بَابُ التَّرْغِيبِ فِي تَعَلُّمِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ
حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ الْأَنْبَارِيُّ، بِالْأَنْبَارِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، قَالَ ⦗٤٨⦘: دَخَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ﵁ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَجُلٌ يُخَوِّفُ النَّاسَ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: رَجُلٌ يُذَكِّرُ النَّاسَ، فَقَالَ: لَيْسَ بِرَجُلٍ يُذَكِّرُ النَّاسَ وَلَكِنَّهُ يَقُولُ: أَنَا فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ فَاعْرِفُونِي، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَتَعْرِفُ النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ؟ فَقَالَ: لَا قَالَ: فَاخْرُجْ مِنْ مَسْجِدِنَا وَلَا تُذَكِّرْ فِيهِ
حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ الْأَنْبَارِيُّ، بِالْأَنْبَارِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، قَالَ ⦗٤٨⦘: دَخَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ﵁ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَجُلٌ يُخَوِّفُ النَّاسَ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: رَجُلٌ يُذَكِّرُ النَّاسَ، فَقَالَ: لَيْسَ بِرَجُلٍ يُذَكِّرُ النَّاسَ وَلَكِنَّهُ يَقُولُ: أَنَا فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ فَاعْرِفُونِي، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَتَعْرِفُ النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ؟ فَقَالَ: لَا قَالَ: فَاخْرُجْ مِنْ مَسْجِدِنَا وَلَا تُذَكِّرْ فِيهِ
1 / 47
قَالَ: أَبُو جَعْفَرٍ وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي ⦗٤٩⦘ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، قَالَ: انْتَهَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ﵁ إِلَى رَجُلٍ يَقُصُّ فَقَالَ: «أَعَلِمْتَ النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ؟» قَالَ: لَا قَالَ: «هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتَ»
1 / 48
أَبُو جَعْفَرٍ قَالَ: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ دَيْسَمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، قَالَ: مَرَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ﵁ بِرَجُلٍ يَقُصُّ فَقَالَ «أَعَرَفْتَ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ؟» قَالَ: لَا قَالَ: «هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتَ»
قَالَ: أَبُو جَعْفَرٍ ⦗٥٠⦘ وَحَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [البقرة: ٢٦٩] قَالَ: «الْمَعْرِفَةُ بِالْقُرْآنِ نَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ وَمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ وَمُقَدَّمِهِ وَمُؤَخَّرِهِ وَحَرَامِهِ وَحَلَالِهِ وَأَمْثَالِهِ»
قَالَ: أَبُو جَعْفَرٍ ⦗٥٠⦘ وَحَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [البقرة: ٢٦٩] قَالَ: «الْمَعْرِفَةُ بِالْقُرْآنِ نَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ وَمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ وَمُقَدَّمِهِ وَمُؤَخَّرِهِ وَحَرَامِهِ وَحَلَالِهِ وَأَمْثَالِهِ»
1 / 49
قَالَ: أَبُو جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُبَيْطٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ ⦗٥١⦘، قَالَ: مَرَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِقَاصٍّ يَقُصُّ فَرَكَلَهُ بِرِجْلِهِ وَقَالَ: " أَتَدْرِي مَا النَّاسِخُ مِنَ الْمَنْسُوخِ؟ قَالَ: لَا قَالَ: «هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتَ»
1 / 50
قَالَ: أَبُو جَعْفَرٍ وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ دَيْسَمٍ، عَنْ مُوسَى، عَنْ أَبِي هِلَالٍ الرَّاسِبِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدًا، وَحُدِّثْتُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ حُذَيْفَةُ: " إِنَّمَا يُفْتِي النَّاسَ أَحَدُ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٌ يَعْلَمُ مَنْسُوخَ الْقُرْآنِ وَذَلِكَ عُمَرُ، وَرَجُلٌ قَاضٍ لَا يَجِدُ مِنَ الْقَضَاءِ بُدًّا، وَرَجُلٌ مُتَكَلِّفٌ فَلَسْتُ بِالرَّجُلَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ وَأَكْرَهُ أَنْ أَكُونَ الثَّالِثَ "
قَالَ: أَبُو جَعْفَرٍ وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ دَيْسَمٍ، عَنْ مُوسَى، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، أَنَّ عَلِيًّا، ﵇ ⦗٥٢⦘ دَخَلَ مَسْجِدَ الْكُوفَةِ فَرَأَى قَاصًّا يَقُصُّ فَقَالَ: «مَا هَذَا؟» فَقَالُوا: رَجُلٌ مُحَدِّثٌ، قَالَ: " إِنَّ هَذَا يَقُولُ: اعْرِفُونِي سَلُوهُ هَلْ يَعْرِفُ النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ؟ " فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ: «لَا تُحَدِّثْ»
قَالَ: أَبُو جَعْفَرٍ وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ دَيْسَمٍ، عَنْ مُوسَى، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، أَنَّ عَلِيًّا، ﵇ ⦗٥٢⦘ دَخَلَ مَسْجِدَ الْكُوفَةِ فَرَأَى قَاصًّا يَقُصُّ فَقَالَ: «مَا هَذَا؟» فَقَالُوا: رَجُلٌ مُحَدِّثٌ، قَالَ: " إِنَّ هَذَا يَقُولُ: اعْرِفُونِي سَلُوهُ هَلْ يَعْرِفُ النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ؟ " فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ: «لَا تُحَدِّثْ»
1 / 51
بَابُ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي الَّذِي يَنْسَخُ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا خَمْسَةُ أَقْوَالٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَنْسَخُ الْقُرْآنَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَهَذَا قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَنْسَخُ الْقُرْآنَ الْقُرْآنُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَنْسَخَهُ السُّنَّةُ وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي جَمَاعَةٍ مَعَهُ وَقَالَ قَوْمٌ: يَنْسَخُ السُّنَّةَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَقَالَ قَوْمٌ: تَنْسَخُ السُّنَّةُ السُّنَّةَ وَلَا يَنْسَخُهَا الْقُرْآنُ وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ قَالَ: الْأَقْوَالُ قَدْ تَقَابَلَتْ فَلَا أَحْكُمُ عَلَى أَحَدِهَا بِالْآخَرِ قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَحُجَّةُ أَصْحَابِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ يُنْسَخُ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: ٧] وَقَالَ تَعَالَى ﴿فَلْيَحَذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور
1 / 53
: ٦٣] وَقَالَ تَعَالَى ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ [النساء: ٦٥] الْآيَةُ وَقَدْ أَجْمَعَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ إِذَا نَزَلَ بِلَفْظٍ مُجْمَلٍ فَفَسَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَبَيَّنَهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْقُرْآنِ الْمَتْلُوِّ فَكَذَا سَبِيلُ النَّسْخِ وَاحْتَجُّوا بِآيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ تَأَوَّلُوهَا عَلَى نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ سَتَمُرُّ فِي السُّوَرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ﷿ وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: لَا يَنْسَخُ الْقُرْآنَ إِلَّا قُرْآنٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ [البقرة: ١٠٦]، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي﴾ [يونس: ١٥] وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَقُولُونَ: لَمْ يَنْسَخْهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ وَلَكِنَّهُ بِوَحْيٍ غَيْرِ الْقُرْآنِ وَهَكَذَا سَبِيلُ الْأَحْكَامِ إِنَّمَا تَكُونُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى
وَقَدْ رَوَى الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ﴿نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا﴾ [البقرة: ١٠٦] " نَجْعَلُ مَكَانَهَا أَنْفَعَ لَكُمْ مِنْهَا وَأَخَفَّ عَلَيْكُمْ ﴿أَوْ مِثْلِهَا﴾ [البقرة: ١٠٦] فِي الْمَنْفَعَةِ ﴿أَوْ نُنْسِهَا﴾ [البقرة: ١٠٦] يَقُولُ: أَوْ نَتْرُكُهَا كَمَا هِيَ فَلَا نَنْسَخُهَا " وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ فِي أَنَّ السُّنَّةَ لَا يَنْسَخُهَا إِلَّا سُنَّةٌ بِأَنَّ السُّنَّةَ هِيَ الْمُبَيِّنَةُ لِلْقُرْآنِ فَلَا يَنْسَخُهَا، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْمُبَيِّنُ نُبُوَّةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَالْآمِرُ بِطَاعَتِهِ فَكَيْفَ لَا يَنْسَخُ قَوْلُهُ؟ ⦗٥٥⦘ وَفِي هَذَا أَشْيَاءُ قَاطِعَةٌ قَالَ اللَّهُ ﷿ ﴿فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تُرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ﴾ [الممتحنة: ١٠] فَنُسِخُ بِهَذَا مَا فَارَقَ النَّبِيُّ ﷺ الْمُشْرِكِينَ
وَقَدْ رَوَى الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ﴿نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا﴾ [البقرة: ١٠٦] " نَجْعَلُ مَكَانَهَا أَنْفَعَ لَكُمْ مِنْهَا وَأَخَفَّ عَلَيْكُمْ ﴿أَوْ مِثْلِهَا﴾ [البقرة: ١٠٦] فِي الْمَنْفَعَةِ ﴿أَوْ نُنْسِهَا﴾ [البقرة: ١٠٦] يَقُولُ: أَوْ نَتْرُكُهَا كَمَا هِيَ فَلَا نَنْسَخُهَا " وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ فِي أَنَّ السُّنَّةَ لَا يَنْسَخُهَا إِلَّا سُنَّةٌ بِأَنَّ السُّنَّةَ هِيَ الْمُبَيِّنَةُ لِلْقُرْآنِ فَلَا يَنْسَخُهَا، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْمُبَيِّنُ نُبُوَّةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَالْآمِرُ بِطَاعَتِهِ فَكَيْفَ لَا يَنْسَخُ قَوْلُهُ؟ ⦗٥٥⦘ وَفِي هَذَا أَشْيَاءُ قَاطِعَةٌ قَالَ اللَّهُ ﷿ ﴿فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تُرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ﴾ [الممتحنة: ١٠] فَنُسِخُ بِهَذَا مَا فَارَقَ النَّبِيُّ ﷺ الْمُشْرِكِينَ
1 / 54
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَمِنْ هَذَا أَنَّ بَكْرَ بْنَ سَهْلٍ حَدَّثَنَا قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ الْيَهُودَ، جَاءُوا إِلَى رَسُولِ ⦗٥٦⦘ اللَّهِ ﷺ فَقَالُوا إِنَّ رَجُلًا مِنَّا وَامْرَأَةً زَنَيَا فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ: «مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ؟» قَالُوا: نَجْلِدُهُمْ وَيُفْضَحُونَ فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: كَذَبْتُمْ إِنَّ فِيهَا لَلرَّجْمَ فَذَهَبُوا فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا فَجَعَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ ثُمَّ قَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ فَرَفَعَهَا فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ قَالُوا: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ فِيهَا آيَةَ الرَّجْمِ فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَرُجِمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: فَرَأَيْتُهُ يُجْنِئُ عَلَى الْمَرْأَةِ يَقِيهَا الْحِجَارَةَ حَكَى أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّهُ يُقَالُ: جَنَأَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ إِذَا أَكَبَّ عَلَيْهِ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ ﵁ جَنَأَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَقَالَ: «طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا مِنَ النَّبِيِّ ﷺ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ فِي الزُّنَاةِ شَيْءٌ ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ فِعْلَهُ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ﴾ [النساء: ١٥] وَمَا بَعْدَهُ
1 / 55
بَابُ أَصْلِ النَّسْخِ وَاشْتِقَاقِهِ " اشْتِقَاقُ النَّسْخِ مِنْ شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يُقَالُ: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ إِذَا أَزَالَتْهُ وَحَلَّتْ مَحَلَّهُ، وَنَظِيرُ هَذَا ﴿فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ﴾ [الحج: ٥٢] وَالْآخَرُ مِنْ نَسَخْتُ الْكِتَابَ إِذَا نَقَلْتُهُ مِنْ نُسْخَةٍ، وَعَلَى هَذَا النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ، وَأَصْلُهُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ حَلَالًا إِلَى مُدَّةٍ ثُمَّ يُنْسَخَ فَيُجْعَلَ حَرَامًا أَوْ يَكُونَ حَرَامًا فَيُجْعَلَ حَلَالًا أَوْ يَكُونَ مَحْظُورًا فَيُجْعَلَ مُبَاحًا أَوْ مُبَاحًا فَيُجْعَلَ مَحْظُورًا، يَكُونُ هَذَا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْحَظْرِ وَالْإِطْلَاقِ وَالْإِبَاحَةِ وَالَمَنْعِ
1 / 57
بَابُ النَّسْخِ عَلَى كَمْ يَكُونُ مِنْ ضَرْبٍ أَكْثَرُ النَّسْخِ فِي كِتَابِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا أَنْ يَزَالُ الْحُكْمُ بِنَقْلِ الْعِبَادِ عَنْهُ مُشْتَقٌّ مِنْ نَسَخْتُ الْكِتَابَ وَيَبْقَى الْمَنْسُوخُ مَتْلُوًّا
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْأَنْبَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ﴾ [البقرة: ١٠٦] قَالَ: «نُزِيلُ حُكْمَهَا وَنُثْبِتُ خَطَّهَا» وَنَسْخٌ ثَانٍ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ:
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْأَنْبَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ﴾ [البقرة: ١٠٦] قَالَ: «نُزِيلُ حُكْمَهَا وَنُثْبِتُ خَطَّهَا» وَنَسْخٌ ثَانٍ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ:
1 / 58
كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ دَيْسَمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو الدُّورِيُّ، عَنِ الْكِسَائِيِّ، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ [الحج: ٥٢] قَالَ: " فِي تِلَاوَتِهِ ﴿فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ﴾ [الحج: ٥٢] قَالَ: يُزِيلُهُ فَلَا يُتْلَى وَلَا يُثْبَتُ فِي الْمُصْحَفِ " قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: " وَهَذَا مُشْتَقٌّ مِنْ نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ، وَقَدْ زَعَمَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ هَذَا النَّسْخَ الثَّانِي قَدْ كَانَ يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ السُّورَةُ فَتُرْفَعُ فَلَا تُتْلَى وَلَا تُكْتَبُ وَاحْتَجَّ أَبُو عُبَيْدٍ بِأَحَادِيثَ صَحِيحَةِ السَّنَدِ وَخُولِفَ أبو عُبَيْدٍ فِيمَا قَالَ، وَالَّذِينَ خَالَفُوهُ عَلَى قَوْلَيْنِ
1 / 59
مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ مَا قَالَ وَلَا يُسْلَبُ النَّبِيُّ ﷺ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَمَا نَزَلَ عَلَيْهِ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ ﴿وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ [الإسراء: ٨٦] وَالْقَوْلُ الْآخَرُ أَنَّ أَبَا عُبَيْدٍ قَدْ جَاءَ بِأَحَادِيثَ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ غَلَطَ فِي تَأْوِيلِهَا لِأَنَّ تَأْوِيلَهَا عَلَى النِّسْيَانِ لَا عَلَى النَّسْخِ وَقَدْ تَأَوَّلَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ ﴿أَوْ نُنْسِهَا﴾ [البقرة: ١٠٦] عَلَى هَذَا مِنَ النِّسْيَانِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَفِيهِ قَوْلَانِ آخَرَانِ: أَحَدُهُمَا: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ﴾ [البقرة: ١٠٦] «نَرْفَعُ حُكْمَهَا» ﴿أَوْ نُنْسِهَا﴾ [البقرة: ١٠٦] نَتْرُكُهَا فَلَا نَنْسَخُهَا، وَقِيلَ ﴿نُنْسِهَا﴾ [البقرة: ١٠٦] نُبِيحُ لَكُمْ تَرْكَهَا وَعَلَى قِرَاءَةِ الْبَصْرِيِّينَ (نَنْسَأْهَا) أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي مَعْنَاهُ أَوْ نَتْرُكُهَا وَنُؤَخِّرُهَا فَلَا نَنْسَخُهَا وَنَسْخٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ مِنْ نَسَخْتُ الْكِتَابَ لَمْ يَذْكُرْ أَبُو عُبَيْدٍ إِلَّا هَذِهِ الثَّلَاثَةَ
1 / 60
وَذَكَرَ غَيْرُهُ رَابِعًا فَقَالَ: تَنْزِلُ الْآيَةُ وَتُتْلَى فِي الْقُرْآنِ ثُمَّ تُنْسَخُ فَلَا تُتْلَى فِي الْقُرْآنِ وَلَا تُثْبَتُ فِي الْخَطِّ وَيَكُونُ حُكْمُهَا ثَابِتًا
كَمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ﵁ قَالَ: «كُنَّا نَقْرَأُ الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِنْ زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ بِمَا قَضَيَا مِنَ اللَّذَّةِ» قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَإِسْنَادُ الْحَدِيثِ صَحِيحٌ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْقُرْآنِ الَّذِي نَقَلَهُ الْجَمَاعَةُ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَلَكِنَّهُ سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ وَقَدْ يَقُولُ الْإِنْسَانُ: كُنْتُ أَقْرَأُ كَذَا لِغَيْرِ الْقُرْآنِ وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ قَالَ: وَلَوْلَا أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ يُقَالَ: زَادَ عُمَرُ فِي الْقُرْآنِ لَزِدْتُهَا
كَمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ﵁ قَالَ: «كُنَّا نَقْرَأُ الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِنْ زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ بِمَا قَضَيَا مِنَ اللَّذَّةِ» قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَإِسْنَادُ الْحَدِيثِ صَحِيحٌ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْقُرْآنِ الَّذِي نَقَلَهُ الْجَمَاعَةُ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَلَكِنَّهُ سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ وَقَدْ يَقُولُ الْإِنْسَانُ: كُنْتُ أَقْرَأُ كَذَا لِغَيْرِ الْقُرْآنِ وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ قَالَ: وَلَوْلَا أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ يُقَالَ: زَادَ عُمَرُ فِي الْقُرْآنِ لَزِدْتُهَا
1 / 61
بَابُ الْفَرْقِ بَيْنَ النَّسْخِ وَالْبَدَاءِ الْفَرْقُ بَيْنَ النَّسْخِ وَالْبَدَاءِ أَنَّ النَّسْخَ تَحْوِيلُ الْعِبَادِ مِنْ شَيْءٍ قَدْ كَانَ حَلَالًا فَيُحَرَّمُ أَوْ كَانَ حَرَامًا فَيُحَلَّلُ أَوْ كَانَ مُطْلَقًا فَيُحْظَرُ أَوْ كَانَ مَحْظُورًا فَيُطْلَقُ أَوْ كَانَ مُبَاحًا فَيُمْنَعُ أَوْ مَمْنُوعًا فَيُبَاحُ إِرَادَةَ الصَّلَاحِ لِلْعِبَادِ وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ الْعَاقِبَةَ فِي ذَلِكَ وَعَلِمَ وَقْتَ الْأَمْرِ بِهِ أَنَّهُ سَيَنْسَخُهُ إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ فَكَانَ الْمُطْلَقُ عَلَى الْحَقِيقَةِ غَيْرَ الْمَحْظُورِ فَالصَّلَاةُ كَانَتْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى وَقْتٍ بِعَيْنِهِ ثُمَّ حُظِرَتْ فَصُيِّرَتْ إِلَى الْكَعْبَةِ وَكَذَا قَوْلُهُ جَلَّ وَعَزَّ ﴿إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً﴾ [المجادلة: ١٢] قَدْ عَلِمَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ أَنَّهُ إِلَى وَقْتٍ بِعَيْنِهِ ثُمَّ نَسَخَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَكَذَا تَحْرِيمُ السَّبْتِ كَانَ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ عَلَى قَوْمٍ ثُمَّ نُسِخَ وَأُمِرَ قَوْمٌ آخَرُونَ بِإِبَاحَةِ الْعَمَلِ فِيهِ، وَكَانَ الْأَوَّلُ الْمَنْسُوخُ حِكْمَةً وَصَوَابًا ثُمَّ نُسِخَ وَأُزِيلَ بِحِكْمَةٍ وَصَوَابٍ كَمَا تُزَالُ الْحَيَاةُ بِالْمَوْتِ وَكَمَا تُنْقَلُ الْأَشْيَاءُ فَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعِ النَّسْخُ فِي الْأَخْبَارِ لِمَا فِيهَا مِنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ؟ وَأَمَّا الْبَدَاءُ فَهُوَ تَرْكُ مَا عُزِّمَ عَلَيْهِ كَقَوْلِكَ: امْضِ إِلَى فُلَانٍ الْيَوْمَ ثُمَّ تَقُولُ: لَا تَمْضِ إِلَيْهِ فَيَبْدُو لَكَ عَنِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَهَذَا يَلْحَقُ الْبَشَرَ لِنُقْصَانِهِمْ وَكَذَا إِنْ قُلْتَ: ازْرَعْ كَذَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ ثُمَّ قُلْتُ: لَا تَفْعَلْ، فَهَذَا الْبَدَاءِ فَإِنْ قُلْتَ: يَا فُلَانُ ازْرَعْ فَقَدْ عَلِمَ أَنَّكَ تُرِيدُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَكَذَا النَّسْخُ إِذَا أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ بِشَيْءٍ فِي وَقْتِ نَبِيٍّ أَوْ فِي وَقْتٍ يُتَوَقَّعُ فِيهِ
1 / 62
نَبِيٌّ فَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ حِكْمَةٌ وَصَوَابٌ إِلَى أَنْ يُنْسَخَ وَقَدْ نُقِلَ مِنَ الْجَمَاعَةِ مَنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الْغَلَطُ نَسْخُ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ لَدُنْ آدَمَ ﷺ إِلَى وَقْتِ نَبِيِّنَا ﷺ وَهُمُ الَّذِينَ نَقَلُوا عَلَامَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ غَلَطَ جَمَاعَةٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ النَّسْخِ وَالْبَدَاءِ كَمَا غَلَطُوا فِي تَأْوِيلِ أَحَادِيثَ حَمَلُوهَا عَلَى النَّسْخِ أَوْ عَلَى غَيْرِ مَعْنَاهَا
1 / 63
بَابُ ذِكْرِ بَعْضِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَمِنْ ذَلِكَ: مَا حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ فِيمَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضْعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ فَنُسِخْنَ خَمْسًا مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَهُنَّ مِمَّا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ» فَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ هَذَا الْحَدِيثَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِشْكَالِ، فَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَهُ وَهُوَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَرْوِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ سِوَاهُ وَقَالَ: رَضْعَةٌ وَاحِدَةٌ تُحَرِّمُ وَأَخَذَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ ﴿وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾ [النساء: ٢٣] ⦗٦٥⦘ وَمِمَّنْ تَرَكَهُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَقَالَا: «يُحَرِّمُ ثَلَاثُ رَضْعَاتٍ»؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ» قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ وَفِي الْحَدِيثِ لَفْظَةٌ شَدِيدَةُ الْإِشْكَالِ وَهِيَ قَوْلُهَا: «فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَهُنَّ مِمَّا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ» فَقَالَ بَعْضُ جِلَّةِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ: قَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ رَجُلَانِ جَلِيلَانِ أَثْبَتُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ يَذْكُرَا هَذَا فِيهِ وَهُمَا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ⦗٦٦⦘ ﵁، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَأَنَّهُ لَا يُحَرِّمُ إِلَّا خَمْسُ رَضْعَاتٍ الشَّافِعِيُّ، فَأَمَّا الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ «وَهُنَّ مِمَّا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ» فَقَدْ ذَكَرْنَا رَدَّ مَنْ رَدَّهُ وَمَنْ صَحَّحَهُ قَالَ: الَّذِي يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ ﴿وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾ [النساء: ٢٣]، فَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذَا كَانَ يُقْرَأُ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَعَظِيمٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِمَّا يُقْرَأُ لَكَانَتْ عَائِشَةُ رَحِمَهَا اللَّهُ قَدْ نَبَّهَتْ عَلَيْهِ وَلَكَانَ قَدْ نُقِلَ إِلَيْنَا فِي الْمَصَاحِفِ الَّتِي نَقَلَهَا الْجَمَاعَةُ الَّذِينَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الْغَلَطُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩] وَقَالَ جَلَّ وَعَزَّ ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ﴾ [القيامة: ١٧] وَلَوْ كَانَ بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ لَمْ يُنْقَلْ إِلَيْنَا لَجَازَ أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَمْ يُنْقَلْ نَاسِخًا لِمَا نُقِلَ فَيَبْطُلُ الْعَمَلُ بِمَا نُقِلَ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ هَذَا فَإِنَّهُ كُفْرٌ وَمِمَّا يُشْكِلُ مِنْ هَذَا
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَمِنْ ذَلِكَ: مَا حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ فِيمَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضْعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ فَنُسِخْنَ خَمْسًا مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَهُنَّ مِمَّا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ» فَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ هَذَا الْحَدِيثَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِشْكَالِ، فَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَهُ وَهُوَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَرْوِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ سِوَاهُ وَقَالَ: رَضْعَةٌ وَاحِدَةٌ تُحَرِّمُ وَأَخَذَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ ﴿وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾ [النساء: ٢٣] ⦗٦٥⦘ وَمِمَّنْ تَرَكَهُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَقَالَا: «يُحَرِّمُ ثَلَاثُ رَضْعَاتٍ»؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ» قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ وَفِي الْحَدِيثِ لَفْظَةٌ شَدِيدَةُ الْإِشْكَالِ وَهِيَ قَوْلُهَا: «فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَهُنَّ مِمَّا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ» فَقَالَ بَعْضُ جِلَّةِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ: قَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ رَجُلَانِ جَلِيلَانِ أَثْبَتُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ يَذْكُرَا هَذَا فِيهِ وَهُمَا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ⦗٦٦⦘ ﵁، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَأَنَّهُ لَا يُحَرِّمُ إِلَّا خَمْسُ رَضْعَاتٍ الشَّافِعِيُّ، فَأَمَّا الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ «وَهُنَّ مِمَّا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ» فَقَدْ ذَكَرْنَا رَدَّ مَنْ رَدَّهُ وَمَنْ صَحَّحَهُ قَالَ: الَّذِي يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ ﴿وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾ [النساء: ٢٣]، فَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذَا كَانَ يُقْرَأُ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَعَظِيمٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِمَّا يُقْرَأُ لَكَانَتْ عَائِشَةُ رَحِمَهَا اللَّهُ قَدْ نَبَّهَتْ عَلَيْهِ وَلَكَانَ قَدْ نُقِلَ إِلَيْنَا فِي الْمَصَاحِفِ الَّتِي نَقَلَهَا الْجَمَاعَةُ الَّذِينَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الْغَلَطُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩] وَقَالَ جَلَّ وَعَزَّ ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ﴾ [القيامة: ١٧] وَلَوْ كَانَ بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ لَمْ يُنْقَلْ إِلَيْنَا لَجَازَ أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَمْ يُنْقَلْ نَاسِخًا لِمَا نُقِلَ فَيَبْطُلُ الْعَمَلُ بِمَا نُقِلَ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ هَذَا فَإِنَّهُ كُفْرٌ وَمِمَّا يُشْكِلُ مِنْ هَذَا
1 / 64
مَا رَوَاهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمَكَّةَ ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى﴾ [النجم: ١] فَلَمَّا بَلَغَ ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى﴾ [النجم: ١٩] قَالَ: «فَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ تُرْتَجَى» فَسَهَا ⦗٦٧⦘ فَلَقِيَهُ الْمُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرْضٌ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَفَرِحُوا فَقَالَ لَهُمْ: «إِنَّمَا ذَلِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ﴾ [الحج: ٥٢] الآيَةَ " وَقَالَ قَتَادَةُ: قَرَأَ «فَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ تُرْتَجَى وَإِنَّهُنَّ لَهُنَّ الْغَرَانِيقُ الْعُلَا» قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: الْحَدِيثَانِ مُنْقَطِعَانِ وَالْكَلَامُ عَلَى التَّأْوِيلِ فِيهِمَا قَرِيبٌ فَقَالَ قَوْمٌ: هَذَا عَلَى التَّوْبِيخِ أَيْ تَتَوَهَّمُونَ هَذَا وَعِنْدَكُمْ أَنَّ ⦗٦٨⦘ شَفَاعَتَهُنَّ تُرْتَجَى، وَمِثْلُهُ ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلِيَّ﴾ [الشعراء: ٢٢] وَقِيلَ: شَفَاعَتُهُنَّ تُرْتَجَى عَلَى قَوْلِكُمْ، وَمِثْلُهُ ﴿فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي﴾ [الأنعام: ٧٨] وَمِثْلُهُ ﴿أَيْنَ شُرَكَائِيَ﴾ [النحل: ٢٧] أَيْ عَلَى قَوْلِكُمْ وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَالْغَرَانِيقِ الْعُلَا يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ تُرْتَجَى شَفَاعَتُهُمْ فَسَهَا، يَدُلُّكَ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ وَقِيلَ: إِنَّمَا قَالَ جَلَّ وَعَزَّ ﴿أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ [الحج: ٥٢] وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّهُ قَالَ كَذَا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْطَانٌ مِنَ الْجِنِّ أَلْقَى هَذَا أَوْ مِنَ الْإِنْسِ وَمِمَّا يُشْكِلُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ فِي أَنَّ قَوْلَهُ جَلَّ وَعَزَّ ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢٨٤]
⦗٦٩⦘ نَسَخَهُ ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: ٢٨٦] وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ نَسْخٌ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ وَلَكِنَّ التَّأْوِيلَ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ فِيهِ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢٨٤] اشْتَدَّ عَلَيْهِمْ وَوَقَعَ بِقُلُوبِهِمْ مِنْهُ شَيْءٌ عَظِيمٌ فَنَسَخَ ذَلِكَ ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: ٢٨٦] أَيْ نَسَخَ مَا وَقَعَ بِقُلُوبِهِمْ أَيْ أَزَالَهُ وَرَفَعَهُ وَمِنْ هَذَا الْمُشْكِلِ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَزَّ ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ [الفرقان: ٦٨] إِلَى ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَنْ تَابَ﴾ [الفرقان: ٦٩]
⦗٧٠⦘ ثُمَّ نَسْخَهُ ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا﴾ [النساء: ٩٣] وَهَذَا لَا يَقَعُ فِيهِ نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ؛ لِأَنَّهُ خَبَرً وَلَكِنَّ تَأْوِيلَهُ إِنْ صَحَّ نَزَلَ بِنُسْخَتِهِ وَالْآيَتَانِ وَاحِدٌ يَدْلُكُ عَلَى ذَلِكَ ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وءَامَنَ﴾ وَمِنْ هَذَا ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آل عمران: ١٠٢] قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: " نَسَخَهَا ﴿فَاتَّقُوا اللَّهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: ١٦] " أَيْ نَزَلَ بِنُسْخَتِهَا وَهُمَا وَاحِدٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ: حَقُّ تُقَاتِهِ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى وَأَنْ يُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ وَأَنْ يُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ؛ لِأَنَّ النَّاسِخَ هُوَ الْمُخَالِفُ لِلْمَنْسُوخِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ الرَّافِعُ لَهُ الْمُزِيلُ حُكْمَهُ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تُشْرَحُ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فِي مَوَاضِعِهَا مِنَ السُّوَرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
1 / 66
بَابُ السُّوَرِ الَّتِي فِيهَا النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخِ
فَأَوَّلُ ذَلِكَ السُّورَةُ الَّتِي تُذْكَرُ فِيهَا الْبَقَرَةُ
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " فَكَانَ أَوَّلُ مَا نَسَخَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ مِنَ الْقُرْآنِ الْقِبْلَةَ وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَ أَكْثَرُ أَهْلِهَا الْيَهُودَ أَمَرَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَفَرِحَتِ الْيَهُودُ بِذَلِكَ فَاسْتَقْبَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَضْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُحِبُّ قِبْلَةَ إِبْرَاهِيمَ ﷺ فَكَانَ يَدْعُو اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ وَيَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾ [البقرة: ١٤٤] إِلَى قَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ ﴿فَوَلُّوا وجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ [البقرة: ١٤٤] يَعْنِي نَحْوَهُ فَارْتَابَ مِنْ ذَلِكَ الْيَهُودُ وَقَالُوا: ﴿مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ [البقرة: ١٤٢] فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ ﴿قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ [البقرة: ١٤٢] وَقَالَ ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١١٥] وَقَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعِ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ [البقرة: ١٤٣] " قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِيَتَمَيَّزَ أَهْلَ الْيَقِينِ مِنْ أَهْلِ الشَّكِّ وَالرِّيبَةِ " قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَهَذَا يَسْهُلُ فِي حِفْظِ نُسَخِ هَذِهِ الْآيَةِ وَنَذْكُرُ مَا فِيهَا مِنَ الْإِطَالَةِ كَمَا شَرَطْنَا
فَمِنْ ذَلِكَ مَا قُرِئَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ ⦗٧٢⦘ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْكَعْبَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَبَعْدَمَا هَاجَرَ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا»
فَأَوَّلُ ذَلِكَ السُّورَةُ الَّتِي تُذْكَرُ فِيهَا الْبَقَرَةُ
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " فَكَانَ أَوَّلُ مَا نَسَخَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ مِنَ الْقُرْآنِ الْقِبْلَةَ وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَ أَكْثَرُ أَهْلِهَا الْيَهُودَ أَمَرَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَفَرِحَتِ الْيَهُودُ بِذَلِكَ فَاسْتَقْبَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَضْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُحِبُّ قِبْلَةَ إِبْرَاهِيمَ ﷺ فَكَانَ يَدْعُو اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ وَيَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾ [البقرة: ١٤٤] إِلَى قَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ ﴿فَوَلُّوا وجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ [البقرة: ١٤٤] يَعْنِي نَحْوَهُ فَارْتَابَ مِنْ ذَلِكَ الْيَهُودُ وَقَالُوا: ﴿مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ [البقرة: ١٤٢] فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ ﴿قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ [البقرة: ١٤٢] وَقَالَ ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١١٥] وَقَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعِ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ [البقرة: ١٤٣] " قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِيَتَمَيَّزَ أَهْلَ الْيَقِينِ مِنْ أَهْلِ الشَّكِّ وَالرِّيبَةِ " قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَهَذَا يَسْهُلُ فِي حِفْظِ نُسَخِ هَذِهِ الْآيَةِ وَنَذْكُرُ مَا فِيهَا مِنَ الْإِطَالَةِ كَمَا شَرَطْنَا
فَمِنْ ذَلِكَ مَا قُرِئَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ ⦗٧٢⦘ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْكَعْبَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَبَعْدَمَا هَاجَرَ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا»
1 / 71
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُجَاشِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ ⦗٧٣⦘ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «صَلَّى النَّبِيُّ ﷺ بِمَكَّةَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْكَعْبَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَبَعْدَمَا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا ثُمَّ صُرِفَ إِلَى الْكَعْبَةِ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَفِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ «صَلَّى سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا»
1 / 72
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: «صُرِفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى الْكَعْبَةِ فِي جُمَادَى» وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: «فِي رَجَبٍ» وَقَالَ
1 / 73