ولكن نابوليون لم يسترسل إلى الجبن واليأس، بل ظهر في المظهر الذي تميز به سحابة العمر، مظهر الثبات والحزم أمام الخطوب والكروب، وكتب إلى ألبيت وساليساتي اللذين استصدرا الأمر بالقبض عليه قال: «إني خدمت الوطن في طولون وأحرزت شيئا من الامتياز، وكان لي نصيب من الفوز الذي ناله جيش إيطاليا في سورجيو وتارانو، فكيف أنزل تحت الشبهات قبل سؤالي وسماع جوابي؟ إنهم جعلوني موضع الريب، ثم ألقوا الحجز على أوراقي، مع أن الواجب يقضي بحجز أوراقي وطلب الإيضاح مني، وبعد ذلك أرمى بالشبهات إن كان هناك مسوغ.»
رمى جماعة من المؤرخين نابوليون بالتجرد من العواطف الإنسانية الطيبة، فإذا أراد القارئ أن يعرف قيمة هذا الزعم وجد البرهان الدامغ على بطلانه فيما جرى بينه وبين ساليساتي، فإن البطل الكورسيكي علم في يونيو من سنة 1795 أي بعد سنة لحبسه أن ساليساتي - وكان وقتئذ فارا من وجه الحكومة - لجأ إلى منزل بيرمون حيث كان نابوليون يتناول الغداء كل يوم، فتجاهل نابوليون وجود ذاك الرجل الذي اضطهده، واكتفى بأن يرسل إليه بعد هربه إلى بوردو كتابا قال فيه: «رأيت يا ساليساتي أني كنت قادرا على مقابلة الشر بمثله، ولو فعلت لثأرت لنفسي من رجل أنزل بي الضر وما رميته بإهانة أو شر، فاذهب بسلام وابحث عن ملجأ تأوي إليه ريثما يتحسن شعورك الوطني.» •••
ثم رجع نابوليون إلى مدينة نيس في 24 أغسطس بعد أن قضى ثلاثة عشر يوما في الحبس، وهناك اشترك في مظاهرة قام بها الجيش، وصدر الأمر بتعيينه قائدا لبطاريات الحملة البحرية التي أرسلت إلى سيفيتا فكشيا، ولكنه ما لبث أن عاد مع حملته إلى طولون؛ لأن البوارج الفرنسوية لم تستطع يومئذ أن تقهر البوارج الإنكليزية، وبعد أيام صدر الأمر بصرف رجال الحملة فأصبح الجنرال نابوليون بلا منصب، وفي أوائل إبريل سنة 1795 سافر إلى مرسيليا حيث تلقى أمرا بالسفر إلى مركز الجيش الفرنسوي المعروف بجيش الغرب والموكل بإخماد الفتنة الأهلية، فاستاء نابوليون من هذا الأمر؛ لأنه قضي بنقله إلى جيش يصادم الفرنسويين بدلا من أن يكون في جيش يقاتل الأجانب، وما نزل على قلبه شيء من التعزية إلا عند تفكيره في تحسين حالة أمه وأخواته الثلاث وأخيه جيروم - أما أخواه جوزيف ولوسيين فقد كانا متزوجين يومئذ.
وبعد حين تولى وزارة الحربية كابتن قديم اسمه أوبري فعين نفسه فريقا ومفتشا عاما للبطاريات، وأمر بنقل نابوليون إلى إحدى فرق المشاة، فتبرم نابوليون واعترض على هذا التعيين، فأجابه أوبري: «أنت لا تزال شابا ... فيجب أن يتقدمك المسنون»، فقال له نابوليون: «إن الشباب يسن عاجلا في ساحة القتال»، ولكن أوبري أصر على رأيه العتيق، فأبى نابوليون أن ينتقل إلى المشاة، وأصبح في موقف حرج، ولكن بعض ذوي الشأن الذين عرفهم في طولون توسطوا له عند ذاك الوزير، وبعد الجهد الشديد استنزلوا له أمرا بالبقاء في العاصمة على سبيل «الإجازة»، إلا إنه كان محروما من مرتبه. أما السبب الذي حمل نابوليون على رفض الانتقال إلى صفوف المشاة فهو أن ضباط البطاريات كانوا ينظرون بعين الاستخفاف إلى ضباط المشاة، فعد نابوليون نقله حطا من قدره كما قال مارمون في «مذكراته»، وكتب نابوليون نفسه إلى أحد أصدقائه يقول: «أرادوا أن يعينوني جنرالا للمشاة في جيش فنديه فلم أقبل؛ لأن كثيرا من الضباط يمكنهم أن يقودوا المشاة ويكونوا فيها أبرع مني، أما البطاريات فقليل أولئك الذين ينجحون في قيادتها.»
فاستنتج بعض المفكرين أن مطامع نابوليون لم تكن عظيمة وأحلامه لم تكن كبيرة في ذاك الوقت؛ لأن جنرال البطاريات إذا كان محترما فهو لا يجد أمامه مجالا لإشباع المطامع العظيمة كقائد المشاة الذي يصدر الأوامر إلى قواد البطاريات، ويرى أمامه متسعا للأعمال الباهرة وتحقيق الأماني الجميلة.
وفي تلك الأثناء اضطر الجنرال بونابارت أن يعدل عن الكماليات ويكتفي بالضروريات، فباع مركبته وأخذ يصرف جانبا من وقته في زيارة أهل النفوذ والسلطان ليوضح لهم أمره، ثم يصرف الجانب الآخر في زيادة علومه ومعارفه بزيارة المعاهد العلمية والفنية وغيرها، وكان بين حين وآخر يذهب مع صديقه جونو إلى بعض الحدائق فيتحدثون عن إخوته وأخواته، ولقد عشق «جونو» «بولين بونابرت» وطلبها من نابوليون، فأجابه بلطف: «إنك ستكون صاحب ريع، ولكنك لم تحصل عليه حتى الآن، وأبوك لا يزال جيد الصحة، وكل ما تملكه رتبة ملازم في الجيش، والخلاصة أيها العزيز أنك لا تملك شيئا وبولين لا تملك شيئا، فخير لنا أن ننتظر ...» وكانت حالة نابوليون في ذلك الوقت تزداد اشتدادا لحبس راتبه عنه، فكان مضطرا مع صديقه جونو إلى الاكتفاء بما كان يرد على هذا الصديق من أهله، وإذا اتفق أن جونو كان فارغ الجيب ذهب به نابوليون إلى منزل السيدة برمون - التي صارت ابنتها دوقة أبرانتيز بعد صعود نابوليون إلى ذروة العز والمجد، وكان نابوليون يقول عند وصولهما ضاحكا: «إن حمل الذهب لم يصل حتى الآن ...»
وليس يدلنا على الحالة النفسية التي كان نابوليون عليها في ذاك العهد مثل الكتب التي بعث بها إلى أخيه جوزيف؛ فقد كتب إليه في 23 يونيو من ذاك العام: «إني أفعل كل ما في وسعي لأجد وظيفة لأخينا لوسيين.»
وكتب في 24 منه: «لم أتمكن من الحصول على مركز للويس في فرقة المدفعيات، ولكني سأرسله إلى شالون؛ لأن عمره لم يتجاوز السادسة عشرة، فلا تمضي سنة حتى يصير ضابطا.»
وكتب في 25 منه: «إذا أضمرت السفر وكنت معتقدا أن غيابك يطول مدة من الزمن فابعث إلي برسمك، إنا عشنا معا سنوات عديدة فتمازجت قلوبنا وتقاربت أرواحنا وأنت أعلم بحبي لك ...»
وكتب إليه في 19 يوليو: «لم أر منك كتابا حتى الآن مع أنك سافرت منذ شهر ... أظن أنك تغتنم فرصة وجودك في جنوى لتاتي بآنيتنا الفضية وأشيائنا النفيسة.»
Bilinmeyen sayfa