وللريح ضلع في هذا الصراع بين الماء والأرض، ولا تكون الريح حليفة لهما أبدا، والريح تحرضهما، وهي تغري العداوة بينهما، وتصعب معرفة البادئ حتى في هذه الحال. وهل تسهل الأضواج التحول إلى بطائح؟ وهل تكره الأحوال النهر إلى التجمع أكثر من قبل؟ والذي لا ريب فيه هو أن النيل يترك ضفته الشرقية بضغط من الرياح الموسمية ويضيق من فوره في سلسلة منحنية من الأقماع،
2
ويزول كل انحدار من الناحيتين، ولا تجد الروافد لها منفذا فتتألف منها أحواض وبحيرات، ويتحول النظام النهري الذي وجد حتى الآن إلى عالم مائي غير ملتحم، غير جار تقريبا، متروك إلى الريح متوار في قنوات لا يحصيها عد.
وكما أن الفوضى تنتشر وتشتد بنفسها إذا وجدت دعامة لها ترى اصطراع الماء والأرض يستقر بالجزر الجديدة التي هي مزق تراب، وإذا غاب نهر، كان يقضي حياة منتظمة بين ضفتيه، في قني لا تحصى كان أمره كأمر بحر يلغى كل ما ينظم صلاته بالأرض من قوانين، والمناقع توجد في حمى من العشب والقصب وتكون هذه النباتات سردا
3
يزيد زيادة لا حد لها فيغدو مع الأيام والأعوام متعصيا ، وهذا هو أمر النيل الأعلى منذ قرون، والأيكة البكر البارزة من الماء تبدو حاجزا مانعا لكل قارب مثلما تقف هذه الأيكة أي فارس، ولم يعد أحد ما هلك من الرجال والحيوان في مكافحة البطائح.
ولا ريب في أن مصدر هذه البلبلة هو انبساط النهر الأصلي الذي لا ضفاف له وانبساط رافديه العظيمين: بحر الغزال وبحر الزراف، ويستر الماء جميع هذا البلد في معظم أيام السنة على مساحة نحو ستين ألف كيلومتر مربع، وذلك في مثلث متساوي الأضلاع تقع منغلة في جنوبه وملاكال وملتقى الجور وبحر الغزال في شماله، وما في الخرائط من عدم صحة فيدل دلالة كبيرة على فوضى العناصر في تلك البقعة التي تزيد مساحتها على مساحة سويسرة مرة واحدة ونصف مرة، ولا ينفك الجغرافيون يعدلون من سنة إلى أخرى خطوطهم بين الدرجتين الخامسة والسادسة من العرض الشمالي؛ أي بين لادو وبور.
ويتساءل هؤلاء الجغرافيون تجاه مجاري النهر المتحولة باستمرار عن وجود مصب ثان لبحر العرب، أو عن كونه بحر الحمر الذي يشك فيه كثيرا، أو عن كون بعض الجزائر ثابتة أو متحركة، وهنا الجدل حول أنهار وجزر على طول المئات من الكيلومترات، وبعض القنوات يفتح أحيانا وبعضها يسد بالنبات أحيانا، وبعضها يغيب تماما وينتهي إلى إحدى سواعد النيل، ومن المسافات العظيمة ما يتعذر قطعه، والآن لا يمكن بغير الطائرة التقاط صورة لقناة كبيرة تتغير في عشر سنين.
وإذا هجم الفيضان على التراب الرخو وفصل منه قطعا حاولت هذه القطع أن تستقر بمكان آخر وكافحت الماء وردته عند انهيار الشفير
4
Bilinmeyen sayfa