دراسات أصولية في القرآن الكريم
دراسات أصولية في القرآن الكريم
Yayıncı
مكتبة ومطبعة الإشعاع الفنية
Yayın Yeri
القاهرة
Türler
تمهيد
بسم الله الرّحمن الرّحيم وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة الأنعام الآية ١٥٣]
1 / 3
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا ومولانا محمد النبى المصطفى الكريم، وعلى آله وصحبه وأشياعه وحزبه نجوم المهتدين، ورجوم المعتدين.
وبعد:
فقد شرح الله ﷿ صدرى من فترة طويلة أن أعيش مع القرآن الكريم، أنهل من معينه، وأروى ظمئى من بحر جوده، حيث إنه لا يختلف اثنان فى أن القرآن الكريم هو كتاب هداية وإرشاد، وأن خير ما صرفت من أجله الجهود ووصل بسببه الليل والنهار هو القرآن الكريم وكيف لا؟ ويقول منزله جل شأنه:
كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٢) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣) وقد أخرج أبو نعيم وغيره عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم قال:
قيل لموسى ﵇: يا موسى: إنما مثل كتاب أحمد فى الكتب بمنزلة وعاء فيه لبن كلما مخضته أخرجت زبدته.
_________
(١) سورة هود الآية ١
(٢) سورة إبراهيم الآية ١
(٣) سورة القمر الآية ١٧.
1 / 5
كالبدر من حيث التفتّ رأيته ... يهدى إلى عينيك نورا ثاقبا
كالشمس فى كبد السماء وضوءها ... يغشى البلاد مشارقا ومغاربا
فسبحان من أنزله هاديا ونورا ساطعا، لا يستطيع إنسان مهما بلغ شأنه، وعلا كعبه أن يحيط بوصفه.
أندى على الأكباد من قطر النّدى ... وألذّ فى الأجفان من سنة الكرى
ويكفى أن الله ﷿ سماه نورا وروحا، فهو ينير الطريق لمن أراد النجاة، ولا يستطيع مخلوق أن يعيش بدونه، لأنه يؤدى إلى حياة الأبد، فالمرء فى حاجة إلى القرآن أكثر من احتياج العين إلى نورها، والجسد إلى روحه.
هذا وكم فيه من مزايا ... وفى زواياه من خبايا
ويطمع الحبر فى التقاضى ... فيكشف الخبر عن قضايا
ويقول الإمام الشافعى ﵀: جميع ما تقوله الأمة شرح للسنة، وجميع السنة شرح للقرآن، وجميع القرآن شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العليا.
زاد غيره: وجميع الأسماء الحسنى شرح لاسمه الأعظم.
لما كان الأمر كذلك كانت الدراسة حول القرآن الكريم أفضل من دراسة أىّ علم غيره، خاصة وهو المصدر الأول للتشريع، وما عداه مأخوذ منه، ومتفرع عنه، فمكثت زهاء سنة كاملة أنقب فى كتب التراث وغيرها من الكتب المخصصة فى الدراسات القرآنية، حتى جاءت الدراسة فى هذا البحث المتواضع، مشتمله على مقدمة وستة أبواب.
1 / 6
المقدمة: فى تعريف القرآن الكريم.
الباب الأول: فى ثبوت القرآن وما يتصل به وفيه فصول الفصل الأول: فى ثبوت القرآن وتواتره الفصل الثانى: فى ترتيب الآيات والسور الفصل الثالث: فى اشتمال القرآن على ألفاظ غير عربية الفصل الرابع: فى ترجمة القرآن الفصل الخامس: فى حجيته الفصل السادس: فى الغاية من البحث فى القرآن الفصل السابع: فى خواص القرآن.
الباب الثانى: فى الأحكام التى تضمنها القرآن وما يتعلق بها وفيه فصول الفصل الأول: فى الأحكام الواردة فى القرآن الكريم الفصل الثانى: فى تعليل القرآن الأحكام الفصل الثالث: فى أسلوب القرآن فى بيان الأحكام الفصل الرابع: فى طرق استخراج الأحكام من القرآن.
الباب الثالث: فى مباحث الألفاظ.
وفيه فصول الفصل الأول: فى أقسام اللفظ باعتبار المعنى الذى وضع له وفيه مباحث
1 / 7
المبحث الأول: فى العام المبحث الثانى: فى الجمع المنكر المبحث الثالث: فى الخاص المبحث الرابع: فى الأمر والنهى المبحث الخامس: فى المطلق والمقيد المبحث السادس: فى المشترك الفصل الثانى: فى اللفظ باعتبار المعنى الذى استعمل فيه وفيه مبحثان المبحث الأول: فى الحقيقة والمجاز المبحث الثانى: فى الصريح والكناية الفصل الثالث: فى اللفظ باعتبار ظهور معناه وخفائه وفيه مبحثان المبحث الأول: واضح الدلالة وفيه مطالب المطلب الأول: فى المحكم المطلب الثانى: فى المفسر المطلب الثالث: فى
النص المطلب الرابع: فى الظاهر المبحث الثانى: غير واضح الدلالة وفيه مطالب المطلب الأول: فى الخفى المطلب الثانى: فى المشكل المطلب الثالث: فى المجمل المطلب الرابع: فى المتشابه
1 / 8
الفصل الرابع: فى كيفية دلالة اللفظ على المعنى وفيه مبحثان المبحث الأول: فى طرق الدلالة عند الحنفية المبحث الثانى: فى طرق الدلالة عند الشافعية الباب الرابع: فى النسخ وفيه فصول الفصل الأول: فى مدلول النسخ وموقف العلماء منه وفيه مباحث المبحث الأول: فى تعريف النسخ المبحث الثانى: فى شروطه المبحث الثالث: فى موقف العلماء منه الفصل الثانى: فى أنواع النسخ وفيه مباحث المبحث الأول: فى نسخ القرآن بالقرآن وفيه مطالب المطلب الأول: فى نسخ التلاوة والحكم معا المطلب الثانى: فى نسخ التلاوة فقط دون الحكم المطلب الثالث: فى نسخ الحكم فقط دون التلاوة المبحث الثانى: فى نسخ القرآن بالسنة المبحث الثالث: فى نسخ السنة بالقرآن المبحث الرابع: فى نسخ السنة بالسنة.
الفصل الثالث: فى طرق معرفة النسخ.
الباب الخامس: فى الصلة بين القرآن والسنة وفيه فصلان
1 / 9
الفصل الأول: فى المقدار الذى بينه النبى ﷺ من القرآن الفصل الثانى: فى أنواع بيان القرآن بالسنة الباب السادس: فى القرآن المكى والمدنى وفيه فصول الفصل الأول: فى تعريف القرآن المكى والمدنى وفائدة العلم بذلك.
الفصل الثانى: فى الطرق الموصلة إلى معرفة المكى والمدنى الفصل الثالث: فى خصائص كل من المكى والمدنى الفصل الرابع: فى السور المكية والمدنية الفصل الخامس: فى تنزيلات القرآن الفصل السادس: فى تنجيم القرآن والحكمة منه الفصل السابع: فى أول ما نزل وآخر ما نزل.
هذا وقد نهجت فى كتابة هذه الدراسة نهجا يقوم على النحو التالى:
١ - الاتسام بالموضوعية المطلقة من أجل الوصول إلى الحق.
٢ - الرجوع فى كل نص إلى مصادره- وذلك من باب الأمانة العلمية- مع التنبيه على ذلك فى ذيل كل صحيفة من صحائف هذا الكتاب.
هذا كل ما أستطيع أن أذكره وأنا أقدّم لهذا العمل، وأسأل الله ﷿ أن يشيبنى عليه ويجعله فى كفة حسناتى وكل من له علىّ فضل يوم القيامة.
1 / 10
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتور محمد إبراهيم الحفناوى استاد ورئيس قسم أصول الفقه بكلية الشريعة والقانون بطنطا
_________
(١) سورة النحل الآية ١١١.
1 / 11
مقدمة فى تعريف القرآن الكريم
تعريف القرآن:
القرآن فى اللغة مصدر مرادف للقراءة ومنه قوله تعالى:
إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١). ثم نقل من هذا المعنى المصدرى وجعل اسما للكلام المعجز الذى أنزله الله تعالى على نبيه محمد ﷺ، وذلك من باب إطلاق المصدر على مفعوله.
قال الرازى: (٢) قرأ الكتاب قراءة وقرآنا- بالضم- وقرأ الشيء قرآنا- بالضم أيضا- جمعه وضمه ومنه سمى القرآن لأنه يجمع السور ويضمها.
وقال ابن منظور: (٣) وسمى قرآنا لأنه يجمع السور فيضمها.
على العموم هناك خمسة أقوال فى لفظ القرآن هى:
القول الأول:
لفظ القرآن المعرّف بأل ليس مهموزا ولا مشتقّا بل وضع علما على الكلام المنزل على النبى ﷺ، وهذا القول مروىّ عن الإمام الشافعى رضى الله عنه.
_________
(١) سورة القيامة آيتا ١٧، ١٨
(٢) مختار الصحاح ٥٢٦
(٣) لسان العرب ٤/ ٣٥٦٣
1 / 13
وقد جاء فى تاريخ بغداد (١) فى ترجمة الإمام الشافعى رضى الله عنه ما يلى:
«.... وقرأت القرآن على إسماعيل بن قسطنطين، وكان يقول: القرآن اسم وليس مهموزا، ولم يؤخذ من «قرأت» ولو أخذ من «قرأت» لكان كل ما قرئ قرآنا- ولكنه اسم للقرآن مثل التوراة والإنجيل يهمز قرأت ولا يهمز القران».
القول الثانى:
لفظ القرآن مشتق من قرنت الشيء بالشىء إذا ضممته إليه، ثم جعل علما على اللفظ المنزل على رسول الله ﷺ، وسمى بذلك لقران السورة والآيات والحروف فيه بعضها ببعض، وهذا.
القول منقول عن الإمام الأشعرى رحمه الله تعالى.
قال الشيخ بدر الدين الزركشى ﵀ (٢):
«... وذهب آخرون إلى أنه مشتق من قرنت الشيء بالشىء إذا ضممته إليه فسمى بذلك لقران السور والآيات والحروف فيه، ومنه قيل للجميع بين الحج والعمرة قران ...»
القول الثالث:
لفظ القرآن مشتق من القرائن، لأن الآيات فيه يصدق بعضها بعضا، وجعل علما على اللفظ المنزل على النبى ﷺ.
وهذا هو رأى الفراء.
قال بعض المفسرين (٣): القران بغير همز مأخوذ من القرائن، لأن
_________
(١). ٢/ ٦٢ ط: القاهرة سنة ١٣٤٩ هـ
(٢) البرهان فى علوم القرآن ١/ ٢٧٨.
(٣) تفسير القرطبى ١/ ٦٧٤، والبرهان للزركشى ١/ ٢٧٨.
1 / 14
الآيات منه يصدق بعضها بعضا، ويشابه بعضها بعضا، فهى حينئذ قرائن.
وعلى هذا فلفظ القرآن على هذين القولين غير مهموز كالذى قبلهما، ونونه أصلية.
القول الرابع:
لفظ القرآن وصف على وزن فعلان مهموز مشتق من القرء بمعنى الجمع، ومنه قرأت الماء فى الحوض إذا جمعته، وسمى الكلام المنزل على النبى ﷺ قرآنا، لأنه جمع السور أو جمع ثمرات الكتب السابقة.
وهذا القول للزجاج (١) وقد قال تعليقا على القول السابق:
«وهذا القول سهو، والصحيح أن ترك الهمز فيه من باب التخفيف، ونقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها».
القول الخامس:
وهو للحيانى وجماعة حيث ذهبوا إلى القول بأنه مصدر مهموز بوزن الغفران، سمى به المقروء من تسمية المفعول بالمصدر.
القرآن فى الاصطلاح:
يلاحظ أن هناك اختلافا فى تعريف القرآن بين المتكلمين وعلماء الأصول والفقه والعربية، وذلك بعد اتفاق الجميع على أن القرآن كلام الله تعالى، وأن البشر عاجزون عجزا كليّا عن الإتيان بمثله قال تعالى:
_________
(١) البرهان ١/ ٢٧٨ والزجاج هو: إبراهيم بن السرى أبو إسحاق صاحب كتاب معانى القرآن. توفى رحمة الله سنة ٣١١ هـ- إنباه الرواة وحواشيه ١/ ١٦٣ ..
1 / 15
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (١) وسبب هذا الاختلاف أن القرآن، وهو كلام الله تعالى، قد يطلق ويراد به الكلام النفسى، وقد يطلق ويراد به الكلام اللفظى، ولما كان المتكلمون يتحدثون عن صفات الله تعالى النفسية من ناحية، ويقررون حقيقة أن القرآن كلام الله غير مخلوق من ناحية أخرى، وجدناهم يطلقونه إطلاق الكلام النفسى.
أما علماء الأصول والفقه والعربية، فيطلقونه إطلاق الكلام اللفظى، وإنما عنى الأصوليون والفقهاء بإطلاق القرآن على الكلام اللفظى، لأنّ غرضهم الاستدلال على الأحكام، وهو لا يكون إلا بالألفاظ.
وكذلك بالنسبة لعلماء العربية، لما كان يعنيهم أمره الإعجاز كانت وجهتهم الألفاظ، والمتكلمون حين يطلقون القرآن على الكلام النفسى يلاحظون أمرين هما:
الأمر الأول:
أن القرآن علم أى كلام ممتاز عن كل ما عداه من الكلام الإلهى.
الأمر الثانى:
أنه كلام الله، وكلام الله قديم، فيجب تنزهه عن الحوادث.
ولما كان كلام البشر النفسى يطلق بإطلاقين:
أحدهما: على المعنى المصدرى.
وثانيهما: على المعنى الحاصل بالمصدر (٢).
_________
(١) سورة الإسراء الآية ٨٨.
(٢) الكلام النفسى بالمعنى المصدرى هو تحضير الإنسان فى نفسه بقوته المتكلمة الباطنة
1 / 16
فكذلك- ولله المثل الأعلى- كلام الله النفسى يطلق بإطلاقين (١):
أحدهما: على نظير المعنى المصدرى للبشر.
_________
للكلمات التى لم تبرز إلى الجوارح، فيتكلم بكلمات متخيلة يرتبها فى الذهن، بحيث إذا تلفظ بها بصوت حسىّ كانت طبق كلماته اللفظية.
والكلام النفسى بالمعنى الحاصل بالمصدر، هو تلك الكلمات النفسية، والألفاظ الذهنية المترتبة ترتيبا ذهنيا منطبقا عليه الترتيب الخارجى.
والكلام البشرى اللفظى بالمعنى المصدرى عبارة عن تحريك الإنسان لسانه وما يساعده فى إخراج الحروف من المخارج.
أما الكلام اللفظى بالمعنى الحاصل بالمصدر فهو تلك الكلمات المنطوقة التى هى كيفية فى الصوت الحسى (مناهل العرفان ١/ ٨).
(١) قال الشيخ أبو عبد الله السنوسى ﵀ شرح أم البراهين ٣١:
...... وما يوجد فى كتب علماء الكلام من التمثيل بالكلام النفسى فى الشاهد عند ردهم على المعتزلة القائلين بانحصار الكلام فى الحروف والأصوات، لا يفهم منه تشبيه كلامه جلّ وعزّ بكلامنا النفسى فى الكنه- تعالى وجلّ عن أن يكون له شريك فى ذاته أو صفاته أو أفعاله- وكيف يتوهم أن كلامه تعالى مماثل لكلامنا النفسى، وكلامنا النفسى أعراض حادثة يوجد فيها التقديم والتأخير وطروّ البعض بعد عدم البعض الذى تقدمه، ويترتب وينعدم بحسب وجود جميع ذلك فى الكلام اللفظى.
فمن توهم هذا فى كلامه تعالى فليس بينه وبين الحشوية ونحوهم من المبتدعة القائلين بأن كلامه تعالى حروف وأصوات فرق.
وإنما مقصد العلماء بذكر الكلام النفسى فى الشاهد النقض على المعتزلة فى حصرهم الكلام فى الحروف والأصوات.
قيل لهم: ينتقض حصركم ذلك بكلامنا النفسى، فإنه كلام حقيقة وليس بحرف ولا صوت، وإذا صح ذلك فكلام مولانا أيضا كلام ليس بحرف ولا صوت، فلم يقع الاشتراك بينهما إلا فى هذه الصفة السلبية، وهى أن كلام مولانا جلّ وعزّ ليس بحرف ولا صوت، كما أن كلامنا النفسى ليس بحرف ولا صوت، أما الحقيقة فمباينة للحقيقة كل المباينة، فاعرف هذا فقد زلّت هنا أقدام لم تؤيد بنور من الملك العلام.
1 / 17
وثانيهما: على نظير المعنى الحاصل بالمصدر للبشر.
لما كان الأمر كذلك عرف المتكلمون القرآن بالمعنى الأول فقالوا:
«هو الصفة القديمة المتعلقة بالكلمات الحكمية من أول الفاتحة إلى آخر سورة الناس».
وهذه الكلمات أزلية مجردة عن الحروف اللفظية والذهنية والروحية، وهى مترتبة غير متعاقبة كالصورة تنطبع فى المرآة مترتبة غير متعاقبة.
وإنما نص المتكلمون فى التعريف على أنها حكمية، لأنها ليست ألفاظا حقيقية مصورة بصورة الحروف والأصوات.
وقالوا: إنها أزلية ليثبتوا لها معنى القديم.
وقالوا: إنها مجردة عن الحروف اللفظية والذهنية والروحية، لينفوا.
عنها أنها مخلوقة، وأثبتوا لها الترتيب حيث إن القرآن حقيقة مترتبة بل ممتاز بكمال ترتبها وانسجامها، وكذلك قالوا: إنها غير متعاقبة لأن التعاقب يستلزم الزمان، والزمان حادث.
كما عرفوا القرآن بالمعنى الثانى فقالوا: إنه الكلمات الحكمية الأزلية المترتبة فى غير تعاقب، المجردة عن الحروف اللفظية والذهنية والروحية (١).
وجدير بالذكر التنبيه على أن المتكلمين إطلاقا ثالثا للقرآن يشاركون به الأصوليين ونحوهم، فهم يعنون كذلك بتقرير وجوب الإيمان بكتب الله المنزلة، ومنها القرآن، وبإثبات نبوة رسول الله ﷺ بمعجزة القرآن، وبديهى أن ذلك كله مناطه الألفاظ.
_________
(١) الإبانة عن أصول الديانة ٢١، والاقتصاد فى الاعتقاد ٥٩، وشرح أم البراهين ٢٣، ومناهل العرفان ١/ ١٠، ١١، والجنّة فى عقيدة أهل الجنّة ٢٩.
1 / 18
القرآن عن الأصوليين والفقهاء وعلماء العربية:
عرف العلماء القرآن بأنه: الكلام المنزل على الرسول ﷺ للإعجاز بسورة منه، المكتوب فى المصاحف، المنقول إلينا نقلا متواترا (١) ....
وقبل ان أتناول التعريف بالشرح والتحليل يقتضى المقام منى أن أسجل هنا أن كلّا من الكتاب (٢) والقرآن يطلق عند الأصوليين على المجموع، وعلى كل جزء منه، لأنهم إنما يبحثون عنه من حيث إنه دليل على الحكم وذلك آية آية لا مجموع القرآن، فاحتاجوا إلى تحصيل صفات مشتركة بين الكل والجزء مختصة بهما ككونه معجزا، منزّلا على الرسول ﷺ مكتوبا فى المصاحف، منقولا بالتواتر كالتعريف المتقدم.
فاعتبر بعض العلماء فى تعريفه جميع الصفات من باب زيادة الإيضاح والبيان، وبعضهم اعتبر الإنزال والإعجاز فقط، لأن الكتابة والنقل، ليسا من اللوازم لتحقق القرآن بدونهما فى زمنه ﷺ.
يقول الشيخ تقى الدين السبكى ﵀ فى تعريف القرآن (٣):
هو الكلام المنزل للإعجاز بسورة منه.
_________
(١) جمع الجوامع ١/ ٢٢٣، والنباء العظيم ١٤، ومناهل العرفان ١/ ١٢، وأصول الفقه للدكتور سلام مدكور ٩٥، والمدخل للفقه الإسلامى ٣٨١، وعلم أصول الفقه لأحمد إبراهيم بك ١٥.
(٢) سمى القرآن قرآنا لكونه مقروءا أى متلوا بالألسن، وسمى كتابا لكونه مكتوبا أى مدونا بالأقلام.
فكلتا التسميتين من تسمية الشيء بالمعنى الواقع عليه، وفى تسميته بهذين الاسمين إشارة إلى أن من حقه العناية به فى موضعين لا فى موضع واحد أى أنه يجب حفظه فى الصدور وفى السطور (النبأ العظيم ١٢، ١٣، ومصادر الشرعية الإسلامية ٦).
(٣) الإبهاج ١/ ١١٩.
1 / 19
ويقول الشيخ ابن الحاجب ﵀ فى تعريفه (١):
هو الكلام المنزل للإعجاز بسورة منه.
ويقول الشيخ ابن عبد الشكور ﵀ فى تعريفه أيضا (٢):
هو الكلام المنزل للإعجاز بسورة منه.
كما اعتبر بعضهم الكتابة والإنزال والنقل، لأن المقصود تعريف القرآن لمن لم يشاهد الوحى، ولم يدرك زمن النبوة وهم إنما يعرفونه بالنقل والكتابة فى المصاحف، ولا ينفك عنهما فى زمانهم. فهما بالنسبة إليهم من أبين اللوازم البينة وأوضحها دلالة على المقصود، بخلاف الإعجاز فإنه ليس من اللوازم البينة ولا الشاملة لكل جزء، إذ المعجز هو السورة أو مقدارها (٣) أخذا من قوله تعالى:
فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ (٤).
يقول السرخسى ﵀ فى تعريفه (٥):
هو المنزل على رسول الله ﷺ، المكتوب فى دفات المصاحف، المنقول إلينا على الأحرف السبعة المشهورة نقلا متواترا.
ويقول الشوكانى ﵀ فى تعريفه أيضا (٦):
هو الكلام المنزل على الرسول ﷺ، المكتوب فى المصاحف، المنقول إلينا نقلا متواترا.
_________
(١) شرح العضد على مختصر ابن الحاجب ٢/ ١٨.
(٢) فواتح الرحموت ٢/ ٧.
(٣) التلويح على التوضيح ١/ ٢٦.
(٤) سورة البقرة الآية ٢٣.
(٥) أصول السرخسى ١/ ٢٧٩.
(٦) إرشاد الفحول ٢٩.
1 / 20
شرح التعريف:
قولهم: (الكلام) هو القول، وقيل: الكلام ما كان مكتفيا بنفسه وهو الجملة، والقول ما لم يكن مكتفيا بنفسه وهو الجزء من الجملة.
قال سيبويه (١): ومن أدل الدليل على الفرق بين الكلام والقول إجماع الناس على أن يقولوا: القرآن كلام الله، وألا يقولوا القرآن قول الله.
وهو جنس (٢) فى التعريف، يشمل الكلام النفسى واللفظى، كما يشمل كلام الله تعالى وكلام البشر.
وقولهم (المنزل) قيد (٣) أول فى التعريف يخرج به الكلام النفسى وكلام البشر حيث إن كلّا منهما لا يوصف بأنه منزل.
والمنزل على الرسول ﷺ صفة كاشفة للقرآن أى المنزل على رسولنا، فاللام هنا بدل عن الإضافة، أو هى للعهد لكونه ﵊ معروفا بينهم كما يقال: جاء الأمير وإن لم يكن
_________
(١) لسان العرب ٥/ ٣٩٢٢.
(٢) الجنس: هو ما صدق فى جواب ما هو على كثيرين مختلفين بالحقيقة، وينقسم إلى ثلاثة أقسام هى:
أ- جنس قريب: وهو ما لا جنس تحته وفوقه أجناس كالحيوان، فإنه لا جنس تحته بل تحته أنواع هى الإنسان والفرس والجمل والغزال، وفوقه أجناس هى النامى والجسم والجوهر.
والجسم والجوهر.
ب- جنس متوسط: وهو ما كان فوقه جنس وتحته جنس، مثل النامى فإن، فوقه جسما وتحته حيوانا.
ج- جنس بعيد: وهو ما لا جنس فوقه وتحته أجناس كالجوهر (المنطق الوافى ١/ ٣٣ - ٣٥).
(٣) القيد: ما جىء به لجمع أو لمنع أو لبيان الواقع (حاشية القليوبى على شرح الجلال المحلى ١/ ١١).
1 / 21
معهودا فى الخارج (١)، وبه خرج سائر الكتب السماوية فإنها لم تنزل على رسولنا ﷺ.
وقولهم (للإعجاز بسورة منه)، إعجاز القرآن معناه: ارتقاؤه إلى حد خارج عن طوق البشر حيث أعجزهم عن معارضته (٢)، وحد السورة قرآن يشتمل على آى ذوات فاتحة وخاتمة، وأقلها ثلاث آيات (٣)، وعلى هذا فمعنى كون القرآن معجزا بسورة منه أن أى سورة من سوره التى تبلغ مائة وأربع عشرة سورة حتى ولو كانت قصيرة كالكوثر يحصل بها الإعجاز، فلا يستطيع الإنس والجن أن يأتوا بمثلها، وتمكن الفائدة وراء تقييد الإعجاز بسورة منه حتى لا يتوهم متوهم بأن الإعجاز، إنما يكون بكل القرآن فقط لا بسورة من سوره.
قال عضد الملة رحمه الله تعالى (٤):
«.... وقوله: بسورة منه إن أجرى على ظاهره فلإخراج بعض القرآن فإن التحدى وقع بسورة من كل القرآن أىّ سورة كانت غير
_________
(١) الأصل فى الصفة التخصيص فى النكرات والتوضيح فى المعارف ويتفرع على ذلك وجوه وهى البيان والكشف عن حقيقة الموصوف أو مجرد الثناء والتعظيم أو ما يضاهى ذلك من الذم والتحقير والتأكيد، ثم الوصف إن كان مبينا ماهية الشيء بأن يكون وصفا لازما مختصا به يسمى صفة كاشفة وإن كان وصفا مفارقا يسمى صفة مخصصة، والأول إنما يكون لتمييز الشيء من بين الماهيات المختلفة والثانى لتمييز الشيء من بين الماهيات المتفقة.
مثال الأول: قولنا: الجسم الطويل العريض العميق يحتاج إلى فراغ يشغله، ولا يخفى أن الوصف بهذه الأشياء كاشف عن ماهية الجسم، فإنه الجوهر القابل للأبعاد الثلاثة، والوصف بالمنزل من هذا القبيل فإنه كاشف لماهية القرآن.
ومثال الثانى: زيد التاجر عندنا فإنه يحتمل التاجر وغيره فلما وصف به رفع الاحتمال.
(حاشية الرهاوى على المنار ٣٤).
(٢) تيسير التحرير ٣/ ٤.
(٣) البرهان فى علوم القرآن ١/ ٢٦٤.
(٤) شرح العضد ٢/ ١٨.
1 / 22
مختصة ببعض، وإن أريد بسورة من جنسه فى البلاغة والعلو فيتناول كل القرآن وكل بعض منه، وهذا أقرب إلى عرض الأصولى وهو تعريف القرآن الذى هو دليل فى الفقه».
والإعجاز قيد ثان فى التعريف يخرج به الحديث القدسى والنبوى فإن كلّا منهما لم ينزل للإعجاز (١).
وقولهم: (المكتوب فى المصاحف) المصاحف جمع مصحف وهو ما جمع فيه صحائف القرآن، والمكتوب قيد ثالث فى التعريف خرج به ما نسخت تلاوته وبقيت أحكامه مثل: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما نكالا من الله) (٢).
قال الشيخ عز الدين بن الملك (٣):
فإن قلت: إن أردت من المصحف ما قلت يلزم الدور (٤)، لأن
_________
(١) الحديث القدسى هو حديث أضافه النبى ﷺ إلى الله تعالى.
والحديث النبوى هو ما أضيف إلى النبى ﷺ من قول أو فعل أو تقريرا أو وصف خلقى أو خلقى ولا خلاف بين العلماء فى أن معنى كلّ من الحديث القدسى والنبوى من عند الله
تعالى. كذلك لا خلاف بينهم فى أن لفظ الحديث النبوى من عند الرسول ﷺ. وإنما الخلاف بينهم فى لفظ الحديث القدسى: فذهب بعضهم إلى أنه من عند الله تعالى كالقرآن وذهب البعض الآخر إلى أنه من عند الرسول ﷺ كالحديث النبويّ (الباعث الحثيث لابن كثير ١٧، وضوء القمر ١٤، ومصطلح الحديث لأستاذى المرحوم الشيخ الشهاوى ٣٩).
(٢) سبل السلام ٤/ ١٢٧٦.
(٣) شرح المنار ٣٦.
(٤) حقيقة الدور: هو حقيقة الشيء على ما توقف عليه، وحقيقة التسلسل: هو ترتب أمور غير متناهية ومن أمثلة ذلك: أننا نقول: إن من أدلة وجوب الوجود لله تعالى أنه سبحانه يجب افتقار العالم إليه وكل من وجب افتقار العالم إليه فهو واجب الوجود فالله واجب الوجود.
دليل الصغرى: العالم حادث وكل حادث يجب افتقاره إلى محدث.
1 / 23
تصور المصحف موقوف على تصور القرآن والقرآن موقوف على المصحف وإلا لم يخرج ما نسخت تلاوته فلا يطرد التعريف (١).
قلنا: تصور المصحف موقوف على تصور القرآن بمفهوم شخصى معروف عند كل أحد حتى عند الصبيان يحفظونه ويتدارسونه، والقرآن بمفهومه العامى موقوف على تصور المصحف فلا يلزم الدور (٢).
وربما يقول قائل: المكتوب فى المصاحف حادث عند أهل السنة خلافا للحنابلة والقرآن كلام الله تعالى قديم وليس بحادث (٣)؟
_________
دليل الكبرى: أنه لو لم يكن واجب الوجود لكان جائزه فيفتقر إلى محدث ويفتقر محدثه إلى محدث فإن رجع الأمر إلى الأول مباشرة أو بواسطة فالدور لأن الأمر دار ورجع إلى مبدئه وإن تتابع المحدثون واحدا بعد واحد إلى ما لا نهاية فالتسلسل وكل من الدور والتسلسل محال على الله تعالى (شرح البيجورى على الجوهرة ١/ ٥٧، ٥٨).
(١) اطرد الأمر اطرادا تبع بعضه بعضا. تقول اطرد الأمر أى استقام- مختار الصحاح ٣٨٩.
(٢) القرآن الكريم له مفهومان: جزئى وكلى:
فالجزئى: هو المجموع الشخصى الذى بين دفتى المصحف.
والكلى: هو الشامل للكل والجزء وهو الكلام المنزل على الرسول ﷺ الخ.
فتصور المصحف موقوف على تصور حقيقة القرآن بمفهومه الشخصى وهو مجموع ما بين الدفتين لأنه إذا قيل لك: ما المصحف؟ فتقول: هو الذى كتب فيه القرآن وهذا معروف عند كل أحد فهو بديهى لا يتوقف على شىء.
والقرآن بمفهومه الكلى موقوف على تصور المصحف لأخذه فى تعريفه فلا دور لاختلاف جهة التوقف لأن ماهية المصحف إنما هى موقوفة على القرآن بمفهومه الجزئى والمفهوم على ماهية المصحف إنما هو القرآن بمفهومه الكلى.
(٣) جاء فى العقيدة الطحاوية ١٢٩.
(... والقرآن فى المصاحف مكتوب وفى القلوب محفوظ وعلى الألسن مقروء وعلى النبى ﷺ منزل ولفظنا بالقرآن مخلوق والقرآن غير مخلوق)
1 / 24