] وَيتَفَرَّع على هَذَا الأَصْل فرعان:
الأول: أَن الْمُؤْتَم هَل يتَعَوَّذ خلف الإِمَام؟
عِنْدهمَا: لَا يتَعَوَّذ؛ لِأَنَّهُ لَا يقْرَأ وَعِنْده يتَعَوَّذ؛ وَجه قَوْلهمَا قَوْله تَعَالَى: ﴿فَإِذا قَرَأت الْقُرْآن فاستعذ﴾ [النَّحْل: ٩٨] علق الِاسْتِعَاذَة على الْقِرَاءَة، وَلَا قِرَاءَة على الْمُقْتَدِي.
وَجه قَول أبي يُوسُف ﵀ التَّعَوُّذ لَو كَانَ للْقِرَاءَة؛ لَكَانَ يتَكَرَّر بِتَكَرُّر الْقِرَاءَة، وَلما لم لَكِن كَذَلِك، بل يتَكَرَّر بِتَكَرُّر الصَّلَاة؛ دلّ على أَنَّهَا للصَّلَاة.
الْفَرْع الثَّانِي: إِذا افْتتح صَلَاة الْعِيد فَقَالَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، هَل يَقُول: أعوذ بِاللَّه، ثمَّ يكبر، أم لَا؟
عِنْدهمَا أَنه يكبر التَّكْبِيرَات، ثمَّ يتَعَوَّذ عِنْد الْقِرَاءَة.
وَعند أبي يُوسُف ﵀ يقدم التَّعَوُّذ على التَّكْبِيرَات.
فصل
السّنة أَن يقْرَأ الْقُرْآن مرتلا؛ لقَوْله ﵎: ﴿ورتل الْقُرْآن ترتيلا﴾ [المزمل: ٤] .
والترتيل: هُوَ أَن يذكر الْحُرُوف مبينَة ظَاهِرَة، والفائدة فِيهِ أَنا إِذا وَقعت الْقِرَاءَة على هَذَا الْوَجْه؛ فهم من نَفسه مَعَاني تِلْكَ الْأَلْفَاظ، وَأفهم غَيره تِلْكَ الْمعَانِي، وَإِذا قَرَأَهَا سردا، لم يفهم وَلم يفهم، فَكَانَ الترتيل أولى.
روى أَبُو دَاوُد - رَحمَه الله تَعَالَى - بِإِسْنَادِهِ عَن ابْن عمر - رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُول الله ﷺ: " يُقَال للقارئ: اقْرَأ وارق، ورتل، كَمَا كنت ترتل فِي الدُّنْيَا؛ [فَإِن منزلتك عِنْد آخر آيَة تقرؤها "] .
1 / 90
قَالَ أَبُو سلمَان الْخطابِيّ ﵀: جَاءَ فِي الْأَثر أَن عدد آي الْقُرْآن على عدد درج الْجنَّة؛ يُقَال للقارئ: اقْرَأ وارق فِي الدرج على عدد مَا كنت تقْرَأ من الْقُرْآن، فَمن استوفى، فَقَرَأَ جَمِيع آي الْقُرْآن استولى على أقْصَى الْجنَّة.
فصل فِي اسْتِحْبَاب تَحْسِين الْقِرَاءَة جَهرا
إِذا قَرَأَ الْقُرْآن جَهرا، فَالسنة أَن يحسن فِي الْقِرَاءَة؛ روى أَبُو دَاوُد، عَن الْبَراء بن عَازِب ﵄ قَالَ: قَالَ رَسُول الله ﷺ: " زَينُوا الْقُرْآن بِأَصْوَاتِكُمْ ".
فصل فِي صِحَة الصَّلَاة مَعَ النُّطْق بالضاد والظاء
قَالَ ابْن الْخَطِيب - رَحمَه الله تَعَالَى -: " الْمُخْتَار عندنَا أَن اشْتِبَاه الضَّاد بالظاء عندنَا لَا يبطل الصَّلَاة؛ وَيدل عَلَيْهِ أَن المشابهة حَاصِلَة بَينهمَا جدا، والتمييز عسر، فَوَجَبَ أَن يسْقط التَّكْلِيف بِالْفرقِ.
بَيَان المشابهة أَنَّهُمَا من الْحُرُوف المجهورة، وَأَيْضًا من الْحُرُوف الرخوة، وَأَيْضًا من الْحُرُوف المطبقة، وَأَيْضًا: أَن النُّطْق بِحرف الضَّاد مَخْصُوص بالعرب؛ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاة
1 / 91
وَالسَّلَام -: " أَنا أفْصح من نطق بالضاد " فَثَبت بِمَا ذكر أَن المشابهة بَينهمَا شَدِيدَة، والتمييز عسر.
وَأَيْضًا: لم يَقع السُّؤَال عَنهُ فِي زمن النَّبِي ﵊ وأزمنة الصَّحَابَة، لَا سِيمَا عِنْد دُخُول الْعَجم فِي الْإِسْلَام، فَلَمَّا لم ينْقل وُقُوع السُّؤَال عَن هَذَا أَلْبَتَّة، علمنَا أَن التَّمْيِيز بَين هذَيْن الحرفين، لَيْسَ فِي مَحل التَّكْلِيف.
فصل فِي عدم جَوَاز الصَّلَاة بالوجوه الشاذة
اتّفق على أَنه لَا تجوز الْقِرَاءَة [فِي الصَّلَاة] بالوجوه الشاذة: لِأَن الدَّلِيل يَنْفِي جَوَاز الْقِرَاءَة مُطلقًا، لِأَنَّهَا لَو كَانَت من الْقُرْآن، لوَجَبَ بُلُوغهَا إِلَى حد التَّوَاتُر، وَلما لم يكن كَذَلِك، علمنَا أَنَّهَا لَيست من الْقُرْآن، عدلنا عَن هَذَا الدَّلِيل فِي جَوَاز الْقِرَاءَة بهَا خَارج الصَّلَاة، فَوَجَبَ أَن تبقى قرَاءَتهَا فِي الصَّلَاة على أصل الْمَنْع.
فصل فِي قَوْلهم: " الْقرَاءَات الْمَشْهُورَة منقولة بالتواتر "
اتّفق الْأَكْثَرُونَ على أَن الْقرَاءَات الْمَشْهُورَة منقولة بالتواتر، وَفِيه إِشْكَال؛ وَذَلِكَ لأَنا
1 / 92
نقُول: هَذِه الْقِرَاءَة إِمَّا أَن تكون منقولة بالتواتر، أَو لَا.
1 / 93
فَإِن كَانَ الأول، فَحِينَئِذٍ قد ثَبت بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتر أَن الله - تَعَالَى - قد خيّر الْمُكَلّفين بَين هَذِه الْقِرَاءَة، وَسوى بَينهمَا فِي الْجَوَاز.
وَإِذا كَانَ كَذَلِك، كَانَ تَرْجِيح بَعْضهَا على الْبَعْض وَاقعا على خلاف الحكم المتواترة؛ فَوَاجِب أَن يكون الذاهبون إِلَى تَرْجِيح الْبَعْض، مستوجبين للتفسيق إِن لم يلْزمهُم التَّكْفِير، لَكنا نرى أَن كل وَاحِد يخْتَص بِنَوْع معِين من الْقِرَاءَة، وَيحمل النَّاس عَلَيْهَا، ويمنعهم من غَيرهَا، فَوَجَبَ أَن يلْزم فِي حَقهم مَا ذَكرْنَاهُ.
وَإِن قُلْنَا: هَذِه الْقرَاءَات مَا ثبتَتْ بالتواتر؛ بل بطرِيق الْآحَاد، فَحِينَئِذٍ يخرج الْقُرْآن عَن كَونه مُفِيدا للجزم، وَالْقطع الْيَقِين؛ وَذَلِكَ بَاطِل بِالْإِجْمَاع؛ وَلقَائِل أَن يُجيب عَنهُ؛ فَيَقُول: بَعْضهَا متواتر، وَلَا خلاف بَين الْأمة فِيهِ، وتجويز الْقِرَاءَة بِكُل وَاحِد مِنْهَا؛ وَبَعضهَا من بَاب الْآحَاد، لَا يَقْتَضِي كَون الْقِرَاءَة بكليته خَارِجا عَن كَونه قَطْعِيا، وَالله أعلم؛ ذكره ابْن الْخَطِيب.
فصل فِي اشتقاق الِاسْتِعَاذَة وإعرابها
العوذ لَهُ مَعْنيانِ: أَحدهمَا: الالتجاء والاستجارة.
وَالثَّانِي: الالتصاق؛ وَيُقَال: " أطيب [اللَّحْم] عوذه " هُوَ: مَا الْتَصق بالعظم.
فعلى الأول: أعوذ بِاللَّه، أَي: ألتجئ إِلَى ﵀، وَمِنْه العوذة: وَهِي مَا يعاذ بِهِ من الشَّرّ.
وَقيل للرقية، والتميمة - وَهِي مَا يعلق على الصَّبِي: عوذة، وعوذة [بِفَتْح الْعين وَضمّهَا]، وكل أُنْثَى وضعت فَهِيَ عَائِذ إِلَى سَبْعَة أَيَّام.
وَيُقَال: عاذ يعوذا عوذا، وعياذا، وَمعَاذًا، فَهُوَ عَائِذ ومعوذ وَمِنْه قَول الشَّاعِر: [الْبَسِيط]
(١ - ألحق عذابك بالقوم الَّذين طغوا ... وعائذا بك أَن يعلوا فيطغوني)
1 / 94
قيل: عَائِذ - هُنَا - أَصله اسْم فَاعل؛ وَلكنه وَقع موقع الْمصدر؛ كَأَنَّهُ قَالَ: " وعياذا بك " وَسَيَأْتِي تَحْقِيق هَذَا القَوْل إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
و" أعوذ " فعل مضارع، وَأَصله: " أعوذ " بِضَم الْوَاو؛ مثل: " أقتل، وَأخرج أَنا " وَإِنَّمَا نقلوا حَرَكَة الْوَاو إِلَى السَّاكِن قبلهَا؛ لِأَن الضمة ثَقيلَة، وَهَكَذَا كل مضارع من " فعل " عينه وَاو؛ نَحْو: " أقوم، وَيقوم، وأجول، ويجول " وفاعله ضمير الْمُتَكَلّم.
وَهَذَا الْفَاعِل لَا يجوز بروزه؛ بل هُوَ من الْمَوَاضِع السَّبْعَة الَّتِي يجب فِيهَا استتار الضَّمِير على خلاف فِي السَّابِع وَلَا بُد من ذكرهَا؛ لعُمُوم فائدتها، وَكَثْرَة دورها:
الأول: الْمُضَارع الْمسند للمتكلم وَحده؛ نَحْو: " أفعل ".
الثَّانِي: الْمُضَارع الْمسند للمتكلم مَعَ غَيره، أَو الْمُعظم نَفسه؛ نَحْو: " نَفْعل نَحن ".
الثَّالِث: الْمُضَارع الْمسند للمخاطب؛ نَحْو: " تفعل أَنْت "، ويوحد الْمُخَاطب بِقَيْد الْإِفْرَاد، والتذكير؛ لِأَنَّهُ مَتى كَانَ مثنى، أَو مجموعا، أَو مؤنثا - وَجب بروزه؛ نَحْو: " تقومان - يقومُونَ - تقومين ".
الرَّابِع: فعل الْأَمر الْمسند للمخاطب؛ نَحْو: " افْعَل أَنْت " ويوحد الْمُخَاطب أَيْضا - بِقَيْد الْإِفْرَاد، والتذكير؛ لِأَنَّهُ مَتى كَانَ مثنى، أَو مجموعا، أَو مؤنثا - وَجب بروزه؛ نَحْو: " افعلا - افعلوا - افعلي ".
الْخَامِس: اسْم فعل الْأَمر مُطلقًا، سَوَاء كَانَ الْمَأْمُور مُفردا، أَو مثنى، أَو مجموعا، أَو مؤنثا؛ نَحْو: " صه يَا زيد - يَا زَيْدَانَ - يَا زيدون - يَا هِنْد - يَا هندان - يَا هندات ".
بِخِلَاف فعل الْأَمر؛ فَإِنَّهُ يبرز فِيهِ ضمير غير الْمُفْرد الْمُذكر، كَمَا تقدم.
السَّادِس: اسْم الْفِعْل الْمُضَارع؛ نَحْو: " أوه " أَي: أتوجع، و" أُفٍّ " أَي: أتضجر، و" وي " أَي: أعجب.
وَهَذِه السِّتَّة لَا يبرز فِيهَا الضَّمِير؛ بِلَا خلاف.
وتحرزت بقول: " اسْم فعل الْأَمر، وَاسم الْفِعْل الْمُضَارع " عَن اسْم الْفِعْل الْمَاضِي؛ فَإِنَّهُ لَا يجب فِيهِ الاستتار كَمَا سَيَأْتِي.
السَّابِع: الْمصدر الْوَاقِع موقع الْفِعْل بَدَلا من لَفظه؛ نَحْو: " ضربا زيدا "؛ وَقَول الشَّاعِر: [الطَّوِيل]
(٢ - يَمرونَ بالدهنا خفافا عيابهم ... ويرجعن من دارين بجر الحقائب)
(٣ - على حِين ألهى النَّاس جلّ أُمُورهم ... فندلا زُرَيْق المَال ندل الثعالب)
1 / 95
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَضرب الرّقاب﴾ [مُحَمَّد: ٤] .
هَذَا إِذا جعلنَا فِي " ضربا " ضميرا مستترا؛ وَأما من يَقُول من النَّحْوِيين: إِنَّه لَا يتَحَمَّل ضميرا أَلْبَتَّة؛ فَلَا يكون من الْمَسْأَلَة فِي شَيْء.
وَالضَّابِط فِيمَا يجب استتاره، وَإِن عرف من تعداد الصُّور الْمُتَقَدّمَة - " أَن كل ضمير لَا يحل مَحَله ظَاهر، وَلَا ضمير مُتَّصِل، فَهُوَ وَاجِب الاستتار كالمواضع الْمُتَقَدّمَة، وَمَا جَازَ أَن يحل مَحَله ظَاهر، فَهُوَ جَائِز الاستتار؛ نَحْو: " زيد قَامَ " فِي " قَامَ " ضمير جَائِز الاستتار، وَيحل مَحَله الظَّاهِر؛ نَحْو: " زيد قَامَ أَبوهُ " أَو الضَّمِير الْمُنْفَصِل، نَحْو: " زيد مَا قَامَ إِلَّا هُوَ " فَإِن وجد من لسانهم فِي أحد الْمَوَاضِع الْمُتَقَدّمَة، الْوَاجِب فِيهَا الاستتار ضمير مُنْفَصِل، فليعتقد كَونه توكيدا للضمير الْمُسْتَتر؛ كَقَوْلِه تَعَالَى: ﴿اسكن أَنْت وزوجك الْجنَّة﴾ [الْبَقَرَة: ٣٥] ف " أَنْت " مُؤَكد لفاعل " اسكن ".
و" بِاللَّه " جَار ومجرور، وَكَذَلِكَ: " من الشَّيْطَان " وهما متعلقان ب " أعوذ ".
وَمعنى الْبَاء: الِاسْتِعَانَة، و" من ": للتَّعْلِيل، أَي: أعوذ مستعينا بِاللَّه من أجل الشَّيْطَان، وَيجوز أَن تكون " من " لابتداء الْغَايَة، وَلها معَان أخر ستأتي إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَأما الْكَلَام على الْجَلالَة، فَيَأْتِي فِي الْبَسْمَلَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
والشيطان: المتمرد من الْجِنّ، وَقيل: الشَّيَاطِين أقوى من الْجِنّ، والمردة أقوى من الشَّيَاطِين، والعفريت أقوى من المردة، والعفاريت أقواها.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة ﵀: الشَّيْطَان: اسْم لكل عَارِم من الْجِنّ، وَالْإِنْس، والحيوانات؛ [لبعده] من الرشاد قَالَ ﵎: ﴿وَكَذَلِكَ جعلنَا لكل نَبِي عدوا شياطين الْإِنْس وَالْجِنّ﴾ [الْأَنْعَام: ١١٢]، فَجعل من الْإِنْس شياطين.
1 / 96
وَركب عمر - رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ - برذونا، فَطَفِقَ يتبختر؛ فَجعل يضْربهُ، فَلَا يزْدَاد إِلَّا تخبترا؛ فَنزل عَنهُ، وَقَالَ: " مَا حملتموني إِلَّا على شَيْطَان ".
وَقد يُطلق على كل قُوَّة ذميمة فِي الْإِنْسَان؛ قَالَ ﵊: " الْحَسَد شَيْطَان، وَالْغَضَب شَيْطَان "؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا ينشآن عَنهُ.
وَاخْتلف أهل اللُّغَة فِي اشتقاقه:
فَقَالَ جمهورهم: هُوَ مُشْتَقّ من: " شطن - يشطن " أَي: بعد؛ لِأَنَّهُ بعيد من رَحْمَة الله تَعَالَى؛ وَأنْشد: [الوافر]
(٤ - نأت بسعاد عَنْك نوى شطون ... فَبَانَت والفؤاد بهَا رهين)
1 / 97