وفي نظرية المعرفة عنده - كما سنرى فيما بعد - عناصر مثالية لا تنكر؛ وذلك حين يؤكد أن العالم كما نتصوره هو العالم كما يصلح لوجودنا فحسب، لا كما هو في ذاته. ولا شك أن هذا الرأي في المعرفة يباعد بينه وبين الواقعيين، ويجعل فلسفته تختلف عن مذهبهم اختلافا أساسيا.
الوضعية
يرتبط لفظ الوضعية في نشأته باسم أوجست كونت، ولكنه استخدم بعد ذلك ليعبر عن آراء طائفة خاصة من المفكرين، تأثروا بالتقدم الكبير الذي أحرزه المنطق والرياضة في نصف القرن الماضي، فحاولوا أن يوحدوا بين أسس المنطق والرياضة، ويجعلوا منها دعامة لتحليل فلسفي يقضي على المشاكل الميتافيزيقية من جذورها؛ فالوضعية الحالية؛ أعني الوضعية المنطقية، تشترك مع وضعية أوجست كونت في أنها تستلهم العلم في كل مراحلها، وتتأثر في نقطة بدايتها بالتقدم الذي تحرزه علوم معينة، فتحاول اصطناع مناهجها وتعميمها على التفكير الفلسفي ذاته.
ولقد تأثر نيتشه ذاته بالتقدم العلمي تأثرا كبيرا، بل إن إحدى فترات تفكيره الفلسفي يطلق عليها عادة اسم «الفترة الوضعية».
2
والذي نلاحظه أن إعجابه بالمنهج العلمي التجريبي لم يكن يقتصر على المرحلة الوسطى من مراحل تفكيره، بدليل أنه حاول في الفترة الأخيرة أن يضع لفكرة العود الأبدي - وهي في أصلها فكرة ذات طابع صوفي - أساسا علميا، وكان ينوي أن يكرس عشر سنوات من حياته لدراسة العلم الطبيعي والرياضي، حتى يمكنه أن يبرر الفكرة علميا، ولكن صحته لم تساعده على ذلك. وهو على أية حال لا يكف عن إبداء إعجابه بالمنهج العلمي التجريبي، فيقول: «إنني لأعجب بذلك الشك الذي يجعلني أجيب عنه بقولي؛ فلنجرب ذلك! ولست أريد أن أسمع شيئا عن كل الأمور والمشاكل التي لا تسمح بإجراء التجربة عليها، تلك هي حدود معنى الحقيقة في نظري، وهنا تفقد الشجاعة كل مبرر لها.»
3
وهكذا يعترف نيتشه بمبدأ التحقيق التجريبي
Vérification
الذي أصبح فيما بعد أساسا للوضعية، ولا يرى للشجاعة التي تحاول تعدي نطاق التجربة أي مبرر.
Bilinmeyen sayfa