المجلد الأول
مقدمة
...
ذلك بذوقه غير مستعين بمعلم ولا مرشد، وقد ذكر ذلك عن نفسه في مقدمة كتابه النظرات حين سئل كيف يكتب رسائله، فزعم أنه ما استطاع أن يكتب تلك الرسائل التي يعلمونها بهذا الأسلوب الذي يزعمون أنهم يعرفون له الفضل فيه، إلا لأنه استطاع أن يتفلت من قيود التمثل والاحتذاء. ولأنه عمد إلى كتب الأدب فأكثر القراءة فيها، وأحب الأدب حبا جما ملأ ما بين جوانحه، فلم تكن ساعة من الساعات أحب إليه ولا آثر عنده من ساعة يخلو فيها بنفسه، ويمسك عليه بابه، ثم يسلم نفسه إلى كتابه، فيخيل إليه كأنه قد انتقل من هذا العالم الذي هو فيه إلى عالم آخر من عوالم التاريخ الغابر، فيشاهد بعينيه تلك العصور الجميلة عصور العربية الأولى، ويرى العرب في عصور بداوتهم وحضارتهم وألوان حياتهم. وزعم في تلك المقدمة أنه كان لا يحول بينه وبين تلك السعادة التي كان يلقاها في مطالعة هذه الكتب إلا بعض شيوخه الذين لا يرون رأيه فيها، وهم لا يعلمون أنهم حسنة من حسنات الأدب هم وجميع ما يدور به جدار
1 / 2
مسجدهم. وأخذ بعد ذلك يفند أثر الأدب في العلوم اللغوية والدينية وغيرها بحيث استنفذ من النظرات ما يقرب من أربعين صفحة.
كان ابن ثلاث عشرة سنة حين دخل الأزهر، واتصل وهو فيه بالإمام الشيخ محمد عبده وتتلمذ عليه في سنيه الأخيرة، وتلقى عنه دروسه العلمية والدينية التي كان يلقيها الشيخ على الطلبة، وذكروا عنه أنه كان من أنجب تلاميذه، فأحبه محمد عبده وأصبح المنفلوطي من أخص أصدقائه، وكان الشيخ يجله ويعجب به كثيرا، وحين أخذ بعض علماء الأزهر يقاومون الإمام محمد عبده وطرقه في تعليم الدين، والتفسير انبرى المنفلوطي يدافع عنه وينقذهم وينقذ طرقهم، ولما توفي الشيخ الإمام حزن عليه المنفلوطي حزنا عظيما ورثاه وانقطع عن الأزهر دون أن يحصل على شهادة العالمية منه، وعاد إلى بلده منفلوط فعاش فيها بضع سنين مشتغلا بأعماله الخاصة.
ثم بدأ في سنة ١٩٠٧ بمراسلة جريدة المؤيد برسائله التي كان ينشرها أسبوعيا تحت عنوان
1 / 3
الأسبوعيات ثم تحت عنوان النظرات، فكانت هذه الرسائل مبدأ شهرته؛ وذلك لجودة إنشائها وبلاغة أسلوبها، واستمر ينشرها نحو عامين.
ومع أن الصحافة هي التي فتحت له أبواب الشهرة، وعرفت القراء بأسلوبه الشيق وأدبه الرفيع، فإنه لم يكن راضيا عنها ولا عن أصحابها. وقد ترك عمله فيها كما سنرى.
وقبل أن يطبع الجزء الثاني من نظراته ورد إليه كتاب من أديب يعمل في دائرة من دوائر الحكومة، ويتناول معاشا لا بأس به، ويذكر له صاحبنا في هذا الكتاب عن نفسه أن رفاقه يقدرون أدبه، وقد أشاروا عليه أن يستقيل ويشتغل بالصحافة، وهو يلتمس منه أن يشير عليه بما يرى. فكان في جوابه إليه ما يدل على نقمته الشديدة على الصحافة -قال: "أيها الرجل لا تفعل! فإنك إن فعلت خسرت ماضيك من حيث لا ينفعك مستقبلك، فاحذر أن يخدعك عنك خادع واربأ بنفسك أن تكون من الجاهلين". وحمل في رسالته إليه التي نشرها في النظرات حملة شديدة
1 / 4
على أرباب الصحف. وأبدى شفقته وعطفه على أولئك المحررين الذي يكتبون في إدراة الجرائد وتنقضي حياتهم في ذل وضرع ونفاق ورياء إرضاء لمديري الصحف وأصحابها، وعاد باللائمة أخيرا على الأمة التي استهانت بالأدباء، ورمتهم مقيدين بين أيدي أصحاب الصحف السياسيين.
وفي سنة ١٩٠٩ اختارته وزارة المعارف العمومية لوظيفة "محرر عربي" وكان ذلك في عهد وزارة الزعيم الوطني الكبير سعد زغلول باشا، وكان سعد من أصدقائه والمعجبين به. ثم انتقل بعد ذلك إلى "وزارة الحقانية"
وبعدها إلى الجمعية التشريعية، ثم إلى قلم "السكرتارية" في الديوان الملكي.
وكان في جميع أدوار حياته مثال الجرأة والإخلاص في العمل والصدق والأمانة والخلق العظيم.
وعين أخيرا في إحدى وظائف البرلمان المصري وظل فيها إلى أن استأثر الله به.
ويجب أن نذكر أنه في أول أدوار حياته حين كان يكتب في الصحافة تصدى لنقد بعض رجال السياسة
1 / 5
"وكان مذهبه السياسي سعديا ولازم هذا المذهب في جميع أدوار حياته، ولما نفي سعد باشا كتب عدة مقالات دافع فيها عنه وحلل فيها بطولته وعظمته.
وقد ضمت هذه المقالات إلى الجزء الثالث من كتاب النظرات"١.
ومن مواقفه السياسية المشهورة أنه نقم مرة على الخديوي عباس، فنظم قصيدته الشهيرة التي مطلعها:
قدوم ولكن لا أقول سعيد ... وملك وإن طال المدى سيبيد
ونشرها في جريدة الصاعقة فحجزت نسخ الجريدة، وصورت وحبس واضطهد. وزاد ذلك في شهرته ومقامه. وزعم سليم سركيس أنه تعاظم شوق الناس للاطلاع عليها، ولم يكن سبيل إلى إعادة نشرها فعمد سركيس نفسه إلى الحيلة، وسأل الشيخ عثمان الموصلي أن يشطرها تشطيرا في جريدة المشير جاعلا الأصل بين قوسين وقال: فأدركت غايتي ونجوت من نقمة الحكومة. هذا في الوقت الذي كان شوقي فيه شاعر
_________
١ محي الدين رضا في: كلمات المنفلوطي ص١٣٨.
1 / 6
الخديوي يزوره في قصره ويجالسه في حديقة القصر حيث كان للخديوي رغبة فيما يروون في العمل في الحديقة، وكانت بيده مظلة ناولها لشوقي ليستظل بها من أذى الشمس، فقال شوقي.
عباس مولاي أهداني مظلته ... يظلل الله عباسا ويرعاه
مالي وللشمس أخشى حر هاجرها ... من كان في ظله فالشمس تخشاه
ولكنه كان مقربا للبلاط في آخر حياته في عهد الملك فؤاد حيث عمل كاتبا في قلم السكرتارية في الديوان الملكي كما ذكرنا.
ولم يعش طويلا فقد وافاه أجله ﵀ يوم الخميس في ١٢ "حزيران" "يونيه" سنة ١٩٢٤ "١٠ ذي الحجة ١٣٤٢" في اليوم نفسه الذي جرت فيه محاولة لاغتيال زعيم الوفد المرحوم سعد زغلول باشا، وجرح فشغل أكثر الناس بتلك الحادثة عن الالتفات إلى مأتمه كما يجب، ويقال أن سعد نفسه لما علم بوفاته جزع عليه جزعا شديدا وبكى. ولم يفت الشاعرين
1 / 7
الكبيرين في مصر شوقي وحافظ حين رثياه في حفلات المآتم التي أقيمت له أن يشيرا إلى هذا التصادف الغريب، فقال شوقي في حفلة نادي الحقوق في حديقة الأزبكية، من قصيدة من أربعين بيتا:
اخترت يوم الهول يوم وداع ... ونعاك في عصف الرياح الناعي
هتف النعاة ضحى فأوصد دونهم ... جرح الرئيس منافذ الأسماع
من مات في فزع القيامة لم يجد ... قدما تشيع أو حفاوة ساع
ما ضر لو صبرت ركابك ساعة ... كيف الوقوف إذا أهاب الداعي
خل الجنائز عنك لا تحفل بها ... ليس الغرور لميت بمتاع
سر في لواء العبقرية وانتظم ... شتى المواكب فيه والاتباع
وقال حافظ:
مت والناس في مصابك في "م" ... شغل بجرح الرئيس حامي الحماة
1 / 8
شغلوا عن أديبهم بمنجيهم "م" ... فلم يسمعوا نداء النعاة
وافاقوا بعد النجاة فألفوا ... منزل الفضل مقفر العرصات
قد بكاك الرئيس وهو جريح ... ودموع الرئيس كالرحمات
وانبرى الشعراء من كل الأقطار العربية ينظمون المراثي في تأبينه في العراق والشام ولبنان ومصر، بحيث زادت القصائد التي قيلت في رثائه عن الثلاثين هذا عدا الرسائل والخطب التي قيلت في حفلات التأبين المختلفة في أندية بيروت والشام ومصر وفي المجامع العلمية وغيرها.
أما مؤلفاته فهي كتاب "النظرات" وهو مجموعة رسائل اختارها مما كتبه في جريدة المؤيد، وغيرها من الصحف والمجلات، ومما كتبه من الرسائل ولم ينشر، وما نظمه من المقطعات والقصائد. وهو في ثلاثة أجزاء ظهر الأول منها في طبعته الأولى سنة ١٩١٠ وفي مقدمته ترجمة لحياته بقلم حافظ عوض استعنا بها
1 / 9
المقدمة:
يسألني كثير من الناس كشأنهم في سؤال الكتاب والشعراء، كيف أكتب رسائلي؟ كأنما يريدون أن يعرفوا الطريق التي أسلكها إليها فيسلكوا معي، وخير لهم ألَّا يفعلوا، فإني لا أحب لهم ولا لأحد من الشادين في الأدب أن يكونوا مقيدين في الكتابة بطريقتي أو طريقة أحد من الكتاب غيري، وليعلموا إن كانوا يعتقدون لي شيئا من الفضل في هذا الأمر أني ما استطعت أن أكتب لهم تلك الرسائل التي يعلمونها بهذا الأسلوب الذي يزعمون أنهم يعرفون لي الفضل فيها إلا لأني استطعت أن أتلفت من قيود التمثل والاحتذاء، وما نفعني في ذلك شيء ما نفعني ضعف ذاكرتي، والتواؤها علي وعجزها عن أن تمسك إلا قليلًا من المقروءات التي كانت تمر بي، فلقد كنت أقرأ من منثور القول ومنظومه ما شاء الله أن أقرأ، ثم لا ألبث أن أنساه فلا يبقى منه في ذاكرتي إلا جمال آثاره وروعة حسنه، ورنة الطرب به، وما أذكر أني نظرت في شيء من ذلك لأحشو به حافظتي، أو أستعين به على تهذيب بياني، أو تقويم لساني، أو تكثير مادة علمي باللغة والأدب، بل كل ما كان من
1 / 3
أمري أنني كنت امرأ أحب الجمال وأفتتن به، كلما رأيته في صورة الإنسان، أو مطلع بدر، أو مغرب الشمس، أو هجعة الليل، أو يقظة الفجر، أو قمم الجبال، أو سفوح التلال، أو شواطئ الأنهار، أو أمواج البحار، أو نغمة الغناء، أو رنة الحذاء، أو مجتمع الأطيار، أو منتثر الأزهار، أو رقة الحس، أو عذوبة النفس، أو بيت الشعر، أو قطعة النثر، فكنت أمر بروض البيان مرًّا، فإذا لاحت لي زهرة جميلة بين أزهاره تتألق في غصن زاهر بين أغصانة، وقفت بين يديها وقفة المعجب بها الحاني عليها المستهتر بحسن تكوينها، وإشراق منظرها من حيث لا أريد اقتطافها أو إزعاجها من مكانها، ثم أتركها حيث هي، وقد علقت بنفسي صورتها إلى أخرى غيرها، وهكذا حتى أخرج من ذلك الروض بنفس تطير سرورًا به، وتسيل وجدا عليه، وما هو إلا أن درت ببعض تلك الرياض بعض دورات، ووقفت على أزهارها بعض وقفات، حتى شعرت أن قد بدلت بنفسي نفسا غيرها، وأن بين جنبي حالا غريبة لا عهد لي بمثلها من قبل، فأصبحت أرى الأشياء بعين غير التي كنت أراها بها. وأرى فيها من المعاني الغريبة المؤثرة ما يملأ العين حسنا، والنفس بهجة، فقد كنت أرى الناس فرأيت نفوسهم، وأرى الجمال فرأيت لبه
1 / 4
وجوهره، وأرى الخير فرأيت حسنه، وأرى الشر فرأيت قبحه، وأرى النعماء فرأيت ابتساماتها، وأرى البأساء فرأيت مدامعها، وأرى العيون فرأيت الحر السحر الكامن في محاجرها، وأرى الثغور فرأيت الخمر المترقرقة بين ثناياها، وكنت أرى الشمس فرأيت خيوطها الفضية الهفافة بين السماء والأرض، وأرى القمر فرأيت شعاعه كأنما يهم أن ينبسط حتى يفيض عن جوانبه فيضا، وأرى الفجر فرأيت بياضه وهو يدب في تجاليد١ الظلام دبيب المشيب في تجاليد الشباب، وأرى النجوم فرأيت عيونها الذهبية تطل على الكون من فروج قميص الليل، وأرى الليل فرأيته، وهو يهوي بأجنحته السوداء إلى الأرض هوى الكرى إلى الأجفان، وكنت أسمع خرير المياة فسمعت مناجاتها، وحفيف الأوراق ففهمت نغماتها، وتغريد الأطيار فعرفت لغاتها، فأحببت الأدب حبا جما ملأ ما بين جانحتي، فلم تكن ساعة من الساعات أحب إلي ولا آثر عندي من ساعة أخلو فيها بنفسي، وأمسك علي بابي ثم أسلم نفسي إلى كتابي فيخيل إلي كأني قد انتقلت من هذا العالم الذي أنا فيه إلى عالم آخر من عوالم التاريخ الغابر، فأشاهد بعيني تلك العصور الجميلة عصور العربية الأولى، وأرى العرب
_________
١ التجاليد الجسم.
1 / 5
في جاهليتها بين خيامها وأخبيتها، وأطنابها وأعوادها، وإبلها وشائها، وشيحها وقيصومها، وأرى مساجلاتها ومنافراتها، وحبها وغرامها، وعفتها ووفاءها، وصبرها وبلاءها، وحداءها وغناءها، وأسواق شعرائها، ومواقف خطبائها، وفقرها وإقلالها، وشحوب وجوهها، وسمرة ألوانها، وضوى أجسامها، وترددها في بيدائها بين حمارة١ القيظ وصبارة٢ البرد، وتنقلها من صحراء إلى ريف، ومن مشتى إلى مصيف، ومن نجد إلى وهد، ومن شرف إلى غور، وانتجاعها مواقع الغيث، ومنابت العشب، وقناعتها من الطعام بأحفان التمر، وقعاب اللبن وأصوع الشعير، فإذا جد الجد أكلت القد٣ واشتوت الجلد، وتبلغت بالضب واليربوع وعراقيب الآبال وأظلاف الأبقار، واكتفاءها من اللباس بأكسية الكرابيس وأردية الأشعار، وقُمص الأوبار، فإذا أعوزها ذلك لبست الظل، وافترشت الرمل، غير ناقمة ولا ساخطة ولا متبرمة بقضاء الله وقدره في قسمه أزراقه بين عباده ولا باكية حظها من رخاء العيش ولينه، ثم أراها بعد ذلك وقد أنعم الله عليها بنعمة المدينة الإسلامية، فأرى رغد عيشها، ولين طعامها، واعشوشاب جانبها، وعذوبة مواردها ومصادرها، وسرورها
_________
١ شدة الحر.
٢ شدة البرد.
٣ السير يقد من جلد.
1 / 6
وغبطتها بما أفاء الله عليها من ذخائر الفرس وأعلاق الروم، وامتلاء قصورها باللؤلؤ المنظوم من القيان، واللؤلؤ المنثور من الولدان، وأرى مجالس غنائها، ومجامع أنسها، ومسارح لهوها، ومجالات سبقها، وملاعب جيادها، ومذاهب طرائدها، ومواقف حجها، وازدحام شعرائها على أبواب أمرائها، وجوائز أمرائها في أيدي شعرائها، وانطلاق ألسنتها بوصف ما تشاء من الأعواد والبرابط والمعازف والمزاهر والأقداح والدنان والموائد، والصحف وألوان الطعام حلوه وحامضه، وأصناف الشراب حلاله وحرامه، والطيور المحلقة في الأجواء، والسفن الذاهبة في الدأماء١، والرياض الخضراء، والغابات الشجراء، والقصور وتماثيلها، والبحيرات وأسماكها، والأنهار وشواطئها، والأزهار ونفحاتها، والغيوث قطراتها، ودبيب الحب في القلب، والغناء في السمع، والصهباء في الأعضاء، وخلجة الشك، ولمحة الفكر، وبارقة المنى، ثم لا أشاء أن أرى بين هذا وذاك خلقا عذبا، أو أدبا غضا، أو حبًا وفيًا، أو مجونا مستظرفا، أو حوارًا مستلمحًا، إلا وجدته، ولا أن أسمع ما تهتف به العاتق في خدرها، وما يحدو به الحادي في أعقاب إبله، وما يتغنى به العاشق، وما يهذي به الشارب
_________
١ الدأماء: البحر.
1 / 7
وما يترنم به الشادي، وما يساجل به الماتح١ إلا سمعته، ولا أن أعلم ما يهجس في نفس المحب إذا اشتمل عليه ليله، والحائر إذا ضل به سبيله، والثاكل إذا فجعت بواحدها، والموتور إذا حيل بينه وبين واتره، والكريم إذا لاح له منظر من مناظر البؤس والشقاء، والغريب في دار غربته، والسجين بين جدران سجنه، والخائف إذا وقف بين الرضا والغضب، والمقدم للقتل إذا وقف بين الرجاء واليأس، والبائس إذا أعوزه القوت، واليائس إذا أعوزه الموت، والعزيز إذا ذل، والمشرف إذا هوى، والشريف إذا عبث بشرفه عابث، والغيور إذا لمس عرضه لامس، إلا علمته، ولا أن أعرف خلق الدهر في تنقله بالناس ما بين رفع وخفض، وجدة وفقر، ونعيم وبؤس، وإقبال وإدبار، ولا أثر يده السوداء في خراب القصور، وخلاء الدور، وإقفار المغاني، وتصويح الرياض، إلا عرفته، فكنت أجد في نفسي من اللذة والغبطة بذلك كله ما لا يقوم به عندي كل ما ينعم به الناعمون من رغد في العيش ورخاء حتى ظننت أن الله ﷾ قد صنع لي في هذا الأمر، وأنه لما علم أنه لم يكتب لي في لوح مقاديره ما كتب للسعداء، والمجدودين من عباده من مال أو جاه أعيش
_________
١ الماتح المستقى على البئر.
1 / 8
في ظله، وأنعم بثمرته، زخرف لي هذا الجمال الخيالي البريء من الريبة والإثم وزوّره١ لي تزويرا بديعا، ووضع لي فيه من الملاذ والمحاسن مالم يضع لغيري رحمة بي، وإرعاء علي أن أهلك أو يهلك لبي بين اليأس القاتل، والرجاء الكاذب، وهكذا لا أزال محلقا في هذا الجو البديع من الخيال أضحك مرة، وأكتئب أخرى، وأتغنى حينا وأبكي أحيانا، حتى يرميني الباب ببعض الطارقين أو يستعيد إلى نفسي مستعيد.
ولم يكن حولي لذلك العهد ممن يستعين بمثلهم مثلي على الأدب أحد؛ لأنني كنت أعيش في مفتتح عهدي به، ولم أكن زاهيت إذ ذاك الثالثة عشرة من عمري بين أشياخ أزهريين من الطراز القديم لا يرون رأيي فيه، ولا يتعلقون منه بما أتعلق، فكانوا يرون أن التوفر عليه أو الألمام به عمل من أعمال البطالة والعبث، وفتنة من فتن الشيطان، فكان الذين يتولون أمري منهم لا يزالون يحولون بيني وبينه كما يحول الأب بين ولده وبين ما يعرض له من فتن الهوى ونزغات الصبوة ضنا بي يزعمون أن أنفق ساعة من ساعات دراستي بين لهو الحياة ولعبها، فكنت لا أستطيع أن ألم بكتابي إلا في الساعة التي آمن فيها على نفسي أن يلموا
_________
١ زوره حسنه وقومه.
1 / 9
بأمري وقليلا ما كنت أجدها، وكثيرا ما كانوا يهجمون مني على ما لا يحبون، فإذا عثروا في حقيبتي أو تحت وسادتي أو بين لفائف ثوبي على ديوان شعر أو كتاب أدب خيل إليهم أنهم قد ظفروا بالدينار في حقيبة السارق، أو الزجاجة في جيب الغلام، أو العشيق في خدر الفتاة، فأجد من البلاء بهم، والغصص بمكانهم، ما لا يحتمل مثله مثلي، وهم لا يعلمون أحسن الله إليهم أنهم وجميع من يدور به جدار مسجدهم حسنة من حسنات الأدب الذي ينقمون منه ما ينقمون، ويد من أياديه البيضاء على هذا المجتمع البشري، فلولا الأدب ما استطاع أئمتهم المجتهدون فهم آيات الكتاب المنزل، ولا استنباط تلك الأحكام التي دونوها لهم وتركوها بين أيديهم يستغلونها كما يستغل المالك ضيعته، ويعيشون في ظلها عيش السعداء المترفين، ولولاه ما استطاع علماؤهم اللغويون أن يورّثوهم هذه العلوم اللغوية التي يدرسون اليوم نحوها وتصريفها وبيانها ومعانيها في مجالس علمهم، ويدلون بمكانهم منها على الناس جميعا، كما لا يعلمون أن الأدب هو خير ما يستعين به متعلم على علم، وأن الذوق الأدبي الذي يستفيده المتأدب من دراسة الأدب ومزاولته هو الميزان الذي يزن به ما يحاول فهمه من عبارات العلوم وأساليبها، والدليل الذي يتسمّته
1 / 10
ويترسم مواقع أقدامه في فهم أصول الدين؛ ليكون مجتهدا أن استطاع أو واقفا على منازع المجتهدين، واللسان الذي يستعين به على الإفضاء بأدق أغراضه وأعمقها وأقصاها مكانا من قلبه ليكون إنسانا ناطقا، ومعلما نافعا، ولو أن هؤلاء الزارين على الأدب من علماء الدين وشيوخه وهم اليوم والحمد لله قليل بل هم في طريق الفناء والانقراض قد تعلقوا منه بما كان يتعلق به أسلافهم وأئمتهم من قبل لنالوا به في دينهم خيرا كثيرا، ولا ستدفعوا به عن أنفسهم في أمره شرًّا عظيمًا، فما زال الدين واضح المنهج قائم الحجة، وما زالت آيات الكتاب ومتون الأحاديث سائغة هنيئة لا يلحقها الريب ولا يحيط بها الشك، ولا تطير بجنباتها الأوهام والظنون حتى جهل علماء الدين الأدب ففسدت أذواقهم، وضلت أفهامهم، فكثر بينهم التأويل والتخريج، ووهت تلك العقدة الوثيقة بين الألفاظ والمعاني، واسترخت عراها من أيديهم، فأصبح كل لفظ في نظرهم محتملا لكل معنى حتى ما يأبى أحدهما على الأخر شيئا، وتهافت ذلك الحاجز الحصين الذي كان قائما بين الحقيقة والمجاز، والحقيقة والخيال، فبغى بعض الكلم على بعض وعاث كل منهما في تربة صاحبه إقبالا وإدبارا، وجيئة وذهوبا، وصعودا ونزولا، فاستطاع الواغلون في الدين والناصبون له أن يدخلوا
1 / 11
عليه من الأحاديث المنحولة الغريبة في أساليبها عن منهاج العرب ومناحيهم مالا يضبطه الحساب كثرة، فهلكت الأمة بين هذا وذاك هلكا لا تزال تتجرع كأسه المريرة حتى اليوم.
فالحمد لله أولا، وللأدب ثانيا على نجاتي منهم فيما كانوا يرومون بي، ويحاولون مني، بل أحمد الله إليهم كذلك فقد كفيت بهم وبسوء رأيهم في الأدب ونقمتهم عليه شر من يدخل بيني وبين نفسي في المفاضلة بين شاعر وشاعر، وكاتب وكاتب، أو الموازنة بين أسلوب وأسلوب، وديباجة وأخرى، فلم يكن لي عون على ذلك كله غير شعور نفسي، وخفوق قلبي خفقة السرور أو الألم إن مر بي ما أحب أو ما أكره من حسنات القول أو سيئاته من حيث لا أعرف سبيل ذلك ولا مأتاه، فكان شأني في ذلك شأن السامع الطروب الذي تطربه نغمة وتزعجه أخرى، فيطير بالأولى فرحا، وبالثانية جزعا، ولقد يكون ضعيف الإلمام بضروب الإيقاع وقواعد النغم، فكنت لا أقرأ إلا ما أفهم، ولا أفهم إلا ما أشعر أنه قد خرج من فم قائله خروج السهم من القوس، فإذا هو في كبد الرمية ولبها، فإن رأيت أن المعنى قد قام دونه ستار من التراكيب المتعاظلة، والأساليب الملتوية، علمت أن القائل إما ضعيف المادة اللغوية، فهو يعجز عن الإفضاء بما في نفسه
1 / 12
لأنه لا يعرف كيف يفضي به، وإما جاهل لم يستوِ له المعنى الذي يريده كل الاستواء، ولم يدر في جوانب نفسه حتى يستقر في قراره منها، فهو يتخيله تخيلا، ويجمجمه ويهذي به هذيانا فلا سبيل له إلا الإفصاح عنه، وإما داهية محتال قد علم أن المعنى الذي يجول في نفسه، ويشتمل عليه خاطره تافه مرذول، وكان لا بد له أن ينفقه١ على الناس ويزخرفه لهم ويزوره٢ في أعينهم، فهو يكسوه أسلوبا غامضا؛ ليكدهم ويجهدهم في سبيله حتى إذا ظفروا به بعد ذلك، خيل إليهم أنهم قد ظفروا بمعنى غريب، أو خاطر بديع، ووجدوا فيه عند الوصوص إليه من اللذة والمتعة ما يجد الظامئ في ضحضاح٣ الماء الكدر إذا أبعد النُّجعة في طلبه، ووصل إليه بعد الجهد والإشفاء، وإما عاجز ضعيف القوة النفسية قد علم أن ضعفاء الافهام من الناس، وهم سواد الأمة، ودهماؤها لا يرضون عن معنى من المعاني، ولا يستسنون٤ قيمته، ولا يقيمون له وزنا إلا إذا جاءهم في جلدة من الألفاظ المتكرسة المتقبضة، وأنهم إذا ورد عليهم أثمن المعاني وأغلاها،
_________
١ ينفقه بالتشديد: يجعله نافقًا أي رائجا.
٢ زور الشيء: حسَّنه وزخرفه.
٣ الضحضاح: الماء القليل في قعر البئر.
٤ استسنى فيمته: رآها سنية رفيعة.
1 / 13
وأكرمها جوهرا، وأطيبها عنصرا، في ثوب من الأساليب الرقيقة الشفافة ذهب بهم الوهم إلى أنه ما جاءهم على هذه الصورة إلا لأنه ساقط مبتذل، أو سوقي مطروق، فاحتقره وازدروه، وكان يرى لضعف حيلته وسقوط همته أن لا بد له من موافاة رغبتهم، وبلوغ رضاهم، والنزول على حكمهم، فتجمل لهم باللكنة والعي، وتملقهم بالغموض والإبهام، وإما أعجمي يظن أن اللغة العربية حروف وكلمات، وهو لا يعرف منها غيرهما، فينطق بشيء هو أشبه الأشياء بما يترجمه بعض المترجمين من اللغات الأعجمية ترجمة حرفية، فإن نعيت عليه غرابة أسلوبه واستعجامه والتواءه على الفهم كان مبلغ ما ينضح به عن نفسه أن المعاني العصرية والخيالات الحديثة لا يستطاع إلباسها إلا كيسة البدوية، والأردية العربية، كإنما هو يظن أن المعاني والخواطر خطط وأقسام، وبقاع وضياع، هذا للشرق وهذا للغرب، وهذا للعرب وهذا للعجم، أما الحقيقة التي لا ريب فيها فهي أن الرجل لا ينتزع تلك المعاني من قرارة نفسه، ولا يصور فيها صورة عقله، وإنما هو مترجم قد عثر بتلك المعاني في اللغة الأعجمية التي يعرفها لاصقة بأثوابها الأصلية، فلما أراد أن يفضي بها إلى العرب، وكان غير مضطلع بلغتهم، ولا متمكن من أساليبهم عجز عن أن ينزع عنها
1 / 14