فلنحلل إذن العناصر الرئيسية لكل فترة من هذه الفترات، حتى نصل إلى العنصر المشترك بينها.
فالفترة الأولى تتميز، كما قلنا، بتأثره بشوبنهور وفاجنر. أما التأثر بشوبنهور فلم يكن كاملا، إذا شئنا الدقة؛ ذلك لأن فلسفة شوبنهور كانت تدور حول فكرة الألم؛ فالعالم هو في أساسه مصدر للألم، ووسيلة الخلاص إما أخلاقية؛ أعني القداسة والزهد والانصراف عن ممارسة الإرادة بقدر الإمكان، وإما فنية؛ أعني الإغراق في الإنتاج والتأمل الفني الذي ينسي المرء ما في إرادته من قلق واضطراب. ولم يأخذ نيتشه من شوبنهور اتجاهه الأول، فلم يعترف في تلك الفترة بالزهد الأخلاقي وإماتة الإرادة وسيلة للخلاص من الألم، وإنما اعترف بالوسيلة الثانية؛ أعني بالفن الذي أراد عندئذ أن يفسر كل ما في العالم على أساسه. وإذن، فقد كان هناك شيء خفي يمنع نيتشه من الاقتداء بشوبنهور في دعوته إلى كبت إرادة الحياة، وماذا يكون هذا الشيء، إن لم يكن حب الحياة؟
وتزداد هذه الفكرة اتضاحا إذا تأملنا العنصر الرئيسي الآخر من عناصر تفكير نيتشه في ذلك الحين، فقد أدى به إعجابه بفاجنر إلى أن يقوم الحياة القديمة والحديثة تقويما جديدا، ويتأملها من خلال فكرة الأبولونية والديونيزية؛ فقد تنازعت العالم فترات سادتها الروح الأبولونية؛ أعني روح النظام والوضوح والتحدد، وأخرى سادتها الروح الديونيزية؛ أعني روح الاندماج بالطبيعة والخضوع للغريزة التلقائية. وتنازعت كل من هذين الروحين حياة الإغريق القدماء، حتى أتى سقراط، فسجل انتصار الروح الأبولونية، وظل هذا الانتصار سائدا إلى يومنا هذا. ولكن نيتشه يدعو إلى أن تعود الروح الديونيزية مرة أخرى إلى السيطرة، ويأمل في أن يكون فن فاجنر عاملا أساسيا من عوامل هذه العودة الناهضة، وهذا التقسيم إلى ما هو أبولوني وديونيزي يناظر - إلى حد ما - التقسيم الحديث إلى المعقول واللامعقول.
وعلى ذلك، فعند نيتشه في هذه الفترة ميل واضح إلى النزعة اللاعقلية، واتجاه إلى الاندماج المباشر بالطبيعة التلقائية في صورتها الأولى، قبل أن يشوهها العقل الخالص ويبعث فيها الثبات والجمود، وهو اتجاه يتصف كما هو واضح بالإقبال على الحياة في تلقائيتها المباشرة، والحملة على كل ما من شأنه الوقوف في وجه هذه التلقائية.
فلنتأمل إذن موقفه في الفترات التالية، وهل تغير هذا الاتجاه الأساسي نحو إثبات الحياة والاندماج المباشر في الطبيعة اللاعقلية أم ظل يتردد خلالها في صور مختلفة.
في المرحلة الوضعية الثانية، يبدأ نيتشه حملة قوية من النقد، فيحمل على الميتافيزيقا التقليدية، ويراها أقرب إلى الشعر والخيال، وينقد الأخلاق الشائعة، ويدعو إلى قلب كل القيم السائدة، ويحاول في بعض الأحيان - تأثرا منه بالاتجاهات العلمية السائدة في عصره - أن يرد القيم الأخلاقية إلى أصول حيوية عضوية، بل أن يرى الحقيقة ذاتها قيمة متغيرة خاضعة للنفع الحيوي. ولا شك أن النزعة إلى تمجيد الحياة تبدو هنا بوضوح؛ فالحياة هي القوة الدافعة لكل نشاط خلاق في الإنسان، وهي الأصل الأول الذي ترتد إليه كل معرفة وتقويم، وفضلا عن ذلك، فالاتجاه إلى نقد العقل التجريدي الخالص، يتمثل في الحملة القوية على الميتافيزيقا القديمة، وفي الدعوة إلى مراجعة الأسس الأولى للفلسفة.
ومما ينبغي أن ننبه إليه الأذهان، أن الأسلوب العقلي الهادئ الذي تميزت به كتاباته في هذه الفترة، واتخاذه المنهج العلمي مثلا أعلى خلالها ، لم يمنعاه من أن يواصل اتجاهه الناقد للعقل، ومن أن يكون هنا أيضا من أنصار اللامعقول. ومن الغريب حقا أن ينقد فيلسوف النزعة إلى المعقولية، إخلاصا منه للعقل والعلم، ولكننا قد بينا في موضع آخر
8
أن هذين الاتجاهين لا يتعارضان، وبالتالي فإن المعقولية واللامعقولية يمكن أن تجتمعا في مركب واحد، إذا فهمت كلمة العقل في كل حالة فهما خاصا.
أما المرحلة الصوفية الثالثة، فلا شك في أن انتقال نيتشه إليها لم يكن مفاجئا على الإطلاق، بل لقد انتقل إليها ومعه كل ذخيرته النقدية التي تسلح بها في المرحلة السابقة؛ فهو هنا لا يزال يحمل على أصحاب المذاهب الميتافيزيقية الخالصة، وعلى المؤمنين بالعقل التجريدي، وبوجود معايير أخلاقية مطلقة تعلو على مقتضيات الحياة المتغيرة. أما الناحية الصوفية الخلاقة، فهي أولا قد ظهرت في كتاب «زرادشت» وحده، وكانت كل الكتب الأخرى التي ظهرت في هذه المرحلة تحمل نفس الطابع النقدي الذي اتصفت به المرحلة السابقة، وتواصل حملتها في خط مستقيم. وحتى لو تأملنا كتاب زرادشت ذاته، فلن تجد فيه تصوفا من ذلك النوع الزاهد الذي ينكر الحياة ويعزف عنها، بل هو تصوف يظل على تعلقه بالأرض، ويمجد هذه الحياة وهذا العالم، ويتغنى بالطبيعة التلقائية. فزرادشت يقول في المقدمة: «أناشدكم أيها الأصدقاء أن تظلوا مخلصين للأرض، وألا تصدقوا من يحدثكم عن آمال تعلو على الأرض؛ ففي أحاديثهم هذه سموم، سواء أعلموا ذلك أم لم يعلموه.»
Bilinmeyen sayfa