Bilgi Teorisi ve İnsanın Doğal Duruşu
نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان
Türler
مقدمة
إيضاحات مبدئية
الموقف الطبيعي والعلم
الفلسفة والموقف الطبيعي
مراحل المثالية
مشكلة خارجية العالم
دور العقل في مشكلة المعرفة
المثالية ومحتوى المعرفة
المثالية والإنسان
خاتمة
Bilinmeyen sayfa
تذييل
مقدمة
إيضاحات مبدئية
الموقف الطبيعي والعلم
الفلسفة والموقف الطبيعي
مراحل المثالية
مشكلة خارجية العالم
دور العقل في مشكلة المعرفة
المثالية ومحتوى المعرفة
المثالية والإنسان
Bilinmeyen sayfa
خاتمة
تذييل
نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان
نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان
تأليف
فؤاد زكريا
مقدمة
يسارع الفلاسفة إلى الترحيب بأي شيء تبدو عليه سيماء الغرابة، ويخالف أول أفكار البشر وأكثرها تلقائية، ويعدونه علامة من علامات سمو علمهم الذي يستطيع كشف آراء بعدت إلى هذا الحد عن وجهة النظر الشائعة، ومن جهة أخرى، فإن أي شيء يقترح علينا ويسبب دهشة وإعجابا، يرضي الذهن إلى حد يجعله يستسلم لهذه الانفعالات السارة حتى لا يعود لديه مجال للاقتناع بأن لذته قد لا يكون لها أي أساس، ومن هذه الاستعدادات لدى الفلاسفة ولدى تلاميذهم ينشأ ذلك التفاهم المتبادل بين الطرفين؛ إذ يأتي الأولون بمجموعة ضخمة من الآراء الغريبة التي لا يقدم لها تعليل، ويصدقهم الآخرون على التو.
Hume: A Treatise of Human Nature
Book I part II Section I
Bilinmeyen sayfa
تفرض كل مهنة على من يحترفها مجموعة من الآراء والمواقف التي تميزه عمن يحترفون مهنا أخرى، وتبدو غريبة خارجة عن المألوف في نظر غيره، ومهنة الفلسفة ليست استثناء لهذه القاعدة، فالأمر الذي لا شك فيه أن الباحث المتخصص في الفلسفة هو اليوم صاحب مهنة لها «جو» خاص يجده غير المتخصص في الفلسفة غريبا خارجا عن المألوف، في هذا «الجو» يقول الفلاسفة بآراء، ويتخذون مواقف، هي في نظرهم من الأمور العادية المألوفة، مع أنها في نظر غيرهم مذهلة لا تكاد تصدق، ومن أكثر هذه الآراء شيوعا: تلك التي يعبر عنها الفلاسفة بصور مختلفة منها: إن العالم الخارجي غير موجود، أو إنه ذاتي، تلك الآراء - المتعلقة بمشكلة تؤلف الجزء الرئيسي في مبحث المعرفة، الذي ربما كان أهم أجزاء الفلسفة العامة أو الميتافيزيقا - هي إذن جزء لا يتجزأ من التراث الفلسفي كما ينقل من جيل إلى جيل، ولكنها تبدو بعيدة تماما عن التصديق، بل عن التصور، حالما يخرج بها المرء عن دائرة الفلسفة المتخصصة.
ولا أظن أن أحدا من دارسي الفلسفة لم يمر في وقت من الأوقات بتلك التجربة التي يتعرض فيها لسخرية الآخرين - الذين قد يكونون أناسا عاديين أو أشخاصا متخصصين في فروع أخرى من العلم - من مواقف الفلاسفة التي تكاد تصل في نظر هؤلاء الأخيرين إلى حد الجنون، ومن أهمها: ذلك الموقف المثالي وما يقترن به من إنكار لوجود العالم الخارجي أو شك فيه، ولكن لنفرض أن واحدا من هؤلاء المتخصصين في الفلسفة قد اتخذ الموقف المضاد، أي دافع عن وجهة النظر «المعتادة» التي يعبر عنها «غير الفلاسفة»، فماذا يكون رأي الفلاسفة فيه؟ إنني لا زلت أذكر نظرة الاستغراب التي نظرها إلي أحد الأساتذة وهو يناقشني في البحث الذي تقدمت به لدرجة الدكتوراه، ودافعت فيه عن وجهة النظر «المعتادة» هذه، لقد سألني: أتعني «حقا» أن تدافع عن وجهة نظر «الإنسان المعتاد»؟ وكان في تساؤله دهشة لا تقل عن تلك التي يبديها عالم الرياضة إذا سمع أحدا يعترض على صحة جدول الضرب!
هذا إذن هو الموقف السائد فيما يتعلق بالصلة بين الفلاسفة وغير الفلاسفة: فالأولون قد أصبح لهم مجالهم الخاص الذي يترفعون فيه عن وجهة نظر «العامة» ويعدون رفضها أول شرط «للسلوك» إلى ميدان الفلسفة، والآخرون يدهشون للآراء النظرية الميتافيزيقية لدى الفلاسفة، ولا يأخذون بواحد منها في حياتهم المألوفة ... ويظل كل من الطرفين متمسكا بموقفه دون أية محاولة للتفاهم.
وإذا كان غير الفيلسوف غير ملوم في عدم تعرفه على وجهة نظر الفلسفة، فإن الفيلسوف - بطبيعة مهنته - ينبغي أن يلام؛ لأنه يكاد يعد رفض موقف الذهن المعتاد من القضايا المسلم بصحتها، ويظل هو وطائفته يستخدمون حججهم ومصطلحهم الخاص الذي لا يعرفه غيرهم، وكأنه من الأسرار الحرفية التي لا ينبغي أن يطلع عليها إلا أربابها.
وإذا كان من «المخجل» في الوسط الفلسفي أن يحاول المرء الدفاع عن «الواقعية الساذجة»، فإن من «المضحك» - في نظر عالم الجيولوجيا أو عالم النبات - أن يحاول المرء إقناعه بأن العالم الذي نراه «من خلقنا نحن»، أو أن يثير المرء فكرة كون المظهر الذي يتبدى عليه هذا العالم خادعا، واحتمال كون العالم «في حقيقته» مخالفا لما ندركه.
وفي رأيي أن استمرار هذا الازدواج هو الأمر المخجل حقا، وليس مما يشرف الفلاسفة على الإطلاق أن يكتفوا بوصف الآخرين بأنهم من «العامة»، دون أية محاولة لتحليل سبب ذلك الاعتقاد القوي الذي يدفع «الناس» - وضمنهم الفلاسفة أنفسهم خلال الجزء الأكبر من حياتهم - إلى الأخذ بوجهة النظر الطبيعية. إن الفلاسفة يعدون وجهة النظر هذه «خطأ» ينبغي تجاوزه إلى غير رجعة، ولكن كان الأجدر بهم أن يكرسوا شيئا من جهودهم لإيضاح علة انتشار هذا «الخطأ» على هذا النحو الهائل بين جميع الآدميين غير المتفلسفين، وبين الفلاسفة أنفسهم في لحظات عدم تفلسفهم! إن ذلك الازدواج الذي يسود حياة من ينكر العالم الخارجي من الفلاسفة - حين يتصرف في هذه الحياة حسب الموقف الطبيعي، ويفكر فيها حسب الموقف المثالي - كان يستحق على الأقل تفسيرا أو تعليلا، ولكن كم من الفلاسفة كرس أبحاثه لهذه المسألة الحاسمة؟!
إن الفلسفة في حاجة إلى أن تخرج - من آن لآخر - من النطاق «الاحترافي» الذي ضربته حول نفسها، وتحدد علاقتها ببقية مجالات العالم، وهي - على الأخص - في حاجة إلى أن تنظر بفهم وتقدير لا بازدراء وترفع، إلى وجهة نظر «الإنسان» بالمعنى العام لهذه الكلمة، وينبغي أن تجد في نفسها الشجاعة للربط بين آرائها وبين هذا «الإنسان»، وإلا فستظل إلى الأبد «مهنة» ضيقة لا تلقى استجابة إلا من ذلك النفر القليل الذي احترفها.
وإن المبرر الوحيد لكتابة هذا البحث إنما هو كونه يعبر عن وجهة نظر شخص هو حقا من «المتخصصين» في الفلسفة، ولكنه لم يفقد أبدا شعور الإنسان الطبيعي بالدهشة إزاء كثير من قضايا الفلاسفة، أجل، فما زلت حتى اليوم أشعر بالدهشة كلما رأيت فيلسوفا يشك في وجود العالم الخارجي أو يصفه بأنه من «خلق الذات»، وهي نفس الدهشة التي اعترتني عندما اطلعت على هذا الرأي لأول مرة في أول كتاب فلسفي قرأته، ومنذ تلك اللحظة الأولى لم أكف عن الاعتقاد بأن في الأمر خطأ، ولكن كانت المشكلة بالنسبة إلي هي: أين يكمن هذا الخطأ؟
وفي هذا البحث سرد للمحاولات التي بذلتها للاهتداء إلى أصل هذا الخطأ، وهي - بلا شك - محاولات غير كاملة، ولن تؤدي إلى دحض كامل للرأي المضاد، ولكن ميزتها الوحيدة أنها - كما قلت - تعبير عن وجهة نظر شخص متخصص في الفلسفة لم يفقد في وقت ما ذلك الإيمان البسيط، أو سمه «الساذج» إن شئت، والذي يتميز به الإنسان في موقفه الطبيعي، فإذا كان في هذه المحاولة نقص، فلا يخالجني شك في أن البشرية ستصل يوما ما إلى دحض كامل للموقف المثالي، بحيث يتسق سلوك الإنسان العملي مع تفكيره النظري، ولا يعود في وسع أحد أن يقول مرة أخرى: إن وجود العالم الخارجي أمر مشكوك فيه، أو هو وهم لا أساس له، أو أن ذلك العالم من خلق الذات.
فؤاد زكريا
Bilinmeyen sayfa
إيضاحات مبدئية
تعريفات:
أعني بالموقف الطبيعي نظرة الإنسان العادي إلى العالم الخارجي؛ إذ ينسب إلى هذا العالم - بما فيه من «أشياء» - وجودا مستقلا عن ذاته، ولست أعتقد أن صفة «الاستمرار في الوجود» من الصفات الضرورية للأشياء تبعا لهذا الموقف؛ إذ إن شعاع الضوء الذي يظهر في لمح البصر ثم يختفي، يمكن مع ذلك أن يعد «خارجيا»، رغم كونه غير مستمر، وإذن فصفة الاستقلال في الأشياء أهم من وجهة نظر الموقف الطبيعي، وهذه الصفة «يجوز» أن تتضمن كون الشيء ذا وجود دائم؛ إذ إن المفروض في الشيء المستقل أن يظل غير متأثر بالتغيرات الذاتية، وهذا الموقف هو الذي تطلق عليه اللغة الإنجليزية اسم
Common Sense
ويسمى في الفلسفة على التخصيص باسم «الواقعية الساذجة»، وهي تسمية ليست دقيقة كل الدقة، كما سنرى فيما بعد.
وأعني بالمثالية كل مذهب يعارض الموقف الطبيعي في نظرته إلى العالم الخارجي بإنكار استقلال هذا العالم أو التشكيك فيه، ويلاحظ على هذا المعنى أنه أوسع من المعنى الفلسفي المألوف؛ إذ إن فيلسوفا تجريبيا مثل هيوم يعد بهذا المعنى ذات نزعة مثالية، في حين يكون من الصعب - في ضوء كثير من التصنيفات الفلسفية المألوفة - إدراجه ضمن المثاليين، كما يلاحظ عليه أنه معنى سلبي، وهي صفة ربما كانت تحل كثيرا من الإشكالات المتعلقة بالبحث عن طابع مشترك يجمع بين المذاهب المثالية ذات الاتجاهات المختلفة؛ إذ يتضح آخر الأمر أن العنصر الأساسي الذي يمكن أن يقال: إنه مشترك بين كل هذه الاتجاهات، هو عنصر المعارضة التامة لموقفنا الطبيعي من العالم الخارجي، كما يلاحظ أخيرا أن التعارض بين المثالية وبين الموقف الطبيعي أشد من التعارض المألوف بين المثالية والواقعية؛ إذ إن بعض المذاهب «الواقعية» - كالواقعية النقدية - تقف من مشكلة العالم الخارجي موقفا لا يختلف كثيرا عن الموقف المثالي.
هدف البحث
يرمي هذا البحث إلى الدفاع عن موقفنا الطبيعي من العالم الخارجي، وذلك في الحدود الخاصة التي تكون مجال هذا الموقف، ووسيلة بلوغ هذا الهدف سلبية في الأغلب؛ إذ سنحاول إيضاح الخلط الذي وقعت فيه المثالية في هذا الميدان الرئيسي من ميادين نظرية المعرفة، وسنبين كيف تعجز المثالية عن إجابة الأسئلة التي تثيرها؛ إذ تعجز عن إيجاد تفرقة سليمة بين الظواهر الموضوعية والظواهر الذاتية، وعن تفسير خارجية العالم، بحيث تبدو في نهاية الأمر مجرد تفسير بلغة مختلفة للعالم الفعلي كما يقول به الموقف الطبيعي.
مجال البحث
يمثل هذا البحث في واقع الأمر إعادة تقويم فلسفية لمشكلة المعرفة، ولما كان الاهتمام يتركز فيه على المشكلة ذاتها، فقد كان من العبث أن تحرص على استيعاب مختلف الاتجاهات الفلسفية الفرعية التي أدلت بآراء في هذا الموضوع، ومن هنا فقد اكتفينا بالاتجاهات الرئيسية التي تأثرت بها المذاهب الفرعية؛ حتى نستطيع أن نتبين معالم المشكلة التي نعالجها دون أن يضيع الخيط الرئيسي لها بين التفاصيل العديدة، وهكذا تغنينا - مثلا - دراسة نظرية المعرفة عند هيوم (بالنسبة إلى أغراض هذا البحث) عن دراستها عند الوضعيين المحدثين، أو دراسة كانت عن دراسة الكانتيين المحدثين أو مختلف اتجاهات أصحاب مذهب الظواهر. حقا إن كثيرا من التفاصيل المفيدة ستضيع عندئذ، غير أن ضياع التفاصيل سيعوضه التركيز على المشكلة في أطرافها الرئيسية، وهكذا استمدت الأمثلة التي ضربت في الجانب الأكبر من هذا البحث مما يمكن أن يسمى ب «العصر الذهبي لنظرية المعرفة»، وهو العصر الذي يمتد من ديكارت إلى كانت وشوبنهور، والذي ظهرت فيه آراء يمكن أن تعد بحق ممثلة للاتجاهات الفلسفية «الرئيسية» في هذا الميدان.
Bilinmeyen sayfa
منهج البحث:
في الفلسفات الحديثة - ولا سيما الفلسفات الأنجلوسكسونية - ميل إلى معالجة مشكلة المعرفة باتباع المنهج التحليلي، ولهذا المنهج فائدة لا تنكر في استبعاد الكثير من المغالطات اللفظية والمشاكل الوهمية من مجال الفلسفة، ولكن المنهج الذي نتبعه ها هنا والمستوى الذي يتخذه هذا البحث أبعد غورا من ذلك، ففي هذا البحث تناقش نقط البداية الأولى التي لا يناقشها الكثير من التحليليين أنفسهم، أو يتركونها تنزلق إلى مناقشاتهم دون وعي منهم، ومن جهة أخرى يصدر هذا البحث أحكاما عامة على الموقف الفلسفي المثالي، وهي أحكام يندر أن يستطيع الفيلسوف التحليلي إصدارها لانغماسه في التفاصيل؛ ذلك لأن الفلسفة التحليلية تفتح على الدوام تفاصيل فرعية، وهذه الفروع تؤدي إلى فروع أخرى للفروع، وهكذا ... ويظل التحليل يتسع وينتشر حتى يمتد إلى أكثر الألفاظ والقضايا شيوعا، ولهذا كله قيمته، ولكن كثيرا ما يحدث أن تنسى المشكلة الأصلية في غمار هذه التفاصيل، أو أن تتفتت إلى مجموعة من المشاكل الفرعية التي تتشعب بدورها، ويفقد الذهن صلته بالمشكلة من حيث هي مشكلة فلسفية أصيلة، وتتكون لديه عادة جديدة وغاية جديدة هي التحليل لأجل التحليل.
ولنضرب لذلك مثلا: فالفلاسفة التحليليون - من «مور
Moore » إلى «رايل
Ryle » - ظلوا يناقشون تفاصيل البراهين المتعلقة بوجود العالم الخارجي، وظهرت لهم أثناء هذه المناقشات آلاف المشاكل الفرعية، التي حل بعضها وما زال معظمها ينتظر الحل، ومع ذلك ظلت هناك مسلمات معينة تنزلق وسط هذا التيار الجارف من التحليلات، وهي مسلمات لو تطرق الشك إليها لكان معناه القضاء على جميع الجهود التحليلية وذهابها كلها هباء، فمثلا يتحدث آير - في كتابه: «مشكلة المعرفة» - عن مشكلة العالم الخارجي قائلا: «إن الرأي القائل: إنه قد لا تكون هناك أشياء مادية معينة ... هو فرض لا يقول به شخص عاقل أيا ما كانت الدلائل المؤيدة له، ولكن هذا لا يعني أنه مستبعد «شكليا» ... والواقع أنه لا يوجد في اللحظة الحالية - وفيما يتعلق بي - أي شك في أن هذه المنضدة وهذه الورقة ... موجودة، بل إني لأعلم أنها موجودة، وأعلم ذلك على أساس تجربتي الحسية، ولكن حتى لو كان الأمر كذلك، فلا ينتج عنه أن القول بوجودها ... يخلو «منطقيا» من أي وصف لتجربتي الحسية.»
1
هذا الرأي يتضمن مثلا لمسلمة هامة لم تناقشها الفلسفة التحليلية فيما يتعلق بمشكلة العالم الخارجي: وهي التسليم بأن وجود الأشياء موضوع للاستدلال «المنطقي» من تجربة الإدراك الحسي، كما تدل على ذلك الكلمات: «شكليا» و«منطقيا»، ولكن ماذا يكون الحال لو كانت المسألة من أساسها خارجة عن مجال المنطق والبرهان؟ وماذا يكون الحال لو عرفنا أن المنطق يعجز عن إثبات أشياء عديدة، وأن هذه الأشياء مع ذلك موجودة على نحو تستقل فيه عن البرهان وتسبقه؟ مثل هذا السؤال عن كون مشكلة العالم الخارجي تخضع للبرهان المنطقي أو لا تخضع له (وهو موضوع فصل مستقل في هذا البحث) خارج تماما عن مجال الفلسفة التحليلية، بل إن له - بطبيعته - أسبقية على كل المشاكل التي تناقش في هذا المجال، ولو كانت الإجابة عنه نفيا لكان معنى ذلك أن الجهود المضنية التي بذلها عدد كبير من هؤلاء الفلاسفة في مناقشة «البراهين» المتعلقة بوجود العالم الخارجي، هي جهود «غير ذات موضوع».
وإذن فالمنهج الذي نتبعه في هذا البحث هو منهج المناقشة المفصلة في الطرفين القصيين للفلسفة: المسلمات الأولى والمواقف المبدئية التي يقفها الفلاسفة، ثم النتائج النهائية التي يصل إليها الباحث في خاتمة مطافه؛ وعلى هذا الأساس وحده يكون من الممكن - في رأينا - إدراك العلاقة بين الفلسفة والموقف الطبيعي (وهي المحور الرئيسي الذي يدور حوله هذا البحث) في صورتها الحقيقية.
الموقف الطبيعي والعلم
أوضح ما يميز الموقف الطبيعي هو أنه لا يضع مشكلة وجود العالم الخارجي موضع التساؤل، بل «يطرح جانبا» التفكير في احتمال عدم وجود العالم وما فيه من «أشياء»، وهذا الموقف ليس «ساذجا» بالضرورة؛ إذ إن صفة السذاجة مرتبطة بنوع من الجهل أو «الغفلة»، في حين أن كل إنسان - حتى الفلاسفة والعلماء - يشارك في هذا الموقف في تصرفاته العملية.
Bilinmeyen sayfa
ومن جهة أخرى، فإن وصف هذا الموقف ب «السذاجة» يغفل احتمالا آخر على جانب عظيم من الأهمية: فربما كان هذا الموقف هو الوحيد الذي يضمن للإنسان علاقة متسقة مع العالم الخارجي، وربما كان هو الحل الوحيد الذي يقتضيه سلوكنا في هذا العالم، في حين أن المواقف المضادة له - أي المثالية - إما أن تنتهي إلى إخفاق، أو تتوقف عند نقطة لا يمكنها المضي إلى ما بعدها، فتنتهي إلى نوع من اللا أدرية التي لا تحل أي إشكال، وبالاختصار فهناك دائما احتمال في أن يكون الحل الوحيد لمشكلة العالم الخارجي منتميا إلى المجال العملي، بعد أن يثبت عقم المحاولات «النظرية» للتشكيك في هذا العالم أو إنكاره، وطالما أن هذا الاحتمال قائم، فمن الخطأ وصف هذا الموقف بالسذاجة، بل إن الموقف المضاد قد يكون هو المفرط في التحليل والنقد بلا جدوى.
وأغلب الظن أن الموقف الطبيعي قد وصف بالسذاجة نتيجة لتلك الحالات التي يبدو فيها أن تقدم العلم البشري قد حتم الخروج عنه، مثال ذلك أن علماء الفلك لو كانوا قد التزموا هذا الموقف لما وصلوا إلى فكرة دوران الأرض حول الشمس؛ إذ إننا نعتقد - في موقفنا الطبيعي - أن الأرض هي الثابتة، وهكذا نجد أن تعريف الموقف الطبيعي يرتبط ارتباطا وثيقا بتحديد علاقته بالعلم أو بالموقف العلمي على الأصح، وسنحاول هنا أن نثبت أنه حتى لو وجدت تجارب أو كشوف علمية تبدو مخالفة للموقف الطبيعي، فإن هذا يرجع إلى اختلاف وظيفة الموقفين الطبيعي والعلمي، واختلاف الغرض من تجربة الإنسان في كل منهما.
ولإيضاح فكرتنا هذه نضرب مثلا بطريقة تعريف «آير» للموقف الطبيعي أو الموقف «الواقعي الساذج» كما يسميه، فهذا الواقعي الساذج يرى أن «الأشياء المادية التي ندركها عادة «معطاة» لنا مباشرة، بمعنى لا يحتاج إلى شرح، ولا يرى وجها للاستحالة في أن تكون أشياء كالذرات والإلكترونات مدركة مباشرة ... إلخ.»
1
وهنا يظهر ما نعتقد أنه وصف غير دقيق للموقف الطبيعي، فليس من مهمة ذلك الموقف أن يتحدث عن الإلكترونات والذرات، وليست هذه وظيفته، ولا علاقة له بهذا المجال، فللموقف الطبيعي مجال معين يقتصر عليه، ويظل دائما صحيحا في نطاقه، وفي رأينا أن قدرا غير قليل من الأخطاء الفلسفية يرجع إلى عدم الدقة في تحديد هذا المجال، أو إلى الخلط بينه وبين مجالات أخرى لا شأن له بها، وسنحاول فيما يلي أن نحدد خصائص هذا الموقف ومجاله بشيء من التفصيل.
فالموقف الطبيعي عملي وحيوي (بيولوجي) في المحل الأول، إنه ليس موقفا تحليليا أو نقديا نحاول فيه إرجاع الظواهر إلى أصلها أو كشف عللها، وإنما يتعلق هذا الموقف بسلوكنا العملي في هذا العالم، وهو يعبر عن استعداد طبيعي فينا لا يختلف كثيرا عن استعدادنا للأكل والشرب والنوم، بل إنه هو الذي يجعل هذه الاستعدادات الطبيعية الأخرى ممكنة، ومن المؤكد أن ذلك النزوع الطبيعي لدى جميع البشر إلى النظر إلى العالم على أنه ينطوي على «أشياء» خارجة عنا، راجع إلى أن هذه النظرة هي الوحيدة التي تيسر لنا سلوكنا العملي، وعندما نقول: إنها تيسر لنا السلوك العملي، فليس في ذهننا أية فكرة برجماتية عن إثبات صحة الموقف الطبيعي ل «نجاحه» في المجال العملي، بل إن ما نقصده أبعد من هذا بكثير؛ فنظرة الإنسان الطبيعية إلى العالم - وهي التي يعده فيها مكونا من أشياء خارجية مستقلة عنه - أعمق تأصلا في الإنسان من أن تعد مرتبطة بمجرد «النجاح» أو «الصلاحية»، وإنما نحن هنا إزاء ظاهرة لا يستطيع أحد أن يصفها بأنها «محدودة» بأي معنى من المعاني، ولا أظن أن أحدا من الباحثين قد صادف حالة ينظر فيها الإنسان «عمليا» إلى العالم على أنه غير مكون من أشياء خارجية مستقلة عنه، أعني حالة يعالج فيها شخص «النار» مثلا - من الناحية العملية - على أنها مجرد فكرة ذاتية في رأسه، وصحيح أننا سمعنا عن حالات كثيرة لأشخاص ألقوا بأنفسهم عمدا في النار، ولكني لا أظن أن أحدهم - طالما كان من العقلاء - قد فعل ذلك لاعتقاده بأن النار مجرد فكرة في رأسه، وبالتالي لن تؤذيه! وإن النتيجة المحزنة التي ينتهي إليها أي فعل عملي كهذا - لو حدث - لتدل على شيء واحد: هو أننا في حياتنا العملية اليومية لا نستطيع أن نسلك إلا على أساس هذا الموقف الطبيعي.
ولقد حلل «لوك» فكرة ارتباط الموقف الطبيعي بقدرة الإنسان على السلوك العلمي تحليلا رائعا في بضعة نصوص لم تلق الاهتمام الكافي بين الشراح، ولكن لها أهمية بالغة بالنسبة إلى أغراض هذا البحث، وفي أحد هذه النصوص يقول لوك:
لو كانت لنا حواس تبلغ من الحدة ما يمكنها من إدراك الدقائق الصغيرة للأجسام والتركيب الحقيقي الذي تتوقف عليه كيفياتها المحسوسة؛ لبعثت فينا دون شك أفكارا مختلفة كل الاختلاف، ولاختفى ما هو الآن اللون الأصفر للذهب، ورأينا محله نسيجا منظما من الأجزاء ذات الشكل والحجم الخاص، وهذا ما تكشفه لنا المجاهر بوضوح ... فالدم يبدو للعين المجردة أحمر كله، ولكن المجهر الجيد الذي يكشف أجزاءه الصغيرة لا يطلعنا إلا على كرات حمراء قليلة تسبح في سائل رائق ...
إن حواسنا تمكننا من معرفة الأشياء وتمييزها وفحصها بحيث يتسنى لنا تطبيقها في استعمالاتنا - على أنحاء شتى - لمواجهة مقتضيات هذه الحياة ... ولو تغيرت حواسنا وأصبحت أسرع وأحد لتغيرت مظاهر الأشياء ونظمها الخارجية في نظرنا تغيرا تاما، ولغدت - كما أظن - غير متمشية مع وجودنا - أو رفاهنا على الأقل - في هذا العالم الذي نعيش فيه ... فلو كانت حاسة سمعنا أشد ألف مرة مما هي عليه لسمعنا ضجيجا دائما يزعجنا ... ولو كانت حاسة الإبصار أحد ألف أو مئة ألف مرة مما هي عليه الآن في أحسن المجاهر لرأت العين المجردة أشياء أصغر بملايين من المرات مما تراه الآن، ولاقترب الإنسان من كشف نسيج الأجزاء الدقيقة للأجسام المادية وحركتها ... ولكن ... ربما لم يستطع هذا البصر الحاد الدقيق تحمل وهج الشمس أو وضح النهار، وربما لم يكن في وسعه إلا إدراك جزء صغير جدا من أي شيء في اللحظة الواحدة وعلى مسافة قريبة جدا، وإذا كان الإنسان يستطيع بهذه العين المجهرية ... أن ينفذ أكثر من المعتاد في التركيب الخفي والنسيج الأصلي للأجسام، فلن يعود عليه هذا التغيير بنفع كبير، إن لم يفده هذا الإبصار الحاد في الذهاب إلى السوق والتعامل فيه، وإن لم ير الأشياء التي ينبغي عليه تجنبها عن بعد كاف ...
2
Bilinmeyen sayfa
وفي نص آخر يتحدث لوك عن يقيننا الطبيعي بوجود الأشياء خارجة عنا، ويوضح ارتباطه بحاجات الإنسان الطبيعية في هذا العالم فيقول:
إن اليقين بوجود الأشياء بالطبيعة عندما تشهد حواسنا بذلك، لا يبلغ المبلغ الذي يمكن أن تصل إليه قدرتنا فحسب، بل يبلغ أيضا القدر الذي تحتاج إليه طبيعتنا ... فهذا التأكيد بوجود الأشياء خارجنا يكفي توجيهنا في اكتساب الخير وتجنب الشر الذي تسببه هذه الأشياء، وهو ما يهمنا في معرفتنا إياها.
3
وإذا دلت هذه النصوص المفصلة على شيء، فإنما تدل على أن لوك قد اهتدى بكل وضوح إلى ذلك الارتباط الأساسي للموقف الطبيعي بقدرة الإنسان على السلوك العلمي في العالم الطبيعي، فإذا حاولت وأنت تسبح أن تنظر إلى البحر على أنه ليس خارجيا، فلن يكون لهذا من نتيجة سوى غرقك، وإذا شئت - خلال سيرك - أن تعد الشجرة فكرة ذاتية في رأسك، فلن يؤدي ذلك إلا إلى اصطدام رأسك ذاتها بها.
وإذن فللموقف الطبيعي مجاله الضروري، وهو المجال العملي الحيوي.
وحواسنا - مهما كانت «خشونتها» - تقدم إلينا صورة للعالم لا نستطيع أن نرفضها رفضا قاطعا في سلوكنا العملي، وإلا أدى ذلك إلى إلحاق أبلغ الأضرار بحياتنا ذاتها، حقا إن نصيب هذه الحواس يتفاوت نجاحا أو فشلا حين تقتحم ميادين أخرى، كميدان تفسير الظواهر أو فهمها، ولكنها في الميدان العضوي العملي لا مفر منها، وتؤدي وظيفتها الكاملة فيه، ومن العبث الاعتراض على قدرتها في هذا الميدان. •••
فإذا عدنا إلى النص الأول الذي اقتبساه من لوك لوجدناه في أول هذا النص يتحدث عن حدة الحواس كما لو كانت تؤدي بنا إلى إدراك «التركيب الحقيقي» الذي تتوقف عليه الكيفيات المحسوسة للأشياء، وتلك هي نقطة الضعف في هذا النص، وربما كانت فيه مجرد تعبير غير موفق لا يؤثر في السياق العام للنص، ولكنها في ذاتها تمثل اتجاها مشتركا بين كثيرين من مفكري العلم والفلسفة، وهو اتجاه كانت له أخطر النتائج بالنسبة إلى التفكير في مشكلة العالم الخارجي.
فهل هناك بالفعل صورة «حقيقية» للعالم؟ إننا نستطيع أن نميز على الأقل بين ثلاث صور لهذا العالم: (1)
الصورة «الخشنة»: التي تطلعنا عليها حواسنا: صورة العالم بما فيه من «أشياء» نتعامل معها في حياتنا اليومية. (2)
الصورة الميكروسكوبية: التي نرى فيها أو نحاول أن نرى «العالم الأصغر» عالم الكائنات الحية الدقيقة أو الخلايا أو الجسيمات. (3)
Bilinmeyen sayfa
الصورة التلسكوبية: وهي صورة «العالم الأكبر» كما تكشفه لنا المناظير المكبرة بما لديها من قدرة على تقريب مسافات شاسعة إلى أنظارنا.
ولسنا في حاجة إلى أن نقول: إن كلا من الصورتين الميكروسكوبية والتلسكوبية تتعرض لاختلافات أساسية كلما كشفت آلات أقدر على تكبير الجسم الصغير أو تقريب الجسم البعيد.
وفضلا عن ذلك، فليس هذا هو العدد الوحيد من الصور الممكنة للعالم؛ فمن وراء العالم الميكروسكوبي، هناك عالم الذرات والإلكترونات وهو عالم تعد الجراثيم الميكروسكوبية بالنسبة إليه «عالما أكبر»، ومن وراء العالم التلسكوبي هناك المجموعات الكونية التي لم يصل إلينا ضوءها حتى الآن، والتي تعد الأبعاد التلسكوبية بالنسبة إليها «عالما أصغر»، وفي هذا - ولا شك - ما يجعل كلمة «الأصغر» و«الأكبر» كلمات نسبية إلى أقصى حد، ولا يمكن أن يكون لها معنى إلا من خلال منظور معين، وعلى أية حال فسوف نكتفي لإيضاح فكرتنا - بالصور الثلاث التي تحدثنا عنها - على أنها مجرد أمثلة للصور المختلفة الممكنة للعالم.
والآن، فهل هناك صورة معينة من هذه هي الصحيحة دون الأخريين؟ هل يستطيع أحد أن يقول: إن صورة كوب الماء في يدي باطلة؛ لأن المجهر يكشف آلافا من الكائنات الحية الدقيقة في قطرة واحدة منها؟ أو أن صورة المريخ - كما أدركها بعيني المجردة - باطلة؛ لأن التلسكوب يدرك بقعا ملونة وأجواء ليس لها أي أثر في صورتي هذه؟ ربما كان هناك ميل لدى البعض إلى الإجابة على هذه الأسئلة بالإيجاب؛ لأن أحد أطراف المقارنة هنا - وهو المنظور المعتاد - متهم دائما بالخطأ، ولكن النقطة التي نود إثباتها تتضح بسهولة إذا ما أجرينا المقارنة بين الطرفين الآخرين: فهل يجوز لنا أن نشك في دقة الميكروسكوب أو نعتقد ببطلانه لعجزه عن إدراك النجوم البعيدة، أو أن نرمي التلسكوب بالقصور؛ لأنه لا ينقل إلينا دقائق قطرة الماء؟ إن الجميع سيردون على هذا السؤال قطعا بالنفي، وهنا نسارع فنسألهم: ولكن «لماذا» لم تشكوا في دقة الميكروسكوب أو التلسكوب عندما عجز كل منهما عن إرشادنا في مجال الآخر؟ إن الجواب الوحيد على هذا السؤال هو أن لكل منهما «مجاله» الخاص، وهذه بعينها هي النقطة التي نود إثباتها.
فصورة العالم «صحيحة» حسب كل مجال من المجالات التي تستخدم فيها هذه الصورة، وبالنسبة إلى أغراض مجال الإنسان العملي الحيوي، تكون صورة العالم في الموقف الطبيعي صحيحة تماما؛ لأنها هي الوحيدة المتسقة مع غايات الإنسان في هذا العالم، ومن العبث أن تنقد إحدى هذه الصور الثلاث: الصورة الحيوية أو الميكروسكوبية أو التلسكوبية؛ لأنها تعجز عن أداء وظيفة الأخرى.
فإذا جمعنا الآن بين الصورتين الميكروسكوبية والتلسكوبية تحت «جنس» أعم - هو اسم «الصورة العلمية» - لجاز لنا أن نعبر عن هذه النتيجة الهامة السابقة تعبيرا آخر، هو أنه «من العبث أن ننقد الصورة التي نكونها للعالم في موقفنا الطبيعي لاختلافها عن الصورة العلمية للعالم؛ إذ إن كلا من الصورتين تؤدي وظيفة مختلفة تماما عن وظيفة الأخرى، وتسري على مجال مخالف تماما لمجالها.» •••
والآن فلنتحدث عن الخلط بين الموقفين الطبيعي والعلمي بضرب أمثلة له، وبيان آثاره العظيمة الأهمية في التفكير الفلسفي.
ولكي نوضح طبيعة هذا الخلط نضرب ذلك المثل المألوف لدينا جميعا، مثل العلاقة بين الأرض والشمس من حيث الدوران، فليس أوضح بالنسبة إلى أي شخص - لديه أبسط قسط من التعليم في عصرنا هذا - من أن الأرض هي التي تتحرك حول الشمس، ومع ذلك فمجرد القول بتحرك الأرض يعني أننا دخلنا في مجال «التفسير العلمي»، لا في مجال الحياة اليومية بما لها من مقتضيات بيولوجية، فرغم وضوح هذه الفكرة، فإن من المستحيل حتى الآن - وربما ظل من المستحيل إلى الأبد - أن نتصرف في حياتنا اليومية على أساس أن الأرض متحركة؛ إذ إن هذه الحركة لا تؤثر مطلقا في ذلك المجال الحيوي الذي يسود فيه الموقف الطبيعي، ومن هنا كنا لا نزال نرى الناس جميعا - بما فيهم كبار علماء الفلك لدينا - يستخدمون في أحاديثهم المعتادة تعبيرات مثل «عندما طلعت الشمس أو غابت ...» هذه التعبيرات ليست مجرد تعبيرات متوارثة منذ كان الناس يعتقدون بحركة الشمس حول الأرض، وإنما هي تعبيرات تدل على ما يلزمنا في موقفنا الطبيعي، والدليل على ذلك أننا سنسخر حتما من ذلك الذي يستخدم في حديثه المعتاد عبارة مثل «قابلت فتاتي على شاطئ البحر عندما دارت الأرض بحيث لم تعد الشمس ظاهرة ...» لماذا إذن نسخر من مثل هذا التعبير مع أنه صحيح ودقيق، ونفضل عليه تعبيرا آخر أقل دقة هو «بعد غروب الشمس»؟ لأن المسألة هنا ليست دقة أو عدم دقة أو صحة وبطلان، وإنما هي مسألة مجالين مختلفين لكل منهما مقتضياته الخاصة وينبغي ألا يخلط بينهما.
ولنسر خطوة أخرى في طريق إيضاح فكرتنا، فنقول: إن الكثيرين ينقدون الموقف الطبيعي على أساس أنه كان عقبة في طريق التقدم العلمي، ففي المثال السابق كان الاعتقاد «الطبيعي» بأن الشمس هي المتحركة - وهو اعتقاد تولده الحواس بإدراكها ثبات الأرض وتغير مواقع الشمس - عائقا في سبيل كشف العلاقة الحقيقية بين الأرض والشمس من حيث الحركة، وظل يغذي حركة مقاومة النظرية الفلكية الجديدة بعد ظهورها بمدة طويلة، وهذا الانتقاد صحيح ولا شك، ولكن الخطأ هنا في واقع الأمر لم يكن خطأ الموقف الطبيعي ذاته، بل خطأ العلماء القدماء الذين حاولوا الاكتفاء بالموقف الطبيعي وتفسير كل الظواهر العلمية من خلاله، والأمر الذي لا شك فيه أن الموقف الطبيعي والموقف العلمي يكونان في بداية الأمر متفقين، ثم يصبح للعلم مجاله الخاص كلما اقتضى تقدمه البحث عن أوجه أخرى للظواهر غير الأوجه المحسوسة مباشرة منها، ولكن الذي ينبغي أن نتنبه إليه - مع اعترافنا بهذا الانتقاد - هو أن «الموقف العلمي حين يستقل عن الموقف الطبيعي لا ينبغي أن يحل محله في ميدانه»؛ إذ يظل الموقف الطبيعي محتفظا بصلاحيته وقيمته في الميدان المخصص له، ويكون الفارق بين حالة العصر المستنير والعصر غير المستنير هو في إدراك الأول لارتباط هذا الموقف بمجاله الخاص، وكف الأذهان عن محاولة تطبيقه في جميع الميادين.
ولقد كان النزاع الفكري المشهور الذي دار بين الفيلسوفة الإنجليزية «سوزان ستبنج
Bilinmeyen sayfa
S. Stebbing » وبين مجموعة العلماء الإنجليز الذين أقحموا أنفسهم في ميدان الفلسفة وأرادوا استخلاص نتائج فلسفية خطيرة من الكشوف العلمية الثورية التي حفل بها الربع الأول من القرن العشرين؛ كان هذا النزاع مظهرا من مظاهر مشكلة العلاقة بين العلم والموقف الطبيعي، وقد وقفت «سوزان ستبنج» موقفا حاسما ضد تشويهات دنجتن وجيمس جينز التي كانت - من الوجهة الفلسفية - بعيدة كل البعد عن ذلك المستوى الرفيع الذي بلغاه في ميادين تخصصهما العلمية، فقالت: «لا شيء سوى الفوضى يمكن أن ينتج عن ... الخلط بين اللغة التي تستخدم استخداما سليما للتعبير عن الأشياء المحيطة بنا وعن معاملاتنا اليومية معها، وبين اللغة المستخدمة لغرض المناقشة الفلسفية والعلمية.»
4
ثم زادت فكرتها تحديدا بقولها «... إن النظريات الحديثة في الذرة لا تقدم أدنى مبرر للقول بأن التطورات الأخيرة في الفيزياء تؤدي - على أي نحو - إلى إثبات بطلان المادية، أو يمكن استخدامها في تقديم أية حجج مؤيدة للمثالية.»
5
ولا شك أيضا أن «تولمين
Toulmin » كان في ذهنه هذا النزاع ذاته حين أكد نفس الفكرة التي نقول بها في ضرورة تجنب الخلط بين اللغتين العلمية والفلسفية، فقال: «ليس من حق العالم أن يشكك في أي تفسير للتجربة تقدمه اللغة اليومية المعتادة بحجة أن هذه اللغة تخفق فيما تتصدى له؛ ذلك لأن اللغة اليومية تصف موضوعات تجربتنا على نحو يحقق أغراضنا المعتادة أكمل تحقيق ... فالمنضدة التي أكتب عليها صلبة، وكذلك الحال في الكرسي الذي أجلس عليه، ومن حقي أن أتخذ أيا منهما مثلا للشيء الصلب عندما أقوم بتعليم أي شخص فكرة الصلابة، وعلى أساس معرفتي بصلابتهما أبني اقتناعي بأنني إذا اصطدمت بأي منهما في الظلام فسوف أصاب بكدمة ... غير أن العالم يطرح جانبا فكرة الصلابة بمعناها اليومي؛ لأنها قد تؤدي به إلى الاعتقاد - خطأ - بأن أي شيء لا يمكن أن يخترق المنضدة أو الكرسي حتى ولا شعاع من أشعة ألفا، ومن حقه تماما أن يفعل ذلك بوصفه عالما فيزيائيا، ولكن من الخطأ أو من التخبط أن يقول: إن هذه المنضدة ليست صلبة على الإطلاق؛ إذ إن أشعة ألفا تخترقها، فلا بد إذن أن تكون مليئة بالثقوب، أي إن العالم يكون على خطأ لو تصور أن نتائج تجربته تفند مفهوم الصلابة بمعناها اليومي.»
6
وهكذا يمكن القول: إن الفكرة التي ننادي بها - والتي يمكننا أن نجد صدى لبعض جوانبها في كتابات فلسفية أخرى - ليست على الإطلاق دفاعا «مطلقا» عن الموقف الطبيعي، وإنما هي دفاع عنه في تلك المجالات التي لا ينبغي أن يزاحمه فيها الموقف العلمي، والتي ينبغي أن تظل لغة الموقف الطبيعي هي وحدها السائدة فيها، أما في المجالات التي يجب أن تكون الكلمة الأخيرة فيها للعلم، فمن السذاجة - دون شك - أن يحاول أحد الدفاع عن الموقف الطبيعي على حساب العلم.
ولقد كان الفيلسوف الفرنسي المعاصر «جاستون باشلار» من أشد المفكرين نقدا للموقف الطبيعي، بوصفه عقبة ظلت تعترض طريق التقدم العلمي ردحا طويلا من الزمان، وكان نمو العلم - في رأيه - نموا متعرجا لا يسير في خط مستقيم، بل يحدث التقدم فيه من خلال صراع مستمر مع الخطأ، فالحقيقة العلمية خطأ تم تصحيحه، وليس ثمة قيمة كبيرة لتلك الحقيقة التي تظهر منذ البداية واضحة ساطعة متميزة عن كل ما عداها (وفي ذلك يتخذ باشلار موقفا مضادا تماما لموقف ديكارت، الذي جعل من الوضوح والتميز معيارا لصحة الأفكار، وكانت أرفع الحقائق في نظره هي تلك التي تفرض نفسها على الذهن، وتصدر عن الحدس، على نحو لا نملك معه إلا قبولها)، بل إن الخطأ كامن في قلب الحقيقة، وللخطأ الأولوية في كل معرفة حقة تتوصل إليها الإنسانية؛ لأن هذه المعرفة إنما هي - في الواقع - خلاص تدريجي من ربقة الجهل والخطأ الذي يظل يفرض نفسه علينا ما لم نعمل على مقاومته بلا هوادة، ولا جدال في أن تشبث الخطأ بمواقعه، واضطرار العلم في كل خطوة من خطوات تقدمه إلى أن يكافح ويصارع من أجل إزاحة «عقبة» الجهل التي تقف أمامه بعناد، إنما يرجع إلى تأثير الموقف الطبيعي الذي يزاحم الروح العلمية ويمسك بتلابيبها محاولا منعها من المضي في طريقها قدما.
هذه الحملة الشعواء التي شنها باشلار على الموقف الطبيعي، قد توحي بأن الرأي الذي ندافع عنه في هذا الكتاب متعارض مع موقف مفكر من أعظم فلاسفة العلم في عصرنا الحاضر، وبالفعل استنتج البعض من ذلك أن كتابات باشلار تعد تفنيدا مسبقا لموقف الدفاع عن الموقف الطبيعي،
Bilinmeyen sayfa
7
على أن الأمر الذي ينبغي أن نتنبه إليه هو أن باشلار كان يتحدث على الدوام من المنظور العلمي، فلم تكن مهمته هي إجراء مقارنة «مطلقة» بين الموقف الطبيعي والموقف العلمي، وإنما كان يبحث في الموقف الطبيعي من حيث مدى تأثيره في تطور العلم، ولقد كان من المتوقع، في هذه الحالة، أن يوجه انتقادا مريرا إلى الموقف الطبيعي عندما يتدخل في مجرى العلم، ويعده عقبة أساسية يتعين على العلم أن يكافحها بلا هوادة.
وعلى هذا الأساس أسهب باشلار في وصف تلك المرحلة التي كان العلماء يخلطون فيها بين مقتضيات البحث العلمي ومقتضيات الموقف الطبيعي، وهي المرحلة التي يسميها «بالفترة قبل العلمية
période préscientifique » والتي تمتد في رأيه حتى القرن الثامن عشر، ففي هذه المرحلة كان العلماء عاجزين عن التفرقة بين البحث العلمي وبين وقائع الحياة اليومية، وكانوا يملئون كتاباتهم وأبحاثهم بحكايات وقصص تنتمي إلى مجال العالم اليومي، ويبدءون دائما بإشارات إلى التجربة العامية المألوفة، ويقفون متعجبين أمام الظواهر الطريفة والملاحظات والمشاهدات المثيرة، وكان التأليف العلمي مختلطا إلى حد بعيد بالصور والمجازات والاستعارات، وفي مثل هذا المجال العيني يستحيل أن يقوم علم بالمعنى الصحيح؛ إذ إن العلم إنما هو انتقال من العيني إلى المجرد، والتجريد - الذي هو تركيب ذهني بحت - يؤلف عالما علميا خاصا يشيد عمدا على نحو منفصل عن التجربة المباشرة، ومن هنا كان قول باشلار: «ينبغي أن تتكون الروح العلمية ضد الطبيعة، وضد ما تدعونا إليه الطبيعة وتلقننا إياه في داخلنا وفي خارجنا، وضد الاندفاع الطبيعي، والواقعة الطريفة المتنوعة، فمن الواجب أن تتكون الروح العلمية عن طريق إعادة تشكيل ذاتها، وهي لا تستطيع أن تتعلم - إزاء الطبيعة - إلا بتنقية المواد الطبيعية وتنظيم الظواهر المختلطة، بل إن علم النفس ذاته لن يصبح علميا إلا إذا أصبح نظريا
discursive
كالفيزياء، وأدرك أننا لا نستطيع أن نفهم الطبيعة إلا بمقاومتها، وأن هذا يصدق على ما في داخلنا مثلما يصدق على ما في خارجنا.»
8
وهكذا كان اعتراض باشلار منصبا - في الواقع - على «الخلط» بين مجالي العلم والتجربة اليومية، لا على هذه الأخيرة في ذاتها ... فإذا اتخذت التجربة اليومية أساسا لبحث علمي كان من الضروري انتقادها، وتدل فكرة المقاومة والتصحيح المستمر - التي أكد باشلار أنها هي المبدأ الأساسي في تكوين الروح العلمية - على أنه يعترف ضمنا بأن التجربة اليومية تفرض نفسها علينا في شتى المجالات، ولكن الدخول في ميدان العلم يحتم علينا أن نقاومها ونصحح أخطاءها، ومجمل القول: إن باشلار - في نقده للموقف الطبيعي - كان يتحدث من منظور العالم، وكان له كل الحق في أن ينتقد العلم المرتكز على الموقف الطبيعي، والعلماء الذين يخلطون بين مقتضيات كل من العلم والحياة اليومية، ويطبقون معايير الثانية على الأول، وكل هذه آراء لا تتعارض على الإطلاق مع ما نقول به من ضرورة الفصل بين المجالين، وعدم محاسبة أحدهما لعجزه عن تحقيق أهداف الآخر. •••
وإذن فمن الضروري أن نفصل بين مجالي الموقف الطبيعي والموقف العلمي، ونتجنب الخلط بينهما، ولكن هذا الخلط قد حدث بالفعل خلال تاريخ الفلسفة، وكان مسئولا عن عدد كبير من الأخطاء التي ارتكبت في ميدان نظرية المعرفة.
ففي الفلسفة القديمة كان الموقف العلمي مندمجا في الموقف الطبيعي، وكان الخطأ الذي ارتكبه الفلاسفة هو أنهم نظروا إلى الموقف الطبيعي على أنه يمثل العلم في الوقت ذاته، ورأوا أن «مقولاته» - كفكرة الجوهر - تعبر أيضا عن الأسس الأولى للعلم، أي إن طبيعة الأشياء تفهم فهما كاملا من خلال الموقف الطبيعي، بحيث لا تحتاج إلى البحث عن أية صورة أخرى لها مخالفة لصورتها في حياتنا اليومية، وهذا هو ما يعلل ظاهرة عدم التفرقة بين الفيلسوف والعالم في العالم القديم.
Bilinmeyen sayfa
أما في عصر انفصال العلم عن الفلسفة، فقد ارتكب الفلاسفة الخطأ المضاد، وهو محاسبة الموقف الطبيعي عن عجزه عن تفسير الظواهر العلمية، وهكذا نقدت - مثلا - فكرة «الشيء» أو فكرة «الجوهر» على أساس تحليل العلم للصفات المختلفة التي يرجع إليها ما نسميه بالشيء، وهي صفات بعيدة كل البعد عن صفات «الجوهر» القديم، ونسي الفلاسفة هنا أن كشف ذلك العالم العلمي الزاخر ليس معناه هدم الأسس التي يقوم عليها الموقف الطبيعي؛ إذ إن تلك الأسس ستظل منطبقة على هذا الموقف مهما كانت درجة التقدم التي يبلغها العلم.
ولنتحدث الآن بشيء من التفصيل عن هذين النوعين من الخلط بين الموقف الطبيعي والموقف العلمي. •••
فمن المعروف أن الذهن البشري في العالم القديم لم يكن لديه العتاد العلمي اللازم لاكتشاف «العالم الأصغر» و«العالم الأكبر» على أسس تجريبية صحيحة، حقا إن بعض النظريات «الذرية» وكذلك بعض النظريات الفلكية قد ظهرت، ولكن الاستنباط العقلي أو الرياضي كان له الدور الأكبر في كشف هذه النظريات، أما في ميادين البحث الأخرى فإن أساس التفكير العلمي كان الارتكاز على وجهة النظر الطبيعية الشائعة، مع شيء من الترتيب المنهجي الذي تطبق فيه قواعد المنطق الصوري المعروفة، وهكذا كان مجال بحث العلم لا يكاد يختلف كثيرا عن الأشياء كما تراها أعيننا العادية، ولما كان هذا المجال يكون النقطة التي يبدأ منها البحث الفلسفي بدوره، فإن التمييز بين العلم والفلسفة لم يكن ممكنا في ذلك العهد.
ونستطيع أن نقول: «إن شيوع فكرة «الجوهر» في الفلسفة القديمة كان تعبيرا عن ارتكاز الفكر القديم بأسره - في المجالين العلمي والفلسفي معا - على الموقف الطبيعي»، ففكرة الجوهر ترتبط بالموقف الطبيعي ارتباطا واضحا؛ إذ إن العنصر الأساسي في هذا الموقف هو أننا ندرك «أشياء»، وفكرة «الشيء» هذه هي الأساس الذي استخلصت منه فكرة الجوهر، وكما يميز الموقف الطبيعي بين الشيء ومظاهره، فكذلك كانت الفلسفة القديمة تميز بين الجوهر وأعراضه، على أساس أن الجوهر هو العنصر الثابت من وراء تغيرات الأعراض.
فالمعنى الأصلي لفكرة الجوهر عند أرسطو هو «الشيء الفردي».
9
أو ما يمكن أن يشار إليه بكلمة «هذا».
10
وأول تعريف للجوهر في المقال الخامس من الميتافيزيقا هو «الأجسام البسيطة، أي التراب والنار والماء وكل شيء من هذا القبيل، وعلى العموم: الأجسام والأشياء المؤلفة منها، والكائنات الحية والإلهية وأجزاؤها.»
11
Bilinmeyen sayfa
وفي مستهل المقال الثامن يحدد أرسطو الجواهر المعترف بها اعترافا عاما بأنها هي «الجواهر الطبيعية: وهي النار والتراب والماء والهواء، أي الأجسام البسيطة، وثانيا: النباتات وأجزاؤها والحيوانات وأجزاؤها، وأخيرا: الكون المادي وأجزاؤه.»
12
وإذا تذكرنا أن مقولات أرسطو كانت تحليلا للطرق التي تقال بها أحكامنا أو عباراتنا على الأشياء، وأنها كلها تلخيصات لأعم طرق الحكم والحمل في اللغة المألوفة؛ لكانت النتيجة الضرورية هي أن فكرة الجوهر تسجيل لاتجاه عام في استخدامنا المعتاد للغة، ولم يكن استخلاص أرسطو لها - شأنه شأن الكثير من عناصر فلسفته ومنطقه - إلا تلخيصا للأفكار العامة الكامنة من وراء استعمالاتنا المألوفة.
وصحيح أن أرسطو يضيف إلى معنى الجوهر بوصفه الأجسام البسيطة أو الأشياء الفردية معنى آخر، هو «ماهية» الأشياء،
13
وأن هذا المعنى قد يتخذ ذريعة لنقل الفكرة من مجال الموقف الطبيعي إلى المجال العلمي، على أساس أن تفسيرها بالماهية معناه أن الجوهر تعبير عن الطبيعة «الحقيقية» أو العلمية للأشياء، ولكن الأمر المؤكد أن فكرة وجود ماهية للأشياء هي فكرة قائمة أيضا على مستوى الموقف الطبيعي ذاته: ففي تعاملنا اليومي مع الأشياء نفرق حتما بين تغيراتها العرضية أو الكمية أو الكيفية أو الزمانية أو المكانية ... إلخ، وبين الشيء في ماهيته الحقيقية، وهكذا يكون تعرفي على صديقي «س» بعد سنوات متعددة - وفي الوقت الذي ازداد فيه جسمه نموا وتغيرت طباعه واختلفت ملابسه ... إلخ - راجعا إلى تمييزي - في مستوى الموقف الطبيعي - بين ماهية ذلك الشخص وأعراضه، وإذن فجميع تعريفات فكرة الجوهر عند أرسطو يمكن أن تربط بالموقف الطبيعي، بحيث تكون الفكرة في نهاية الأمر تعبيرا واضحا عن محاولة أرسطو أن «يفلسف» الموقف الطبيعي أو يكشف مقولاته الكامنة، وهذا التفسير طبيعي تماما من الوجهتين المنطقية والتاريخية معا، فلنا كل الحق في أن نتوقع أن تكون البدايات الأولى لنضوج الفكر البشري مرتكزة على الموقف الطبيعي، وأن تكون أول محاولة لبناء منطق شامل تحليلا للعناصر الرئيسية التي ينطوي عليها هذا الموقف.
ولقد أيد الكثيرون - ممن كتبوا في هذا الموضوع - الرأي القائل بارتباط فكرة الجوهر بالموقف الطبيعي، ففي كتاب
Substance & Function
يؤكد «كاسيرر» ضرورة فكرة «الشيء» في تفكير أرسطو، من حيث إنها هي الأساس الذي بنيت عليه فكرة الجوهر التي تعبر «التصورات» عن ماهيتها الحقيقية، فيقول: «إن تحديد التصور حسب جنسه القريب وفصله إنما هو ترديد للعملية التي يتكشف بها الجوهر الحقيقي على مراحل متعاقبة في صور وجوده الخاصة، وهكذا فإن فكرة «الجوهر» الأساسية هذه هي التي ترتكز عليها نظريات أرسطو المنطقية الخالصة على الدوام، وهنا يكون النسق الكامل للتعريفات العلمية تعبيرا كاملا - في الآن نفسه - عن القوى الجوهرية التي تتحكم في العالم الواقعي.»
14
Bilinmeyen sayfa
وفي موضع آخر يزيد الفكرة إيضاحا حين يتحدث عن «الرأي الساذج في العالم، الذي يهيب به الفهم المنطقي التقليدي ويرتكز عليه.»
15
ويتحدث «بلانشيه» عن الارتباط بين دور «الموضوع» في القضية الحملية التقليدية وبين فكرة الجوهر، وبالتالي عن أثر الموقف الطبيعي في المنطق التقليدي فيقول: «... إن غلبة الموضوع على المحمول في الحكم تعبر عن أولوية الجوهر على العرض (أو الصفة) في المجال الأنتولوجي، وأولوية الوجود على المعرفة في علاقات الفكر بالواقع.
وإن واقعية الجوهر هذه لتعبر بوضوح - ومعها منطق التصور الذي ترتبط به - عن الفلسفة الغامضة
diffuse
للموقف الطبيعي
sens commun
في مدنيتنا الغربية.»
16
وإذن، فأرسطو حين قال بفكرة الجوهر لم يفرض شيئا على الفكر البشري، بل لخص طريقة نظر الإنسان إلى الأمور في حياته اليومية، وأضفى عليها طابعا فلسفيا، وقد أدرك ذلك «ألن» بوضوح في كتابه عن أرسطو؛ إذ قال: «لم يكن أرسطو هو الذي علم الناس أن ينظروا إلى الأجسام - أو أي شيء آخر في العالم - على أنها جوهرية، وأغلب الظن أن الناس قد فعلوا ذلك من أقدم عصور الفكر البشري؛ إذ إن من طبيعة الذهن البشري أن يحزم موضوعات بحثه - أيا كانت - في جواهر وكميات وعلاقات.»
Bilinmeyen sayfa
17
وإذن، ففكرة الجوهر لم تكن عند أرسطو إلا تعبيرا عن ارتباط الفكر في عصره بطريقة النظر المألوفة إلى الأشياء. •••
ونستطيع أن نقول: إن الخطأ الذي ارتكبه نقاد فكرة الجوهر في الفلسفة الحديثة، كان هو الاعتقاد بأن الفكرة دخيلة ومفروضة على الذهن البشري على نحو ما، وهو اعتقاد يتجاهل تلك الصفة الأصلية التي لا يمكن أن ينتزعها من ذهننا أي تقدم فكري أو علمي، وهي صفة الاهتداء إلى «أشياء» في تجربتنا اليومية على الدوام، ففي رأي لوك - مثلا - أن فكرتنا عن الأنواع الخاصة من الجوهر تتكون عن طريق «ضم تلك المجموعات من الأفكار البسيطة التي ندرك في التجربة وفي ملاحظات حواسنا البشرية أنها موجودة سويا، والتي يعتقد بالتالي أنها تتلو من التركيب الداخلي الخاص أو الماهية المجهولة لذلك الجوهر، وهكذا نصل إلى تكوين أفكار عن الإنسان والفرس والذهب والماء إلخ، وهي أمور أهيب بالتجربة الخاصة لكل شخص أن تنبئ إن كانت لدينا عنه أية فكرة واضحة، بخلاف كونها أفكارا بسيطة توجد سويا.»
18
وطالما أن لوك قد استشهد ب «التجربة الخاصة لكل شخص»، فمن حقنا أن نرد عليه قائلين: إن المصدر الأول والأهم لفكرة الجوهر هو تجربة الناس اليومية، ولا يمكن أن يكون وصفنا لهذه التجربة دقيقا أو أمينا إذا قلنا إن الناس يجدون فيها مجموعة من الأفكار البسيطة الموجودة معا، ثم يكونون منها بالتعود فكرتهم عن الجوهر، بل إن الذي يحدث دائما لا في أيام لوك أو أيام أرسطو فحسب هو أن يبدأ الناس بالنظر إلى موضوعات إدراكهم على أنها «أشياء»، ولا يمكن الوصول إلى الرأي القائل: إن الجوهر مجموعة أو حزمة من الصفات الموجودة معا إلا عن طريق «التحليل الفكري»، أما التجربة المألوفة - التي استشهد بها لوك - فتؤدي إلى عكس ما يقول، ومن الغريب أن لوك يقول في الفقرة التالية مباشرة من كتابه: إننا نفترض الأفكار البسيطة موجودة في جوهر مشترك؛ «لأننا لا نستطيع أن نتصورها موجودة وحدها أو واحدة في الأخرى.»
19
وهنا ينبغي أن نسأله: لماذا لا نستطيع أن نتصورها موجودة وحدها؟ وهل فكر في سبب هذه الاستحالة أو في دلالتها؟ ألا ترجع إلى كون تجربتنا في الإدراك مصوغة على هذا النحو؟ وفضلا عن ذلك، أليس هذا دليلا على أن المسألة أكثر من مجرد «التعود» النفسي الذي أشار إليه؟
وبالمثل يقول هيوم: «إن اللون والطعم والشكل والصلابة وغيرها من الصفات المجتمعة في خوخة أو بطيخة، تدرك على أنها تكون شيئا واحدا، وذلك نتيجة للعلاقة الوثيقة بينها، وهي العلاقة التي تجعلها تؤثر في الفكر على نفس النحو الذي تؤثر عليه الأشياء البسيطة تماما، ولكن الذهن لا يقنع بذلك، فكلما رأى الشيء في ضوء آخر وجد كل هذه الصفات مختلفة، تقبل التمييز والانفصال بعضها عن البعض، ولما كان هذا الرأي في الأشياء يهدم أفكاره الأولى الأكثر طبيعية، فإنه أي هذا الرأي يدفع الخيال إلى ابتداع شيء غير معلوم، أو جوهر «أصلي» ومادة «أصلية» يكون مبدأ الوحدة أو التماسك بين هذه الصفات، وهو الذي يجعل الشيء المركب جديرا بأن يسمى شيئا واحدا، رغم تنوعه وتعقيده.»
20
وهنا أيضا يعترف هيوم بارتباط الفكرة «بأفكارنا الأولية الأكثر أصالة» - أي بموقفنا الطبيعي - ولكنه من جهة لا يستخلص الدلالة الحقيقية لهذا الارتباط، ويقدم إلينا من جهة أخرى صورة غريبة كل الغرابة عن تجربتنا: هي تلك التي «يبتدع» فيها الذهن أو «يصوغ» دعامة لأفكارنا البسيطة، وكأن الأمر عملية واعية نقوم بها عمدا، وكأن في وسعنا تحديد الظروف التي قمنا فيها بمثل هذا الجمع «الخيالي» بين الأفكار البسيطة في جواهر.
Bilinmeyen sayfa
والمهم في هذا كله - على أية حال - هو أن أعنف الفلاسفة نقدا لفكرة الجوهر في الفلسفة كانوا يعترفون في كتاباتهم ضمنا بأن الفكرة مرتبطة بموقف الإنسان الطبيعي، رغم محاولتهم تصوير التجربة على نحو يخالف ما حدث فعلا في هذا الموقف، والنتيجة الحتمية للارتباط بين فكرة الجوهر - مفهومة بمعنى أنها إدراك موضوعات إدراكنا على أنها «أشياء» - وبين التجربة اليومية الفعلية للإنسان، هي أن ذلك الارتباط سيظل مستمرا وقائما مهما تغيرت الظروف العلمية أو الفكرية التي يعيش فيها الإنسان؛ ذلك لأن الموقف الطبيعي - كما لاحظنا من قبل - غير قابل للتغير، ومقتضياته الأساسية تظل قائمة على الدوام.
وإذا كان ضمن هذه المقتضيات فكرة وجود «أشياء» لها كيان مستقل قائم، وما تؤدي إليه هذه الفكرة من القول بوجود «جواهر»، فإن هذه المقتضيات ستظل على الدوام لازمة للموقف الطبيعي، ومن العبث أن يحاول أحد في أي عصر فصلها عنه.
ومع ذلك، فمن الشائع جدا أن نجد فيلسوفا يحاول أن يثبت أن نظرة الإنسان إلى العالم بوصفه مؤلفا من «أشياء» قد تطورت وما زالت قابلة للمزيد من التطور، وسنضرب لذلك مثلين: (أ)
ففي كتاب «علم الميكانيكا» يقول إرنست ماخ: «إن الطبيعة تتألف من إحساسات هي عناصرها، ومع ذلك فقد التقط الإنسان البدائي أول الأمر مركبات معينة لهذه العناصر، أعني تلك التي تتسم بثبات نسبي وبأهمية أعظم بالنسبة إليه، فأول الكلمات وأقدمها هي أسماء «أشياء»، وحتى في هذه المرحلة نجد عملية تجريد للأشياء مما يحيط بها، ومن التغيرات الصغيرة المستمرة التي تمر بها هذه الإحساسات المركبة، والتي لا تلاحظ لأنها ليست بذات أهمية عملية، فلا وجود لشيء لا يتغير، وإنما الشيء تجريد، والاسم رمز لمركب من العناصر نجرد منه التغيرات، والسبب الذي يجعلنا نطلق كلمة واحدة على مركب كامل هو أننا نريد أن نوحي بكل الإحساسات المكونة دفعة واحدة، فالإحساسات ليست علامات على الأشياء، وإنما الشيء هو في الواقع رمز فكري لإحساس مركب ذي ثبات نسبي، وبعبارة أصح: فالعلم ليس مؤلفا من «أشياء» هي عناصره، وإنما من ألوان وأصوات وضغوط وأمكنة وأزمنة، وبالاختصار فهو مؤلف مما نسميه عادة بالإحساسات الفردية.»
21
في هذا النص يحاول المؤلف أن يقنعنا بأن فكرة «الشيء» ترجع إلى عملية غير صحيحة قام بها الإنسان البدائي لأغراض عملية، أي إن لفكرة «الشيء» أصلا تاريخيا مرتبطا بظروف معينة في مدنية الإنسان لا بطبيعة الإنسان نفسه، وهو حين يشير إلى أن أقدم الألفاظ هي أسماء الأشياء، يرمي إلى إثبات هذا الارتباط بين تكوين فكرة «الشيء» وبين الإنسان البدائي، على حين أن هذا القدم إن دل على شيء فإنما يدل على تأصل هذه الفكرة في طريقة إدراك الإنسان من حيث هو إنسان، وعلى أنها لا تتصل من قريب أو بعيد بأية مرحلة حضارية بعينها. (ب)
وتقترب من ذلك إلى حد بعيد تلك المحاولة التي بذلها «مارجنو
Margenau » لإثبات تطور قواعد تلك العملية التي يضفي بها الإنسان صبغة الشيئية على موضوعات إدراكه، فهو يذهب في كتابه «طبيعة العالم المادي» إلى أن عملية إضفاء الشيئية
reification
تنطوي على عدة عناصر لا يمكن استخلاصها بالتجريد من المعطيات الحسية، ومن بين هذه العناصر: عنصر التركيب وفقا لقواعد قابلة للتغير، لا كامنة في طبيعة الذهن البشري كما اعتقد كانت وأتباعه، وهكذا انتهى إلى أن «عملية إضفاء صبغة الشيئية هي في الواقع أول خطوة يتخذها جنسنا في سبيل الوصول إلى الإجراءات الأكثر تعقيدا والسائدة حاليا في العلوم الدقيقة.»
Bilinmeyen sayfa
22
ولنذكر هنا أنه يعرف عملية إضفاء صبغة الشيئية بأنها «عملية افتراض «شيء» كلما عرض مظهر حسي.»
23
وهذا التعريف ذاته يستتبع أن تكون هذه العملية مختلفة تماما عن تلك العملية المعقدة التي ندرك بها، فهي عملية افتراض «شيء»، وليست عملية تعرف على شيء «محدد»، وليست عملية إضفاء صبغة الشيئية كما ظن «مارجنو»، هي تلك العملية المعقدة التي ندرك بها أن هذه الإحساسات تؤلف «شجرة»، بل هي مجرد العملية التي ندرك بها أن هذه الإحساسات تؤلف «شيئا» فحسب، أو على الأصح: إن هناك «شيئا» ترتبط به هذه الإحساسات، ونحن نعترف أن العملية الأولى عملية معقدة، وأنها تؤلف بالفعل الخطوة الأولى نحو التصنيف العلمي ، ولكن من الخطأ تحديدها بأنها عملية إضفاء صبغة الشيئية على الأشياء، بل إنها قد تكون «تعرفا» أو تحديدا أو تصنيفا، أي تحديد كنه الشيء، لا مجرد افتراض وجود «شيء» فحسب، فهذا الفعل الأخير - أعني مجرد افتراض شيء - هو فعل أكثر أصالة، وغير قابل للتغير، ولا شأن له على الإطلاق بما يحرزه العلم من تقدم، ولقد كان الخلط بين ذلك الفعل الأصيل البسيط وبين العملية الأخرى الأكثر تعقيدا - وهي تحديد كنه هذا الشيء - من أهم العوامل التي أدت إلى تعقيد العملية البسيطة الأولى، فكانت النتيجة النهائية لهذا الخلط هي ظهور تلك الآراء التي يبدو أنها تؤدي إلى القول بأن فعلا أصيلا كهذا يمكن أن يتغير تبعا لتقدم العلم أو تطور مدنية الإنسان.
ولو قيل: إن علينا أن نقارن - زمنيا - بين النظرة إلى العالم على أنه مكون من إحساسات، وبين النظرة إليه على أنه مكون من أشياء، لقلنا: إن أساس المقارنة ذاته غير صحيح، فالنظرة الثانية تنتمي إلى الموقف الطبيعي، والأولى إلى الموقف العلمي، وعلى ذلك فالثانية في مجالها الخاص غير قابلة للتطور؛ إذ لا يستطيع أحد أن يدعي أننا كنا أيام أرسطو ننظر إلى التفاحة على أنها شيء أو جوهر، بينما أصبحنا الآن نعدها مجموعة من المدركات، أي لونا وطعما وشكلا فحسب، ونتعامل معها على هذا الأساس، فمن الواضح أن التفاحة كانت ولا تزال وستظل دائما «شيئا» بالنسبة إلى موقفنا الطبيعي.
بل إننا في هذا الموقف الطبيعي نقول بالشيء أولا، ولا ندرك كيفياته البسيطة بما هي كذلك إلا في عملية تالية، فمن الخطأ الزعم بأن فكرة «الشيء» حاجز لفظي يحجب عنا المكونات الحقيقية للطبيعة، وهي الإحساسات المباشرة، وأن تخطي هذا الحاجز الذي تضعه اللغة بيننا وبين الطبيعة يوصل حتما إلى هذه المكونات الحقيقية، فالقول بأن العالم - في موقفنا الطبيعي - مكون من «أشياء» هو قول أكثر أصالة من أي وضع لحاجز لغوي.
والواقع أن هذا الرأي - الذي يرد فكرة «الشيء» إلى اللغة، ويجعلها حاجزا لغويا يحجب عنا حقيقة العالم (وهي الإحساسات أو المعطيات المباشرة) - ينطوي على سوء فهم لمعنى «الاتصال» ذاته، وبالتالي فهو تعبير عن نظرة قاصرة إلى طبيعة اللغة ووظيفتها، بالإضافة إلى ما فيه من أخطاء في نظرية المعرفة؛ ذلك لأن وظيفة الاتصال هي نقل فكرة أو معنى من ذهن إلى ذهن آخر، أما «واسطة» هذا النقل فليست هي التي ينصب عليها الاهتمام، ومن الممكن تشبيه اللغة التي تتخذ واسطة في عملية نقل الأفكار من ذهن إلى آخر بالعملة الورقية في عمليات التبادل الاقتصادي، فصحيح أن هذه العملة الورقية بعيدة كل البعد - من حيث قيمتها الذاتية - عن السلع التي نبادلها بها، وليس للورقة المالية في ذاتها - مهما علت قيمتها التبادلية - قيمة تذكر، ولكن المهم هو أن يعترف الناس فيما بينهم بقيمة واحدة لها، ففي هذا الاعتراف المتبادل تكمن قيمتها وفائدتها، أما قيمتها الذاتية أو علاقتها بما تتبادل معه فليست لها أهمية، واختلاف القيمة الكامنة للعملة الورقية عما نشتريه بها لا يعني أبدا أنها لا تصلح للاستخدام في الشراء والتبادل، ولو طبقنا هذا المثل على المشكلة التي نحن بصددها لتبين لنا بوضوح أن اختلاف اللفظ عن الموضوع الذي ندل به عليه لا يعني أبدا أن هذا اللفظ يشوه طبيعة هذا الموضوع أو يحول بيننا وبين معرفته، والواقع أن المساواة بين الرمز اللغوي وبين ما يدل عليه ليست مطلوبة على الإطلاق، وما الرمز إلا جسر يعبر بالمعنى من ذهن إلى آخر، وهو يكون قد أدى وظيفته كاملة إذا حقق عملية العبور هذه، بغض النظر عن علاقته - من حيث التشابه أو المساواة - بالموضوع الذي يعبر عنه.
ولكننا لو تركنا هذا النقد اللغوي جانبا، وعدنا إلى ذلك التقابل الذي يضعه أنصار الانطباعات الحسية بين التجربة المباشرة - التي نكتسبها عن طريق هذه الانطباعات - وبين التجربة غير المباشرة، أو التحريف الذي يطرأ على التجربة بفضل إدخال فكرة «الشيء» في إدراكنا؛ لأمكننا أن نقول، على العكس مما ينادي به أصحاب هذا الرأي إن الزعم بأن الإحساسات المباشرة هي المكونات الحقيقية للطبيعة هو الذي يدل على التأثر بالحواجز اللغوية ، على حين أن القول بأن العالم مكون من «أشياء» هو الذي يعكس تأثير التجربة المباشرة، وهذا القول يبدو مضادا تماما للآراء السابقة المأثورة عن فلاسفة عديدين في مختلف عصور التفكير الفلسفي، ولكن إثباته في ضوء التفرقة بين الموقفين العلمي والطبيعي ليس عسيرا: فتجربة الإنسان الفعلية المباشرة ليست تجربة ألوان وطعوم وأصوات، وإنما هي تجربة أشياء كاملة، وهذا أمر يقتضيه تكويننا نفسه لا أخطاء الإنسان البدائي أو التفكير قبل العلمي، أما فكرة اللون أو الصوت أو الطعم فلا نصل إليها إلا بالتجريد من هذه التجربة المباشرة التي هي واحدة لدى كل البشر وفي كل العصور، وهذا التجريد هو الذي يقتضي تصنيفا لغويا، وتقسيما لإدراكنا المتكامل إلى عناصر مستقلة، وهذا التصنيف والتقسيم هما اللذان يكونان أول مرحلة من مراحل التفكير العلمي، وبعبارة أخرى: فكون الأشياء - التي هي موضوع إدراكنا المباشر - تنقسم إلى عناصر مميزة، هو كشف لاحق يقتضي عملية معقدة لا بد لحدوثها من تطور عقلي وتهذيب حضاري وتجريد لغوي معقد.
ولقد ناقش «إرنست ناجل» - وهو من أكبر فلاسفة العلم المعاصرين - مواقف بيرسيون وآير وماخ، الذين يذهبون إلى أن المعطيات الحسية هي العناصر الأولى والبسيطة لكل معرفة، وانتهى إلى موقف مشابه لذلك الذي نعرضه ها هنا؛ إذ قال: «الواقع أننا إذا تأملنا الأمر من وجهة نظر الحقائق السيكولوجية، فإن المعطيات الحسية الأولية ليست هي المواد الأصلية الأولى للتجربة، التي تشيد بواسطتها كل أفكارنا كما تشيد البيوت من أحجار منفصلة، بل إن التجربة الحسية - على العكس من ذلك - هي استجابة لأنماط معقدة - وإن تكن غير محللة - من الكيفيات والعلاقات، وتنطوي هذه الاستجابة عادة على ممارسة عادة التفسير والتعرف المبنية على اعتقادات واستدلالات ضمنية لا يمكن استخلاصها من أية تجربة منفردة مؤقتة، وعلى ذلك فاللغة التي نستخدمها عادة لوصف تجاربنا المباشرة ذاتها هي اللغة المعتادة للاتصال الاجتماعي، التي تنطوي على تمييزات ومسلمات يرجع أساسها إلى تجربة جماعية عامة، وليست لغة تحدد معناها على أساس الإشارة المزعومة إلى ذرات من الإحساسات لم يفسرها الذهن.
والواقع أن من الممكن في بعض الأحيان - تحت ظروف مضبوطة بدقة - أن نحدد كيفيات بسيطة تدركها الأعضاء الحسية مباشرة، غير أن هذا التحديد إنما يكون خاتمة لعملية مرسومة معقدة من العزل والتجريد، نقوم بها لأغراض التحليل، وليست هناك شواهد موثوق بها على أن الكيفيات الحسية تدرك على أنها بسائط ذرية ما لم يكن ذلك بوصفها نهاية ونتيجة لعملية كهذه، وفضلا عن ذلك، فعلى الرغم من أننا قد نطلق على هذه النواتج اسم المعطيات الحسية، وندرج فئاتها المختلفة تحت أسماء متباينة، فإن فائدة هذه الأسماء ومعانيها لا تثبت إلا من حيث هي إرشادات توجهنا إلى القيام بعمليات تتعلق بأوجه نشاط جسمية واضحة، وإذن فمعاني ألفاظ المعطيات الحسية لا تفهم إلا إذا سلمنا بالتمييزات والمسلمات التي يفترضها اتصالنا بالموضوعات الخشنة للتجربة، ومعنى ذلك أن هذه الألفاظ لا يمكن استخدامها وتطبيقها إلا من حيث هي جزء من مفردات لغة الموقف الطبيعي، وبالاختصار فإن لغة المعطيات الحسية ليست لغة قائمة بذاتها، ولم يفلح أحد حتى الآن في وضع لغة كهذه، فإن لم يكن ثمة لغة كهذه، فإن الرأي القائل: إن كل العبارات النظرية يمكن من حيث المبدأ ترجمتها إلى لغة المضمونات الحسية الخالصة هو رأي مشكوك فيه أصلا.»
Bilinmeyen sayfa
24 •••
ولنذكر دائما أن كل ما ذكرناه من نقد لا يصح إلا في ضوء التمييز الأساسي بين الموقفين الطبيعي والعلمي، وهو تمييز لم يكن واضحا في الأذهان في معظم الأحوال، وبعبارة أخرى: فنحن نعترف قطعا بأن العلم كان على حق تماما في استبعاده لفكرة الجوهر وفكرة الشيء من مجاله الخاص عندما وجدها عقبة في طريق تقدمه، وفي هذا الصدد: لا يستطيع أحد أن ينكر حدوث تقدم ملحوظ من العلم القديم - الذي كان يخلط بين الموقفين الطبيعي والعلمي، ويحصر الثاني في حدود الأول - إلى العلم الحديث الذي اتبع لنفسه منهجا لا يتقيد فيه بحدود الموقف الطبيعي، مما أدى به إلى إحلال العلاقات الرياضية محل الكيفيات المفتقرة إلى الاطراد والتجانس، فخروج العلم عن حدود الموقف الطبيعي كان إذن تقدما لا شك فيه بالنسبة إلى العلم ذاته.
وبهذا المعنى يمكن القول: إن «باشلار» كان على حق تماما حين عاب على المشتغلين بالعلم - في الفترة الأولى من العصر الحديث - أنهم كانوا يجسمون صفات ويضفون عليها كيانا قائما بذاته، وأنهم بذلك أسهموا في إعاقة العلم الذي لا يعترف إلا بالصفات أو العلاقات، ولا يؤمن بأية كيانات وهمية تتجسد فيها.
25
ولكن الأمر في الفلسفة يختلف: فعندما وجد الفلاسفة أن العلم الحديث يستغني عن فكرة الجوهر ويحل محلها فكرة العلاقات؛ اتجهوا إلى استبعاد فكرة الجوهر استبعادا تاما، ولم يتنبهوا إلى أن استغناء العلم عن هذه الفكرة لا يعني استغناء الإنسان في موقفه الطبيعي عنها، فالعلم حين شق لنفسه طريقا مستقلا؛ نتيجة لاهتدائه إلى منظورات أخرى للعالم مختلفة عن المنظور المعتاد، قد استغنى عن فكرة الجوهر؛ لأنها لم تعد تلائم هذه المنظورات الجديدة، ولكن هذا لا يعني على الإطلاق أنها لم يعد لها مكان في تجربة الإنسان؛ إذ إنها - هي وفكرة الشيء الوثيقة الارتباط بها - جزء لا يتجزأ من تجربة الإنسان الطبيعية التي وجدت بعض فروع العلم لزاما عليها أن تتجاوزها، ونقول: «بعض فروع العلم»؛ لأن هناك فروعا تفترض فكرة الجوهر أو الشيء، وذلك مثل علوم الحيوان والنبات والجيولوجيا والجغرافيا إلخ، وهي علوم لن تكف عن معالجة موضوعاتها على أنها «أشياء» بنفس المعنى الذي يدرك به الإنسان موضوعات تجربته في الموقف الطبيعي على أنها أشياء.
وإذن، فلم يكن خطأ الفلسفات القديمة ينحصر في القول بفكرة الجوهر ذاتها، وإنما في الاعتقاد بأن هذه الفكرة - التي تنطبق على مجال الإنسان المعتاد - تنطبق أيضا على المجال العلمي، أما الفلسفات الحديثة فقد ارتكبت الخطأ المضاد، وهو محاولة استبعادها من جميع المجالات.
وربما كان شعور كانت بخطأ الاتجاه الأخير هو الذي دفعه إلى محاولة تبرير فكرة الجوهر تبريرا ترنسندنتاليا، وعلى أية حال فكثيرا ما انتقد كانت على أساس أن احتفاظه بفكرة الجوهر في فلسفته كان يمثل خروجا على الاتجاه العام للعلم الحديث الذي كان قد أخذ يسير بوضوح في طريق العلاقات الرياضية بدلا من الجواهر، وقد لا يكون هذا الانتقاد في واقع الأمر إلا مظهرا آخر للخلط الذي طالما أشرنا إليه؛ إذ إن «كانت» ربما لم يكن يرمي إلى تبرير الفكرة في ميدان العلم (والمثل الذي ضربه ب «فكرة» بقاء الطاقة في كتاب نقد العقل الخاص (ص
B. 228 ) كان مجرد مثل عارض لا يقصد به إلا إيضاح فكرته فحسب)، بل كان يرمي إلى تبريرها على أساس ارتباطها بفكرة الدوام، وهي الفكرة التي يعدها «شرطا ضروريا هو وحده الذي يتيح لنا تحديد المظاهر على أنها أشياء أو موضوعات في تجربة ممكنة.» (
B. 232 )، وهكذا يمكن أن يقال: إن تبرير كانت لفكرة الجوهر كان راجعا إلى كونها عنصرا أساسيا من تلك العناصر التي تجعل التجربة ممكنة، بل إنه يؤكد رسوخ فكرة الجوهر بين الفلاسفة وفي الذهن المعتاد بوصفها العنصر الثابت من وراء التغيرات (
B. 227 )، وربما كانت حالة «كانت» مثلا فريدا لفيلسوف اعترف بضرورة فكرة الجوهر في تجربة الإنسان المعتادة، وسط اتجاه فلسفي عام كان يرمي إلى استبعادها من جميع المجالات. •••
Bilinmeyen sayfa
وسنحاول هنا أن نختبر بعض أمثلة الحالات التي انتقد فيها الموقف الطبيعي لعجزه عن الوصول إلى الصورة العلمية للعالم، مع أن هذا العجز أمر لا مفر منه، وهو جزء من كيان الموقف الطبيعي المستقل عن العلم: (1)
ففي كتاب «ديالكتيك القرن العشرين» يتحدث «فورستنبرج» عن المثال الذي ضربه العالم الإنجليزي «إدنجتن» عن المنضدة التي نعرفها من جهة كشيء نكتب عليه، ويعرفها لنا العلم من جهة أخرى كمجموعة لا متناهية من الجسيمات والموجات ... إلخ، فيقول عن هذين التفسيرين:
إن أحدهما صادر عن الأطفال وأنصاف المتمدينين، والآخر راجع إلى ملاحظة بصرية بلغت مستوى رفيعا من الإحكام العقلي والدقة الرياضية ... فنحن هنا إزاء تفسيرين ناتجين عن الملاحظة وردا إلينا من عصرين مختلفين من عصور مدنيتنا؛ فما أعجب هذه النقيضة!
26
في هذا النص نجد مثالا لمفكر يعد الموقف الطبيعي مرتبطا ب «الأطفال وأنصاف المتمدينين» فحسب، ولست أدري كيف يتصرف هذا المفكر ذاته في حياته العلمية إزاء ما لديه من مناضد! وهو يصف الموقف الطبيعي والموقف العلمي بأنهما راجعان إلى «عصرين مختلفين»، وكأن الإنسان في عصرنا العلمي هذا يستطيع أن يستغني تماما عن فكرة «الشيء»، ويعامل المنضدة في جميع تجاربه - بما فيها تجارب الحياة اليومية - على أنها مجموعة من الدقائق والجسيمات! (2)
وفي كتاب «العلم الفيزيائي» يقول «بلانشيه»:
إن الإصلاح الذي أحدثه تطبيق طريقة التفكير الرياضية على فهمنا للواقع يقترن إذن بتغير أساسي في نظرتنا إلى الواقع وعلاقته بالروح، فلم يعد الواقع نقطة بداية، بل أصبح حدا نهائيا للمعرفة، ولم يعد يعطي للحساسية عن طريق صفات جوهر، بل إن العقل هو الذي يركبه بأن يجعل منه نسقا من العلاقات، وهكذا تتحقق في ميدان المعرفة وميدان الوجود تلك الثورة «الكبرنيكية» التي قدم إلينا كانت التعبير الفلسفي عنها؛ فالأشياء من الآن فصاعدا هي التي تدور حول الروح بما لهذه من جاذبية.
27
مثل هذا التصوير لتطور العلم قد يبدو في ظاهره صحيحا، غير أن الخطأ الذي ينبغي أن ننبه إليه هو أن هذا النوع من التفكير يصور الأمور كما لو كان من الواجب أن تختفي تلك الصفات الحسية التي تقدم إلينا الواقع اختفاء تاما، فلا يعود هناك مجال إلا لنسق العلاقات الرياضية التي يكونها العقل، ولكن الواقع أنه إذا كانت قد حدثت في مجال العلم «ثورة كبرنيكية» فإن هذه الثورة لم تقض على «النظرة البطليموسية» التي لا تزال قائمة في مجال الموقف الطبيعي، والتي لا يمكن أن يغير منها تطور العلم. (3)
ففي المثلين السابقين إذن تعبير عن الاعتقاد الخاطئ بأن تطور المنهج العلمي الحديث يؤدي إلى تغيير «كامل» في نظرة الإنسان إلى العالم، وكأن الموقف الطبيعي هنا يحاسب على عدم مجاراته لتقدم العلم، الذي يظن أنه يؤدي إلى رفض الأول تماما، ومثل هذا الخطأ ناتج - بلا شك - من عدم التنبه إلى اختلاف وظيفة كل من الموقفين.
Bilinmeyen sayfa
غير أن هناك فئة أخرى من النقاد تتخذ الموقف المضاد، فتحاسب العلم على عجزه عن تقديم وصف كامل لجميع أوجه الموقف الطبيعي، وهو خطأ لا يقل في نظرنا عن الخطأ السابق .
ففي كتاب «العلم والواقع» يقول «برونر»:
إن أي اختلاف عددي لا يصل أبدا إلى إيضاح كنه اختلاف الألوان ... وإن العلم إذ يقتصر على معالجة العالم من ناحيته القابلة للعد، إنما يختار سبيلا يؤدي إلى تضييق نطاق اتصاله بهذا العالم ...
ونتيجة ذلك أن الفيزياء ناقصة على الدوام، ما دامت نظرتها إلى الشيء عاجزة عن كشف الشيء ذاته لها ...
28
مثل هذا النقد - الذي يعد محور كتابات فيلسوف مثل برجسون - يحمل على العلم؛ لأنه لا يقدم للعالم صورة عينية ملموسة كتلك التي تجلبها لنا حواسنا، وهذا أيضا خطأ ناتج عن الخلط بين وظيفتي الموقف الطبيعي والموقف العلمي، فليس من شأن الموقف العلمي - على الإطلاق - أن يقدم عن العالم تلك الصورة التي نحتاج إليها في سلوكنا اليومي بما فيها من كيفيات عينية.
ولعل هذه الأمثلة المختارة من مفكرين ذوي اتجاهات مختلفة كافية لإيضاح ما نقصده بفكرة الفصل بين المجالين العلمي والطبيعي، فمهمة العلم الأساسية هي تقديم تفسير للظواهر يؤدي إلى «فهمها» وكشف قوانينها العامة، وهو في سبيل ذلك يتبع منهجا يؤدي به إلى رد المركب إلى البسيط، وإحالة الكيف إلى الكم كلما أمكن ذلك، أما الموقف الطبيعي فهو تعبير عن نظرتنا إلى العلم كما نسلك فيه عمليا على نحو يفي بمطالبنا الحيوية، ومن هنا كان هذا الموقف يبقي بالضرورة على اختلافات الكيفيات ولا يحاول على الإطلاق ردها إلى نسق كمي مطرد، فالألوان التي يردها العلم إلى موجات، والتي لا يختلف الواحد منها عن الآخر إلا كميا، هي ظاهرة أساسية من وجهة النظر الطبيعية، والاختلاف الكيفي بين اللون يؤدي في ذلك الموقف وظيفة أساسية: فالتمييز بين الأبيض والأسود لا غناء عنه لإمكان الإبصار، وبالتالي إمكان السلوك العملي وتجنب العوائق، والتمييز بين الألوان الأخرى يؤدي وظيفة أساسية في تذوقنا الفني لموضوعات الإبصار، والتمييز بين الأصوات لا بد منه للتعامل مع الناس ومع البيئة الطبيعية إلخ ...
وهذه التفرقة الواضحة بين وظيفة الموقفين هي وحدها الكفيلة بحفظ حقوق كل منهما كاملة: إذ تؤدي إلى الدفاع عن موقف الإنسان الطبيعي ضد الاعتقاد بإمكان تغلغل الصورة العلمية للعالم في جميع المجالات، وإلى الدفاع عن العلم في الآن نفسه من تهمة العجز عن تقديم صورة «عينية» كاملة للعالم.
الفلسفة والموقف الطبيعي
انتهى بنا بحثنا السابق إلى النتيجة الهامة التالية، وهي أن الموقفين: الطبيعي والعلمي كانا غير واضحي التميز في الفكر القديم، شأنه في ذلك شأن كل محاولة مبتدئة، ثم تفرعا بالتدريج بحيث اتضحت خصائص كل منهما ووظائفه وأغراضه الخاصة التي يخدمها، كما انتهى بنا هذا البحث إلى نتيجة أخرى لا تقل عن هذه أهمية، وهي أن هذا التمييز غير واضح في أذهان الكثيرين، بدليل أن الموقف الطبيعي كثيرا ما يلام؛ لأنه يعجز عن تقديم تفسير للظواهر له دقة التفسير العلمي وإحكامه، مثلما يلام الموقف العلمي أحيانا؛ لأن الصورة التي يقدمها عن العالم تفتقر إلى عينية الصورة الحسية المعتادة وثرائها.
Bilinmeyen sayfa