برهان آخر لو قدرنا الهيولي موجودة متقومة فأما أن يقال هي واحدة أو كثيرة فإن كانت واحدة ثم صارت اثنين أفبانضمام آخر إليه أم بتكثير ذلك الواحد في نفسه من غير انضمام من خارج فإن قدر الأول فهما جوهران انضم أحدهما إلى الثاني ويكون الهيولي اثنين وما تحقق فيه الاثنينية قبل القسمة إما بالانفصال إذا كانا متصلين وإما بالعدد إذا كان مقدارين وكل ذلك صورة وإن تكثر الواحد في نفسه من غير انضمام من خارج كان حين كان واحدا لم يقبل القسمة ثم صار قابلا للقسمة فتكون له صورة الوحدة تارة وصورة التكثر تارة فيكون ذا صورتين ويلزم أن يكون بين الحالتين مادة مشتركة بها يقبل الوحدة تارة والكثرة أخرى فيكون للمادة مادة ويتسلسل وكذلك لو فرضنا اثنين جوهرين ثم خلعنا صورة الاثنينية فصار شيئا واحدا فلا يخلو إما أن يتحدا وكل واحد منهما موجود أو أحدهما موجود والآخر معدوم أو كلاهما معدومان وحصل ثالث بالإيجاد فإن كان فهما إذا اثنان لا واحد وإن اتحدا واحدهما معدوم والآخر موجود فالمعدوم كيف يتحد بالموجود وإن عدما بالإيجاد حصل ثالث فهما غير متحدين بل لا بد من معدومين ويلزم أيضا في خلع صورة الاثنينية مادة مشتركة كما لزم في لباس صورتها مادة مشتركة فيتحقق بهذه البراهين أن الهيولي قط لا تعري عن الصورة بل قوامها بالفعل يكون بالصورة وقوام الصورة من حيث ذاتها لا يكون بها بل بواهب الصورة فكانت الهيولي حافظة لها قبولا وكانت الصورة مقومة لها وجودا فالصورة لا تحدث إلا في الهيولي والهيولي لا تعري عن الصورة وكل واحد منهما جوهر لأن الجسم مركب منهما والجسم جوهر والبسيطان جوهران والتمييز بينهما بالفعل غير متصور والفصل بينهما فصل بالعقل وفي المسئلة بقايا من المباحثات بين الفريقين وذلك حظ الحكمة الفلسفية لا حظ الحقائق الكلامية وقد عرفت من هذه المباحثة أن مذهب المعتزلة في المعدوم شيء هو بعينه مذهب بعض الفلاسفة في أن الهيولي موجودة قبل وجود الصورة والله الموفق.
القاعدة الثامنة
في إثبات العلم بأحكام الصفات العلى
قد شرع المتكلمون في إثبات العلم بأحكام الصفات قبل الشروع في إثبات العلم بالصفات لأن الأحكام إلى الإذهان أسبق والمخالفون من المعتزلة في إثبات الصفات يوافقون في أحكام الصفات.
وسلكوا طريقين أحدهما النظر والاستدلال والثاني الضرورة والبديهة ثم منهم من يرى الابتدا بإثبات كونه قادرا أولى ومنهم من يثبت كونه عالما أولا ثم يثبت كونه قادرا مريدا ومنهم من يبتدي بالإرادة ثم يثبت كونه قادرا عالما.
قال أصحاب النظر في إثبات كونه قادرا أولا أن الدليل قد قام على أن الصنع الجائز ثبوته والجائز عدمه إذا وجد احتاج إلى صانع يرجح جانب الوجود فيجب أن يكون الصانع قادرا لأن من الأحياء من يتعذر عليه الفعل ومنهم من يتيسر فسبرنا جملة صفات الحي روما للعثور على المعنى الذي لأجله ارتفع التعذر وتحقق التأتي والتيسر فلم نجد صفة إلا القدرة أو كونه قادرا فكان الذي صحح الفعل من الحي كونه قادرا هو علة لصحة الفعل والعلة لا تختلف حكمها شاهدا وغائبا وكذلك صادفنا أحكاما وإتقانا في الأفعال وسبرنا ما لأجله يصح الأحكام والإتقان من الفاعل فلم نجد إلا كونه عالما وكذلك رأينا الاختصاص ببعض الجائزات دون البعض مع تساوي الكل في الجواز وسبرنا ما لأجله يصح الاختصاص فلم نجد إلا كونه مريدا ثم لم يتصور وجود هذه الصفات إلا وأن يكون الموصوف بها حيا لأن الجماد لا يتصور منه أن يكون قادرا أو عالما فقلنا القادر حي وأيضا فإنا لو لم نصفه بهذه الصفات لزمنا وصفه بأضدادها من العجز والجهل والموت وتلك نقائص مانعة من صحة الفعل المحكم ويتعالى الصانع عن كل نقص.
Sayfa 57