ففي كل حالة سادت فيها عقيدة ما، كان يوجد رجل يؤمن بالوحي، بحيث إنه عندما كون فرضا شاملا عن العالم، لم يستطع أن يتصور أن يكون كل هذا النظام والجمال الكوني من صنع ذهنه هو، فينسبه إلى قوة عليا؛ إلى الوحي. ولا شك أن المرء، بجانب ذلك، يضفي على رأيه مزيدا من القوة إذا عزاه إلى الوحي، ويجعله بمنأى عن النقد والشك؛ أعني يجعله مقدسا، «حقا إن مكانة المرء ستهبط عندئذ، فيصبح مجرد أداة، ولكن رأيه سينتصر في آخر الأمر، حين يغدو فكرة إلهية.»
4
ففي الدين إذن يحط المرء من قدر ذاته عامدا، حتى يضمن لرأيه الانتصار؛ ومن هنا يستنتج نيتشه أن الدين «قد حط من قدر تصور الإنسان، فنتيجته النهائية هي أن كل ما هو خير، وعظيم، وحقيقي، هو فوق الإنسان، وما وهب له إلا تفضلا.»
5
والظاهرة النفسية الكامنة من وراء هذا النمط الديني الخاص، هي ظاهرة «تبدل الشخصية
alteration de la personnalité ».
6
فنفسية رجل الدين من ذلك النوع الذي يرجع مشاعره الخاصة إلى قوى خارجية، ويراها غريبة عنه، كالمريض عندما يشعر بثقل أحد أطرافه، فيظن أن شخصا آخر قد ارتكز عليه. وعلى ذلك ففي الدين يخاف المرء من ذاته ويهرب منها، ولكنه من جهة أخرى يحس بلذة الانتصار حين ينسب أفكاره المباغتة المفاجئة إلى الألوهية، ويرتفع بها فوق مستوى الشك.
ومن الطبيعي أن ينقد نيتشه الأفكار الدينية الرئيسية نقدا عنيفا، ما دامت الروح الدينية أصلا ظاهرة منحرفة في رأيه، وما دام يدعو إلى استبدال نظرة طبيعية بالنظرة الدينية «غير العلمية». فإذا كان يعيب على العقيدة أنها تحط من قدر الإنسان، إذ تنسب نواتج الذهن الإنساني إلى مصادر أخرى تعلو على هذا الذهن، فلا شك في أن مهمته، كما يحددها بوضوح، هي أن يعيد إلى الإنسان ثقته بنفسه، ويرد إليه حقه المسلوب، وهنا يجد نيتشه لزاما عليه أن يحمل على فكرة الألوهية بوجه عام؛ فالألوهية في نظره عقبة تحول دون تأكيد الإنسان لذاته، وطالما أن فوق البشر آلهة يؤمنون بها، فسوف يكون هذا الإيمان على حساب تقدير البشر لأنفسهم وثقتهم بها. وعلى ذلك فهو يدعو إلى إزاحة هذه العقبة من أجل رفع شأن الإنسان، الذي يصبح عندئذ أعلى الكائنات شأنا، وصحيح أن تلك المهمة الهائلة تقابل بالجزع من جانب الإنسان، ولكن عليه أن يستجمع في نفسه من الشجاعة ما يمكنه من القيام بتلك الخطوة الحاسمة، التي يصبح بعدها السيد الأوحد للعالم.
والحق أن نقد نيتشه لفكرة الألوهية لا يعد مجالا للشك في أنه قد تخلى تماما عن هذه الفكرة، ولم يعد لها في ذهنه أي دور تؤديه. ويتخذ نقده في كثير من الأحيان طابع السخرية، فيقول مثلا: «إن وجود الله ذاته كان يغدو مستحيلا لو لم يكن يوجد أناس حكماء؛ هذا ما قاله لوثر، وله الحق فيما قال. ولكن، إن وجود الله كان يغدو أكثر استحالة لو لم يكن يوجد أناس بلهاء، هذا ما لم يقله صاحبنا لوثر!»
Bilinmeyen sayfa