قال المأمون: ما عجزت عن جواب أحد قط مثلما عييت عن جواب ثلاثة. فقال بعض أصحابه: من أولئك يا أمير المؤمنين؟ قال: أما الأول: فرجل من أهل الكوفة، وسبب ذلك أن أهل الكوفة رفعوا قصة يشكون فيها عاملا عليهم، فقعدت يوما، وقلت لهم: إن خاصمتموني كلكم مللت، ولكن اختاروا رجلا منكم أتولى مناطقته ويقوم مقامكم. قالوا: قد اخترنا رجلا غير أنه أصم، فإن احتمله أمير المؤمنين فهو لساننا! قلت: قد احتملته. وأحضروه، فلما مثل بين يدي قلت له: ما تقول؟ فقال: يا أمير المؤمنين، وليت علينا رجلا ثلاث سنين، فاستأصل أموالنا، ويريد أرواحنا، ففي السنة الأولى: نفدت أموالنا، وفي السنة الثانية: بعنا ضياعنا، وفي الثالثة: خرجنا من ديارنا وأوطاننا للشر الذي نالنا والمسكنة التي حلت بنا. فقلت له: كذبت، وأنت أهل لذلك، بل وليت عليكم ثقة عندي على أموالكم مأمونا فاضلا. فقال يا أمير المؤمنين: صدقت وبررت، وأنا كذبت وأفكت، وأنت خليفة الله في بلادنا وأمينه على عباده، فكيف خصصتنا بهذا العادل المؤتمن الفاضل ثلاث سنين ولم توله غير بلاده؛ فينشر عدله في البلاد، ويحيا به العباد كما انتشر علينا، ويفيض من عدله على رعيتك ما أفاض علينا؟! فضحكت، وقلت له: قم فقد عزلته عنكم. وأما الثاني: فأم الفضل، دخلت عليها لما كثر بكاؤها وحزنها على الفضل، فقلت لها: يا أم الفضل، لا تكثري البكاء والحزن على ذي الرئاستين؛ فأنا لك ولد مكانه. فاشتد بكاؤها، فأعدت عليها القول، فقالت: يا أمير المؤمنين، كيف لا أحزن على ولد أكسبني مثلك؟ فلم أجد كلاما بعده، وخرجت من عندها. وأما الثالث: فإني أتيت برجل يدعي النبوة، فأمرت بحبسه، ثم تفرغت من شغلي، فأمرت بإحضاره، وقلت له: زعمت أنك نبي؟! قال: نعم. قلت: إلى من بعثت؟ قال: أوتركتموني أبعث إلى أحد؟! بعثت الغداة وحبست نصف النهار! فقلت: من أنت من الأنبياء؟ قال: موسى بن عمران. قلت له: إن موسى كانت له دلائل وبراهين. قال: وما كانت براهينه؟ قلت: كان إذا ضم يده إلى جيبه أخرجها بيضاء، وإذا ألقى العصا صارت حية. قال: نعم، إنما ذلك لأجل فرعون لما قال: أنا ربكم الأعلى. فإن شئت ترى ذلك قل كما قال فرعون؛ حتى أظهر لك الآيات. فضحكت من كلامه، وأمرت له بجائزة.
اليزيدي والمأمون
قال محمد اليزيدي النحوي: دخلت على المأمون يوما وهو في حديقة له، ريانة أغصانها، غضة أوراقها في فصل الربيع، والدنيا قد تبرجت بثياب الرياض، وعنده جاريته منعم - وكانت أجمل أهل دهرها - تغنيه بهذه الأبيات:
وزعمت أني ظالم فهجرتني
ورميت في قلبي بسهم نافذ
فنعم ظلمتك فاغفري وتجاوزي
هذا مقام المستجير العائذ
هذا مقام فتى أضر به الهوى
أوليس عندكم ملاذ اللائذ
ولقد أخذتم من فؤادي لبه
Bilinmeyen sayfa