16
بل إنه كان يحمل على التعصب الوطني بوجه عام، ويراه عقبة في طريق الاختلاط بين الأمم الأوروبية، ثم ينقده قائلا: «ليست مصلحة الكثرة - أي الشعوب - هي التي تملك تلك الروح القومية، كما يقال في كثير من الأحيان، وإنما قبل كل شيء مصالح الأسر الحاكمة المحددة، وكذلك مصالح طبقات تجارية واجتماعية معينة.»
17
وهكذا يرى في التعصب الوطني المتطرف خدعة تضر بمصالح الشعوب، ويدعو إلى نوع من الروح العالمية. ويبدو أن سيطرة الروح اليونانية على تفكيره لم تترك له مجالا لتمجيد الألمان؛ إذ كان يحلم دائما ببعث حضارة إغريقية ديونيزية تغمر العالم بأسره، وتتعدى حدود الوطنية الضيقة.
وأما عن تعصبه للعنصر الآري، فهذا ما لم يقم عليه أي دليل. بل إن زواج شقيقته من أحد هؤلاء المتعصبين وهو برنارد فورستر
Bernhard Forster ، كان صدمة أليمة له، وظلت علاقته به غير ودية إلى النهاية. والحق أن آراء نيتشه الحقيقية لا يمكن أن تعد مناصرة للعنصرية الآرية على الإطلاق، بل إنه ليصرح بأن الأمة الألمانية بلغت حدا عظيما من الاختلاط في أصلها؛ فالعنصر الألماني ليس نقيا على الإطلاق، وإنما تداخلت فيه عناصر عديدة، وذلك أمر ينتمي إلى الطبيعة الحقة للألمان.
18
وإذا كان نيتشه قد حمل على اليهود كثيرا في كتاباته، فلم يكن ذلك لأنهم من الجنس السامي، ذي الصفات المضادة للجنس الآري الذي ينتمي إليه الألمان، وإنما كان ذلك لأسباب مختلفة عن ذلك كل الاختلاف، فحملة نيتشه على اليهود راجعة إلى أسباب تاريخية قديمة، ولا صلة لها باليهود المعاصرين له على الإطلاق؛ فاليهودية هي أصل المسيحية، بل إنه كثيرا ما يدمج العقيدتين في تيار واحد، ويراهما مسئولتين عن روح الضعف والتخاذل التي هي عنده من صفات المتدينين بوجه عام، فحملة نيتشه على اليهودية إنما هي امتداد لحملته على المسيحية، وعلى أصل من الأصول الرئيسية للمسيحية فحسب، ومعنى ذلك أنها حملة خلت تماما من كل إشارة إلى التعصب العنصري، ما دامت تسري أيضا على المسيحيين بأسرهم، ومنهم الألمان بوجه عام. أما إذا كان الأمر متعلقا باليهود المعاصرين، فإن نيتشه يعبر في كثير من الأحيان عن عطفه عليهم، ويدافع عن قضيتهم، ويشيد بفضلهم على أوروبا.
19
فماذا كان موقف نيتشه من مشكلة الحرب؟ وهل كان يدعو - كما قال النازيون - إلى حل كل مشاكل العالم بالحرب وحدها؟ الحق أننا لا نستطيع أن نعفي نيتشه تماما من تهمة تمجيد الحرب، وكل ما يمكننا أن نقوله في هذا الصدد هو أن رأي نيتشه لم يكن واضحا كل الوضوح، وأن نصوصه كانت تعبر عن مواقف متناقضة من هذه المشكلة، وأنه حين كان يناصر الحرب، كان في واقع الأمر يناصر صفات أخلاقية معينة يعتقد أن الحرب وحدها هي التي تنميها في البشر، وأن السلم الطويل يقضي عليها؛ ولا يناصر الحرب لذاتها.
Bilinmeyen sayfa