ما أن أصبح نيوتن رئيسا للجمعية الملكية، بدأت الجمعية في دفع مبالغ منتظمة من المال لصانع الأدوات فرانسيس هوكسبي لإجراء تجارب بمضخة هوائية في اجتماعاتهم الأسبوعية. وبدءا من عام 1706 حتى وفاته في عام 1713، توصل لنتائج استثنائية تتعلق بظاهرتي الخاصة الشعرية والتألق الكهربائي. وترسخ لدى نيوتن، الذي كان على الأرجح من يقدم النصح لهوكسبي بشأن محتوى العديد من هذه التجارب، أن وجود هذه القوة قد ثبت من خلال تجارب هوكسبي، وذهب إلى أن الكهرباء كانت قوة أساسية تؤثر في العديد من الظواهر الأخرى. وفي مقاله «ملاحظة توضيحية عامة»، والذي أضيف إلى الطبعة الثانية من كتاب «المبادئ الرياضية» الصادرة عام 1713، أعلن أن هناك «روحا كهربائية» «فائقة الدقة ولكنها مادية»، كانت مختبئة داخل «جميع الأجسام الكبيرة»، وهي روح عالية النشاط وتبعث ضوءا.
وقد أعزى نيوتن العديد من القوى قصيرة المدى، وكذا الظواهر المرتبطة بالضوء لهذه الروح، وذلك في مسودات التساؤلات الثمانية الجديدة في طبعة عام 1717 من كتاب «البصريات»، معيدا إلى الأذهان وصفه للكهرباء في أطروحة «الفرضية» قبل أربعة عقود. وفي عودة بالذاكرة إلى اهتمامه بقضية العقل والجسد وأيضا لأعماله في الخيمياء، ذهب أيضا إلى أن الروح الكهربائية قد وحدت «الروح المفكرة والجسد غير المفكر»، ويمكن أن تكون ذات نفع كبير في الإنبات «حيث تراعى ثلاثة أشياء، هي التوليد، والتغذية، والإعداد للتغذية». غير أن نيوتن - في نفس «التساؤلات» - أعاد تقديم نوع من الأثير فسر العلاقة بين الضوء والحرارة. وفسر نوع آخر من الأثير ظاهرة الجاذبية بكونها مؤلفة من جسيمات طاردة، جعلتها «مرنة إلى حد كبير»؛ وهو وصف شبه مطابق لذلك الذي أورده في أطروحة «الفرضية» الصادرة عام 1675.
رجل ماكر وفاسد
على الرغم من أن نيوتن قد يكون تجسيدا للعذوبة في نظر من انحنوا أمامه احتراما، فقد كان ذا طابع ظن أصدقاؤه أنه نزاع إلى الشك فطريا، وكان يمكن أن يثور فجأة حين تتعرض مكانته، أو شرفه، أو كفاءته لتهديد ما. ولم تتعاف علاقات نيوتن بجون فلامستيد قط من البرود والجفاء الذي اعتراها سابقا. ووصلت الأمور لذروتها في عام 1704 حين أهدى نيوتن فلامستيد نسخة من كتاب «البصريات»، وهو ما جعل فلامستيد بناء عليه يختار جيمس هودجسون، الذي كان مساعدا له يوما ما، لإلقاء محاضرات في لندن منوها إلى «الأخطاء» التي احتواها الكتاب. وعلى إثر لهفته للحصول على بيانات فلامستيد ليكمل نظريته عن القمر، أخبره نيوتن أنه على استعداد لتوصية زوج الملكة آن «الأمير جورج» بتمويل نشر كتالوج لملاحظات فلامستيد. وبحسب قول فلامستيد فيما بعد، «اندهشت من هذا المقترح [بعد] أن وجدته دائما ماكرا، وطموحا، وبه شره مفرط للثناء والمدح، ولا يتحمل الاختلاف». ومن تلك اللحظة فصاعدا، راح فلامستيد يحصن نفسه ضد حيل ومكائد نيوتن، غير مستعد لأن يضع نفسه «بالكامل في قبضته وأن يكون تحت رحمته وهو من قد يفسد كل ما يأتي بين يديه».
وكما رأينا، كان فلامستيد في أواخر تسعينيات القرن السابع عشر يعتقد بالفعل أن نيوتن قد تأثر أيما تأثر بمجموعة كاملة من «المتملقين» و«المادحين»، والذين كان يستقبحهم باعتبارهم «بعض الأشخاص المتغطرسين الفضوليين الذين لا يهمهم إلا أنفسهم»، والذين كانوا دائما ما يلحون على فلامستيد بشأن إكمال الكتالوج، فيما كانوا يفعلون كل ما بوسعهم لمنعه. وكانت شكوك فلامستيد في محلها، إذ كان نيوتن يعرض عليهم المواد التي طلب منه فلامستيد أن يبقيها سرا، وكانوا هم في المقابل يستخدمون هذه البيانات للتقليل من شأن الفلكي الملكي. وعلى الرغم من كل هذا، ورغم ثورة نيوتن العنيفة ضده في شتاء 1698-1699، أخبر أحد المراسلين في عام 1700 أن نيوتن «رجل طيب في الأساس، ولكنه نزاع إلى الشك بطبيعته». غير أنه بعد عام 1704، كان دائما ما يرى نيوتن شخصا مستبدا مهووسا بالسلطة، يعمل بكل طاقته «لإفساد» عمله.
وفي خطوة انعكست من خلال تعامله اللاحق مع لايبنتز، كون نيوتن لجنة من الخبراء أو «المحكمين» للإشراف على إنتاج كتالوج النجوم قرب نهاية عام 1704. كان فلامستيد يعتقد أن نيوتن يحاول حصد كل الشرف والمجد لعمله، فيما كان يمنع دفعة من تمويل الأمير الذي كان ليتيح لفلامستيد الانتهاء من الأجزاء التي يرغب في استكمالها من عمله، فرفض أعضاء هذه اللجنة باعتبارهم ضعفاء أو مجرد خادمين متزلفين لنيوتن. وبعد أن خلع على نيوتن لقب فارس في عام 1705، كثيرا ما كان فلامستيد يشير إليه بأنه مجرد آثم، ومع انقضاء السنوات ببطء قارن مرارا سلوكه «الصادق والأمين» بما أسماه «دهاء» نيوتن، و«ادعاءاته المغيظة»، و«ممارساته الماكرة والخبيثة».
وفي أبريل عام 1706، أجبر فلامستيد على تسليم الجزء الذي أنهاه من الكتالوج حتى ذلك الحين، على الرغم من تأكيداته أنه لم يكتمل بعد، وأنها ستكون حماقة منه أن يسلم مثل هذا العمل المهم لشخص آخر. وكإجراء احترازي، أغلقه هودجسون، على الرغم مما سببه ذلك من ضيق لنيوتن لأنه بدا انعكاسا مسيئا لأمانته. وبحسب فلامستيد، بدأ نيوتن آنذاك في اتهامه بالغباء وبتدمير عمله، فيما شكا فلامستيد سرا من ضلال وفساد نيوتن المتزايد لعدم دفع مقابل لعمله. وفي مارس عام 1708، سلم فلامستيد المحكمين نسخة من جميع ملاحظاته التي سجلها فيما بين عامي 1689 و1705. كذلك وقع اتفاقية تلزمه بتسليم ملاحظاته عن القمر وكذا كتالوج منقح للنجوم الثابتة، مضاف إليه «أحجامها». وفي السنوات اللاحقة، استمر فلامستيد في إضافة ملاحظات جديدة إلى كتالوج النجوم الخاص به، وتحرر نسبيا من تدخل نيوتن. وكثيرا ما كان يستنكر سرا «دهاء» نيوتن الفاسد، مقحما تعليقاته في انتقادات أعمال نيوتن عن الجاذبية والبصريات.
انتهت فترة الهدوء القصيرة التي تخللت معركتهما فجأة في ديسمبر عام 1710، حين تلقى فلامستيد فرمانا رسميا من الملكة آن تخبره فيه أنه في سبيل تحسين الملاحة، سوف يتولى الإشراف على المرصد الفلكي هيئة مراقبين - برئاسة رئيس الجمعية الملكية - مخول لها المطالبة بجميع ملاحظات الفلكي الملكي عن العام السابق وذلك على فترات سنوية. ومما زاد الأمور سوءا، سمع فلامستيد في ربيع العام التالي أنه مطالب الآن بتقديم بعض أحجام الكويكبات التي لم تكن مدرجة في الكتالوج إلى نيوتن، في إشارة إلى حنث نيوتن بوعده وقيامه بفتح الكتالوج. انزعج فلامستيد من تصرفات نيوتن الدنيئة، وهاله أكثر ما وجده من أن عمله (التاريخ السماوي لبريطانيا) جارية طباعته دون إذنه، وهي خطوة اعتبرها «واحدة من أجرأ الأشياء التي أقدم عليها على الإطلاق». وتأكدت مخاوفه في أواخر مارس عام 1711، حين بلغه أن هالي «يتولى أمر» كتالوجه. وعلى مدار الشهور التالية، تعرض فلامستيد لمزيد من المهانة بمطالبته بتصحيح صفحات من طبعة هالي، فقرر أن ينتج طبعته الخاصة.
وصلت العلاقات إلى نقطة مشتعلة في أحد الاجتماعات بالمقر الرئيس للجمعية الملكية في أكتوبر عام 1711 حينما عرض نيوتن إصلاح معدات المرصد الفلكي، في إشارة ضمنية إلى أنها ملك للدولة وليست - كما كان فلامستيد يصر - ملكا له. وتشير رواية فلامستيد الممتعة للموقف إلى فقدان نيوتن السيطرة على نفسه تماما، إذ:
انفجر في نوبة انفعال، وأهانني على نحو لم أتعرض له من قبل في حياتي: لم أدل بأي ردود، ولكنني فقط طالبته بأن يتحلى بمزيد من الهدوء، وأن يخفف من حدة انفعالاته، وشكرته على الألقاب المشرفة العديدة التي خلعها علي، وأخبرته أن الله قد بارك مساعي حتى الآن.
Bilinmeyen sayfa