Nietzsche: Çok Kısa Bir Giriş
نيتشه: مقدمة قصيرة جدا
Türler
1 - صورة نيتشه
2 - المأساة: الميلاد، والموت، والبعث
3 - التحرر من الوهم والانسحاب
4 - الأخلاق ونقماتها
5 - الضرورة الوحيدة
6 - النبوءة
7 - اعتلاء الأراضي المرتفعة
8 - مفهوم السادة والعبيد
9 - تعاطي الفلسفة قرعا بالمطرقة
خاتمة
Bilinmeyen sayfa
المراجع
قراءات إضافية
1 - صورة نيتشه
2 - المأساة: الميلاد، والموت، والبعث
3 - التحرر من الوهم والانسحاب
4 - الأخلاق ونقماتها
5 - الضرورة الوحيدة
6 - النبوءة
7 - اعتلاء الأراضي المرتفعة
8 - مفهوم السادة والعبيد
Bilinmeyen sayfa
9 - تعاطي الفلسفة قرعا بالمطرقة
خاتمة
المراجع
قراءات إضافية
نيتشه
نيتشه
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
مايكل تانر
ترجمة
Bilinmeyen sayfa
مروة عبد السلام
مراجعة
هبة عبد المولى
إلى والدي، وإلى ذكرى والدتي.
الفصل الأول
صورة نيتشه
فريدريك نيتشه (1844-1900) فيلسوف ألماني، قوبل بتجاهل شبه تام خلال فترة حياته التي كان فيها سليم العقل، والتي انتهت نهاية مفاجئة ومبكرة بالجنون عام 1889. كان «نيتشه» شخصية سعى أناس ذوو آراء متنوعة ومتعارضة على نحو مذهل إلى أن يجدوا في اسمها تبريرا لأفكارهم. وذكرت دراسة ممتازة (أشهايم، 1992)، خصصت لتناول تأثيره داخل ألمانيا بين عامي 1890 و1990، كلا من «اللاسلطويين، وأنصار الحركة النسائية، والنازيين، وأعضاء الطوائف الدينية، والاشتراكيين، والماركسيين، والنباتيين، والفنانين الطليعيين، ومؤيدي التربية البدنية، وأنصار السياسة المحافظة» من بين أولئك الذين وجدوا إلهاما في أعماله. وهذا على سبيل المثال لا الحصر. وكان الغلاف الأمامي للدراسة يظهر في تباه ملصقا من كتاب يرجع إلى عام 1900 يصور نيتشه مرتديا إكليلا من الأشواك. أما الغلاف الخلفي فيصوره عاريا، بعضلات رائعة، متموضعا فوق أحد جبال الألب. ولا تكاد توجد شخصية ألمانية ثقافية أو فنية خلال السنوات التسعين الماضية لم تعترف بتأثيره، بداية من توماس مان، مرورا بيونج، ووصولا إلى هايدجر.
إن القصة الواردة في «الأنجلوساكسونية»، إذا استعنا بالمصطلح المستخدم في عنوان كتاب يتحدث عن نيتشه، والتي تقتفي تأثيره في العالم الغربي المتحدث بالإنجليزية (بريدجووتر، 1972)؛ مشابهة لذلك. فقد توالت على هذا العالم موجة تلو أخرى من مذهب نيتشه، رغم أنه قد مرت فترات توارى فيها بسبب اعتباره مصدر الإلهام للنزعة العسكرية الألمانية؛ ومن ثم انتقصت دول الحلفاء من قدره. ترجمت أعماله على نطاق واسع وبأسلوب غير دقيق إلى اللغة الإنجليزية، أو إلى شكل عجيب من أشكال اللغة الإنجليزية، في السنوات الأولى من القرن العشرين. ورغم غرابة ألفاظها المهجورة، أو بسبب ذلك ولو على الأقل بصفة جزئية، كانت هذه هي الترجمة الوحيدة للعديد من أعمال نيتشه لقرابة خمسين عاما.
وفي الوقت الذي كانت فيه سمعة نيتشه في أحط مستوى لها في إنجلترا والولايات المتحدة، شرع فالتر كاوفمان، أستاذ الفلسفة المغترب في جامعة برنستون، في إعادة ترجمة العديد من أهم أعماله، واستهل مشروعه بكتاب كان له تأثير حاسم لعدة سنوات، بعد ظهوره لأول مرة عام 1950 على الطريقة التي ينظر بها إلى نيتشه (كاوفمان، 1974). قدم كاوفمان نيتشه في صورة الفيلسوف الذي كان مفكرا تقليديا أكثر منه مصدر إلهام للاسلطويين والنباتيين وغيرهم. ومما أثار الكثير من الدهشة، ولم يلق إلا قبولا محدود النطاق إلى حد ما، أنه اتضح أن نيتشه كان رجلا صاحب منطق، بل وكان عقلانيا أيضا. وقد سعى كاوفمان باستفاضة إلى إثبات بعد نيتشه التام عن النازيين، وعن جميع الحركات غير العقلانية التي ادعت أنه رائدها، وعن الرومانسية في الفنون. وأصبح من الصعب، بناء على هذه الصورة، معرفة سبب كل هذه الجلبة التي أثيرت حوله. وهكذا بدأ التناول الأكاديمي لمذهب نيتشه، كفيلسوف ضمن بقية الفلاسفة، لتوضيح أوجه الشبه والاختلاف بينه وبين إسبينوزا وكانط وهيجل وغيرها من الأسماء الرائدة في الفكر الفلسفي الغربي. وبعد اطمئنان الفلاسفة الأمريكيين - ومن بعدهم على نحو متزايد الفلاسفة الإنجليز - إلى اتساع معرفة كاوفمان، اتخذوه نقطة انطلاق لدراساتهم عن نيتشه حول الموضوعية وطبيعة الحق وعلاقة نيتشه بالفكر اليوناني وطبيعة الذات، وغيرها من الموضوعات التي لا تسبب ضررا بأي حال من الأحوال عند معالجتها في كتبهم ومقالاتهم.
في تلك الأثناء في أوروبا، وتحديدا بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح نيتشه - الذي لم تشوه سمعته هناك قط - موضوعا مستمرا للدراسة والاستهداف من جانب الوجوديين ومعتنقي المذهب الفينومينولوجي، إلى أن أصبح بعد ذلك على نحو متزايد، في الفترة ما بين ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، محط أنظار المنظرين النقديين وما بعد البنيويين والتفكيكيين. وعندما اكتسبت الحركتان الأخيرتان - ما بعد البنيوية والتفكيكية - لأول مرة مكانة في الولايات المتحدة، ثم سادتا في أنحاء البلاد، كان نيتشه مجددا هو أكثر من اعترف به مصدرا رئيسيا لأفكارهما. وكذلك، اكتشف بعض الفلاسفة التحليليين أنه لم يبتعد كثيرا عن اهتماماتهم مثلما كانوا قد افترضوا، وبتلك الحركة المتبادلة المتأصلة في الحياة الأكاديمية، هنئوه على إيمانه المبدئي ببعض أفكارهم، مطمئنين أنفسهم في الوقت نفسه بشأن تلك الأفكار عن طريق الاستناد إلى سلطته. لقد ظهرت الآن صناعة مزدهرة قوامها نيتشه، وعلى نحو شبه مؤكد، تظهر كتب كل عام عنه أكثر من أي مفكر آخر، بفضل ما يثيره من اهتمام لدى العديد من المدارس المختلفة للفكر والفكر المناقض.
Bilinmeyen sayfa
من غير المجدي ادعاء أن نيتشه كان سيستاء تماما من هذه الظاهرة. فقد كان خلال حياته (التي سأقصد بها دوما حياته العاقلة التي انتهت عندما أصيب بالجنون عام 1889؛ أي قبل وفاته بأحد عشر عاما، ما لم أقل خلاف ذلك) مهملا تماما، ورغم أن ذلك لم يضايقه، شأنه شأن أي شيء آخر، فقد سبب له الحزن؛ لأنه كان يرى أن لديه حقائق مهمة يريد نقلها إلى معاصريه الذين كانوا يتجاهلونها على نحو سيكلفهم عواقب وخيمة، وهذه إحدى نبوءاته الشديدة الدقة. ولكنه كان سينظر بازدراء إلى كل شيء تقريبا كتب أو فعل تحت مظلته، وتلك الاستباحة الناجحة لأعماله من جانب العالم الأكاديمي - رغم أنها لا تضاهى في فداحتها ببعض الاعتداءات الأخرى التي عانى منها - ربما كانت ستبدو له هزيمة نهائية؛ لأنه أراد بأي ثمن ألا يكون جزءا من عالم التعلم الذي يمسي فيه كل شيء موضوعا للمناقشة وليس للفعل.
قبل أن ننتقل إلى عرض آرائه، حري بنا التوقف قليلا وتأمل ما اتسمت به أعماله من خصائص جعلتها سببا قويا في جذب تلك الحركات ومدارس الفكر المتنوعة. لن تظهر الإجابة بصورة أوضح إلا لاحقا. ولكن كتفسير مبدئي، يبدو أن غرابة سلوكياته تحديدا هي التي تسترعي الاهتمام للوهلة الأولى. وقد كانت كتبه، التي أعقبت كتابيه المبكرين «مولد المأساة» (1872) و«تأملات في غير أوانها» (1873-1876)، تتكون في العادة من مقالات قصيرة، لا يزيد طولها غالبا عن صفحة واحدة وتكون أقرب إلى الأقوال المأثورة، رغم أنها - كما سنرى - تختلف اختلافا جوهريا عنها من حيث طريقة تكوينها وتقديرها في العادة: حيث تضم مقولة من سطر واحد أو سطرين تلخص طبيعة التجربة الإنسانية؛ مما يستوجب قبولا بيقينها التام. وقد كان عدد الموضوعات التي ناقشها كبيرا، بما في ذلك العديد من الموضوعات التي سنفاجأ بتناول فيلسوف لها من الأساس، مثل الطقس والنظام الغذائي والتمرينات الرياضية ومدينة البندقية. غالبا لا تخضع تأملاته لترتيب محدد؛ وهذا يعني أن دراسة مقتطفات من أعماله ستكون أسهل مقارنة بمعظم الفلاسفة، كما أن بغضه للأنظمة الذي يعلنه باستمرار يعني أننا نستطيع عمل ذلك بضمير مستريح. يضم العديد من أقواله شبه المأثورة محتوى متطرفا، وعلى الرغم من أن المرء قد يستشف على نحو غير مؤكد ما يحبه نيتشه، فإنه سيكتشف بالتأكيد قدرا كبيرا مما يكرهه، الأمر الذي كثيرا ما يعبر عنه بمفردات ذكية وحادة في آن واحد. إن ما يكرهه فيما يبدو هو كل جانب من جوانب الحضارة الحديثة، خصوصا حضارة الألمان، ويعد هذا أمرا صادما للقارئ. وجوهر رأيه أننا إذا لم نصنع بداية جديدة تماما فإننا هالكون، بما أننا نعيش وسط بقايا ألفي عام وأكثر من الأفكار المغلوطة أساسا حول كل الأمور المهمة تقريبا، ووسط انحلال شيء كان مهلكا بأية حال، إذا جاز التعبير. وهو رأي يتيح المجال أمام الأشخاص الذين يقدسون فكرة الانفصال الكامل عن موروثهم الثقافي بأكمله. غير أن نيتشه كان يؤمن باستحالة هذا الانفصال.
وعلى الرغم من هذا، يبدو أن التنوع في تفسير أعماله، والذي لم ينحسر قط بمرور السنوات، لا يزال في تزايد مستمر، وإن كان على نحو أقل تشاؤما عن ذي قبل، ويحتاج إلى مزيد من الشرح. وهو يوحي لغير المطلع على أعماله بأنه كان شخصا غامضا على نحو استثنائي، وربما متناقضا. ينطوي كلا الاتهامين على قدر من الصحة، لكنه أمر سيبدو أكثر تأثيرا وإدانة مما هو عليه في الواقع إذا لم يدرك المرء ويتذكر دائما أن نيتشه خلال الأعوام الستة عشر التي كتب فيها أنضج أعماله، بداية من «مولد المأساة» وما بعدها؛ كان يطور آراءه بمعدل غير مسبوق، وأنه نادرا ما كان يكترث بتوضيح آرائه المتغيرة.
ما كان يفعله عادة هو محاولة رؤية أعماله الأولى في شكل جديد، حيث كان يتأمل حياته المهنية بطريقة توحي باعتقاده أن المرء لن يستطيع فهم كتاباته اللاحقة ما لم يتعرف على كتاباته السابقة؛ ليرى كيف تطور. ومن ثم، فقد جعل من نفسه نموذجا يوضح من خلاله الكيفية التي قد ينتقل بها الإنسان الحديث، حبيس ثقافة القرن التاسع عشر الفاسدة، من الانصياع لها إلى التمرد عليها وتقديم اقتراحات لإحداث تغيير جذري. وفي عام 1886 تحديدا، عندما كان على أعتاب آخر مراحله الإبداعية - على الرغم من أنه لم يكن بوسعه التنبؤ بهذا - بذل مجهودا كبيرا في مراجعة كتبه السابقة، طارحا فيها مقدمات جديدة، وأحيانا انتقادية على نحو لاذع، وفي حالة كتاب «العلم المرح» ألف كتابا جديدا وطويلا في صورته النهائية. لا شك أن هذا كان جزءا من خطته لإثبات أنه ما من شيء في ماضي المرء يجب الندم عليه، وأنه يجب ألا نهدر شيئا. ولكن العديد من المفسرين أخطئوا عندما افترضوا أن هذا يعطيهم تصريحا لمعاملة جميع كتاباته كما لو أنها قد أنتجت في الوقت نفسه.
كان العامل الآخر الذي أدى إلى التفسيرات المغلوطة والتحريفات الصادمة ناتجا عن فكرة أن نيتشه كان يقضي معظم وقته في الكتابة، منذ عام 1872 على الأقل وربما أيضا قبل ذلك. إن إجمالي كتبه المطبوعة مثير للإعجاب بما يكفي، ولكنه دون من آرائه على الأقل بقدر ما ألف من كتب، وللأسف فإن معظم هذه الكتابات غير المطبوعة (الأعمال غير المنشورة) لم يزل باقيا. لم يكن المرء منا ليجد مدعاة للأسف في هذا الأمر لو كان ثمة مبدأ منهجي مقبول عالميا يفيد بأن ما لم ينشره يجب فصله بوضوح تحت جميع الظروف عما نشره بالفعل، ولكن ما من أحد تقريبا يلاحظ هذه القاعدة الأساسية . حتى أولئك الذين يدعون أنهم سيفعلون هذا كثيرا ما ينجرفون وراء اقتباس غير منسوب المصدر مأخوذ من أعماله الضخمة غير المنشورة، لو كان هذا الاقتباس سيثبت ما يتهمونه به. وما يؤكد خطورة المضي قدما على هذا النحو أن فكر نيتشه ظل غير متطور فيما يتعلق ببعض المفاهيم المحورية، ولعل «إرادة القوة» و«التكرار الأبدي» الأهم بينها. وفي أغلب الأحيان، كان نيتشه موقنا تمام اليقين بأنه قد توصل إلى أثمن الأفكار الفلسفية، لدرجة أنه دون الكثير من الأفكار دون أن ينقحها؛ مما يتيح للمفسرين إمكانية تتبع الأفكار المتلاحقة التي ينسبونها إلى نيتشه دون أن تعوقهم تصريحات محددة. حتى إن البعض اقتنع بأن نيتشه «الحقيقي» موجود في المفكرات، وأن الأعمال المنشورة هي نوع من التعتيمات المعقدة - بل في الواقع المعقدة للغاية. تبنى هايدجر هذا الموقف غير المنطقي، فتمكن بذلك من الترويج لفلسفته الخاصة باعتبارها مستوحاة من نيتشه ومنتقدة إياه في الوقت نفسه.
سوف أقتبس من حين إلى آخر، مثل بقية مفسريه الآخرين، من «الأعمال غير المنشورة»، ولكنني سأشير إلى هذا عند حدوثه. لقد بذل نيتشه مجهودا مضنيا ليخرج إلينا بالصورة المنقحة النهائية من أعماله المنشورة، ولم يكن من طبعه على الإطلاق عدم الاكتراث بالأسلوب أو النظر إليه على أنه إضافة ثانوية. وبما أنه كان صاحب أسلوب بفطرته، فإن قراءة تدويناته تحمل مذاقا مشوقا أكثر من المطبوعات المنقحة لمعظم الفلاسفة. ولكن عندما يقارن المرء أفكاره المنشورة بمسوداته الأولية لها، يجد البون شاسعا بما يجعل أي شخص يحترس من وضعها في نفس المنزلة، أو هكذا سيفكر المرء. إنني أشدد على هذه النقطة؛ لأن التلاعب بما كتبه نيتشه، كما سنرى، كان عاملا أساسيا في اختلاق الأكاذيب عليه.
لا شيء من هذا يفسر بدقة سبب تصوير نيتشه بأنه رجل الأحزان، أو حتى غير ذلك من الصور العديدة. وعلى الرغم من كل الغموض الذي يتسم به ورفضه العمدي لوجود مثل أعلى، فقد يعتقد المرء في وجود حدود لمدى التحريفات المحتملة. كل ما أستطيع أن أقوله هنا مترددا : إنه من الواضح أنه لا توجد حدود تكبح زمام الشهرة. لو بلغت شهرة إنسان نفس القدر الذي سرعان ما بلغته شهرة نيتشه، في الوقت الذي لم يعد قادرا فيه على أن يفعل شيئا حيالها، يبدو أنه سيستخدم دون وعي منه لدعم أية حركة تحتاج إلى رمز تنسب إليه. وهنا، كما في جوانب أخرى، سيصير من قبيل المفارقة المريرة أشبه بنقيضه؛ «المصلوب». كانت آخر الكلمات التي كتبها نيتشه تقريبا هي: «أحمل واجبا تتمرد عليه في الصميم عاداتي، بل وحتى كبرياء غرائزي. اسمعوني! فأنا فلان الفلاني. ولكن الأهم ألا تخلطوا بيني وبين شخص آخر!» («هذا هو الإنسان»، التمهيد، 1). وعلى مدار القرن الذي انقضى منذ أن كتب هذه الكلمات، ندر من بين قرائه، ومن بين القلة القليلة التي سمعت به، من لم يفعل هذا.
الفصل الثاني
المأساة: الميلاد، والموت، والبعث
كان نيتشه تلميذا سابقا لعصره، ولكن على الرغم من أنه كتب بغزارة منذ سن مبكرة، فإن كتابه الأول «مولد المأساة»، أو «مولد المأساة من روح الموسيقى» كما ظهر في العنوان الكامل للطبعة الأولى، لم يظهر للنور إلا عندما بلغ السابعة والعشرين من عمره. ولم يكن من المفترض أن يفاجئه الاستقبال العدائي للكتاب داخل العالم الأكاديمي حيث كان نيتشه قد تلقى ترقية مبكرة ليعين أستاذا لفقه اللغة الكلاسيكي في جامعة بازل وهو في الرابعة والعشرين من عمره، لكنه فاجأه على ما يبدو. فالكتاب لا يفي بأي معايير متصورة للصرامة، فضلا عن المعايير المعتادة في دراسة الإغريق القدامى. وسرعان ما ظهر هجاء للاسم من أحد أعدائه القدامى منذ أيام الدراسة، وهو أولريش فون فيلاموفيتز-موليندورف، الذي اتهمه بالجهل وتحريف الحقائق والمقارنات القبيحة بين الثقافة الإغريقية والعالم الحديث. رد إرفين رودا، وهو صديق وفي، بكلام على القدر نفسه من الشراسة على الأقل، وتلا ذلك نمط النزاع المألوف في الدوائر الأكاديمية والموجه إلى أولئك الذين يكفرون بشرائعهم. اكتسب نيتشه سمعة مشينة، ولكن لفترة قصيرة، وقد كانت هذه السمعة هي الشيء الوحيد الذي اشتهر به نيتشه على الإطلاق .
Bilinmeyen sayfa
انقسم القراء منذ ذلك الحين إلى فريقين: فريق يجد إمتاعا في أسلوب الكتاب العاطفي والمحتوى الذي يستلزمه، وفريق يستجيب له بازدراء يعتريه الملل، وكلاهما يمكن تفهمه بسهولة. إنها زوبعة كتاب يخضع لتأثير أفكاره الحماسية الغريبة ورغبته في تناول أكبر عدد ممكن من الموضوعات في مساحة محدودة، ولكنه متنكر في صورة وصف تاريخي للسبب وراء استمرار المأساة الإغريقية لفترة وجيزة للغاية، ويوضح أنها بعثت مؤخرا في الأعمال الناضجة لريتشارد فاجنر. كان نيتشه من المعجبين المتعصبين لبعض أعمال فاجنر الدرامية منذ أن سمع موسيقى «تريستان وإيزولد»، التي عزفها هو وبعض الأصدقاء على البيانو وغناها تقريبا عندما كان في السادسة عشرة من عمره («هذا هو الإنسان»، الفصل الحادي عشر، ص6؛ ولكن انظر أيضا «الحب»، 1963). وقد قابل الموسيقار وخليلته آنذاك كوزيما، ابنة ليست، عام 1868، ليصبح صديقهما المقرب في عام 1869، ويزورهما مرارا خلال السنوات التي عاشاها في مدينة تريبشن المطلة على بحيرة لوسيرن. وما من شك في أن الموضوع برمته المطروح في كتاب «مولد المأساة» قد نوقش مرارا خلال تلك الزيارات، وأن فاجنر قد ساهم مساهمة جوهرية في تطوير بعض فرضياته المحورية (سيلك وستيرن، 1981: الفصل الثالث). ولكن الذهول اعتراه هو وكوزيما عندما استلما نسختهما من الكتاب. وأيا كان كم التأثير الذي أحدثه فاجنر، الذي كان يعشق التأمل شبه التاريخي، فقد وجد ما يكفي من الأفكار الجديدة في الكتاب التي جعلته يعتبر الكتاب وحيا له.
وعموما، فكثيرا ما تحسر قراء الكتاب المتعاطفون معه على تخصيص الأجزاء العشرة الأخيرة منه للترويج لفكرة أن فن فاجنر بمنزلة بعث للتراجيديا الإغريقية. ولم يبد هذا الادعاء بالنسبة إليهم سخيفا في حد ذاته فحسب، لكنهم شعروا أيضا أنه ينتقص من وحدة الثلثين الأولين من «مولد المأساة» ويصرف الانتباه عنهما. وكل هذا تقريبا يضيع الهدف من وراء المجهود المبذول في الكتاب، وما قضى نيتشه حياته محاولا عمله؛ لأن ما يستوجب أن يكون «مولد المأساة» هو بداية الفترة التي زاول فيها نيتشه الكتابة، بالنسبة إلى من يريدون أن يفهموا الوحدة الأساسية لاهتماماته، هو الطريقة التي يبدأ بها بمجموعة من الموضوعات التي تبدو بعيدة عن الزمن الحاضر، ولكنه يكشف تدريجيا عن أن اهتمامه الأساسي هو الثقافة، وظروفها المتواترة، والأعداء الذين يقفون في طريق نشرها.
يبدأ كتاب «مولد المأساة» بإيقاع سريع، ولا يتوقف زخم الحركة فيه أبدا. من المفيد قراءته لأول مرة بأقصى سرعة يستطيعها المرء، متجاهلا الأمور الغامضة والانحرافات الواضحة عن القضية المحورية (وهو مصطلح أستخدمه بمعنى شامل للغاية). تعتمد هذه القراءة الأولية بالتأكيد على قدر كبير من الثقة، ولكن إخضاعها للتدقيق النقدي منذ المرة الأولى سيثير الغضب والملل. من المهم استيعاب حس التدفق الذي يتسم به الكتاب، والذي يعتبر أيضا موضوعه الأساسي بدرجة ما. بعد كتابه «مقدمة إلى ريتشارد فاجنر» الذي تناول فيه كلا من «المشكلة الألمانية الخطيرة التي نتعامل معها» والإيمان الراسخ بأن «الفن هو المهمة الأسمى والنشاط الميتافيزيقي الحقيقي في هذه الحياة»، استهل نيتشه كتابه ببداية تليق بادعائه «إننا كنا سنفيد كثيرا علم الجمال إذا كنا قد نجحنا في أن ندرك فورا، وليس فقط من خلال التفكير المنطقي، أن الفن يستمد تطوره المستمر من ثنائية «الأبولوني والديونيسيوسي».» وهكذا، أوضح نيتشه عبر سطور قلائل أنه سيتحرك على ثلاث جبهات؛ الأولى: هي الأزمة المعاصرة في الثقافة الألمانية، والثانية: ادعاء جريء عن طبيعة الميتافيزيقا، والثالثة: اهتمام ب «علم الجمال». (بالنسبة إلى كلمة علم
Science ، يستخدم نيتشه كلمة
Wissenschaft ، التي تعني بالألمانية بحثا منهجيا، ولا يقصد بها المعنى المستخدم في اللغة الإنجليزية لكلمة
Science - لا بد من تذكر هذا على مدار أعماله، أو في واقع الأمر خلال أية مناقشة باللغة الألمانية.)
وسرعان ما ينتقل لتناول «التناقض» بين الأبولوني والديونيسيوسي، ولكن يجب ألا نفهم من هذا أنهما عدوان! فحسبما يتبين من شرحه، سرعان ما يتضح أن «هاتين النزعتين المختلفتين تماما تسيران جنبا إلى جنب، في تناقض صارخ عادة كل منهما مع الأخرى، وتحث إحداهما الأخرى على إنتاجات أكثر قوة»، إلى أن يبدو «أخيرا أنهما تنتجان عملا فنيا ديونيسيوسيا بقدر ما هو أبولونيا، وهذه مأساة إغريقية.» وهذا النوع من التناقض الذي يصير - رغم ذلك - مثمرا على نحو هائل مقارنة بأي شيء يمكن إنتاجه من خلال أي من الخصمين منفردا، هو سمة الفلسفة الألمانية في القرن التاسع عشر، بممثلها الرئيسي هيجل، الفيلسوف الذي كان نيتشه يعاديه عموما بشدة طوال حياته، وبلا شك يرجع ذلك جزئيا إلى ارتباط نيتشه بشوبنهاور الذي كانت كراهيته لهيجل معروفة. ولكن بالتعمق في المعارضة والتغلب عليها لا يحتاج نيتشه إلى أي من الأدوات الجدلية التي أعاق هيجل نفسه بها؛ لأنه يستطيع إعداد خطته بواسطة الصور المجازية والأمثلة، وهذا ما يفعله، على الرغم من أن الأمثلة كثيرا ما تستخدم على نحو متحيز.
تتمثل الفكرة في أن الفن الأبولوني هو فن المظهر، بل في الواقع «هو» المظهر. يستحضر نيتشه الأحلام ليثبت وجهة نظره بأن الفن الأبولوني في أبلغ صوره يتسم بوضوح استثنائي، مبينا على نحو جلي ما يرصده، ويضرب مثلا ب «مبدأ التفرد» الذي وصفه شوبنهاور بأنه الخطأ الرئيسي الذي نعاني منه معرفيا؛ فنحن ندرك العالم ونفهمه في صورة كيانات منفصلة، تضم أشخاصا منفصلين. وبصفتنا كائنات تملك أعضاء حسية وجهازا إدراكيا، فلا يمكننا تجاهل هذه الطريقة المعيبة على نحو هائل عند النظر إلى العالم؛ وهي الطريقة التي يرى شوبنهاور أنها مسئولة عن العديد من خيالاتنا وتجاربنا الأكثر إيلاما، على الرغم من أنه ليس من الواضح إن كان التغلب عليها سيجعل حياتنا أقل ترويعا أم لا.
استغل نيتشه في «مولد المأساة» الالتباسات التي يتسم بها فكر شوبنهاور - على الرغم من أنه ليس ثمة موضع يبين أنه كان أكثر إدراكا لها من شوبنهاور نفسه - لينتج «ميتافيزيقا الفنانين» الخاصة به، والمستقلة إلى حد ما، حسبما يشير بازدراء إلى منهجه في «محاولة في نقد الذات»، تلك المقدمة الرائعة التي كتبها للطبعة الثالثة من الكتاب عام 1886، وهو عام مراجعة الذات. كان يقصد بعبارة «ميتافيزيقا الفنانين» أنها من ناحية ميتافيزيقا مصممة خصيصى لتمنح الفن أهمية اعتبرها لاحقا منافية للمنطق؛ وأنها من ناحية أخرى استخدام للأساليب الفنية أو شبه الفنية لإنتاج آراء ميتافيزيقية، واختبارها من حيث قيمتها الجمالية وليس من حيث صحتها. يمكن النظر إلى «مولد المأساة» بوصفه كتابا جدليا متساميا، حسب منطق كانط. وينتج عن هذا عموما النمط التالي: (س) هي القضية، أو المعطيات، فما الذي ينقص القضية لتصبح هذه ال (س) ممكنة؟ تختلف معطيات نيتشه كثيرا عن المعطيات التي نجدها لدى أي فيلسوف آخر؛ إذ إنها تعطي الأولوية لتجربتنا الجمالية، التي عادة ما تأتي في ذيل قائمة الأولويات الفلسفية، هذا إذا تضمنتها من الأساس. وهو يستعين بالتجارب التي نعرفها عن الفن الأبولوني (النحت والرسم، وعلى رأسهما الملحمة) والفن الديونيسيوسي (الموسيقى والتراجيديا) كمعطيات له، ويسأل عن الكيفية التي يجب أن يكون عليها شكل العالم لكي نحظى بهذه التجارب. لقد رأينا أنه يقارن الفن الأبولوني بالأحلام؛ أما الفن الديونيسيوسي فإنه يضاهى - كدلالة أولية على طبيعته - بالنشوة؛ الطريقة المتدنية التي يعتقد أنه من خلالها يمكن التغلب على مبدأ التفرد، وفقدان الوضوح، واندماج الكيانات الفردية.
لماذا نحتاج إلى كليهما بعد أن نفهم أن أحدهما يجسد المظهر البراق، في حين يمكننا الثاني من مواجهة الواقع قدر ما نستطيع دون أن يدمرنا؟ لأن تركيبتنا تجعلنا ندخر حتما جرعات من الواقع للمناسبات الخاصة، كالاحتفالات مثلما أدرك اليونانيون (كان يجري التخطيط لمهرجان بايرويت الأول في الوقت الذي كان نيتشه يكتب فيه، على الرغم من أنه لم ينطلق حتى عام 1876). لكن الأمر أكثر تعقيدا من هذا؛ فلا مشكلة في المظاهر، ما دمنا ندرك أن هذه هي حقيقتها (سيظل هذا دائما موضوعا رئيسيا في أعمال نيتشه). كما رأينا، تعتبر الملحمة اليونانية صورة من الفن الأبولوني، وبالطبع تتمثل أبهى مظاهرها في «الإلياذة»، وهي عمل فني يمتعنا بوضوح أسلوبه وسلاسته. كان اليونانيون الذين عاشوها سعداء بأنهم صنعوا بأنفسهم قصصا عن عالم الآلهة التي تمتع أنفسها على حسابهم؛ وهي «الصورة الوحيدة المقنعة لإيمانهم بالعدالة الإلهية»، حسبما يقدم نيتشه تعليقه الخالد («مولد المأساة»، 3). وعند هذا المستوى تعمل المعادلة التي ظهرت مرتين في الطبعة الأولى، وتكررت على نحو مستساغ في «محاولة في نقد الذات»: «لا يمكن تبرير العالم إلا بكونه ظاهرة جمالية فقط» (وتتنوع الصيغ بعض الشيء). وبما أن الوجود في أبسط صوره بالنسبة إلى الإغريق المنتمين لعصر هوميروس لن يكون محتملا، فقد أظهروا غريزة فنية بطولية بتحويل حياة المعارك التي يعيشونها إلى عرض مسرحي. لهذا السبب كانوا يحتاجون إلى الآلهة؛ لا ليواسوا أنفسهم بفكرة وجود حياة أفضل فيما بعد، والتي كانت الحافز المعتاد لافتراض وجود عالم آخر، وإنما ليميزوا بين أي حياة يمكن أن يعيشوها والحيوات الخالدة للآلهة، الذين يحق لهم لمجرد كونهم خالدين أن يتسموا بالطيش والاستهتار مثلما يصورهم هوميروس على نحو صادم لنا. «إن كل من يقترب من هذه الآلهة الأولمبية وهو يحمل إيمانا غير إيمانها، ومتطلعا إلى الأخلاق السامية، بل حتى القداسة، والعلاقة الروحية الشفافة، والإحسان والرحمة، سرعان ما يجبر على هجرانها، مثبط الهمة وخائب الأمل» («مولد المأساة»، 3).
Bilinmeyen sayfa
إذا استطعنا أن نضفي معنى بعد ذلك على مفهوم البطولة - وهو شيء طالما شكك فيه نيتشه طوال حياته - فسيكون ذلك بالتأكيد من خلال إدراك وهمي لهذه الرؤية. وهذه هي محاولة نيتشه الأولى لتطبيق عبارة أدمنها في أعماله اللاحقة، ألا وهي «تشاؤم القوة». لم يكن نيتشه قليل الخبرة بالقدر الذي يجعله متفائلا، أو يجعله يعتقد أن الحياة ستصبح رائعة في يوم من الأيام، بطريقة يمكن أن يزيد في قيمتها اللابطل. وبما أننا لسنا أبطالا، نستطيع فقط أن نشغل أنفسنا بتحسين «نوعية الحياة» (يتمنى المرء لو كان نيتشه موجودا ليقدم ما كان سيصبح التعليق المناسب الوحيد على تلك العبارة المروعة). ولو شعرنا أنه لا يمكن تحسين نوعية الحياة، فإننا نصبح متشائمين، بل عاطفيين، أو كما يصفنا نيتشه «رومانسيين»، ننوح على مآسي الحياة، وربما نضع مناحاتنا في صورة شعرية مهدئة وملائمة.
يعتبر احتفاء نيتشه بهوميروس والأبطال الذين خلدهم بكتابته «الإلياذة» كافيا ليبرهن على أنه ما من شيء يعيب الفن الأبولوني في حد ذاته، ولكنه قائم على الوهم، ومن ثم فهو متقلب بالفطرة، وقابل للانحطاط إلى شيء أدنى قيمة. وعندما أصبح الإغريق أكثر وعيا بعلاقتهم بالآلهة؛ أدى عصر البطولات الملحمية - الذي يرفض أن يستكشف جوانب يمكن أن تنتج عنها مشكلات - إلى نشوء عصر التراجيديا. ثمة طرق عدة يعبر نيتشه من خلالها عن هذا التحول المهم، ومعظمها متأثر بتبعيته لشوبنهاور التي اتسمت بالحماسية وقصر العمر في الوقت نفسه. في نهاية القسم الأول من «مولد المأساة» كتب نيتشه يقول: «لم يعد الإنسان فنانا مثلما كان عند ابتكاره الآلهة، لكنه أصبح عملا فنيا؛ فالقوة الفنية للطبيعة كلها تتجلى معبرة عن نفسها في هذا الرضا الأسمى للوحدوية البدائية وسط نوبات النشوة.» في هذه المرحلة التي لم تزل مبكرة في «مولد المأساة» ينتابنا شعور، تعتريه الإثارة أو السخط حسب حالتنا المزاجية، بأن نيتشه يختلق كل هذا خلال مسيرته. لقد مر بعدد هائل من التجارب الفنية المؤثرة والعميقة مقارنة بأي تجارب من نوع آخر، وهو يحاول أن يفهمها بالطريقة الوحيدة التي يستطيع أن يفهمها بها ناقد عظيم، على الأقل منذ انهيار الفكر الكلاسيكي في النقد، وذلك عن طريق تأليف عمل يبدو، في سياقه الجوهري، أنه يطابق قوة تلك التجارب وثراءها.
من هذا المنطلق، تحتل الكلمات والعبارات المقام الأول، ثم يكون عليك أن تفكر فيما يقصده بها. إنه أسلوب اتبعه نيتشه طوال الفترة التي زاول فيها الكتابة، ولكنه سرعان ما أدرك أنه لا يلائم طريقة التعبير المعتادة في بحث ذي موضوع واحد ويتمتع بامتيازات البحث الأكاديمي. والفقرة التي اقتبستها أعلاه مثال جيد على ذلك؛ فبعد أن يصف الإغريق المنتمين إلى عصر هوميروس بأنهم فنانون، بفضل قدراتهم الإبداعية على اختلاق آلهة متقلبة الأهواء (وهي قدرات كان يجب أن يتحلوا بها كي يطيقوا الحياة)، فإنه ينتقل إلى فكرة أنهم هم أنفسهم يتحولون إلى أعمال فنية، لكن انتقاله يتم في المقام الأول على مستوى اللعب بالكلمات من أجل غرض جاد، ثم يكون عليه أن يبرره، بعد أن يشرح معناه أولا. وينقذه مفهوم شوبنهاور (الذي قدم إطارا يمكن به تطبيق فكره) الذي يدور حول أنه خلف جميع المظاهر الفردية توجد وحدوية واحدة ثابتة على نحو أساسي، فيحتفي بالإغريق الذين ينتجون التراجيديا؛ لأنهم حولوا الرجال إلى أعمال فنية، أو بصيغته البديلة «مبتكري حياة». فهم يدركون أنهم لكي يواجهوا الواقع بدلا من الولع بالمظاهر البراقة، فإن عليهم أن يتأقلموا مع حقيقة أن الحياة «في حد ذاتها» تدمر الفرد على نحو دائم، وأن يتيحوا لأنفسهم نبذ استقلاليتهم، والاستمتاع بالفن الديونيسيوسي الذي كان المعقل الذي يتحصنون به من المهرجانات الديونيسيوسية للبربر الهمجيين، والتي كانت تدور في محورها حول «النقص المفرط في الانضباط الجنسي، الذي غمرت أمواجه كل القواعد المبجلة المنظمة للحياة الأسرية. وهنا أفلت من الأسر أكثر وحوش الطبيعة ضراوة، حتى ذلك المزيج المنفر من الحب والقسوة الذي طالما اعتبرته «مزيجا شيطانيا»» («مولد المأساة»، 2).
يتميز الفن دائما، حتى في صورته الديونيسيوسية، بشكل خاص، ومن ثم فإنه يزيف - حتى نقطة معينة - موضوعه، الذي هو عبارة عن دوامة معدومة الشكل من الألم المتصل بالمتعة، وإن كانت الغلبة للألم. ولكنه يجب أن يمارس هذا التزييف؛ لأنه من دونه سنجده غير محتمل. لذلك في موضع لاحق من الكتاب عندما يناقش نيتشه مقطوعة فاجنر «تريستان وإيزولد»، فإنه يدعي أنها يجب أن تكون مسرحية درامية؛ لأن المسرحيات الدرامية تضم شخصيات، أي أفرادا، وهو ما يعني أن أبولو سيلعب دوره. وفي الفصل الثالث من المسرحية، تقحم شخصية تريستان نفسها بيننا وبين مقطوعة فاجنر؛ حيث يشعل تريستان فتيل التجربة التي تودي بحياته، بينما نبقى نحن على قيد الحياة، بعد أن نقترب قدر المستطاع من التواصل المباشر مع الواقع البدائي. وبناء عليه، يعتبر الأبطال التراجيديون ضحايا قربانية، بينما نبلغ نحن «الخلاص»، وهو مصطلح محبب إلى فاجنر وكذلك إلى المسيحيين، والذي سيندم نيتشه بعد فترة قصيرة على استخدامه، على الرغم من أنه حقق الغرض منه في سياقات أخرى.
لقد تخطيت الفصول التي تتخلل «مولد المأساة» لكي أبين كيف يحاول نيتشه أن يعقد صلة بين التراجيديا الإغريقية والدراما الموسيقية لفاجنر. فهو يعتقد أن الثانية تعني لنا أكثر مما تعنيه الأولى نظرا لغياب الموسيقى التي كانت تعزف في المسرحيات التراجيدية الإغريقية؛ مما يجعلنا لا نستطيع تخمين تأثيراتها إلا من خلال أوصاف حول كيفية استجابة جماهيرها لها، فقد كانوا يخضعون لحالة من «النشوة» التي لم تتح لنا من جديد إلا الآن. ويستحيل بلوغ هذه الحالة إلا لدى جمع من المتفرجين الذين يعتبر إحساسهم بفقدان الهوية صورة أجود من تلك التي يشعر بها جمهور كرة القدم حاليا. ولكن علينا أن نركز على طريقة إنتاج تلك النشوة، وإلا فلن يوجد فارق نوعي بين جمهور كرة القدم وجمهور المسرحية التراجيدية. وسرعان ما شعر نيتشه، لأسباب معقدة، أنه لا يوجد فارق ملحوظ بين جمهور فاجنر وجمهوره المقابل الذي يتكون من مجموعة سكارى حادي المزاج. بيد أن تلك الفكرة سوف تظهر في المستقبل الأليم. أما في الوقت الحاضر، فقد كان مصمما على إعادة إحياء روح المجتمع بفضل تلاحم أعضائه بشعور مشترك بالنشوة. تلك هي «المشكلة الألمانية الخطيرة التي نواجهها»، وكان نيتشه في هذه المرحلة يعتبر أن الألمان يتمتعون بحساسية تجاه القيم والحقائق المطلقة التي حرمت منها أمم أخرى، بفضل ثراء الموروث الموسيقي للألمان على نحو أساسي.
وسط تصريحات نيتشه الافتتاحية حول ثنائية أبولو وديونيسيوس والجدل المتضمن على نحو استثنائي، والذي يلقح فيه أحدهما الآخر في الأقسام الختامية من الكتاب، نجد صورة نيتشه المعروضة على نحو مبالغ فيه، إن لم يكن مستغربا، عن سمو التراجيديا الإغريقية (أسخيلوس وسوفوكليس) وانحطاطها (يوريبيديس). دارت فرضيته المحورية حول غلبة الكورس الغنائي في حالات السمو، فيرى الجمهور على المسرح صورة منعكسة له، مرتفعة إلى قمم ساحقة من المعاناة والتجلي. ولكن عندما يصل إلى المشهد يوريبيديس، الذي تدوم مسرحياته للأسف بأعداد أكبر من أسلافه الأوائل، فإنه يبدي اهتماما بالأفراد وبعلم النفس، والأسوأ من هذا بالآثار المفيدة للعقلانية، أو «الجدل» حسبما يميل نيتشه إلى تسميتها. ولم يشك نيتشه في أن صاحب التأثير المفسد عليه هو سقراط، الذي استحق فعلا الموت بسم الشوكران، ليس بسبب تأثيره على شباب أثينا، ولكن بسبب تأثيره على ما كان يمكن أن يصبح سر عظمتها التراجيدية المستمرة. «لقد أصبح يوريبيديس شاعر السقراطية الجمالية» («مولد المأساة»، 12).
إن السمة التي تجعل سقراط شخصية معادية للتراجيديا على نحو جذري هي إيمانه بالقدرة المطلقة للمنطق، على الرغم من أن المرء يستطيع أن يبين أن محاورات أفلاطون - التي يعتبرها الباحثون في أغلب الظن تفسيرات لآراء سقراط نفسه - لم تحقق كثيرا من التقدم، إلا بمنحى سلبي. ولكن تصوير نيتشه له يتناول هذه النقطة:
في هذه الشخصية الاستثنائية تماما تظهر الحكمة الغريزية فقط لكي «تعوق» المعرفة الواعية عند مواضع محددة. وعلى الرغم من أن الغريزة تعتبر عند الأشخاص الأذكياء ملكة إبداعية وتأكيدية، ويؤدي الوعي دورا نقديا ورادعا؛ فإن الغريزة لدى سقراط تمارس دورا نقديا ويتحول الوعي إلى مبدع، فيتكون مسخ «ناقص»! «مولد المأساة»، 13
لم تفارق صورة سقراط خيال نيتشه؛ كما هي الحال مع جميع الشخصيات الرئيسية في المعبد ونقيضه، وتظل علاقته به تتسم بتناقض صارخ؛ لأن نيتشه لم يعتقد أن العلاقة بين الغريزة والوعي بهذه البساطة التي يتظاهر بها هنا. ما كان متأكدا منه هو:
العنصر الإيجابي في الجدل، الذي يرقص مهللا لأية نتيجة ولا يمكنه أن يتنفس إلا في الأجواء الصحوة الصريحة ومن خلال الوعي؛ ذلك العنصر المتفائل، الذي غزا ذات يوم عالم التراجيديا، قد نما شيئا فشيئا حتى غطى على أصوله الديونيسيوسية، وأجبر نفسه على الانتحار بانتقاله إلى المسرح البرجوازي. هنا لا بد من الاستشهاد بقول سقراط المأثور: «الفضيلة هي المعرفة، فجميع الخطايا تنشأ عن الجهل، والإنسان الفاضل شخص سعيد.» هذه العبارات الثلاث المتفائلة هي التي تحمل في طياتها موت التراجيديا. «مولد المأساة»، 14
Bilinmeyen sayfa
إنه اتهام عبقري، حتى لو لم يكن مرتبطا بيوريبيديس. فليس من قبيل المصادفة أن يتلاشى فكر العقلانية العظيم في الفلسفة الغربية بتفاؤل مماثل مذهل، ولسنا مضطرين إلى الانتظار حتى يصادف شوبنهاور فيلسوفا متشائما، ويتقبل ذلك بصفته لاعقلانيا، مؤمنا بأولوية الإرادة اللاعقلانية. لقد كان الفكر الغربي معاديا للتراجيديا بسبب التعاون بين الأفلاطونية والمسيحية، وقد ألغيت مسرحياته التراجيدية العظيمة - خصوصا تلك التي كتبها شكسبير وراسين - لأسباب لاهوتية أو لصلتها بالتعاليم اللاهوتية على نحو مثير للقلق. ولا يعني هذا أن نيتشه قادر على الاعتراف بشكسبير بصفته كاتبا تراجيديا ذا مكانة عالية، وذلك بسبب غياب الموسيقى؛ مما يضعه في موقف حرج يتعامل معه بتجاهل شبه تام. والفقرة الوحيدة التي ذكرها بإيجاز عن شكسبير في «مولد المأساة» تتناول هاملت على نحو بارع، بصفته رجلا يدرك - بعد أن نظر إلى الهوة الديونيسيوسية - عبثية أي فعل؛ فهو غير متقاعس وإنما يائس («مولد المأساة»، 7). ولكنه لا يتناول الكيفية التي يمكن أن يؤدي بها ذلك إلى خلق الأثر المأساوي الكامل، لو تحقق من الأساس.
ومع هذا، فالأمر الأكثر سلبية أن نيتشه لا يحاول أن يشرح سبب قلة المسرحيات التراجيدية الموسيقية؛ فيبدو أنه يسلم جدلا بأن فاجنر كتب مسرحيات من هذا النوع، وإن كان يبدو من الواضح بالنسبة إلي أنه لم يكتبها. في واقع الأمر، لقد عمد موسيقار وراء آخر إلى استخدام القوى المهيمنة للموسيقى ليثبت أنه مهما ساءت الأمور على خشبة المسرح، فإنه يمكن إنقاذها. وما أثار إعجاب نيتشه حقا هو درجة النشوة التي تستطيع الموسيقى أن تنتجها، بخلاف أي فن آخر. وبما أنه منح التراجيديا مكانة عالية على نحو تقليدي، بصفتها الصورة الفنية التي تبين كيف يمكن أن نصمد أمام ما قد يبدو في ظاهره لنا غير محتمل، فقد حقق دمجا بين الاثنتين.
عند هذه المرحلة يصبح ولاؤه لشوبنهاور ذا تأثير أشد سلبية؛ لأن شوبنهاور أيضا قد آمن أن الموسيقى تمنحنا سبيلا مباشرا إلى تطبيق الإرادة، بما أنها غير مرتبطة بمفاهيم. ولكن بناء على شرحه العام لطبيعة الإرادة، التي طالما كافح من أجلها دون أن يبلغها بالضرورة، فمن الصعب أن نرى كيف أو لماذا يجب أن نستمتع بالفن الذي يجعلنا نحتك احتكاكا مباشرا بها. وقد يفكر المرء أنه كلما زادت المسافة بيننا وبين الواقع، قل إحساسنا بالشقاء.
ينقح نيتشه أفكار شوبنهاور بعض الشيء بادعائه أن البدائي هو مزيج من الألم والمتعة، ولكن كما سبق وذكرنا، فإن الغلبة للألم. وما يفعله نيتشه هو محاولة الإجابة عن السؤال التقليدي: لماذا نستمتع بالتراجيديا؟ وهو يفصل نفسه عن الإجابات التقليدية لسبب مقنع ، معتبرا إياها سطحية ومسكنة. ولكن في أثناء محاولته تحويل التراجيديا إلى عامل يبدل ما يبدو غير قابل للتبديل، فإنه يجاوز هدفه، ليقع هو نفسه كما يبدو في فخ المساواة بين الحق والجمال، وهو شيء ينتقده لاحقا بحدة كافية. ونريد أن نطرح عليه في هذه المرحلة السؤال الذي لم يطرحه إلا بعد مرور ما يتجاوز عقدا من الزمان: لماذا الحق بدلا من الباطل؟ ما الذي يحفزنا دائما للبحث عن الحقيقة؟
ليست الفكرة أن نيتشه لم يقدم أجوبة عن تلك الأسئلة في «مولد المأساة»، ولكن الفكرة أن تلك الأجوبة تظل غامضة. ولن نجده يتناول هذه الموضوعات بعمق حتى مرحلته الأخيرة. ومع هذا، فالجدير بالذكر أنه قد بدأ بالفعل أهم بحث في حياته: كيف يمكن أن يصبح الوجود محتملا، بمجرد أن ندرك ماهيته؟ الطريقة التي يتناول بها الموضوع هنا هي اقتباسه مبكرا قصة عن سيلينوس، صديق ديونيسيوس، الذي قال: «أيها البشر الزائلون التعساء، يا أبناء المخاطر والشدائد! لماذا تجبرونني على قول ما قد يكون الأفضل لكم ألا تسمعوه؟ إن أفضل الأشياء هو الشيء الذي يوجد خارج قبضتكم كلية: ألا تولدوا، ألا تكونوا، أن تكونوا لا شيء. ولكن ثاني أفضل الأشياء لكم هو أن تندثروا في أقرب وقت» («مولد المأساة»، 3). ولكن على الرغم من أن سيلينوس «حكيم»، تتمكن الحكمة التراجيدية في نهاية المطاف من التفوق حتى عليه هو شخصيا (يقارن نيتشه باستمرار بين
Wissenschaft «المعرفة، العلم» و
Weisheit
الحكمة). وهي تفعل هذا، حسب بعض المناورات الخفية التي تنفذ في جزء لاحق من الكتاب، عن طريق تفاعل مدروس بين الأبولوني والديونيسيوسي. ثم يذكر تعليقه الأكثر إيحاء: «إن المتعة التي توفرها لنا الميثولوجيا التراجيدية تنبع من نفس المصدر الذي ينبع منه الاستمتاع باستيعاب التنافر الموسيقي. والفن الديونيسيوسي، بما فيه من متعة بدائية متاحة حتى في ظل الألم، هو الرحم المشتركة للموسيقى والميثولوجيا التراجيدية» («مولد المأساة»، 24).
قد يشعر المرء أن هذا هو ما سماه شونبرج لاحقا ب «انعتاق التنافر» بفعل الانتقام؛ لأننا على الرغم من إحساسنا بأن الموسيقى المفتقرة إلى تنافرات واجبة الحسم هي موسيقى عديمة الطعم وغير مستساغة، فإن العالم يبدو وكأنه يقدم لنا تنافرا متواصلا، مع لحظات غريبة من التأجيل. ولكن ليس من المجدي التركيز على هذه النقطة خلال هذه المرحلة. يقدم لنا نيتشه بالفعل ميتافيزيقا الفنان، حيث يعتبر استعصاء المادة المطلوب تنظيمها حافزا لأعمال إبداعية أعظم، ولكنه إبداع يعتبر تقليدا في نفس الوقت، ومن ثم نستطيع أن نقول: إننا نواجه الواقع، بيد أنه يتبدل من خلال إكسابه شكلا.
في مستهل «مرثيات دوينو»، كتب ريلكه يقول: «فالجمال لا شيء/سوى بداية الرعب الذي لم نزل بالكاد نتحمله/ونمجده؛ لأنه يأنف أن يدمرنا» (ترجمة ستيفن ميتشيل، بتصرف بسيط). يمكن أن يقول المرء بموضوعية: إن هذه هي الفكرة الرئيسية في «مولد المأساة». فهي على أقل تقدير مزعجة، وقد نحسها حتى مقززة (يونج، 1992: 54-55). وهي تطمس على نحو حاسم الفارق الراسخ بين السامي والجميل، جاعلة الأول عنصرا مهما للثاني. ولكن قد يكون هذا هو الجانب الأقل إثارة للدهشة في إبداعاته. والأهم أنه يعكس الإصرار الذي حافظ عليه نيتشه طوال حياته المهنية، وأبداه بكل بطولة في حياته الخاصة، بألا يعطي الألم دورا سلبيا على نحو تلقائي في الحياة، وهو الأمر الذي ربما شعر أنه أرهقه خلال المشهد المعاصر مقارنة بأي شيء آخر. في الوقت نفسه، سيطرت عليه رؤية عن العالم بصفته مكانا يتسم بقدر كبير من الرعب لدرجة أن أية محاولة لإكسابه معنى من الناحية الأخلاقية هي ببساطة مستحيلة. لهذا، فإنه في «محاولة في نقد الذات»، بعد أن انتقد الكتاب بشدة أكثر مما فعل أي شخص آخر، معلنا أنه قد وجده «مستحيلا»، لم يزل يجد أنه «يكشف بالفعل عن روح تواجه جميع المخاطر من أجل معارضة التفسير «الأخلاقي» والمعنى وراء الوجود» («مولد المأساة»، «محاولة في نقد الذات»، 5). وبعد عدة أسطر قلائل، يصف «المسيحية باعتبارها أكثر الاستفاضات التي سمعت بها البشرية يوما مبالغة للموضوع الأخلاقي.» على الرغم من أن الإدراك المتأخر واضح هنا، فبالفعل كان نيتشه دائما حساسا تجاه المعاناة (معاناة الآخرين، كان غير مبال إلى حد بعيد بمعاناته) ليجد «تفسيرا» لها من حيث الفائدة التي تحققها لنا، واعتبارها جزاء لنا على خطايانا، وبقية المهاترات التي استمرت على مدار القرون على نحو غير محتمل.
Bilinmeyen sayfa
قد يكون كتاب «مولد المأساة» أكثر الأشياء الرهيبة التي اتهم بها نيتشه وآخرون غيره المسيحية، ولكن هذا الكتاب أثبت أنه مصدر خصب لإلهام علماء الأنثروبولوجيا والباحثين الكلاسيكيين. كما كان له تأثير قوي على الخيال العام، بفضل تركيزه على الثنائية الأبولونية والديونيسيوسية. كما أنه كتاب مثمر في قراءاته؛ فما إن تتضح فكرته العامة حتى نجد العديد من الرؤى المتميزة التي لا توجد في أي عمل آخر لنيتشه. ولكنها لا تغني عن نوع معين من القراءة المتعمقة؛ تلك القراءة الرائجة اليوم وتبحث عن الالتباس والصدع وتدمير الذات، وبقية أدوات التفكيكيين. ووحدها الكتب التي تبدو أنها تحقق وحدة الفكر التي يفتقر إليها كتاب «مولد المأساة» ستفعل ذلك بلا جدال. تظهر تلك الوحدة فقط في الحماس الذي يصمم نيتشه على ربطه بعملية الإحساس بأهم اهتماماته، وتجسدها مثله العليا. وبعبارة أخرى، فإنه كتاب شاب يعتبر أقل موضوعية مقارنة بكتبه اللاحقة فيما يتعلق بقربه من مؤلفه. وربما اللافت أنه أشد تعبير متفاءل كتب يوما عن رؤية كونية متشائمة.
الفصل الثالث
التحرر من الوهم والانسحاب
إن السنوات التي كللت بكتابة «مولد المأساة» كانت هي الأسعد في حياة نيتشه، بل وفي واقع الأمر كانت الأخيرة قبل أن يصيبه المرض والوحدة والنبذ. عندما غادر آل فاجنر مدينة تريبشن وانتقلوا إلى بايرويت عام 1872، انتهت علاقة (علاقات) نيتشه الشخصية الأدوم في دفئها وإثمارها. وفي غياب فاجنر، بدأ نيتشه يشكك في جودة مسرحياته الموسيقية وغايتها؛ تلك التي ظل يتفكر فيها حتى نهاية حياته. ولكنه ظل مع هذا فاجنري الطابع لدى الناس، مجندا لشن دعاية لصالح قضية كانت في أمس الحاجة إلى ذلك. وبسبب قلق نيتشه من وضع الثقافة الألمانية، التي سرعان ما بدأ يشعر أنه بالغ كثيرا في تقديرها في «مولد المأساة»، عكف على كتابة سلسلة من الأوراق للزمن؛ لهذا أسماها «تأملات في غير أوانها». ورغم أنه خطط لتأليف ثلاث عشرة، فإنه لم يكتب سوى أربع. وربما كانت تكفيه اثنتان. فببلوغها خمسين صفحة ونيفا، كالمقالات الطويلة، فإنها تبين نيتشه عاجزا عن اكتشاف قالب يناسب مواهبه؛ إذ إنه في أثناء محاولته لعرض حجة وبسطها بأسلوب أقل حماسا من «مولد المأساة»، يلجأ للمرة الوحيدة في حياته إلى البعثرة والحشو.
ولكن توجد مشكلة أهم من تلك في «تأملات في غير أوانها»، فبينما يوجه نفسه نحو تقييم مدى ازدهار الثقافة المعاصرة، مع هجوم على العجوز ديفيد شتراوس - مؤلف «حياة المسيح»، و«الإيمان القديم والجديد»؛ الكتاب الأخطر بالنسبة إلى نيتشه - ونحو ممارسة علم التاريخ، ثم نحو الاحتفاء بعبقرية شوبنهاور وفاجنر، فإنه - باستثناء التأمل الثاني، «فيما يتعلق بفوائد التاريخ وعيوبه بالنسبة إلى الحياة» - لم يجد موضوعات تتوافق توافقا كافيا مع اهتماماته. فكتاب شتراوس الذي اختاره للنقد في التأمل الأول يعد كتابا سهل القراءة للغاية، فهو مادة للازدراء الذكي لا يمكن مقاومتها، لدرجة أن المرء يتعجب لماذا يعبأ به نيتشه، وهذا ما يبدو واضحا أنه يفعله. ومع هذا، فإنه يستحق أن يقرأ كاملا؛ فهو يتناول الموضوعات نفسها تقريبا التي يتناولها كتاب ماثيو أرنولد «الثقافة واللاسلطوية»، والطريقة الأجدى لقراءته هي أن يقرأ جنبا إلى جنب مع الكتيب السطحي والمؤثر الذي يشترك معه في مصطلحاته بدرجة مدهشة. كما أنه يحتوي على أحد المصطلحات الأكثر إلهاما التي صاغها نيتشه، وهو مصطلح «غير المتأثر بالثقافة»؛ أي الشخص الذي يعرف ما يجب أن يعرفه، ويحرص على ألا يكون لما يعرفه تأثير عليه.
يعتبر التأمل الثاني عملا عظيما، فهو تأمل حقيقي لمدى قدرتنا على التأقلم مع عبء المعرفة؛ المعرفة التاريخية تحديدا، مع تمكننا في الوقت نفسه من الاستقلال الذاتي التام. وينتهي بمناشدة محرضة لنا لاعتناق المفهوم الإغريقي للثقافة والمناقض للمفهوم الروماني، باعتبار أن الأول يدور «حول الثقافة بوصفها طبيعة جديدة ومتطورة، دون ظاهر أو باطن، دون رياء وأعراف، الثقافة بوصفها توافقا للحياة والفكر والمظهر والإرادة» («تأملات في غير أوانها»، التأمل الثاني، 10). هذا أمر عظيم ، لكن هذه المشاعر تتسم بالسمة الخطابية لدرجة أنه ما من شيء في متن النص يجيب عنها على نحو مرض.
يتسم التأمل الثالث؛ «شوبنهاور معلما»، بأنه مربك، ويرجع ذلك بصفة أساسية إلى عدم عنايته بشوبنهاور كثيرا. كانت تبعية نيتشه لشوبنهاور المتشائم المنقوص تتضاءل، وما كان يمدحه عليه في الأغلب هو ازدراؤه للفلاسفة الجامعيين، ولكن شوبنهاور كان قد فعلها على نحو أفضل في مجموعة تأملاته «زيادات ومحذوفات». أما عن التأمل الثالث والأخير؛ «ريتشارد فاجنر في بايرويت»، فهو قراءة مؤلمة. حتى لو لم تكن لدينا فكرة عن أن نيتشه كان - في نفس وقت كتابته - يطرح في دفاتر ملاحظاته أسئلة خطيرة عن فاجنر، كنا سنستشعر وجود مشكلة ما. لقد كانت هذه هي المناسبة الوحيدة التي بدا فيها نيتشه غير صادق، محاولا استعادة حالة عقلية كانت رائعة وقت استمرارها، ولكنها كانت تندفع بسرعة رهيبة نحو الماضي. لكن التفسير الوحيد لحماس فاجنر تجاهها، حين قال: «صديقي، كيف عرفتني جيدا هكذا؟» هو أنه كان منشغلا جدا عن قراءتها. وهي تعتبر، بطريقتها الخاصة، مقدمة ملائمة للحدث الحاسم التالي (أو أحد الأحداث القلائل) في حياة نيتشه: حضوره مهرجان بايرويت الأول عام 1876، وانفصاله عن فاجنر.
رحب معظم المفسرين الذين تناولوا أعمال نيتشه بكثير من الارتياح بعدائه لفاجنر؛ ربما لأنهم يعتقدون أن هذا يعفيهم من معرفة المزيد عن فاجنر. ولكنه بالطبع لم يحقق هذا، بما أن فاجنر هو الشخص الذي يستمر وجوده كثيرا في كتابات نيتشه مقارنة بأي شخص آخر، بمن في ذلك سقراط أو المسيح أو جوته. ولكن عند مستوى معقد، قد يشعرون أن نيتشه لم يكن صادقا مع نفسه عندما كان معجبا بفاجنر، ثم أصبح صادقا مع نفسه بإحداث هذا الانفصال المؤلم للغاية، الذي لم يعه فاجنر لمدة طويلة. وفي الواقع، فإن تحديد العوامل، بترتيب أهميتها، التي أدت إلى هذه النتيجة أمر مستحيل. لا شك أن توقعات نيتشه الساذجة عما سيكون عليه شكل مهرجان بايرويت جاءت مخيبة لآماله على نحو مدمر؛ وكذلك كانت توقعات فاجنر، ولكنه كان يعلم ملابسات الموقف. كان يجب تصفية الحسابات، على الرغم من أن هذا للأسف لم يتحقق؛ ولكن المحاولة كانت تهدف إلى التودد للثري، وتحويل ما كان يجب أن يكون مهرجانا يحتفل فيه المجتمع بقيمه المشتركة بأقل التكاليف إلى شيء تجلى فيه عالم الأثرياء من متجاهلي الثقافة، إلى جانب المنتمين إلى الطبقة الراقية وغيرهم ممن ليست لهم صلة بالحدث.
بعد الفزع الذي شعر به نيتشه تجاه هذه الصحبة، فر إلى المنطقة الريفية القريبة ليتعافى من أوجاع رأسه المتزايدة. هناك، وفي وقت لاحق، تأمل بإمعان علاقته بفاجنر الإنسان والفنان. لقد صار بالتأكيد في مزاج يجعله يرفض أن يكون تابعا لأي شخص، ولا بد أن هذا كان عاملا رئيسيا. ربما كان واقعا في غرام كوزيما؛ الدليل غير حاسم ولكنه يجعل الفكرة معقولة. أما التفسير الأقل إقناعا، فهو ما ركز عليه نيتشه علانية بأن فاجنر قد اعتنق المسيحية. وكان استقبال قصيدة «بارسيفال» فيما يبدو هو القشة التي قصمت ظهر البعير. ولكنه كان حاضرا عام 1869 عندما قرأ فاجنر علانية مسودة القصيدة، وسمع فاجنر يتحدث عن الموضوع، ومن ثم لا يمكن أن تكون هذه القصيدة هي القنبلة التي ادعى أنها السبب. ولا يمكن أن نسقط من الاعتبار طموحات نيتشه كموسيقار، وهي أكثر إحباطاته إحراجا. فهو رجل يستطيع أن يعزف بلا احتراف مقطوعات البيانو الخاصة به أمام فاجنر، ويستطيع - حتى وقت لاحق - مواصلة تأليف مقطوعات كورالية تبدو مثل ترانيم الكنيسة الطائفية مع بعض النغمات الخاطئة ولكنها تسمى «ترنيمة للحياة» أو «ترنيمة للصداقة»، ولكن كان من الواضح أنه غير قادر على تقييم مواهبه الخاصة في هذا الشأن.
ولم يشعر نيتشه بالإحباط باعتباره موسيقارا فحسب. فقد كان بصفة عامة فنانا مبدعا «فاشلا». وهذا يفسر بصورة كبيرة الطريقة المتعجرفة التي يتعامل بها مع الفنانين العظماء، حتى أولئك الذين يعجب بهم كثيرا، على مدار أعماله. وهو يعتبر العضو الأكثر تميزا في هذه الفئة من الكتاب؛ الذين يتمتعون بفراسة لا تضاهى في أفضل حالاتهم، وفي أسوأ حالاتهم يتسمون بالعجرفة والتحريف؛ والذين يبحثون في فن الآخرين بسبب عجزهم عن إنتاج الفن بأنفسهم؛ لكي يبلوروا رؤيتهم الخاصة. وربما يكون جميع النقاد العظماء (أو فئة صغيرة منهم على أية حال) على هذه الشاكلة. فالمرء بالتأكيد لا يلجأ إليهم بحثا عن تفسيرات دقيقة للأعمال التي يتناولونها؛ إذ يمكن ترك هذا للنقاد المجيدين وحسب. ولكن من المبهج رؤية الفنانين العظماء، الذين تبرز صورهم عادة بوصفهم «كلاسيكيين»، في ضوء خيال متقد يقدم عنهم وجهة نظر «متحيزة» على نحو غريب ومبالغ فيه. وربما تفسر، أفضل من أي شيء آخر، الأثر المستمر لأعمال مثل «مولد المأساة».
Bilinmeyen sayfa
ربما الطريقة الأكثر فائدة في النظر إلى هذا الانفصال هي أن نيتشه، للمرة الوحيدة في حياته، قابل أحد رموزه بشحمه ولحمه. ومن الواضح بداية من «مولد المأساة» وما بعدها أن جميع أسماء الأعلام تقريبا في نصوصه لا تمثل الأفراد، بل تمثل الحركات والميول وأساليب الحياة. هذه السمة في نيتشه كثيرا ما تكون ملهمة، وأحيانا فاسدة ومضللة. ويرجع سبب الالتباس المتعلق بحالة فاجنر إلى أن فاجنر كان بالنسبة إليه، في المقام الأول، شخصا تربطه به «علاقة متألقة» (كتاب «العلم المرح»)، ولم يكن قادرا على أن يفصل في كتاباته بين ما كان عليه فاجنر وما أصبح يمثله، ومن ثم فإن درجة التناقض التي يبديها تجاهه تفوق تلك التي يبديها تجاه بقية أبطاله الأشرار. ولو لم يقابل فاجنر قط، لأعطاه مع هذا حتما دورا مهما في أعماله؛ لأن فاجنر بالنسبة إليه كان يجمع، بطريقة مريحة، بين صفات كانت سائدة في ثقافة نهاية القرن التاسع عشر التي كان يناقضها بمرارة، وإن لم يكن ذلك لهدف محدد مثلما كان يريد. ولكن خسارة فاجنر باعتباره صديقا ومعلما، على الرغم من أنها كانت ضرورية، كلفت نيتشه أكثر مما كان قادرا على تحمله.
تعامل نيتشه مع مشكلاته بالطريقة الوحيدة التي طالما كانت متاحة له؛ كان يكتب على نحو استثنائي، فينتج كتابا جديدا يعكس بجميع المقاييس قدراته السريعة النمو، وبالطريقة التي سيتبعها من الآن فصاعدا مع معظم ما يؤلفه. فكتابه «إنسان مفرط في إنسانيته»، الذي وضع له العنوان الفرعي «كتاب للعقول الحرة»، انقسم إلى تسعة كتب، تحمل عناوين عامة للغاية، و638 جزءا مرقما، يحمل العديد منها عناوينه الخاصة (كان ينوي أن ينشر لاحقا جزأين متممين مهمين للغاية، ولذلك يعد المجلد بأكمله هو الأضخم بين كتبه). كما هو الحال مع جميع الكتب التي تصاغ بهذا الأسلوب، فإن قراءتها مجهدة. فعلى الرغم من أن الأجزاء مصنفة معا حسب موضوعها، سمح نيتشه لنفسه بكثير من الحرية، ومن ثم تنهال على المرء أفكار معينة تحل محلها أفكار أخرى بنفس المعدل لدرجة أن النتيجة لا تذكر؛ وهو ما يسبب الارتياع للمرء. والحل الوحيد هو تمييز الأجزاء التي تترك أثرا خاصا، والعودة إليها لاحقا. ويعد هذا عنصرا حاسما في استراتيجية الكتابة التي يتبعها نيتشه، على الرغم من خطورتها. وانتشارها بإفراط شديد وعلى نحو مفاجئ في كتاباته هو تعبير عن نفوره من شبه القصة في «مولد المأساة»، وهو كتاب يسهل تذكره على الرغم من بهرجته البلاغية، والسبب ببساطة أنه يحمل حلقة وصل.
ولكن على الرغم من الحداثة الدائمة التي يتسم بها كتاب «إنسان مفرط في إنسانيته»، فثمة شيء يميزه يدفع المرء إلى الشعور بأن نيتشه لا يعمل بالمستوى الذي اعتاد عليه. والإهداء الذي خصصه لفولتير عبارة عن تحذير. فعلى الرغم من أن سطحية فولتير المرحة ربما تكون الأمر الذي شعر نيتشه أنه يريده بعد المجهود المتواصل الذي بذل لسبر أغوار التشاؤم الرومانسي، فمن الصعب التفكير في مزاجين متعارضين على نحو جوهري. ورواية «كانديد»، التي تمثل نقد فولتير للتفاؤل، هي في حد ذاتها كتاب متفائل على نحو لا يمكن تجاهله. وما أثار إعجاب نيتشه بفولتير، على غرار إعجابه بصائغي الأمثال الفرنسيين المنتمين إلى القرن السابع عشر، هو صرامة الأسلوب، وهي سمة أبولونية توحي بأن التجربة يمكن تغليفها في حزم صغيرة جذابة وأنيقة. كل كتابات الأمثال الجيدة يصعب قراءتها؛ لأن القارئ يضطر أن يتولى الكثير من عمل الكاتب نيابة عنه. فالكاتب يقدم جملة، يحولها القارئ إلى فقرة. وقد كتب نيتشه يقول إنه أراد أن يعبر في صفحة واحدة عما قد يحتاج شخص آخر إلى كتاب كامل للتعبير عنه - وما لن يستطيع حتى في هذه الحالة النجاح في التعبير عنه. ولكن نوع الأمثال وأشباه الأمثال التي كان يتطلع إلى كتابتها هي تلك التي كان سيصبح تأثيرها تبديل وعي القارئ. بعبارة أخرى: كان سيصبح لها تأثير عكسي لتلك التي صاغها لاروشفوكو، على سبيل المثال. دائما ما كان نيتشه ينتج، في أفضل حالاته وسماته، نقيض ما يغلف التجربة؛ فضرباته ومضايقاته وإهاناته موجهة بحيث تجعلنا نشعر بالخزي، ليس فقط تجاه أنفسنا، ولكن أيضا تجاه رضانا عن أنفسنا بالتفكير في أننا نملك أفضل الصفات التي تمكننا من إدراك ما قد نكونه. وهي ليست مرهقة، ولا تبعث على التعب؛ لأنها تقودنا إلى إحساس أفضل باحتمالات الهروب من روتين كينونتنا. وقد اتسم متبعو المذهب الأخلاقي في الفكر الفرنسي بقوة الملاحظة والتعليق بكياسة على الحالة الإنسانية السرمدية. وهم يولدون «إحساسا» بالخزي لدى القارئ، ولكن دون أي توقع بأنه قد يتغير مطلقا.
لذلك، فإن تودد نيتشه المطول لهم كان يتعلق بالكيفية التي يقولون بها الأشياء وليس ما يقولونه. ولكن هذا يوحي بشيء غريب؛ فهو شديد التمسك بعدم انحلال الشكل والمضمون من البداية إلى النهاية. كيف كان سيستطيع بغير ذلك توجيه كل هذا التركيز نحو النوع الأدبي في «مولد المأساة»، حيث أدت حقيقة اعتبار هذا العمل دراميا بدلا من كونه قصيدة ملحمية إلى إحداث تأثير مختلف كلية؟ والأمر الوحيد الذي يمكن به تفسير ذلك هو ابتعاد نيتشه التام عن الرومانسية؛ كل شيء الآن يجب النظر إليه في ضوء النهار الساطع، ويجب في الوقت نفسه أن يكون فيه موحيا للغاية. في «إنسان مفرط في إنسانيته»، نجد نيتشه أكثر انشغالا بالحالة الأولى عن الثانية، والنتيجة أن المرء يشعر، حتما في ضوء عمله اللاحق، أنه يقيد نفسه، مستكشفا المشهد - أي الطبيعة الإنسانية في تجلياتها كحياة اجتماعية والشغف ونفسية الفنانين والعزلة - دون الرغبة في التغيير التي تعتبر سمته المميزة. وهكذا، إذا تناولنا على نحو عشوائي إحدى «رؤاه»: «التعطش للألم العميق»، حين ينتهي الانفعال، فإنه يترك فينا حنينا غامضا إليه ويلقي علينا، وهو يختفي، نظرة مخادعة. لا شك أن المرء قد وجد نوعا من اللذة في أن يضرب بمقارع ذلك الانفعال. أما الأحاسيس المعتدلة فتبدو باهتة بالمقارنة به، ويبدو أن الناس سيفضلون دائما كدرا شديدا على لذة واهنة. «إنسان مفرط في إنسانيته»، الجزء الأول، 606
هذا قول عميق، ويثير إحساسا بالتقدير، لا الصدمة. وفي مواضع أخرى، قد تكون الدقة مؤلمة: ««إجبار النفس على الإصغاء»، بمجرد أن نلاحظ أن شخصا ما يجبر نفسه على الإصغاء إلينا عند التواصل والتحدث معنا، فإننا يصبح لدينا دليل قاطع على أنه لا يحبنا بالمرة أو لم يعد يحبنا» («إنسان مفرط في إنسانيته»، الجزء الثاني، 247).
إن تأليف كتاب «إنسان مفرط في إنسانيته»، بوصفه كتابا قال عنه فاجنر عند استلام نسخته الموقعة منه إن نيتشه سيشكره في يوم من الأيام على عدم قراءته، قد كشف لنيتشه عن بعض جوانب نفسه التي لا بد وأنه كان سعيدا باكتشافها. فأولا: أنه ينتمي إلى تلك السلالة النادرة التي لا تغفل شيئا. وعلى الرغم من أن نطاق خبرته كان محدودا على نحو استثنائي في جوانب كثيرة، فإنه استطاع أن يدرس ثقافته ومعارفه على نحو ملائم وأن يعطي تفسيرات عامة عنها بأسلوب جريء. وفي «هذا هو الإنسان»، الذي يعتبر سيرته الذاتية الغريبة التي يتراوح فيها المزاج على نحو متقلب بين الدراما والسخرية، يهنئ نيتشه نفسه على أن له أنفا جميلا على نحو لافت، وهو ذلك العضو الذي مال الفلاسفة إلى تجاهله. ويوجد الدليل الصادم الأول على حدته في «إنسان مفرط في إنسانيته». ثانيا: كشف له أنه حتى في ظروف البؤس والحرمان التي عاشها استطاع أن يعمل بمستوى متألق أنتج نفسه بنفسه. ومثلما هو الحال في «مولد المأساة»، يشعر المرء أن زخم الكتابة هو سبب معظم ما يثير الإعجاب فيها. ثالثا، والأهم: كان قادرا على التعمق في موضوعات سببت آلاما مفزعة دون أن يظهر أقل درجة من الحقد؛ لقد كان كتاب «إنسان مفرط في إنسانيته» عملا وضح فيه ما لم يدافع عنه بعد؛ أنه من الممكن تحويل الظروف العصيبة التي تحدث إلى أهداف إيجابية، وإظهار الروح المعنوية المرتفعة دون أن يعلن لنا أن هذا ما يفعله، وهي نزعة مرهقة في بعض أعماله اللاحقة.
يواصل كتابه اللاحق، «الفجر»، الذي يحمل العنوان الفرعي «تأملات حول الأفكار الأخلاقية»، أسلوب «إنسان مفرط في إنسانيته»، ولكنه ينحرف انحرافا خطيرا عن مضمونه، ويعتبر كتيبا صغيرا مقارنة بأعماله اللاحقة. فيما بين عام 1878، الذي نشر فيه «إنسان مفرط في إنسانيته»، وسط تجاهل عالمي، وعام 1880، الذي كتب فيه «الفجر»، تغير نمط حياته تغيرا بالغ الأثر، وبدأ النمط الذي سيعيش به خلال العقد القادم. احتار معظم أصدقائه في سبب تغيير اتجاهه، وانعزل عن الجميع باستثناء الأوفياء. وفي عام 1879، بعد فوات الأوان ببضع سنوات، تخلى عن أستاذيته في جامعة بازل، بعد أن فقد طلابه أي حماس تجاه ما يلقيه. وفي ذلك العام أيضا، أصيب بالصداع النصفي الحاد لمدة 118 يوما، مما أقعده عن العمل. وتدهورت صحته بسبب النوبات المجتمعة من الزحار والدفتريا اللذين أصيب بهما عام 1870، خلال سنوات خدمته باعتباره ممرضا مساعدا في الحرب الفرنسية البروسية؛ وعلى الأرجح أن مرض الزهري قد انتقل إليه من إحدى الداعرات في وقت ما في نهاية السبعينيات من القرن التاسع عشر خلال إقامته في إيطاليا، وهو ما قاده في النهاية إلى الجنون والشلل. منذ ذلك الحين فصاعدا، عاش حياته متنقلا، باحثا عن أماكن تخفف عنه آلام مرضه، وتوفر له أقصى درجات العزلة لكي يكتب. وكانت أماكنه المفضلة هي مدن شمال إيطاليا في الشتاء، وجبال الألب السويسرية في الصيف، على الرغم من أن هذه لم تصبح عادة سنوية لديه حتى عام 1882.
يقدم نيتشه بعض النصائح حول كيفية قراءة كتاب «الفجر»، على الرغم من أنها تأتي في نهاية الكتاب؛ «لم أكتب هذا الكتاب حتى يقرأ من البداية إلى النهاية قراءة سريعة، ولا ليقرأ بصوت مسموع، ولكن على القارئ أن يقرأ أجزاء صغيرة منه، خصوصا في تنزهه أو سفره، ويغوص في أعماقه، ثم ينظر حوله فلا يرى شيئا مألوفا» («الفجر»، 454). هذا كله جيد، ولكن لو أخذناه على محمل الجد فإنه قد يدفع المرء إلى عدم قراءته مطلقا حتى نهايته. لذلك فمن الجيد قراءته باعتدال، ثم الأخذ بنصيحة نيتشه، إذا كنا نرغب في ذلك. ولكنها ليست نصيحة جيدة فعلا، بل إنه ربما كان يقصد بها التهكم. فهذا الكتاب، الذي يعتبر أحد كتب نيتشه الأقل دراسة، هو الذي يعود فيه إلى مسعى حياته، بل قد يبدو أنه يبدأ فيه مسعاه، ولكننا بذلك نغفل مدى تشكيل كتاب «مولد المأساة» لمسار حياته.
الفصل الرابع
الأخلاق ونقماتها
Bilinmeyen sayfa
كان اهتمام نيتشه الأساسي على مدار حياته منصبا على رسم العلاقة بين المعاناة والثقافة، أو الثقافات. وهو يصنف الثقافات ويفرزها حسب طريقة تأقلمها مع المعاناة كلية الوجود، ويقيم الأخلاق بناء على المعيار نفسه. ولهذا السبب كان مهتما بالتراجيديا، لكنه فقد هذا الاهتمام عندما بدأ يشعر أنها ليست خيارا عصريا. ولهذا كان دائما مشغول البال على نحو بالغ بالبطل، في الحياة أكثر منه في الفن، واحتاج في نهاية المطاف إلى إعادة تطهير نفسه روحيا باعتباره إنسانا أسمى
Übermensch (لن نترجمها بأنها «الإنسان الخارق» تفاديا للسخافة واللامعقولية، ولا «الإنسان الأعلى» اتقاء للتكلف). هذا هو أساس هجومه على الميتافيزيقا السامية، وعلى جميع الأديان التي تفترض وجود حياة بعد الموت. وبالطبع، كان هذا ذا أهمية «وجودية» أساسية بالنسبة إليه؛ لأنه كان يعاني في حياته.
إن هذا الانشغال بنظرة الإنسان إلى المعاناة يرتبط باهتمام نيتشه بالعظمة لا بالجودة؛ لأنه لا توجد عظمة دون استعداد وقدرة على تحمل قدر هائل من الألم واستيعابه واستثماره على نحو أمثل. قد يتخيل المرء أن العظمة تنطوي على الاستفادة من الألم، وأن الجودة تنطوي على محاولة التخلص منه. ويكرس نيتشه جميع أعماله اللاحقة لاستكشاف هذا الفارق العويص. ففي «الفجر»، قدم تحليلاته الأولى - التي لم تكن تجريبية مطلقا - لآليات الأخلاق، ولنوع النفوذ الذي تستحضره.
تفاديا لسوء الفهم، لعل من المفيد أن نقتبس باستفاضة فقرة من «الفجر»، والتي تضعف العديد من الانتقادات التي كثيرا ما وجهت إلى نيتشه:
ثمة طريقتان لإنكار الأخلاق. فقد يعني «إنكار الأخلاق» أولا: إنكار أن تكون البواعث الأخلاقية التي يستخدمها الناس هي التي تقف حقا وراء أفعالهم، وهو ما يعني أن الأخلاق مجرد كلام وأنها من الخدع الفظة أو المعقدة التي يمارسها الإنسان، وربما خصوصا أولئك الرجال المشهورين بفضيلتهم (وهي كثيرا ما تكون خداعا للنفس). وقد يعني ثانيا: إنكار أن تكون الأحكام الأخلاقية قائمة على حقائق. وفي هذه الحالة نسلم بأن هذه الأحكام هي البواعث الحقيقية للأفعال، وبأن الأخطاء، التي هي أساس كل الأحكام الأخلاقية، هي التي تقف وراء أعمال الناس الأخلاقية. هذا الرأي الأخير هو رأيي؛ لكنني لا أنفي أنه في كثير من الحالات يكون الارتياب في الرأي الأول - أي كما يرى لاروشفوكو وغيره ممن يفكرون بطريقته - شيئا في محله وله فائدة كبيرة عموما. أنا إذن أنكر الأخلاق كما أنكر الخيمياء، بمعنى أنني أنكر فرضياتها، لكني لا أنكر أنه قد وجد خيميائيون آمنوا بهذه الفرضيات وارتكزوا عليها في أعمالهم، كما أنكر اللاأخلاقية: ليس لأن العديد من الناس يشعرون بأنهم غير أخلاقيين؛ بل لأنه لا يوجد سبب يدعوهم للإحساس بكونهم كذلك. كما لا أنكر أنه من البديهي - إذا سلمنا بأنني لست أخرق - تفادي الكثير من الأعمال اللاأخلاقية ومحاربتها؛ وأنه يجب القيام بالكثير من الأعمال الأخلاقية والتشجيع عليها - ولكنني أعتقد أننا يجب أن نشجع هذا ونتفادى ذاك لأسباب غير التي كانت وراء قيامنا بهما حتى الآن. علينا أن نغير طريقتنا في النظر إلى الأمور - لنتوصل في نهاية المطاف، ربما في مرحلة متأخرة جدا، إلى تغيير طريقتنا في الشعور. «الفجر»، 103
من المؤسف أن ما يصفه لنا نيتشه بأنه «بديهي» هو شيء نادرا ما كلف نفسه عناء تكراره بتلك الطريقة؛ لأنه من المعروف على نحو دارج وشائع أنه أنكر بالفعل «تفادي الكثير من الأعمال اللاأخلاقية ومحاربتها» ... إلخ. لاحظ، على الرغم من ذلك، في هذا الكتاب الشديد الدقة - وهو ملمح متكرر في كتاب «الفجر» تدهشنا كثيرا ندرة الإشارة إليه - أنه يقول: «الكثير» من الأعمال ، ولكنه لم يحددها . وحسب اعتقادي، يرجع هذا جزئيا إلى خضوع آرائه لتطور جذري في ذلك الوقت، وربما لم يرغب في إلزام نفسه بحالات معينة. ولكنه متردد أيضا في هذه المرحلة حول إلى أي مدى سيؤدي سحب «الفرضيات» الأخلاقية إلى تغيير النتائج. ومن بين الفرضيات التي يواصل فورا مهاجمتها تلك التي تحدد هدف الأخلاق بأنه يعنى ب «الحفاظ على الإنسانية وتحقيق تقدمها»، والتي يسأل عنها قائلا:
هل يمكن للمرء أن يستنتج من ذلك عن يقين ما إذا كان من الواجب إطالة وجود الجنس البشري لأمد أطول، أم إخراج الإنسان - ما أمكن ذلك - من حالة الحيوانية؟ لا شك أن اختلاف الوسيلة، وأقصد الأخلاق العملية، سيكون كبيرا في الحالتين ... أو إذا سلمنا بأن الهدف هو «السعادة الكبرى» للإنسانية كإجابة عن سؤال «على ماذا» و«على نحو ماذا»، فهل فكرنا في أعلى درجات السعادة التي قد يصل إليها بعض الأفراد؟ أو في السعادة المتوسطة، التي لا يمكن بالضرورة تحديدها، والتي قد يصل إليها جميع الناس في نهاية المطاف؟ ولماذا سيختارون الأخلاق ليبلغوا ذلك الهدف؟ «الفجر»، 106
ويواصل نيتشه بإيقاعه الهائج، تاركا المفسر البائس في حيرة من أمره حول ما إن كان عليه أن يشرح الأمر بالتفصيل أم لا، وهو عمل قيم كان من الممكن أن يؤدي إلى إنتاج كتاب ضخم للغاية، ولكن ليس أضخم من الكتب التي حازت مرارا وتكرارا العديد من الجوائز عن أعمال بلا قيمة، مثل كتاب كانط «نقد العقل العملي»، وهو بلا شك أكثر خيبات الأمل فجاعة في تاريخ الفلسفة، والذي جاء بعد «نقد العقل الخالص»، أحد أعظم أمجاده. على أية حال، هذا مستحيل هنا. فالهجوم الأساسي لكتاب «الفجر»، الذي حمل أيضا كما هو الحال دائما، تأملات حول موضوعات كثيرة ومتنوعة تشغل الموسيقى المعاصرة حيزا كبيرا منها؛ كان يهدف إلى توضيح الأزمة التي وقعت الأخلاق فيها. فحسبما يصفها باقتضاب: ««المنفعة»، أضحت المشاعر اليوم متشابكة في الأمور الأخلاقية إلى حد أنه في نظر أحدهم تثبت الأخلاقيات من واقع منفعتها، فيما تدحض لدى آخر بسبب المنفعة ذاتها » («الفجر»، 230).
إن الملحوظ بشأن كتاب «الفجر» هو محدودية فرضياته وتواضعها. فما من إشارة إلى أن زرادشت سينزل قريبا من فوق الجبل ليحطم جميع أوثاننا الأخلاقية. إن معظم الأمور التي يؤكد عليها تبدو بالنسبة إلي غير قابلة للجدل، ولكن من الواضح أنها ليست كذلك بالنسبة إلى الجميع. وهكذا ما زلنا نجد العديد من الأشخاص، ومن بينهم الفلاسفة، يدعون، مثلا، أن الأخلاق نظام يدعم نفسه بنفسه، ولا يعتمد على أي شيء خارجه، وأن الأخلاق مبنية على المنطق، وأن أساس الأخلاق واضح؛ أي إن الأخلاق، حسبما يقول نيتشه، تثبتها منفعتها أو تدحضها نفس المنفعة. من المهم مناقشة هذه الموضوعات باستفاضة، ولكن هذا سيكون أمرا خارج السياق عند النظر إلى تطور نيتشه؛ لأن جميع المناقشات الحالية عن الأخلاق، على الأقل في العالم المتحدث بالإنجليزية، تفترض بالكامل إنكار نيتشه. وما من مناقشة، على حد علمي، مستعدة لأن ترى كيف أن قوانين الأخلاق المتنوعة والمتباينة إلى حد ما التي نصادفها تنشأ عن آراء متضاربة حول طبيعة العالم. إنه لمن المثير للعجب، على سبيل المثال، أن نسمع الفلاسفة يتحدثون عن «حدسهم» كشيء يمكن الوثوق به دون رقابة، ما لم يتعارض حدس مع آخر. «حدسي يخبرني أن ...» هي طريقة شائعة لبدء مناقشة فلسفية، كما لو أن هذا الشخص يجسد الصوت الخالد للبشرية!
ومن هذا المنطلق أيضا، الذي إذا لم يكن نابعا من حدس المرء نفسه فهو نابع إذن من حدس الذين «نشاركهم» حدسهم، قوبلت دائما العديد من المواقف الأخلاقية لنيتشه بالتجاهل باعتبارها «نخبوية» و«مناهضة للديمقراطية»، وغير ذلك من أسباب أخرى. إنه موضوع حيوي، ويجب أن يتأقلم معه أي مفسر لفكر نيتشه، وسأقتبس هنا، باستفاضة أيضا، من هنري ستاتين، الذي كتب ما أعتبره أكثر الكتب التنويرية عن نيتشه:
Bilinmeyen sayfa
لم تسقط معتقداتنا الأخلاقية من السماء، كما أنها ليست مسوغات لكي نمرق إلى تأسيس استقامتنا الأخلاقية. فكر في بقية تاريخ الإنسانية، بما في ذلك معظم تاريخ العالم في الوقت الحاضر. كيف نبرر هذا المشهد الطاغي من القسوة والغباء والمعاناة؟ ما الموقف الذي نتبناه تجاه التاريخ، ما الحكم الذي يمكن أن نصدره؟ هل الأمر كله خطأ كبير؟ لقد حاولت المسيحية علاج معاناة التاريخ عن طريق وضع خطة دينية هادفة في المكان والزمان الحاضرين وتقديم المكافأة لاحقا، ولكن الليبرالية كانت شديدة الإنسانية بحيث لم تستطع تقبل هذا التفسير. لا يوجد تفسير، توجد فقط الحقيقة المرة. ولكن الحقيقة المرة التي نواجهها أشد قسوة من التفسير القديم. ولذلك تصوغها الليبرالية اليسارية في قصة جديدة، قصة أخلاقية تندمج طبقا لها جميع تلك الحيوات في آلية التاريخ وتتخذ دورا واضحا باعتبارها ضحايا القمع والظلم. ثمة غائية ضمنية في هذا الرأي؛ فالليبرالية اليسارية الحديثة هي النهاية التي تعطي شكلا ومعنى لبقية التاريخ. ومؤخرا فقط أصبح بإمكان كاتبة مثل أوفيليا شوت - التي تنتقد نيتشه بشدة في كتابها «ما وراء العدمية: نيتشه دون أقنعة» بسبب تسلطه - أن تكتب بحرية، وبثقة كبيرة بأن التقديرات التي تفترضها سوف يستقبلها الجمهور الأكاديمي كأمر مفروغ منه، تماما مثل الواعظ المسيحي الذي يكتب من أجل جمهور متدين. وفقط في إطار التطويق الوقائي لهذا المجتمع العقائدي يمكن بلوغ الرضا بأداء هذه الخطبة؛ أي الإحساس بأن أي شيء ذي قيمة قد تحقق بفضل هذا الإلقاء. عندما يطمئن هذا المجتمع الأخلاقي نفسه تجاه عقيدته بواسطة هذا الإلقاء، يصبح متنفسا لمعنى التاريخ، باعتباره الموضع الذي قد يشغله المرء لكي ينظر إلى التاريخ ويصدر حكمه عليه دون أن ييأس أو يغلق عينيه ويسد أذنيه. ربما لا توجد أية خطة للتاريخ، ولا أية طريقة لتعويض الخسائر للموتى، ولكننا نستطيع أن نرسم خطا غير مرئي لسداد الحكم عبر التاريخ وبهذه الطريقة نتفوق عليه. وبدلا من عبارة «هكذا كان» المخيفة التي تصف التاريخ، نستخدم العظمة المهيبة لعبارة «هكذا كان «يجب» أن يكون.»
لكن ليبراليتنا شيء نشأ بالأمس ويمكن أن يختفي غدا. أول أمس كان الآباء المؤسسون يستعبدون السود. ما الأمل الضئيل الذي نشغل بالنا به على الرغم من احتماليته وهشاشة وجوده، ويمكننا من إضاءة جميع الماضي وربما المستقبل أيضا ؟ لأننا نريد أن نقول إنه على الرغم من أن مجتمعنا المتدين قد يندثر، فلن يؤثر هذا على شرعية هذه المعتقدات. سيظل خط الاستقامة يقطع التاريخ.
ستاتين، 1990: 78-79
يجتهد ستاتين ليوضح، بعد فقرته المثيرة للإعجاب الشديد، أنه لا ينتقد الليبرالية على أساس نسبي، ولكنه فقط يدعم فكرة نيتشه حول احتمالية موقفنا التاريخي، ومن ثم قيمنا. يعني هذا بالتأكيد أنه لا يكفي تنفيذ طقوس الإرهاب في آرائه اللاحقة، ولكن أنه يجب رؤيتها كجزء من تدبير قيمي من حيث محاولته وحده للتأقلم مع الحياة، بنبرة متكررة وحادة باستمرار.
على الرغم من أن كتاب «مولد المأساة» ينظر إلى التراجيديا بعين المتفرج، ولعل هذا يرجع جزئيا إلى أنه يتعامل مع الشكل الدرامي وليس مع التاريخ الإنساني، فإنه يبدو بوضوح كاف أنه بالنسبة إلى نيتشه تعتبر فظاعة الوجود حقيقة باقية على الدوام. «لا يمكن تبرير الحياة إلا بكونها ظاهرة جمالية فقط»، ولكننا يجب أن نتذكر أن نيتشه يقول أيضا، في الكتاب نفسه، إننا نحن أنفسنا جزء من هذه الظاهرة. فلا «حياة» بينما نحن جالسون لنتفرج. ولو كان قد فكر في هذا عام 1871، لعرف خطأه فورا بأقسى الطرق.
هل تعني الأخلاق تنوع المواقف التي يعتنقها المجتمع بصورة رسمية معلنة؟ إنها تحقق رخاءنا، في صورته الأساسية، حتى نشعر على الأقل بالأمان عندما نولي الآخرين ظهورنا. لا يمكن أن ننكر هذا، فهذا ما يعنيه نيتشه بقوله إنه لا ينكر أن الكثير من الأعمال اللاأخلاقية يجب تفاديها ومحاربتها ... إلى آخر قوله. لكن أليست هذه مجرد مسألة حصافة؟ بالتأكيد، حسب قول نيتشه. والفكرة التي روج لها الكثير من الفلاسفة - بداية من أفلاطون، بأن الحصافة موجودة من ناحية (أقل أهمية)، والأخلاق موجودة من ناحية أخرى (أكثر أهمية)، والتي تخصص لها عقوبات متسامية النوع - تصدمه باعتبارها تفاهات أخلاقية. وهكذا، فثمة مستوى من الأخلاق يخدم غاية مفيدة، ويحتاجه أي مجتمع ليحافظ على استمراره - على الرغم من أنك لو كنت صاحب نفوذ، فسوف تستطيع بالطبع التنصل من الكثير من الجرائم. ولكن هذا وضع سيحدث ما دامت الحياة مستمرة. فلماذا لا نعطي للحياة معنى وهدفا بما أننا وصلنا إلى هذا المدى؟ كثيرا ما يستخدم مصطلح «الأخلاق» لتغطية هذا الأمر أيضا، على الرغم من أن بعض الأشخاص يفضلون الحديث عن «المثل العليا» التي يقولون إنها تختلف على نحو أساسي من شخص إلى آخر. لا يبحث نيتشه في هذه الأمور الاصطلاحية، ولكنه عندما يدين الأخلاق أو أنواعا منها، وعندما يصف نفسه بأنه فاسد، فإنه يضع في اعتباره معنى الحياة والهدف منها.
هنا تبدأ الأمور في التعقيد. وفي محاولة لتبسيطها قدر الإمكان، سأحاول أن أحيد بعض الشيء عن اتباع الترتيب الزمني في عرض نيتشه، وأن أعتمد كثيرا أيضا على مقال كتبه فريتجوف برجمان، عن «نقد نيتشه للأخلاق» (سولومن وهيجنز، 1988). ولكن ما يبعث على الطمأنينة أنه في بعض الأحيان يتفق المفسرون إلى درجة اعتناق نفس الآراء. وفي معرض حديثي، فإن الفارق بين الأخلاق بوصفها رفاهية والأخلاق بوصفها مثلا أعلى سيتلاشى فعليا، إلى جانب أمور أخرى كثيرة.
أول أمر يجب وضعه في الاعتبار هو أن نيتشه لا ينكر (إلى حد ما) وجود القيم. إنه لخطأ شائع وعجيب أن نتصور هذا عنه. ولكن إنكار القيم هو ما يقصده في المقام الأول بحديثه عن «العدمية»، التي يكره ورودها أكثر من أي شيء آخر. لو نظر أحيانا إلى نفسه باعتباره نبي العدمية، فهذا لا يعني أنه يعلن وصولها كأمر يجب الاحتفاء به، ولكن بنفس معنى أن إرميا كان النبي الذي تنبأ بالدمار لبيت المقدس. وما يصوره، في كتاب تلو الآخر، هو الانحدار التدريجي والمتسارع في الوقت نفسه الذي يمر به الإنسان الغربي وصولا إلى حالة لا تترك القيم فيها بعد ذلك أثرا قويا عليه، أو يتشدق بها ولكنه ما عاد يؤمن بها. وهذا ما يراه وشيك الحدوث. كيف وقعت هذه الكارثة، التي لم يبد أن أحدا من معاصريه قد لاحظها، وكيف يمكن علاجها؟
تقتضي الإجابة النظر إلى جانبين من الأخلاق؛ الأول: هو منبعها، والثاني: هو مضمونها. تنبع الأخلاق بالصورة التي تمارس بها حاليا من الفكر المسيحي-العبري، في الجزء الأكبر منها؛ مما يعني أن جذورها موجودة في إملاءات الرب لقبيلة صغيرة شرق أوسطية، وأن مضامينها لم تزل كما كانت من قبل. وهذا يسمو بها فورا بطريقتين؛ أولا: أن تنفيذها هو مسألة فروض لا جدال فيها، وكان عقاب مخالفتها في وقت من الأوقات جزاء إلهيا فوريا. وثانيا: بما أن المضمون كان مصمما خصيصى ليضمن استمرار القبيلة، التي كانت ظروفها الحياتية مختلفة تماما من نواح عدة عن ظروفنا الحياتية، إذن كان يجب أن يكون أكثر تجريدا وانفصالا عن الظروف التي نعيش فيها. وكانت النتيجة أن الأخلاق قد أصبحت غامضة من ناحية، ومن ناحية أخرى أيضا كان يجب فرض صلتها عن طريق تحويلنا إلى كائنات يصلح أن تطبق الأخلاق عليها بعقلانية، حتى على الرغم من أننا نعرف أن هذا غير حقيقي من نواح عدة.
يتعقد الأمر أكثر بالتعارض بين العهد القديم والعهد الجديد، وكذب المسيح بادعائه «لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس! ما جئت لأنقض بل لأكمل» (إنجيل متى، الإصحاح الخامس، الآية السابعة عشرة). بما أن العديد من مبادئه المثيرة للإعجاب تتعارض تعارضا تاما مع الناموس، مثل: «لا تقاوموا الشر.» وإن كان العهد القديم بقي جزءا من شريعة النصوص المقدسة، فدائما ما كانت المسيحية تواجه أزمة هوية أخلاقية. وعلى الرغم من كون هذا الموضوع عاملا مهما في الالتباس الأخلاقي للغرب، فإنه غير مهم بالنسبة إلى نيتشه الذي انصب اهتمامه الأساسي على طبيعة العقوبات الأخلاقية بصفة عامة.
Bilinmeyen sayfa
اهتم الفلاسفة، لأسباب مختلفة، خلال الثلاثمائة عام الماضية تقريبا بمساندة المبادئ الأخلاقية التي ورثوها، بينما يحاولون في الوقت نفسه العثور على أسس جديدة لها، بما في ذلك الدافع المحدود لإنكار حاجتها إلى أسس. وبناء عليه، فمن المؤسف أن كراهية نيتشه للإنجليز قد قادته إلى مهاجمة جورج إليوت بينما كان يهدف أصلا إلى مهاجمة فكر تلعب هي فيه دورا غير محوري. ويتجلى هذا الهجوم في «أفول الأصنام»، أحد أواخر كتب نيتشه، ولكنه يلخص - مثلما يفعل في كثير من أعماله الشديدة الذكاء والحدة - ما كان يقوله في هذا الشأن على مدار عقد كامل:
لقد تخلصوا من إله المسيح، ويعتقدون أنه ينبغي عليهم الآن أن يظلوا متمسكين بالأخلاق المسيحية. إنه ثبات إنجليزي، ولا نريد أن نلومهم على الأخلاق الأنثوية على المنوال الإليوتي. ففي إنجلترا، على المرء مقابل كل تحرر صغير من اللاهوت أن يعيد الاعتبار إلى نفسه بتبني تعصب أخلاقي مفزع. إنها الكفارة التي تدفع هناك ثمنا لذلك.
أما عندنا، نحن الآخرين، فالأمور تختلف تماما. عندما نتخلى عن الديانة المسيحية يكون علينا أن نتخلى أيضا عن الحق في الأخلاق المسيحية. غير أن هذا الأمر ليس بديهيا على الإطلاق؛ على المرء أن يظل يعيد طرح هذه المسألة إلى النور، رغم أنف الرءوس المسطحة الإنجليزية. إن المسيحية نظام ورؤية كلية ومتكاملة للعالم، وإن انتزعنا فكرة أساسية منها، ونقصد بذلك الإيمان بالله، فإننا نكون قد حطمنا الكل، ولن يكون بين يدينا بعدها شيء ضروري. تفترض المسيحية أن الإنسان لا يعرف، ولا يمكنه أن يعرف ما هو خير بالنسبة إليه وما هو شر؛ إنما هو يؤمن بالله الذي له وحده العلم بذلك. الأخلاق المسيحية فرض، ومنبعها متعال، وهي تقع فوق كل نقد، وفوق كل حق في النقد، ولا تحتوي إلا على الحقيقة، إذا كان الله هو الحقيقة؛ فهي تستقيم وتنهار مع الإيمان بالله.
إذا كان الإنجليز يعتقدون فعلا أنهم يعرفون «بالفطرة» ما هو خير وما هو شر، وإذا كانوا يعتقدون بناء على ذلك أنهم لم يعودوا بحاجة إلى المسيحية كضمان لقيام الأخلاق، فإن هذا في حد ذاته يمثل نتيجة لسيادة الحكم القيمي المسيحي، وتعبيرا واضحا عن قوة هذه السيادة وعمقها، بما يجعل منبع الأخلاق الإنجليزية يتوارى بين طيات النسيان، وبما يجعل الناس لا يشعرون البتة بضرورة ارتباطها الوثيق بمبررات حقها في الوجود. فالأخلاق بالنسبة إلى الإنجليزي ما زالت لا تمثل أية مشكلة بعد. «أفول الأصنام، تسكعات رجل غير موافق للعصر»، 5
إذا استبدلت «الغرب» ب «الإنجليز»، فستجد هذا الجزء كله مفحما. ومع هذا فمن الواضح أن المسيحيين هم تقريبا الوحيدون الذين يتفقون معه ، ثابتين بوضوح على إيمانهم باعتباره «نظاما» (من ناحية ما). والسند الأكثر إثارة للعجب في حجة نيتشه هنا، والأكثر إثارة للإعجاب نظرا لأنه كتب عن جهل واضح به، ظهر في مقال شهير (في الأوساط الفلسفية) قدمته جي إي إم أنسكومب بعنوان «الفلسفة الأخلاقية العصرية» (طومسون ودوركين، 1968). وبنمط كاثوليكي روماني تقليدي، تكتب قائلة:
مفاهيم الالتزام والواجب - وأقصد بذلك الالتزام الأخلاقي والواجب الأخلاقي - وما هو صواب أو خطأ من الناحية الأخلاقية، وما «يجب» عمله أخلاقيا؛ لا بد من هجرها لو أمكن ذلك من الناحية النفسية؛ لأنها باقية، أو مشتقة مما هو باق، من مفهوم أقدم للأخلاق لم يعد موجودا بصفة عامة، ولهذا تعتبر مجحفة من دونه.
طومسون ودوركين، 1968: 186
من الواضح أن مقترحها لم يثبت أنه «ممكن من الناحية النفسية»، مثلما أدركت بلا شك عندما كتبت تلك الكلمات، ولنفس السبب الذي نظر به إلى ادعاءات نيتشه بوصفها «مستحيلة»، وهو أننا لا نملك أدنى فكرة بماذا نستبدل هذه المصطلحات التي «لا بد من هجرها».
ومع مواصلة المرء قراءة مقال أنسكومب، سيندهش مرارا وتكرارا بالنبرة النيتشية لهذه المريدة الغافلة. فمثلا:
إن النظر إلى الأخلاق بوصفها «قانونا» يعني التمسك بما هو ضروري ... ومطلوب من جانب القانون الإلهي ... ليس من الممكن بطبيعة الحال أن تكون لديك هذه الفكرة ما لم تؤمن بالله مشرعا، مثل اليهود والرواقيين والمسيحيين ... الأمر أشبه باستبقاء فكرة «المجرم» على الرغم من إلغاء القانون الجنائي ومحاكم الجنايات ونسيانهما.
Bilinmeyen sayfa
طومسون ودوركين، 1968: 192-193
هذا صحيح تماما، ولكن - على الرغم من الحيرة والاحتقار اللذين يشعر بهما نيتشه وأنسكومب - هذا ما نفعله بالضبط لنتحايل على الأمر ونواصل حياتنا، غالبا غير مهمومين بالفوضى المفاهيمية التي ينطوي عليها الأمر، وبالكاد تكون مستترة.
يتبنى نيتشه، بطبيعة الحال، موقفا مختلفا على نحو جوهري تجاه ما يمثله هذا على المدى الطويل، حول الإنسان على مدار التاريخ. في «ما وراء الخير والشر»، الذي ألفه عام 1885، يضع الأمر في سياق أعم:
يعود القصور الغريب في التطور البشري، بكل تردده وبطئه - بل بكل تقهقره ودورانه على ذاته باستمرار - إلى أن غريزة القطيع للانصياع تتوارث على أحسن ما يكون وعلى حساب فن إصدار الأوامر وفرض السيطرة. وإذا افترضنا أن هذه الغريزة بلغت ذات مرة أوج ذروتها، فإن الآمرين والمستقلين سيندثرون تماما في النهاية، أو قل إنهم سيعانون من تأنيب الضمير وسيحتاجون إلى التحايل على الذات كي يمكن لهم أن يأمروا؛ أي كما لو أنهم، هم أيضا، ينصاعون فحسب. وهذه الحالة قائمة اليوم في أوروبا بالفعل، وأسميها: رياء الآمرين الأخلاقي. فهم لا يعرفون سبيلا إلى حماية أنفسهم من تأنيب الضمير إلا وهم يتصرفون كمنفذين لأوامر أقدم أو أعلى (أوامر الأسلاف، والدستور، والحق، والقوانين، وحتى الله)، أو يستعيرون بدورهم من نمط تفكير القطيع شعارات قطيعية، ويبدون، على سبيل المثال، بوصفهم «أفضل خدام لشعبهم»، أو «أدوات الخير العام». من جهة أخرى، يتظاهر إنسان القطيع اليوم في أوروبا بأنه النمط البشري الوحيد المسموح به، ويمجد صفاته التي جعلته أليفا ومسالما ومفيدا للقطيع، بوصفها الفضائل البشرية الحقيقية؛ وهي: الحس الجمعي، والطيبة، والرفق، والاجتهاد، والاعتدال، والتواضع، والتسامح، والتراحم. أما في تلك الحالات التي يبدو فيها الاستغناء عن القادة وأكباش القطيع ممتنعا، فثمة محاولة تلو الأخرى لجمع أفراد قطيعيين أذكياء يحلون محل أصحاب الأمر؛ ذاك هو، على سبيل المثال، أصل كل الدساتير النيابية. لكن، على الرغم من ذلك، أي نعمة ستهبط على أوروبيي القطيع هؤلاء، بل أي انعتاق من ضغط يكاد لا يطاق سيكون لهم مع ظهور الآمر المطلق! والدليل الكبير الأخير على هذا هو التأثير الذي أحدثه ظهور نابليون؛ إن تاريخ تأثير نابليون يكاد يكون تاريخ السعادة القصوى التي بلغها هذا القرن بأسره في أكثر أفراده ولحظاته قيمة. «ما وراء الخير والشر»، 199
قد تستثير هذه الفقرة المقتبسة من نيتشه بأسلوبه المميز ردود أفعال مختلفة. فهي تنتقل بين كونها شديدة الإقناع، ومصاغة بأسلوبه الجدلي البلاغي الفصيح، وبين استعمال المفردات الصادمة - على الرغم من ذلك - بالقدر الذي لا بد أنه كان ينتويه لها، حتى ولو كانت تجبر معظم القراء على النفور مما يقوله. فهذا الاستعمال لكلمة «القطيع » وشبيهاتها مزعج، كما هو حال قائمة الخصال التي يتفق عليها «الإنسان القطيعي»؛ لأننا نوافق عليها أيضا: الحس الجمعي، والاجتهاد، والتواضع، وغيرها. ونحن نوافق عليها؛ لأننا قطيعيون، ولسنا مقتنعين بتاتا أننا يمكن أن نصبح أي شيء آخر، أو إذا ما كنا سنريد ذلك لو أمكننا. ومع هذا يصيبنا القلق، بما أن موضوع الانصياع برمته قد أثير. وعلى الرغم من أننا قانعون بالانصياع لما نؤمن أنه صواب، فإن المسألة هي: لماذا نقنع بهذا الإيمان، على الرغم من أننا ألغينا الآمر؛ أو من كانوا بيننا لهم آمر؟ وبالطبع، فإن حقيقة أن قناعاتنا الأخلاقية تنبع في الأساس من إرادة الإله لا تعني أن هذه القناعات خاطئة، لو لم يكن الإله موجودا. فتلك «مغالطة المنبع»، وهي أداة معروفة وموصومة بتشويه المعتقدات وزعزعة الثقة بها. ولكن من جهة أخرى، سيكون من الحماقة ألا نوافق على أننا لو تخلينا عن الإيمان الشرعي الأصلي، فسنكون بحاجة إلى شيء جديد ليحل محله؛ إذ إنه من السهل جدا أن نكون مثل «الإنجليز» ونعتقد أننا نعرف «بالفطرة» ما هو خير وما هو شر. وسيكون هذا رائعا لو حققناه، بما أننا لا نملك أية معرفة فطرية حقيقية أخرى.
في هذه المرحلة، لا أريد أن أتوغل في آراء نيتشه المحددة حول مضمون الأخلاق، إلا بقدر ارتباطها بادعاءاته حول النظام ككل.
ما يبدأ به نيتشه في كتاب «الفجر» يواصله بمهارة بالغة في كتابه التالي «العلم المرح». في هذا الكتاب، على وجه التحديد، يمهد نيتشه الطريق بوضوح أكبر لتوغله في مسألة القيم، التي يفرد لها معالجة كاملة في «هكذا تحدث زرادشت». يعتبر «العلم المرح» أكثر كتبه إمتاعا؛ إذ إنه كان يثق في كونه يتخطى التلميحات اللانهائية التي وردت في كتابيه السابقين، دون أن يحمل على عاتقه - على الرغم من هذا - العبء التنبئي الذي تكبده خلال تأليفه كتاب «هكذا تحدث زرادشت». وعلى الرغم من استمرار الانتقاد الشديد الفاعلية لفترته التي يطلق عليها اسم «الفترة الوضعية»، فإننا نشعر بقدرة أكبر على استيعاب ما يقصده . إن عمق المأزق الذي سقط إنسان ما بعد المسيحية فريسة له هو السمة الأكثر بروزا في «العلم المرح»، الذي يحمل في الجزء رقم 125 أشهر تصريحات نيتشه بأن الإله قد مات.
يحمل هذا الجزء عنوان «المخبول». فجميع من يسمعونه في السوق يعتبرونه مجنونا؛ لأنهم ليست لديهم أدنى فكرة عما يتحدث. كيف يمكن أن يقتل المرء الإله؟ هذا تعبير عن معاناة نيتشه الجسيمة، بما أنه يرى - على عكس الآخرين - تبعات موت الإله، ويرى تأثير ذلك على المدى الطويل، ويصيبه الهلع لمجرد التفكير في الكيفية التي سيتصرف بها الناس إذا ما استوعبوا معنى ألا يكون الإله بعد الآن هو محور عالمهم. لا يهم إن كان الإله موجودا أم لا، وهذا هو جوهر قضية نيتشه. المهم هو إن كنا نؤمن بوجوده أم لا. بمرور القرون، تآكل الإيمان بالإله دون أن يلاحظ الناس ما يحدث. وسوف تمس التبعات الأكثر تعقيدا القيم؛ لأنه - مثلما يعبر نيتشه عن الأمر في ملحوظة غير منشورة: «من لا يجد العظمة في الإله لا يجدها في أي مكان. يجب عليه إما أن ينكرها أو يستحدثها.» وإذا حملنا على كواهلنا عبء استحداث العظمة، إذن فمعظمنا، وربما جميعنا، سينهار تحت وطأة هذا العبء. ودون العظمة ليس للحياة معنى، حتى لو كانت العظمة بعيدة المنال. وسوف نستعرض لاحقا المنطق الذي ينسب به نيتشه موت الإله إلى الميول المتنازعة أساسا في المسيحية نفسها. أما الآن، فالمهم هو أن نتيجتها قد وقعت، وأن معظم الناس لا يدركون معناها، وأنهم عندما يدركون معناها لن يجدوا الحياة تستحق العيش فيها بعد الآن.
كان موقف نيتشه تجاه المسيحية، على غرار موقفه تجاه معظم الأمور التي اهتم بها، منقسما في الصميم. وقد وصفنا على مدار الصفحات السابقة ازدراءه للأخلاق التي ترعاها المسيحية، وقد نما هذا الازدراء بمرور السنين. ولكن على الرغم من أنه كان يكره ضآلة الإنسان التي تعتبر جزءا من العقيدة المسيحية، ومجموعة الفضائل التي تعتبر جزءا من ذلك، كان في حقيقة الأمر واعيا تماما بالإنجازات التي لا ينسب فضلها إلا إلى الثقافة المسيحية. فلن تبنى أبدا كنيسة على غرار كاتدرائية شارتر القوطية للاحتفال بالقيم الإنسانية المتحضرة، ولن يوجد عمل موسيقي كبير مثل «قداس مقام بي الصغير» لباخ لإثبات الإيمان بها. ومن ثم، يبدو أن فترة ما بعد ظهور المسيحية غالبا ستتسم بوجود رجال أشد ضآلة من المسيحيين الصغار الذين حلوا محلهم. فربما تكون الأخلاق شاقة، ولكن هل سيكون من المعقول تخيل استبدالها؟
الفصل الخامس
Bilinmeyen sayfa
الضرورة الوحيدة
تشكل الكتب الأربعة الأولى في «العلم المرح» مسارا صاعدا للعبقرية والذكاء. يبدأ الكتاب الرابع بقرار ثوري من نوعية قرارات العام الجديد، والذي كان مصيره كمصير سابقته دائما، ولكنه مع هذا يمثل بداية موجة الإقرار التي قادت نيتشه إلى «هكذا تحدث زرادشت»:
أريد أن أتعلم أكثر فأكثر أن أرى الضرورة في الأشياء على أنها الجمال في حد ذاته، وهكذا أكون واحدا ممن يجملون الأشياء. ليكن حبي منذ الآن: «حب القدر»
Amor Fati ! لا أريد أن أخوض حربا ضد القبح. لن ألقي التهم إطلاقا، ولن أتهم حتى المتهمين. ليكن إنكاري الوحيد: صرف النظر. وبوجه عام: أريد، ابتداء من اليوم، ألا أكون إطلاقا سوى إقرار تام. «العلم المرح»، 276
تستمر هذه الفقرة المشحونة بالمشاعر على نحو يمكن أن يأسر لب المرء، وربما سيكون من المجحف النظر إليها عن قرب. وفكرة أن نيتشه - الخبير التشخيصي العريق - لا يمكنه أبدا أن يغض بصره، وأننا كنا سنخسر الكثير من كتاباته القيمة لو فعل ذلك؛ تلطف حدة التهمة بأنه لم يصبح قط ممن يقرون الأمور ويؤيدونها على علاتها، وتلطف حقيقة أن ثلاثة من أواخر كتبه الخمسة تتسم بالهجومية، اثنان منها يهاجمان فاجنر والثالث يهاجم المسيح، والكتاب الإقراري الوحيد كان عن نفسه.
حتى ذلك الوقت، على الأقل، يظل مزاجه في هذه الحالة المشحونة. ثم نصل، في الجزء 290، إلى نقطة يقدم فيها لأول مرة بعض التلميحات الصريحة عن طبيعة الأشخاص الذين يأمل أن يحلوا محل البشر الضئيلين في المرحلة الأخيرة من المسيحية وما بعدها: «الشيء الوحيد الضروري» أن «نضفي طابعا من الإبداع الفني» على طبعنا، هذا فن عظيم ونادر! فن يمارسه من يعانق كل ما يمنحه طبعه من قوة ومن ضعف، ويدمجه بعد ذلك في مشروع عمل فني يبدو معه كل عنصر مثل قطعة فنية وذهنية، ويكون حتى للضعف فضيلة استهواء النظر. هنا يزيد كم الطبيعة المكتسبة، في حين ينقص جزء من الطبيعة الفطرية - وفي الحالتين يتم ذلك من خلال الممارسة الصبورة والجهد اليومي. في هذا الموضع سترنا قبحا لم نستطع اقتلاعه، وفي الموضع الآخر تحول إلى جمال رفيع. كثير من الأشياء المبهمة والعصية على التشكيل استبقيت واستغلت من أجل تأثيرات المنظور، وظيفتها هي إبراز الأبعاد والفضاءات التي لا نهاية لها. وفي نهاية المطاف، حين يكتمل العمل، يتضح أن إكراه ذوق وحيد بعينه هو الذي كان سائدا في الأشياء الصغيرة والكبيرة ويهيئها، وسواء أكان هذا الذوق سليما أم غير سليم لا يهم بالقدر الذي كنا نظنه، وإنما يكفي أن يكون هناك ذوق! «العلم المرح»، 290
هذه القطعة ليست الجزء كله، ولكنها تكفي لنواصل بها حديثنا.
كانت فكرة أننا قد نصبح «مبتكري حياة» محل نقاش في «مولد المأساة»، ولكنها في سياق مختلف تجعل فكرة الاستمرارية خادعة. ما يدافع عنه نيتشه في «العلم المرح» هو الفردية المفرطة، في إطار لا يؤدي إلى المذهب الذري الذي نادرا ما يكون واضحا والذي مفاده أن الواقع يتألف من جزئيات أو كيانات منفصلة لا تنقسم، وقد تكون هذه مادية أو روحية. وعندما تكون هذه الجزئيات مادية، تعد في العادة دقيقة إلى أبعد حد، لا متناهية في العدد. ولكن ما إن نعجب برؤيته، حتى نبدأ في التساؤل أيضا. بالنسبة إلى القياس التشبيهي مع الفن، أو فن هندسة المناظر الطبيعية للحدائق، الذي يشار إليه هنا، فإنه بكل وضوح قياس تشبيهي لا يمكن تناوله تناولا مباشرا، فالإنسان لا يعيش إلا مرة واحدة. (سوف أناقش لاحقا التكرار الأبدي، الذي لن يساعدنا هنا على أية حال؛ حيث إن الأخطاء التي نرتكبها كانت، وستظل، تتكرر إلى أبد الآبدين.) ولكن الفنان يستطيع أن يتعامل مع أعماله إلى أجل غير مسمى، فيما عدا استثناءات نادرة، إلى أن يشعر أنه أجاد الأمر قدر استطاعته. وما يقترحه نيتشه هو أن نجري تحليلا دقيقا لشخصيتنا، ونقيمها، على الرغم من أننا لا نعلم حتى هذه المرحلة معايير التقييم - ما الذي يحسب كموطن قوة وما الذي يحسب كنقطة ضعف - ثم نضفي عليها تلك الوحدة التي تسمى الأسلوب. إن دمج عناصر تكويننا في «عمل فني» يقدم بالأحرى إيحاء بأننا أقل عرضة للظروف الخارجية التي يمكن أن تحدث لأي إنسان باستثناء الزاهد الناسك.
على الرغم من هذه الشكوك الأولية، ثمة شيء لافت في تلميح نيتشه. فهو يمهد الطريق لشكل جديد من الكلاسيكية، حيث «ستكون الطبائع الأقوى والأكثر هيمنة هي التي تتمتع بالسعادة السامية وسط هذه القيود والمثالية تحت مظلة قانون خاص بها»، على عكس «الشخصيات الضعيفة التي لا سلطة لها على أنفسها والتي تكره قيود الأسلوب» (أي الرومانسيين). وعلى الرغم من أن نيتشه يبالغ في عرض فكرة الأسلوب الفردي، فمن الواضح أنه يدعو إلى مفهوم الأسلوب الذي يوجد بمعزل عن الفرد. إذ إنه لو لم توجد معايير خارجية، فسيكون لكل شخص أسلوبه الخاص ما دام مميزا عن الآخرين. ويكفي الاستخدام المجرد لمفهوم الأسلوب ليجعلنا نفكر في أطر محددة يعمل في ظلها الأفراد، ويحققون الفردية بفضل الدعم الذي يقدمه هذا الإطار. ولعل أوضح مثال على هذا هو الأسلوب الكلاسيكي في الموسيقى، مثلما يظهر بداية من هايدن وصولا إلى موتسارت وبيتهوفن، منتهيا عند نقطة ما غير محددة. كانت قيود ذلك الأسلوب صارمة، ولكن لا يمكن للمرء أن يتخيل أن أحدا من هؤلاء الملحنين الثلاثة يمكن أن يحقق النجاح دونها. لقد نجحوا في إثبات وجودهم؛ لأن عناصر كثيرة قد توافرت لهم بالفعل. ويمكننا أن نرصد أبرز إنجازات هذا الأسلوب الكلاسيكي في الموسيقى في ظل هذا الصراع بين الأسلوب الذي كان متاحا لأي شخص في ذلك الوقت - والذي يمكننا أن نراه يعمل على نحو مرض تماما دون إنتاج أعمال عبقرية على يد هامل، مثلا، الذي يدين بنجاحه كله للأسلوب الذي كان متاحا له - وبين مجموعة السمات الفردية المحددة بدقة لدى أساتذة هذا الأسلوب العظماء.
لكن المساق الكامل لتحليل نيتشه للثقافة يستمر، كان هذا حسب معايير ذلك الوقت، أما الآن فالوضع مختلف بعض الشيء. لم يعد يوجد أسلوب مشترك يمكن العمل به في ظل الصراع الخلاق؛ لذلك علينا أن نجد أسلوبنا الخاص. من الواضح في مثل هذه الظروف أن مجرد فكرة الأسلوب مسهبة إلى أقصى درجة. وحقيقة أنه يقول: «سواء أكان هذا الذوق سليما أم غير سليم لا يهم بالقدر الذي كنا نظنه، إنما يكفي أن يكون هناك ذوق!» توحي بأن المعايير التي يستخدمها هنا ليست فقط جمالية، ولكنها شكلية أيضا. تحتل طبيعة العناصر المرتبة الثانية مقارنة بتشكيلها. وقد يجعلنا هذا نتساءل، مجددا، إذا كان ما تتكون منه العناصر مهما في الأساس، وبالتأكيد ظن نيتشه أن هذا مهم. ففي نهاية الجزء كتب يقول: «يلزم شيء وحيد؛ أن يتوصل المرء إلى أن يكون راضيا عن نفسه، سواء أكان بالنوع كذا أم بالنوع كذا من الفن أو من الشعر، عندئذ يبدو الإنسان بمظهر محتمل.» ولكن بلوغ الرضا عن النفس يمكن أن يكون في أحسن الحالات شرطا ضروريا. وثمة أشخاص كثر بلغوا الرضا وظلوا دون مظهر محتمل؛ بل ولهذا السبب تحديدا.
Bilinmeyen sayfa
إن فقرات مثل هذه تثير بالفعل التساؤل حول مدى إمكانية الضغط على نيتشه. فعلى الرغم من كل ميوله نحو تطرفات التعبير ومبالغاته، فإنه ينجح بطريقة ما في انتهاج اللباقة بألا يسلط الضوء على المواضع غير الملائمة. ولكن الخطر المقابل أننا نصفه بأنه «تحفيزي»؛ ما يعني أننا لا ننظر إلى ما يقوله بجدية. في هذه الحالة تحديدا، قد يصبح من المناسب المخاطرة بقدر من عدم اللباقة؛ لأنها تحوي أفكارا ما زالت في طور التشكيل وستكون محورية لعمله، لكنها ستكون أكثر روعة من وجوده هنا لدرجة أنه سيصبح من الأفضل رؤيته بأبعاده الإنسانية بدلا من أبعاده فوق الإنسانية.
وهكذا، بينما نترك المسألة مفتوحة حول ما إن كان نيتشه يعطي للإنسان صاحب الأسلوب المميز تفويضا مطلقا في الموضوع المتعلق بعناصر شخصيته، يمكننا أن نتفق أن أحد الأسباب التي تدفعنا إلى أن نقول إن امرأ يتسم بأسلوب مميز هو قدرته على التعامل مع الأمور الصعبة بنجاح، ودمج تجارب متفاوتة ستكون بالنسبة إلى معظم الناس محرجة أو مهينة وجعلها جزءا من خطة أكبر. ثمة لحظة مؤثرة وممتعة وبارزة في نهاية فيلم جان رينوار «قواعد اللعبة» الذي فيه - بعد حادثة إطلاق نار صادمة يقتل فيها طيار خلال قضائه العطلة في بيت ريفي - يتحدث المضيف إلى الضيوف المجتمعين المذهولين بذوق رفيع وبكلمات مختارة بعناية فائقة لدرجة أن أحد الضيوف يقول للآخر: «لقد وصفها بالحادثة. تعريف جديد!» ولكنه يتعرض للتوبيخ: «إنه يتمتع بأسلوب راق، وهذا شيء نادر هذه الأيام!» وهذا صحيح تماما. لقد حافظ الخطاب الراقي على اللباقة واللياقة، وأبقى ما يبدو بوضوح أنه مظهر متحضر عابر، وجعل الضيوف يتوجهون إلى أسرتهم بمزاج رثائي بدلا من المزاج الانتقادي أو المجتزئ. وثمة موطن قوة في مثل هذه القدرة يتعلق بما يبدو أنه حسن التعبير، والقدرة على التأقلم مع ما يعتبر - بالنسبة إلى أي شخص معقد - تجارب يمكن أن تؤدي إلى الانحلال، أو إلى كراهية النفس، على أقل تقدير.
يتسم نيتشه بصراحته في الكشف عما ينطوي عليه الأمر. فبعد بضع فقرات يطرح سؤالا:
كيف يتسنى لنا أن نجعل الأشياء جميلة وجذابة ومرغوبة حين لا تكون كذلك؟ يبدو لي أنها في حد ذاتها ليست كذلك على الإطلاق ... الابتعاد عن الأشياء حتى يختفي كثير من تفاصيلها ... هذا كل ما سيكون علينا أن نتعلمه من الفنانين، إضافة إلى أنه علينا أن نكون أكثر حكمة منهم في أمور أخرى؛ لأن قوتهم الشديدة تتوقف عادة حيث يتوقف الفن وتبدأ الحياة. أما نحن، فنريد أن نكون شعراء حياتنا، في أتفه أمور حياتنا اليومية قبل كل شيء. «العلم المرح»، 299
بعبارة أخرى، أقل لباقة وذوقا: لا تكن كثير الشك في نفسك بشأن فهمك التام للأمور. هذا حقيقي؛ فالأهم أن تجعلها مقبولة على الأقل، وجميلة على أحسن تقدير.
أظن أن ما يفكر فيه نيتشه هو أمر أكثر غريزية مما يبدو أنه يقترحه؛ بما أن عليه في النهاية أن يتفوه بما يريد منا بالفعل أن نعرفه وننفذه. إنه مأزق يجد نفسه واقعا فيه مرارا وتكرارا؛ هل يجب أن يرضي نفسه بإبداء التلميحات، أم يجب أن يقول ما يرى أنه ضروري لنا أن نعرفه في صورة سريعة الزوال؟ إنه يريدنا أن نكون ذلك النوع من الأشخاص الذين لا يحتاجون إلا إلى تلميحات لأننا شديدو الذكاء، ولكنه يعلم أننا سنصم آذاننا عن أي شيء لا يرقى إلى مصاف الكوارث؛ ثم نتهمه بإحداث كثير من الجلبة على أمر تافه. خلال مرحلة كتاب «العلم المرح» كان لا يزال يحاول استخدام صيغ رمزية وتحفيزية، تاركا إيانا لعقد الروابط بينها. ولم يكن قد أوجعه بعد الضجر الذي كثيرا ما سيعاني منه زرادشت عندما يدرك أنه دائما ما سيساء فهمه. وهو ليس متأكدا، أيضا، من كون المرء يستطيع فقط أن يعلم الناس الذوق لو كانوا جهلاء وحسب، أو من إمكانية إعادة تثقيف أولئك الذين تشكل الذوق لديهم بالفعل ولكنه ذوق فاسد. يعتبر كتاب «العلم المرح»، في الأساس، كتاب رجل متفائل؛ فهو آخر الكتب التي كتبها نيتشه بضمير حي ووعي حاضر.
على أية حال، هذا هو الجانب الهادئ نسبيا لدى نيتشه، على عكس ما وصفه جي بي ستيرن على نحو مبرر «بالفاضل المكد»؛ لأنه لو ظهرت أية إشارة لمجهود في شخصية أحد - لو بدا أنه يستخدم جاذبيته وحنانه وهدوءه وتلقائيته مع نفسه - إذن فهذا فشل خطير في الأسلوب. لكن عند تحررنا الشنيع من قيود التقاليد المرحب بها، وبالنظر إلى العدد الهائل من أساليب المعيشة التي «تبدو» متاحة لنا، والتي يعتبر كثير منها كذلك بالفعل، فليس من المحتمل أن نستطيع تنظيم «الفوضى الموجودة في داخلنا» دون بعض إشارات الجهد المرئية. حتى جوته، الذي كثيرا ما يجسد فكرة نيتشه عن تنظيم الذات، لم يكن قادرا على إخفاء المجهود الذي تكبده في سبيل ذلك. لقد كان، بالطبع، حالة مقيدة من الوحدة المفروضة على التنوع ؛ تنوع الاهتمامات والدوافع التي قد تترك معظمنا عاجزين.
لقد كان ادعاء نيتشه بأن إكساب شخصية المرء أسلوبا مميزا هو «الشيء الوحيد الضروري» (عبارة ربما كانت تهدف إلى السخرية من فاجنر، الذي تشغل بال شخصياته الرئيسية حاجة ملحة)؛ يحمل في طياته سلوكا غير متوقع فيما يتعلق بنقده للشفقة، أحد أشهر موضوعاته الملحة، والتي أبقى عليها بانتظام. في أحد نصوصه النثرية الشديدة العبقرية، والذي للأسف يتعذر علينا اقتباسه هنا كاملا نظرا لطوله البالغ، فإنه ينظر بعين الاعتبار إلى «إرادة المعاناة وأولئك الذين يشعرون بالشفقة». وهو يسأل إن كان في صالح المشفق أو المشفق عليه أن يندمجا في هذه العلاقة، ويبين في المناقشة الحساسة التي تعقب ذلك أن بغضه للشفقة لا يمت بصلة، بأي حال من الأحوال الطبيعية، لتحجر القلب أو القسوة أو تبلد الإحساس. وبقدر ما يهم الشخص المشفق عليه، فإنه يشير إلى أن تنظيم حالاته الروحية أمر حساس، وأن من يلاحظون أنه في محنة ومن ثم يهرولون إلى مساعدته «يتبنون دور القدر»، وأنه لا يخطر على بالهم أبدا أن من يعاني قد يحتاج إلى معاناته، الممتزجة بفرحته، «كلا، ف «دين الشفقة» (أو «القلب») يأمرهم بالنجدة، وهم يعتقدون أن أفضل مساعدة هي عندما تساعد في أسرع وقت!» («العلم المرح»، 338).
من الواضح أن نيتشه لا يتحدث عن تقديم الطعام والشراب إلى شخص يتضور جوعا، أو تخدير شخص على وشك الخضوع لعملية جراحية، بل هجومه مسلط على الشفقة باعتبارها شغل الإنسان الشاغل لتنظيم حياة الآخرين، وتجاهله النبيل - حسبما نفهم - لشئونه الخاصة. ومن ثم، فإنها لوقاحة (على الرغم من شيوعها) إساءة تفسير مقصده بأنه يحث على تجاهل احتياجات الآخرين الأساسية، مثلما توضح المناقشة التالية مباشرة عن آثار الشفقة على المشفق: «أعلم ذلك جيدا، فثمة مائة طريقة شريفة وحميدة لتضليلي وإثنائي بعيدا عن طريقي، وهي طرق جد «أخلاقية»! ويمضي رأي دعاة أخلاق الشفقة اليوم إلى حد ادعاء أن هذا الأمر، ولا شيء غيره، سيكون أخلاقيا؛ أن يضل المرء طريقه على هذا النحو ويسارع إلى نجدة الآخرين » («العلم المرح»، 338). وهو يواصل التركيز بطلاقة على القسوة التي ينطوي عليها سير الإنسان في طريقه الخاص، وما يسببه ذلك غالبا من الوحدة وغياب العرفان بالجميل وانعدام الدفء. ويختتم، ببراعة، بقوله: «أخلاقي تقول لي هذا: عش منعزلا حتى تعيش لنفسك.»
سيشعر العديد من الأشخاص أن الأخلاق التي تستحثهم على السير في طريقهم الخاص لا يمكن ببساطة انتهاجها؛ لسبب واضح وهو أنهم يفتقرون إلى وجود «طريق» خاص بهم؛ فلديهم الكفاءات والاحتياجات والمخاوف والمشكلات، ولكن ما من شيء يمثل بالنسبة إليهم هدفا فرديا. عندما اقترح نيتشه بأن يصبح كل فرد مسئولا عن تشكيل حياته، فإنه ربما يستعين برؤيته الملحة التي نتبناها حاليا، أو كنا نتبناها حتى وقت قريب، حول ما يشكل عملا فنيا، مع احتلال الأصالة مكانة الصدارة بين سماته المرغوبة، أو حتى الضرورية. وهذا يبدو سخيفا باعتباره أمنية من أجل البشرية، فضلا عن كونه وصية؛ حيث إنه يفترض سلفا أن معظم الناس يتسمون فطريا بقدر كبير من التفرد، وهو افتراض كان يجب أن يعطيه نيتشه الأولوية، لو كان مؤمنا به بالفعل.
Bilinmeyen sayfa
في واقع الأمر إنه يفكر، على أقل تقدير، في هؤلاء الأفراد الذين يستطيعون قراءته بتفهم، على الرغم من أنه لم يقل هذا على حد علمي. ولكن إذا لم يستطع المرء فعل ذلك، فإن فرص شحذ الطاقات المطلوبة لكي «يتبع المرء طريقه الخاص» ستكون بلا قيمة. ويقلص هذا بالفعل عدد الأشخاص الذين يتحدث عنهم ليصبحوا نسبة محدودة للغاية من السكان. فماذا عن الباقين؟ كيف يدين منتهجي سياسة القطيع وهم لا يملكون القدرة على أن يصبحوا أي شيء آخر؟ ولكنه لا يدينهم، وإنما هو فقط غير مهتم بهم. ويثير هذا مسألة سياساته، أو غيابها، التي تؤدي إلى مزيد من الرياء وسط مفسريه مقارنة بأية سمة أخرى في فكره. سأتناول هذا لاحقا. ولكن ماذا عمن يستطيعون قراءته بتفهم ولكنهم مع هذا ما زالوا يشعرون بأنه ما من طريق خاص بهم؟ هل يرى نيتشه أنهم يخدعون أنفسهم لكي يريحوا بالهم، أم أنهم محقون؟ لو كانت الحالة الأولى هي الصواب، فيبدو أنه أمام نفسه يقيم إمكانات الأشخاص على نحو مذهل. ولو كانت الحالة الثانية هي الصواب، فإن ما يقوله إذن بشأن إكساب حياة المرء أسلوبا مميزا غير مهم، وقد يتساءل المرء عما يجب أن يفعله بنفسه الآن، وهو ذلك الموهوب والذكي والمثقف والحساس والمتفتح الذي لا ينزع إلى الشهرة؛ لأنه على الرغم من مواهبه فإنه سلبي. أم ما من أشخاص سلبيين؟ مزيد من الأسئلة نستكشف إجاباتها لاحقا.
ثمة سؤال آخر مهم علينا أن نمعن النظر فيه قبل أن نترك مسألة الأسلوب التي ستظل مثار حديثنا دائما. أثار هذا السؤال أحد أبرز مفسري نيتشه، وهو ألكسندر نيهاماس (نيهاماس، 1985)، وفشل في الإتيان بإجابة مقنعة إلى حد ما. والسؤال هو: هل يستطيع شخص يتسم بشخصية بائسة تماما - حسب معايير لا يتخيل المرء أن يرفضها إلا قلة قليلة، وبالتأكيد ليس من بينهم نيتشه - أن يجتاز اختبارات الأسلوب الفردي المميز؟ لو كانت معايير نيتشه شكلية تماما؛ أي إن جميع التفاصيل متوافقة معا ولا يهم ما هي عليه كل على حدة، إذن ففيما يبدو ستكون الإجابة المروعة بالإيجاب. كتب نيهاماس يقول: «أعتقد أن ثمة شيئا يثير الإعجاب في حقيقة الاتسام بشخصية أو بأسلوب مميز» (نيهاماس، 1985: 192). ماذا عن جورينج؟ أسلوبه لا يمكن إنكاره أو إغفاله، ولكن يأمل المرء ألا يعجب به سوى القليل. يقول نيهاماس:
ليس من الواضح بالنسبة إلي إن كان الشخص الشرير على نحو دائم وغير قابل للإصلاح يمتلك بالفعل شخصية أم لا؛ فتلك السمة التي يصفها أرسطو بأنها «بهيمية» ربما ليست كذلك. وبصورة ما، فثمة ما يستحق الثناء ضمنيا في الاتسام بشخصية أو بأسلوب مميز، وتحول الحالات المتطرفة لمرتكبي الرذيلة دون الثناء عليها، حتى ولو بحس نيتشه الشكلي.
نيهاماس، 1985: 193
هذا أمر محير؛ الطريقة الوحيدة التي يستطيع بها نيهاماس إثبات ادعائه ستكون من خلال الاشتراط اللغوي الصريح، الذي أتت منه هذه الفقرة.
ليس من الضروري التملص بهذه الطريقة بالنيابة عن نيتشه. فكما قلت، ما يقترحه في «العلم المرح» يجب تبنيه باعتباره خطوات تمهيدية نحو هدف لم يكن واثقا منه بعد. وهو يفتخر بنفسه بفضل هذه التحفة الفنية، فالقسمان الأخيران من الكتاب الرابع، اللذان يمثلان نهاية الطبعة الأولى من «العلم المرح»، محملان بأفكار الكتاب الذي راهن على نجاحه. يطرح القسم قبل الأخير «الوزن الأثقل»، فكرة التكرار الأبدي، باعتبارها فكرة مرعبة لا يحتملها أي شخص، باستثناء القوي. ولكن سيسعد بها أولئك الذين يتسمون بالقوة، ثم نجد القسم الأخير، «مستهل التراجيديا»، منقولا حرفيا من افتتاحية «هكذا تحدث زرادشت»، باعتباره مقتطفا من هذا العمل يتسم بالغموض، باستثناء ما يتعلق بهذه القدرة. ويجب أن يسلم المرء بأن الكتاب يعتبر الأقل وحدة بين مجهودات نيتشه المعقدة طوال حياته.
الفصل السادس
النبوءة
لمدة طويلة ظل كتاب «هكذا تحدث زرادشت» كتاب نيتشه الأشهر. ولكنه لم يعد كذلك، وهذا حسب ظني تطور يستحق الإشادة بصفة عامة. يعرض الكتاب بوضوح، من خلال كتابته في صورة أسطر قصيرة ملهمة، أسوأ دلالات تلك الحالة، على الرغم من أنه يحتوي أيضا على بعض أفضل كتاباته. ما كان نيتشه يحاول عمله في هذا الكتاب هو إثبات نفسه بصفته شاعرا فيلسوفا، ولهذا الغرض استخدم مجموعة من العبارات الاصطلاحية التي تكشف على نحو مفجع فكرته عن الشعر. فهو يستخدم كما كبيرا من الصور المجازية والاستعارات، ولكنه يفعل ذلك في مواضع أخرى أيضا، وبتأثير أفضل بكثير. والانطباع الأول الذي يتكون لدى المرء هو عن المختارات الأدبية؛ فمعظمها يتضح أنه مختارات إنجيلية، تتنوع بين الأصداء المباشرة للإنجيل والمحاكاة الساخرة، ويسهل على القارئ الذي يتخدر نوعا ما بسبب تكرار جملة «هكذا تحدث زرادشت» في نهاية كل قسم أن يتغاضى عن تنوع الأمزجة. يحتوي الكتاب على قصائد، بعضها أصبح مشهورا واستخدمه عديد من المؤلفين الموسيقيين، ولعل أنجحهم كان مالر وديليوس. ويمكن للمرء ملاحظة السبب وراء إعجاب هذين الموسيقيين بصفة خاصة بهذه القصائد؛ فهما رجلان يتمتعان بقوة إرادة هائلة واستثنائية، وقضيا معظم وقتهما في تصوير الحياة بكل حيويتها وجمالها، وهما قادران على الصمود، بعكس حالة الزوال المحزنة التي تتسم بها الحياة الإنسانية القصيرة. إلا أن نجاحهما ينم عن عنصر موجود في شخصية زرادشت التي ابتدعها نيتشه، عنصر كان يحاول جاهدا إنكاره، ألا وهو الحنين.
إن النبرة الأصدق في «هكذا تحدث زرادشت»، والتي تلوح في مواضع مفاجئة، هي نبرة الندم. والنبرة الأقل إقناعا هي نبرة الإجلال والإقرار، وهما سمتان يحاول زرادشت جاهدا غرسهما في الأذهان، بما أنهما ضروريتان لتمهيد الطريق أمام وصول «الإنسان الأسمى»، الذي يعتبر زرادشت نبيه. ولكنه نبي مصمم على ألا يكون له مريدون، وهي رغبة نجده شديد الاهتمام بالتركيز عليها، بما أنها تميزه عن بقية الأنبياء. ولكن قد يسأل المرء كيف يعزف شخص يقول الحقيقة عن أن يكون له أكبر عدد ممكن من المريدين. والإجابة فيما يبدو أن زرادشت ليس متأكدا على الإطلاق من الحقيقة التي تجبره على ترك جبله و«النزول» أو «الهبوط»، وهو التباس في المعنى محسوب بعناية من جانب نيتشه. يعبر الساحر في الجزء الرابع عن الكآبة التي هي رفيق زرادشت الملازم له، عندما يغني: «لو ابتعدت عن الحقيقة، فسأكون أحمق! سأكون مجرد شاعر!» ومرة ثانية، في القسم الأخير من الجزء الأول، «الفضيلة الواهبة»، يتحدث زرادشت إلى مريديه بكلمات كان نيتشه فخورا باختيارها لدرجة أنه يقتبسها في نهاية مقدمته لكتاب «هذا هو الإنسان»:
Bilinmeyen sayfa
بصدق أنصحكم: انصرفوا عني واحترسوا من زرادشت! بل وأفضل من ذلك: اخجلوا منه! فلعله قد خدعكم ... إنها لمكافأة رديئة للمعلم أن يظل المرء على الدوام مجرد تلميذ. فلم لا تريدون تمزيق إكليلي؟ ... تقولون إنكم تؤمنون بزرادشت؟ لكن ما أهمية زرادشت؟ وإنكم تؤمنون بي، لكن ما أهمية كل المؤمنين؟ أنتم لم تبحثوا بعد عن أنفسكم: هكذا وجدتموني. هكذا يفعل كل المؤمنين، ولذلك ليس الإيمان بشيء ذي بال.
إنها فقرة قوية، ولكن على الرغم من كل الحكمة التي تسترعي التأمل فيها، فإنه لمن الغريب أن تصدر عن نبي؛ لأن الأنبياء لا يجادلون، وإنما ينبئون. وهكذا فبأي الطرق يستطيع المريدون اكتشاف ما هو حق وما هو باطل في تعاليم زرادشت؟ إن رفضه قبول المبايعة وتقديم فروض الولاء والطاعة - ذلك الرفض الذي لا تبرره المؤشرات المنفصلة للحق - هو أمر يثير الإعجاب، ومن الواضح أنه يهدف إلى أن يكون جزءا من معركة نيتشه الدائرة مع المسيح. ولكنه يتركنا متحيرين حيال كيفية التأقلم مع تعاليم زرادشت، فبما أننا فاسدون، فإننا لسنا في موضع يسمح لنا بالنقد.
مشكلة أن نبيا يشكك في نفسه، وينصح باتخاذ الحذر حيال كل ما يقوله، كبيرة للغاية؛ فنحن بصدد اجتماع أمرين متناقضين متجسدين. لكن المخاطر الناجمة عن كونه نبيا، والتي لم يكن زرادشت أول من ينبهنا إليها، تضخم فقط مشكلة كيفية التعامل مع فنان فيلسوف، والذي يبدو محل اشتباه على نحو متزايد. كل ما يمكننا عمله في ظل هذه الظروف المشئومة أن نحاول مشاركة رؤى زرادشت، وأن نلاحظ إلى أي مدى تسيطر على مخيلاتنا، شريطة أن نتذكر دائما أنها فاسدة. ولكن لو اتضح بعد ذلك أن الرؤية نفسها غامضة ومبهمة، فسيكون علينا أن نفعل ما أنا مقتنع في نهاية المطاف بأنه الشيء الوحيد الذي يمكن للمرء أن يفعله بهذا الكتاب، وهو أن يتذوقه بأسلوب عبثي مراوغ.
يحتوي الكتاب على أمور ممتعة بما يكفي، على الرغم من جميع التحذيرات التي أقحمتها على نحو محبط، لأجعل قراءته تجربة لا تنسى. وهو يبدأ بداية مثيرة للإعجاب، بنزول زرادشت عن جبله، وكتابة ما يمكن وصفه بأنه طقوس نزوله عن الجبل بإلهام صادق. ولكن سرعان ما ينتقل زرادشت إلى موضوعه المحوري: «اسمعوا! لقد أتيتكم بنبأ الإنسان الأسمى. إنه معنى هذه الأرض. فلتتجه إرادتكم إلى جعل الإنسان الأسمى معنى لهذه الأرض. أتوسل إليكم أيها الإخوة بأن تحتفظوا للأرض بإخلاصكم، فلا تصدقوا من يمنونكم بآمال تتعالى فوقها» («هكذا تحدث زرادشت»، الجزء الأول، المقدمة، 3). يقدم هذا الاقتباس أول مفهوم من المفاهيم الثلاثة الرئيسية لدى زرادشت. ووصيته لهم بأن يحتفظوا للأرض بإخلاصهم هي أحد موضوعات نيتشه العظيمة المتكررة، والتي أشعر نحوها بكثير من التعاطف. ولكن ما ننتظره الآن هو بعض التنوير حول كيفية جعل الإنسان الأسمى معنى لهذه الأرض، والخطوات التي يجب أن نتخذها لنضمن وصوله، والشكل الذي سيكون عليه عندما يصل. لكننا للأسف لا نحصل إلا على معلومات قليلة حول أي من هذه الأمور. ثمة سوء فهم بسيط يمكن توضيحه سريعا، مثل أن الإنسان الأسمى سيصبح ظاهرة ارتقائية. وما من داع للتفكير بأنه لن يكون في هيئة إنسان، ولكن هذا ليس واضحا بالقدر الكافي. ويبدو أنه يعرف عموما من خلال إعلان زرادشت الثاني المتعلق بالتكرار الأبدي: الإنسان الأسمى هو الكائن الذي يستطيع بابتهاج أن يعتنق هذه العقيدة؛ لأن هذا هو حال العقيدة أو المبدأ. وثالث تعاليم زرادشت هي «إرادة القوة»، أو «الحقيقة الجوهرية للوجود». ومرة أخرى، يتجسد الإنسان الأسمى في أنقى صوره وأكثرها إثارة للإعجاب؛ بأنه متغلب على ذاته، مهما كان مؤدى ذلك.
تتضح إحدى النتائج المترتبة على ذلك خلال مسيرة زرادشت. ومما قد تجدر الإشارة إليه أن زرادشت هو بشير الإنسان الأسمى، ولكنه هو نفسه ليس كذلك. ومع هذا، فإنهما يشتركان في بعض الخصال، ويبدو أن أفضل فهم يمكن أن نتوصل إليه غالبا بخصوص الإنسان الأسمى هو أنه صورة مفخمة من زرادشت.
في الجزء الرابع، على سبيل المثال، عندما يخبر العراف زرادشت بخطيئته الأخيرة، يتضح أنها شفقته على الإنسان. وسيفهم المرء أن الإنسان الأسمى سيدرك دون إغواء أن هذه هي الفتنة الأخيرة. وسيكون قادرا على قبول معاناة الإنسان، لكن لن يدفعه هذا إلى المعاناة، ولو شعر بها، فإلى أية درجة؟ لقد امتلأنا بالمعاناة من منطلق أنها العنصر الأصعب في استئصاله من الوجود، وهي بالفعل كذلك بالنسبة إلينا، وننظر إليها باعتبار أنها أعمق حالة موجودة. وبما أن السعادة دائما سريعة الزوال، فإننا نعتبرها سطحية أيضا، أو نعتبر أنها الإغواء. والسعادة الوحيدة الأبدية التي سمعنا عنها هي السعادة الموجودة في العالم الآخر، الذي لم نصل إليه بعد. ولأسباب بيولوجية مفهومة، فإننا نعتبر السعادة، أو المتعة، نهاية لعملية ما، ومن ثم تكون السعادة في غير موضعها بمجرد أن تبدأ العملية التالية، أو المرحلة التالية من نفس العملية. وإلى هذه الدرجة نعتبر جميعا صورة معدلة من شوبنهاور ، بما أن شوبنهاور تبنى الاتجاه المتطرف بأن المتعة «ليست» إلا توقفا مؤقتا للألم. وبحلول هذه المرحلة في حياة نيتشه المهنية، كان معارضا تماما لشوبنهاور، الذي كان - إلى جانب معبوده السابق فاجنر - أحد الشخصيات السخيفة إلى حد ما التي تنكرت على نحو سهل اكتشافه في «هكذا تحدث زرادشت». إنها تعاليم زرادشت - وهل يريد من مريديه أن يعارضوه؟ - التي تقول بأن السعادة أعمق من المعاناة، مثلما نعرف في فصل من الجزء الرابع بعنوان «نشيد الثمل» (هذا، بأي حال من الأحوال، ما يظهر في الترجمة الإنجليزية
The Drunken Song ، أما العنوان الألماني في الطبعة النقدية الجديدة فهو
Das Nachtwandlers-Lied ، أو «نشيد السائر أثناء النوم»):
إن العالم عميق،
فهو أعمق مما كان يظن النهار. وآلامه عميقة،
Bilinmeyen sayfa
واللذة، أعمق من الآلام؛
يقول الألم: مر يا هذا وانقض!
ولكن ليس من لذة لا تطلب الخلود؛
خلودا لا نهاية له.
هذا ليس شعرا مميزا، ولا حتى في النسخة الألمانية. ولكن عاطفته الأساسية مؤثرة، وهي بالنسبة إلى زرادشت الأقرب صلة بالتكرار الأبدي. وفي موضع سابق من نفس القسم أوضح زرادشت ذلك قائلا:
هل قلتم يوما نعم للذة واحدة؟ يا أصدقائي، إذن فقد قلتم نعم ل «جميع» الآلام! فجميع الأشياء متسلسلة ومتداخلة ومتعاشقة. أفما اشتهيتم أن تعود المرة مرتين فهتفتم: «رجاء أيتها اللذة، ابقي لحين من الدهر!» إنكم بهذا التمني وددتم لو تعود الأشياء «جميعها»، مجددا وللأبد، متسلسلة ومتداخلة ومتعاشقة، وهكذا «أحببتم» العالم. أيها الخالدون، كان حبكم أبديا لا نهاية له. قلتم للآلام أن تنقضي ولكنكم دعوتموها لتعود! لأن «كل لذة تطلب الخلود».
هذا هو تناول نيتشه الغنائي والفياض بالمشاعر لرأيه الذي عبر عنه على نحو أكثر تشددا في مواضع أخرى، والذي يدور حول أن تمني شيء واحد يعني تمني كل شيء، بما أن الشبكة السببية تعتمد فيها أية حالة على بقاء بقية حالات الطبيعة على وضعها. وهذا هو رأيه، على الأقل في البداية، عن التكرار الأبدي الذي يروج له. الإنسان الأسمى هو الكائن المستعد لأن يقول نعم لأي شيء؛ لأن اللذة والألم لا ينفصلان، كما يعبر نيتشه على الدوام، بداية من الفردية البدائية في كتاب «مولد المأساة» وما يليه. ولهذا، على الرغم من هول الوجود حتى الآن، فإنه مستعد لإقرار هذا كله. وهذا، على أية حال، فهمي للأمر، وله.
ولكن ليست هذه إلا بداية لتفسير الإنسان الأسمى؛ لأنه بعد أن عبر عن قبوله غير المشروط للوجود إلى الدرجة التي يطلب فيها أن يتكرر كل شيء مثلما كان تماما، في دورات أبدية، ما زالت هناك مسألة ما يفعله الإنسان الأسمى بوقته. من المحتمل أن يكون شيئا مختلفا تماما عما يفعله الإنسان العادي، الذي تم تعريفه من قبل بوصفه «حبلا مشدودا بين الحيوان والإنسان الأسمى؛ حبلا مشدودا فوق هوة سحيقة» («هكذا تحدث زرادشت»، الجزء الأول، المقدمة، 4). سيكون مختلفا عنا مثلما نختلف نحن عن الحيوانات. وأيا كان ما يفعله فسيفعله بروح القبول والإقرار، ولكن ماذا سيكون شكله؟ نعلم الهيئة التي ينتفى أن يكون عليها؛ أي شيئا ضئيل الحجم، وتفاعليا، وممتعضا. وثمة لمحة من نقض القوانين لدى زرادشت تشير إلى أنك إذا كنت صاحب الموقف الأساسي الصحيح فبإمكانك أن تفعل ما تريد. ويظهر هذا بوضوح في الفصل الذي يحمل عنوان «عن العفة»، حيث كتب يقول:
هل أشير عليكم بقتل حواسكم؟ إن ما أوجبه إنما هو طهارة هذه الحواس. هل أشير عليكم بالعفة؟ إنها لو كانت فضيلة عند البعض فإنها لتكاد تكون رذيلة عند الكثيرين. ولعل هؤلاء يمسكون عن التمتع، غير أن شبقهم يتجلى في كل حركة من حركاتهم. إن كلاب الشهوة تتبع هؤلاء الزاهدين حتى إلى ذرى فضيلتهم، فتنفذ إلى أعماق تفكيرهم الصارم لتشوش عليه سكينته. ولكلاب الشهوة من المرونة ما تتوسل به لنيل قطعة من العقل المفكر إذا منعت عنها قطعة من اللحم.
ثمة مسحة من التزمت هنا، ولكنها قاسية، خصوصا الجملة الأخيرة، وهي بالنبرة الآمرة بوجه عام في «هكذا تحدث زرادشت» تمثل نوعا من الراحة. ولكن ثمة سطر مهيمن، بعيدا عن تلك النبرة، يدفع في الاتجاه المضاد، وهو ليس ذا طبيعة قمعية، ولكنه يؤكد على الاستحالة والصعوبة، مع النفس قبل كل شيء. هذا ما نتوقعه، بما أن اهتمام نيتشه الأول ينصب على العظمة. أما الراحة والرضا والإشباع الجسدي، فهي أمور معادية للعظمة. وبأية طريقة ستنسب العظمة إلى الإنسان الأسمى؟ يوجه نيتشه دائما بعض الاهتمام على الأقل إلى الإنجاز الفني الإبداعي، ومن ثم قد يتوقع المرء منه أعمالا فنية مذهلة، ولكن في هذا الشأن، كان كتاب «هكذا تحدث زرادشت» خاويا تماما. من غير المجدي بالطبع تأمل أعمال فنية لم تبدع بعد، بعكس تناول الإنجازات العلمية التي لم تتحقق بعد، بما أننا في الحالة الثانية نعلم ما نريد من إجابات عنه. ولكن في حالة الفن لا توجد أسئلة بهذا المعنى. علاوة على ذلك، فإن فكرة وجود مجموعة من «البشر السامين» كلهم من الفنانين تبدو بالفعل سخيفة. ولكن ماذا سيكون شكلهم؟ لا فائدة من التخمين أكثر من هذا؛ لأن نيتشه لا يقدم لنا أية إشارات بهذا الخصوص. في واقع الأمر، يبدو أنه كان عاجزا عن إحراز أي تقدم في هذا الشأن، وعلى الرغم من أنه اشتهر بصياغته المصطلح مثلما اشتهر بأمور أخرى، فإن هذا لا يتكرر في أعماله، باستثناء الاحتفاء بالذات في «هذا هو الإنسان»، حيث يفرد لحديثه عن «هكذا تحدث زرادشت» وقتا أطول من بقية كتبه الأخرى، قائلا: «هنا يجري في كل لحظة تخطي الإنسان، وهنا أصبح مفهوم الإنسان الأسمى الحقيقة العظمى» («هذا هو الإنسان»، «هكذا تحدث زرادشت»، 6).
Bilinmeyen sayfa
لكن هذا تفكير محزن قائم على التمني. لقد خضع نيتشه للإغواء المحدق به من جانب صناع المثل؛ والمثل الأعلى بعيد كل البعد عن الواقع البائس لدرجة أن كل ما يمكن عمله هو التفكير في هول الواقع والتفوه بأن المثل الأعلى ليس هكذا. وهنا يتذكر المرء تجسيد سويفت، في روايته «رحلات جاليفر»، لمعشر الياهو المقززين (نحن) ومعشر الهونينم المستحقين للتقدير، الذين يعلق عليهم ليفيز عن استحقاق بأنهم «قد يتمتعون بالقدرة الكاملة على التفكير، ولكن معشر الياهو يتمتعون بالحياة ... البشرة النظيفة لدى الهونينم، باختصار، مشدودة فوق فراغ؛ أما الغرائز والمشاعر والحياة ، التي تعقد مشكلة النظافة والاحتشام، فمتروكة لمعشر الياهو بقذارتهم وعدم احتشامهم.» ثمة تشابه غريب هنا بين الإنسان والإنسان الأسمى، على الرغم من أنه قد لا يكون مفاجئا؛ نظرا للصعاب التي سيصادفها حتما أي شخص يحاول الإشارة إلى مثل أعلى يسمو على الإنسانية ويرفضها.
في جزء سابق من «هكذا تحدث زرادشت» ظهر بديل، أو ربما كان هدفه هو تقديم تفسير تكميلي لتقدم ما يسمى في هذا الكتاب «الروح». إنها أولى خطب زرادشت، التي لم يزل فيها حتى هذه المرحلة غير مرتاح إلى اللغة البلاغية، التي نحكم عليها من ركاكة هذه الفقرة التي تستحث، حسبما يعلق إيريك هيلر، «نوعا من الإزعاج الروحي والحيواني المفرط» («هيلر»، 1988: 71). تبدأ الروح هنا في صورة جمل، والذي يقصد به الإنسان العصري، أرهقه تراكم القيم التي يحملها فوق ظهره، وهو تراث قمعي من الالتزامات والإحساس بالذنب المرهون بحتمية انتهاك الذنوب. يترنح الجمل وهو يمضي مسرعا في الصحراء، ولكنه يتمرد في نهاية المطاف ويتحول إلى أسد، بنية محاربة التنين. يسمى التنين «يجب عليك»؛ وهو لذلك سبب العبء الثقيل الذي لا يحتمل فوق ظهر الجمل. وهو يدعي أن «جميع القيم خلقت منذ أمد بعيد، وأنا كل القيم التي خلقت.» يقاوم الأسد، مصمما على استبدال «يجب عليك» ب «أريد». ولكن على الرغم من قدرة الأسد على القتال، فإن كل ما يستطيع أن يحققه هو الحصول على الحرية من أجل إبداع قيم جديدة؛ فهو لا يستطيع أن يصنع القيم نفسها. إنه يقول «لا» على نحو غير قابل للجدل، وتكون هذه نهايته؛ فقد حقق الغاية الوحيدة التي كان يستطيعها. وهذا واضح حتى الآن. لكن التحول الأخير مفاجأة؛ لأنه يصير طفلا:
لماذا يجب أن يتحول الأسد المفترس إلى طفل؟ ذلك أن الطفل براءة ونسيان، بدء جديد، لعب، عجلة تدفع نفسها بنفسها، حركة أولى، عقيدة مقدسة. إن لعبة الابتكار، أيها الإخوة، تستلزم عقيدة مقدسة، فالروح الآن تطلب إرادتها، ومن هو غريب في العالم لا يشعر بالانتماء إليه، يريد الآن أن يجد عالمه الخاص.
يجب أن يكون هذا، من بين أمور أخرى، نسخة نيتشه من قول المسيح: «إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السماوات» (إنجيل متى، الإصحاح الثامن عشر، الآية الثامنة عشرة). وفي مواضع أخرى يستخدم نيتشه عبارة «براءة التحول». في اللحظات التي كان يعتريه فيها الإجهاد أثناء الكتابة، كان يلجأ أحيانا إلى صيغ لفظية متناقضة أو عاطفية لأقصى درجة؛ لأنه يعلم أن عنصرا واحدا في التركيب مترسخ بعمق داخلنا لدرجة يصعب معها صرفه، في حين أن الآخر هو ما كان سيحرره، على الرغم من تعارضه الواضح. لهذا فمنذ «مولد المأساة» نسمع عن «سقراط الذي يعزف الموسيقى»، في حين أن نيتشه يصور سقراط في جوهره بأنه معاد للموسيقى. وفي ملاحظة لم تنشر كتب عن «القيصر الروماني الذي يحمل روح المسيح».
هل هذه مجرد محاولات مؤثرة لتغيير المألوف وتحقيق المستحيل، أم تراها تعني شيئا؟ ثمة أسباب مقنعة لاختيار الحالة الأولى؛ لأن نيتشه كان رجلا منقسما على نحو يائس. ولم يسعه إلا أن يعجب بأمور عن سقراط أكثر مما كان يجب عليه. وكما سنرى، فإن كتاب «نقيض المسيح» يخرج تقريبا عن نطاق السيطرة بعد أن اتخذ تصويره ل «الفاسد المثالي» المزعوم منحى غنائيا. وإذا عدنا إلى «هكذا تحدث زرادشت»، فإن موقفه العام تجاه الحياة كان على غرار ما تسميه نوادي الفيديو الآن «للكبار فقط»، ومع هذا فهو مفتتن بفكرة طفل مستغرق كلية في اللعب، فيكون منشغلا ومنهمكا؛ بريئا وفي الوقت نفسه أيضا جاهلا. هل من الجائز أنه كان يريد أن يصبح الإنسان الأسمى مثل شخصية سيجفريد في أوبرا فاجنر، تلك الشخصية التي تربت دون معرفة بالعالم، ومنيت بالفشل لرغبتها إياه؟ يبدو هذا أمرا مستبعدا. فهذه العبارة «بدء جديد» خطيرة؛ لأن نيتشه عادة ما يتميز - بوصفه خبيرا بالفساد - بإدراك أن التغاضي عن عثرات الماضي وأخطائه وبدء صفحة جديدة بيضاء ليس من بين الخيارات المطروحة أمامنا. إذ يجب أن تكون لدينا ذات لنتغلب عليها ونكبح جماحها، وهذه الذات ستكون ثمرة الفكر الغربي كله، التي ستستطيع بطريقة ما «الإلغاء»، وهي كلمة يمقت نيتشه استخدامها، بسبب انتمائها الفعلي إلى هيجل، والتي تعني في الوقت نفسه «المحو»، و«الاستبقاء»، و«الصعود». أليس هذا ما يطالب به الإنسان الأسمى، أو إذا أسقطناه، ما يتعين علينا عمله في أثناء انتقالنا من حالتنا الحالية لكي نتمكن من الوصول إلى «الخلاص»؟ تتسم فكرة الطفل، أو صفة الطفل، بعيدا عن ارتباطاتها المسيحية، بجوانب رومانسية، وهو أمر نستغرب أن يوافق نيتشه عليه. أما العنصر الذي يريد التأكيد عليه، وأزعم تيقني منه، فهو حالة عدم الوعي بالذات التي يتسم بها الأطفال. أما بالنسبة إلينا، أو ما يعتبر تقدما بالنسبة إلينا، فإن تحقيق ذلك الآن أمر يصعب تخيله مطلقا.
وهكذا نعود إلى الإنسان الأسمى باعتبار أنه يتبنى التكرار الأبدي. وقد ثبت أن هذا الأمر هو الأكثر غموضا في جميع آراء نيتشه. فهل ينظر إليه ببساطة كاحتمال، أم كفرضية جادة حول طبيعة الأكوان؟ بالتأكيد هي الحالة الأولى، حسبما يتضح في القسم قبل الأخير من الكتاب الرابع في «العلم المرح». ولكن في دفاتر ملاحظاته، بما في ذلك على وجه الخصوص تلك التي نقحت بعد موته بعنوان «إرادة القوة»، فإنه يحاول إثباتها كنظرية عامة، بناء على واقع أنه لو كان عدد الذرات في الكون محدودا، فإنها يجب أن تأخذ شكلا كانت عليه قبلا، وهذا سيؤدي حتما إلى أن يكرر تاريخ العالم نفسه. ويعد هذا من أقل الجوانب فائدة في تأملاته، وفشله في نشر هذه الأفكار التجريبية مدعاة للابتهاج، أو كان سيصبح كذلك لو لم يصمم الباحثون على دراستها بدقة؛ بحثا عن تلميحات حول ما كان يفكر فيه بالفعل. وقد شجعهم واستحثهم على ذلك انفعاله بالفكرة التي خطرت له في وادي إنجادين السويسري، «ستة آلاف قدم فوق الإنسان والزمان» والتي اعتبرها، فيما يبدو، إحدى تلك الرؤى الحدسية التي يقتنع المرء بعمقها وصدقها، على الرغم من أنه لا يستطيع أن يحدد ماهيتها بدقة.
لم ينظر عموما إلى الرؤية الكونية للمذهب باستحسان. ومع هذا فقد أثار حماس نيتشه تجاه المذهب إعجاب المفسرين كثيرا، أو حتى اسمه بأية حال، لدرجة أنهم يعتمدون على براعتهم في شرح ما كان يقصده به فعلا. وكل ما يسعني قوله هنا أنهم في أثناء محاولتهم شرح هذا المذهب وتقديمه باعتباره فكرة مثيرة للإعجاب، فإن ما ينتجونه يجعل المرء يتساءل عن السبب الذي دفع نيتشه إلى إعطائه تلك التسمية المضللة. باختصار: إذا لم يكن يقصد ب «التكرار الأبدي» تكرارا أبديا، فلماذا لم يسمه بما كان يعنيه بالفعل؟
وهكذا نجد أنفسنا مع نظرية الاحتمال. كان رد فعلي الأولي التصريح بأنني لا أكترث بالارتقاء على نحو مفاجئ إلى حالة الإنسان الأسمى، بناء على الدليل التالي: إذا كانت كل دورة، كما يجب أن تكون، هي بالضبط مثل سابقتها ومثل تاليتها، إذن فلن تكون لدينا معرفة بما حدث، وخصوصا بما فعلناه، في آخر تكرار، ومن ثم لا نستطيع أن نخطو خطوة نحو تفادي تبعات ما كان كارثيا، ولا أن نفكر بفزع أو فرح فيما ينتظرنا تاليا. لو كان التكرار الأبدي صحيحا، فستكون هذه المرة اللانهائية التي أكتب فيها هذا الكتاب، ولكن لن يحدث هذا فارقا يدفعني إلى تغيير محتوياته! هكذا سيبدو الأمر. ولكن بالنسبة إلى الكثيرين ممن ناقشت الفكرة معهم، على الرغم من أنهم يوافقون على أنها لا تستطيع أن تحدث فارقا في أي شيء، فإنهم ما زالوا يرفضون التصريح بأنها لا تؤثر على شعورهم تجاه الأشياء. وحسبما سألني أحدهم مؤخرا: أيهما أسوأ، كون يقع فيه معسكر أوشفيتز مرة، أم كون يقع فيه المعسكر عددا لا نهائيا من المرات؟ يبدو أن الأمر يحتاج إلى شخص عديم الشعور ليقول إنه لا يهم، وهذا أقل ما يقال. فالتكرار، حتى لو لم يكن مهما من الناحية العملية، فإنه لم يزل يستثمر بعبء شديد ما يحدث «بالفعل».
لقد جعل كونديرا من هذا المذهب - فيما يعتبر الآن فقرة شهيرة نسبيا في بداية روايته «الخفة غير المحتملة للكينونة» - جوهر أفكاره المختصرة، والثرية في الوقت نفسه، عن الموضوع:
دعونا لهذا السبب نتفق على أن فكرة التكرار الأبدي توحي بمنظور تظهر من خلاله الأشياء بخلاف ما نعرفها؛ فهي تظهر من دون الظروف الملطفة التي تتسم بها طبيعتها العابرة. وتمنعنا هذه الظروف الملطفة من التوصل إلى حكم. فكيف يمكننا أن ندين شيئا عابرا وسريع الزوال؟ ومع غروب الانحلال وأفوله، يشع كل شيء بهالة الحنين، حتى المقصلة.
Bilinmeyen sayfa