فنحن لم نكن لنمتلك العقل لو لم يكن ضروريا لنا، ولم نكن لنمتلكه «على هذا النحو» لو لم يكن ضروريا لنا «على هذا النحو»؛ أعني لو كان في وسعنا أن نحيا على أي نحو آخر.
4
وما زالت لهذه الرغبة في النفع الحيوي آثارها إلى اليوم، تتمثل في الدور الذي تؤديه الأسطورة، وهي خطا نافع للحياة، يضفي عليها صورة زاهية ملائمة للإنسان، على العكس من تلك الصورة القائمة التي تضفيها على العالم تلك الرغبة المتأخرة في المعرفة الخالصة، حيث لا تتحقق في العالم غايات إنسانية، وحيث يسير العالم بلا هدف، وحيث لا يسود إلا الاتفاق المحض.
وكما يسري هذا الأصل اللاعقلي على المعرفة والعقل بوجه عام، فهو يسري على كل مبادئهما. فهذه المبادئ قد اصطبغت في الفلسفات التقليدية بصبغة أزلية ثابتة، ولم يجرؤ أحد على الاقتراب منها أو الشك فيها، ولا غرو فهي كلها مظاهر لتلك «الحقيقة» المطلقة التي كانت تقدمها تلك الفلسفات وتنأى بها عما في عالمنا الأرضي من تغير. ولكن نيتشه يتبع هذه المبادئ واحدا بعد الآخر، ليرفع عنها قناع الأزلية الموهوم، ويردها هي الأخرى إلى أصلها الأول؛ أعني إلى الصيرورة الحيوية.
والمبدأ العقلي الأساسي هو مبدأ الهوية، الذي يؤكد بقاء الشيء على حاله، ومطابقته لذاته دواما. والحق أن هذا التفسير لمبدأ الهوية هو تفسير نيتشه. وليس تفسيرنا الخاص؛ وهو في رأينا تفسير غير دقيق؛ إذ يضاف إليه عنصر زماني لا صلة له بالمبدأ في صيغته المنطقية الخالصة، فيقال إن الشيء «يظل» على ما هو عليه؛ أي يطابق ذاته «دائما»، بينما الأصل في الهوية أنها مجرد ترديد للشيء الواحد دون إقحام أي عنصر زماني ... فمما لا شك فيه أن إضافة العنصر الزماني يقضي على الهوية، ويمهد السبيل للتغير، ولكن ربما كان لنيتشه العذر في فهم المبدأ على هذا النحو؛ إذ إن الفهم المنطقي الخالص للهوية لم يصبح هو السائد إلا في عصر متأخر عن عصر نيتشه، حين أدى البحث الرمزي للمنطق إلى استبعاد كل ما له ارتباطات عينية من مجال الكيانات المنطقية؛ ومن ضمن هذه الارتباطات العينية عنصر الزمان.
ويقول نيتشه باستحالة الهوية مفهومة بهذا المعنى؛ إذ إن الهوية ليست إلا إضفاء لصفة التشابه على ما هو غير متشابه. ومن المحال أن نستطيع إيقاف تيار التحول والصيرورة لحظة واحدة، نهتدي فيها إلى حالة من حالات الهوية. فمبدأ الهوية إذن لا يرتكز على أي أساس في طبيعة الأشياء، وإنما هو وسيلة يصطنعها العقل حتى يستطيع أن يهتدي إلى نقط واضحة خلال تيار الصيرورة الذي لا ينقطع. فإذا كان أول مبادئ العقل وأبسطها تزييفا ، فبديهي أن كل المبادئ المبنية عليها تزييف بدورها.
ومن هنا ينتهي نيتشه إلى القول بأن أصل المنطق لا منطقي. «فمجال اللامنطقي كان في الأصل أوسع بكثير من مجال المنطقي. على أن الكائنات العديدة التي كانت تفكر بطريقة غير تلك التي نفكر نحن بها، قد هلكت، وربما كانت هذه الكائنات أصدق منا! ... فالميل الغالب إلى أن نتعامل مع «القريب» على أنه مماثل، وهو ميل لا منطقي - إذ لا يوجد شيء مماثل في ذاته - هذا الميل هو الذي كون كل أسس المنطقية منذ البداية ...»
5
على أن نقد العقل ومبادئه الأساسية يؤدي مباشرة إلى نقد الميتافيزيقا وكل ما يرتبط بها من أفكار وتصورات؛ ذلك لأن العالم الميتافيزيقي - في الفلسفة التقليدية - قد بني على الإيمان بوجود حقائق عقلية خالصة، تتخذ دعائم للوصول إلى ذلك العالم. فإذا نقدت هذه الدعائم، انهار ذلك العالم من أساسه.
وحملة نيتشه على الميتافيزيقا من أشد الحملات التي تحمس لها طوال حياته الواعية. ويبدو أن الميتافيزيقا كانت تلخص في رأيه كل ما خلفه ماضي العقل الإنساني من أخطاء. فهي وريثة الدين، بل هي مصاحبة له، ومؤيدة لنتائجه؛ إذ تؤدي إلى أن تخلق عالما آخر مستقلا عن عالمنا الأرضي، فتبعدنا عنه، وتصرفنا عن الاهتمام به.
Bilinmeyen sayfa