وكان نابوليون منذ ريعان الشباب يتحمس لفكرة الثورة ويميل إلى الحرية، واندمج هناك في «جمعية أصدقاء الدستور» وعين كاتب سر لها، وقد حفظ أعضاء تلك الجمعية آثار خطبه المملوءة نخوة وحمية، وكان ميله إلى الأفكار الحرة سببا في تغير بعض رؤسائه ورفاقه عليه وخصوصا الشفاليه ديدوفيل الذي كان مثله ملازما أول.
ولما صار نابوليون إمبراطورا كان ديدوفيل في الهجرة، فأوعز إليه نابوليون بالعودة إلى الوطن وعينه في إحدى الوظائف، ولما استقبله نابوليون بعد رجوعه قال لحاشيته: «هذا أحد رفاقي القدماء الذين اشتد النزاع بيني وبينهم في فالانس لأجل دستور 1791.»
وبعد حين التمس بونابارت من الجنرال تايل أن يحصل له على إجازة، ففعل برغم معارضة الكولونيل الذي كان الألاي تحت إمرته، فسافر بونابارت وأخوه لويس إلى كورسيكا حيث قابل أمه وإخوته، وهناك عين في رتبة «قائمقام» للمتطوعين الوطنيين، وقيل إنه ما التمس هذا المركز إلا لرغبته في مساعدة أمه وإخوته من الوجهة المالية.
واتفق أن كولونيل الألاي أصدر إليه أمرا موجبا للشك والريب، فأبى تنفيذه، فعزله، ثم دعي نابوليون إلى باريس فأوضح الأمر لوزير الحربية، فأعاده إلى الجيش العامل وأمره بأن يعود إلى كورسيكا ليستلم فيها قيادة الحرس الوطني.
ومما يذكر هنا أن نابوليون قاسى ضيقا شديدا سحابة المدة التي قضاها في باريس لتبرئة نفسه والرجوع إلى الجيش، حتى اضطر إلى رهن ساعته عند فوفيليه أخي صديقه وزميله بوريين، ولما التقى بذاك الصديق في باريس سر به سرورا بالغا، وذكر بوريين ما كان من أمرهما، قال: «إن صداقتنا عادت إلينا تامة كما كانت في المدرسة، على أني لم أكن سعيدا مع نابوليون؛ لأن وطأة الضيق والمسكنة كانت ثقيلة عليه، فكنا نقضي أيامنا كما يقضيها شابان في الثالثة والعشرين وليس في جيبهما إلا شيء قليل من النقود، وكنت أنا أحسن حالا منه ، ولطالما بحثنا عن ضروب من المضاربة لنكسب من ورائها شيئا.» وكان من جملة ما خطر ببال نابوليون حينئذ أن يستأجر عدة بيوت جديدة ليؤجرها لآخرين ويربح الفرق، ولكن أصحاب الملك أقاموا في سبيلهما العقبات لقلة مالهما، وكانا يأكلان في مطعم صغير في شارع فالوا، وكثيرا ما كان بوريين يدفع كل المطلوب؛ لأنه كان أحسن حالا كما تقدم.
ولقد شهد نابوليون في ذاك الحين هياج العامة ورأى نحو خمسة أو ستة آلاف من الرعاع المسلحين يصيحون ويتجهون نحو قصر الملك، فقال لصديقه بوريين: «تعال نتبع هؤلاء السفلة»، ولما رأي الملك لويس السادس عشر وسطهم لابسا قبعة حمراء صاح نابوليون قائلا: «كيف تركوا هؤلاء الرعاع يدخلون؟ لقد كان من الواجب أن تنظف قنابل المدافع أربعمائة أو خمسمائة منهم ثم تدع الباقين يركضون.»
وفي ذاك الحين أخذ يشعر نابوليون بنفور شديد من ترك السلطة للعامة، وكتب إلى أخيه جوزيف في 3 يوليو سنة 1792 يقول: «إن زعماء الثائرين من زمرة المساكين، فكل منهم يبحث عن مصلحته الخاصة، والدسائس اليوم هي أدنى مما كانت في كل زمان ... وجل ما يتمناه المرء هو دخل أربعة أو خمسة آلاف فرنك والحياة الهادئة ومحبة الآل والإخوان ...»
وفي ذاك الحين أيضا رأى نابوليون مقتل بقية أنصار الملك وسوقه إلى الجمعية الوطنية، فشعر بخوف شديد على أمه وإخوته من الحوادث المتوقعة في كورسيكا وغيرها، ولكن انتظار القرار المنوط بوظيفته اضطره إلى البقاء في العاصمة.
وفي 13 أغسطس من تلك السنة صدر الأمر بإخلاء جميع المدارس الملكية، فذهب نابوليون مسرعا إلى سان سير، فأخرج أخته إليزا من مدرسة البنات، وفي 30 من الشهر المذكور صدر الأمر بإعادة نابوليون إلى رتبة كابتن في المدفعية، وبالإذن له في السفر إلى كورسيكا، فسافر هو وأخته إلى ليون ثم برحها عن طريق نهر الرون، فقابلته مدموازيل بو صاحبة الفندق الصغير في فالانس والسيدة ميزانجير وقدمتا له سلة من العنب، وفي 17 سبتمبر وصل نابوليون وأخته إلى أجاكسيو حيث اجتمعت عائلة بونابارت كلها لأول مرة منذ ثلاث عشرة سنة، ولولا الفقر والمسكنة التي كانت تحيق بها لكان سرور أعضائها عظيما، وقيل إن المورد الوحيد الذي كانوا يعتمدون عليه حينئذ ويرجون منه دفع غائلة الجوع هو مرتب نابوليون.
وكانت أم نابوليون تجلس معه بعد رقاد أولادها الصغار وتظهر قلقها الشديد على مستقبل بناتها، فيعمد نابوليون إلى تطييب نفسها وتسكين جأشها، وقد قال لها مرة: «إني سأذهب إلى الهند ثم أعود بعد سنوات قليلة بمال وافر وأخص كل واحدة من أخواتي الثلاث بمبلغ منه ...»
Bilinmeyen sayfa