في اليوم التالي قررت الذهاب إلى جدو نور؛ فقد مضى على زيارتي الأخيرة له عشرة أيام، هاتفته فلم يرد، لكنه عاود الاتصال بي. كان مرحا هذه المرة ورحب بحضوري، وفي المساء خرجت مع فاطمة وذهبت إليه.
استقبلنا بوجهه المبتسم الذي يبعث على الارتياح، وقادني إلى المكتبة، فوجدت فيها شابين وفتاة. تفاجأت وشعرت بالإحراج، ترددت في مشيتي، فأحس بذلك فقال: «تعالي، لا بأس، هؤلاء بعض طلابي، من أفضلهم في الحقيقة، تفضلي أعرفك عليهم؛ أنس، وعبد الله، وإنجي.» ونظر إلي وقال: «وهذه سماء وأختها فاطمة، أيضا هما من أفضل الجيران، أسماء تحب القراءة وتأتي لتستعير من عندي بعض الكتب.» لست أدري لم شعرت بخجل كبير، ابتسموا لي وأطروا علي، وبادلتهم الابتسامة لكن لم أكد أنظر إليهم. وإنجي لم تكن ترتدي الحجاب، لكن ثيابها كانت جميلة جدا، كانت ترتدي تنورة طويلة بيضاء، وسترة ملونة مزهرة، وكانت تضع وشاحا سماويا، آه! السماوي مجددا؟ كان شعرها أسود منسدلا على كتفيها، كم كانت جميلة! شعرت تجاهها بشيء من الإعجاب والنفور في آن معا، صافحتني وقالت: «في أي صف أنت؟» قلت: «نجحت من الثانوية العامة أدبي.» قالت: «رائع، وأي اختصاص اخترت؟» فأحسست بغصة، وأخذت الحرارة تنبعث من وجهي، فسارع جدو إلى القول: «الحقيقة أنها لم تسجل بعد ولم تقرر. سعدت بوجودكم، أتمنى أن تطلعوني على ما تنجزونه مستقبلا، أراكم غدا في الجامعة.» وهكذا ودعهم ورحلوا.
كم كان لطيفا! قلت له بعد رحيلهم: «أشكرك.» قال: «على ماذا؟» أجبته: «على إنقاذك لي.» حرك يده وقال: «آه، لا داعي، هل أنهيت الرواية؟» أخرجتها من حقيبتي وقلت: «بالتأكيد، تفضل.» وأعدتها إليه، والرسالة في مكانها الذي كانت فيه. أخذها من يدي ووضعها على الطاولة، وقال: ها، هل من جديد تحبين أن تطلعيني عليه؟ كنت المرة الماضية تودين الحديث عن الخيميائي، صحيح؟ - نعم، في الحقيقة أعجبتني كثيرا، لكنني لست أدري كيف لي أن أعرف ما هي أسطورتي الشخصية. أنت قرأت الرواية، صحيح؟ - ليس بعد في الحقيقة. - حقا؟ - نعم، ويسعدني أنك قرأتها، بإمكانك أن تحكيها لي الآن.
فكرت قليلا أحاول استرجاع تفاصيلها وبدأت أحكيها له وهو يصغي مبتسما، وحين انتهيت سألته: «والآن كيف لي أن أعرف ما هي أسطورتي الشخصية؟» أجابني: «وهل تعتقدين أن بوسعي معرفة ذلك؟ إنها أسطورتك أنت، وعليك أنت اكتشافها.» شعرت بخيبة أمل من إجابته لكنها استفزتني في الوقت نفسه فقلت: «وهل تعرفها أنت؟» التفت إلي مبتسما وقال: «بكل تأكيد.» سألته: «وما هي؟» قال: «هذا أمر يخصني.» أحسست بالقهر والغضب؛ فمن المفترض أن يعلمني لا أن يتعالى علي، ثم تذكرت أنني أملك شيئا من أسراره، العقد ذا الحجر السماوي، والرسالة، وهذان سلاحان لا بأس بهما.
تركته ومشيت نحو المكتبة لأفكر كيف أبدأ هجومي؛ فإجابته الأخيرة لي أزالت كل تردد عندي في أن أخبره بأمر الرسالة على الأقل، فلم أعد أشعر نحوه بأي أسى. ثم التفت إليه وقلت: «أريد أن أخبرك بأمر.» فنظر إلي: «تفضلي»، أكملت: «لقد قرأت الرسالة التي كانت مخبأة في الرواية: «كتاب الوداع»، وما إن نطقت بالكلمتين الأخيرتين حتى عم السكون طويلا، وطويلا جدا. عندها شعرت بندم كبير، كنت أنظر إليه، وكان ينظر إلى الأسفل، وشفتاه ترتجفان رجفة خفيفة. لم أدر ما أفعل، لقد أخطأت حتما، لكني أدركت ذلك متأخرا، ثم مشيت على الأرض الخشبية بخطوات سريعة إليه وقلت: «أعتذر منك، لكنها كانت مخبأة في الرواية فقرأتها رغما عني، سامحني أرجوك، سأرحل ولن أعود إذا كان هذا يرضيك.» ولم أنتظر رده، أمسكت بيد فاطمة وقلت: «هيا، نحن ذاهبتان.» امتنعت فاطمة وانتزعت يدها وقالت: «لا، لقد وصلنا للتو.» نهرتها وقلت: «كلا، سنرحل.» هنا نطق أخيرا وقال: «دعيها، لا بأس، بإمكانكما البقاء، لا تعتذري؛ فما حدث حدث، تعالي اجلسي، سأحكي لك قصة الرسالة.» استجبت له بخجل، وجلست في الكرسي الذي كان أمامه، وبدأ حديثه. ••• «اسمها رندة، كنت في بعثة لإكمال دراستي إلى ألمانيا، التقيتها في إحدى حدائق الجامعة، كانت جاثية على ركبتيها لتلتقط كتابها من الأرض.»
وسكت قليلا، وسرح في خياله، وكأنما يغوص في ذاكرته بعيدا، ثم أكمل: «خمنت من هيئتها أنها عربية، فتجرأت وقلت: «السلام عليكم.» رفعت رأسها وكانت لا تزال جاثية، نظرت إلي بحاجبين مرفوعين دهشة، وزهرة حمراء كانت تزين شعرها الكستنائي، وسألتني على الفور «أنت عربي؟» كان هذا أول ما سمعته منها، ثم عرفتها عن نفسي، وتحدثنا قليلا، كانت من تونس تدرس الفلسفة، تقيم مع عائلتها في برلين منذ سنوات. في اليوم التالي رأيتها في الحديقة نفسها، فجلسنا معا. وهكذا صرنا نلتقي كل أسبوع يومين أو ثلاثة نتحدث لساعات في الحديقة، كنا نتكلم عن الواقع العربي، عن وضع المرأة وعلاقتها بالرجل، عن بعض العادات الاجتماعية التي كانت تنتقدها. أخبرتني أنها تحب سورية وتتمنى لو تزورها، أعجبت بطريقة تفكيرها، بأسلوبها السريع في الحديث، وكأنما تزدحم الكلمات والأفكار في رأسها فتلقيها كلها دفعة واحدة حتى لا تنسى شيئا. وكثيرا ما كانت الأفكار تتداخل وتتوالد وتتشظى، وكنت أصغي لها في أغلب الوقت؛ فهي من كانت تتحدث أكثر. كانت مغرمة بكل شيء يتعلق بفرنسا، بثقافتها وأدبها ولغتها وطعامها، ووعدتني أن نزور باريس معا يوما ما. وفي أحد الأيام أهدتني رواية «البؤساء» هذه التي قرأتها أنت، كانت الهدية الوحيدة التي أهدتني إياها، وقد كانت نسختها الشخصية.
كانت رندة مفعمة بالحياة، تحب أن تناديني «نوار»، أنستني الغربة ووحشتها، وملأت حياتي بالحب والأمل والتفاؤل. وكان أن أحببتها، هكذا بكل البساطة الممكنة، وكلما تحدثنا أكثر أحببتها أكثر، ورحت أغوص في عقلها وأفكارها أعمق وأعمق، كانت شديدة الحساسية لكل ما يحيط بها. أحيانا كنت أعتقد أنها تمتلك حاسة غير عادية ونظرا فائقا، فترى ما لا يراه غيرها. كانت تبهرني بكلامها على الناس، وعلى الكائنات والأشياء، كانت «تروحن» كل شيء، وهذا ما زاد من تعلقي وإعجابي بها. ما زلت أذكر كيف كانت تضع يدها الصغيرة على صدري وتقول: «يوما ما سيشع نورك يا نوار.» كانت دائما تذهب للصلاة وحدها، على الرغم من أنها غير محجبة وهو ما كان يثير استغرابي كثيرا في ذلك الوقت، وكنت أنتظرها. لم أكن أصلي، ومن كان يصلي في برلين؟ فقد كنت مثل أي طالب عربي انتقل إلى أوروبا، أما هي فقد كانت متفردة لا تشبه إلا ذاتها.
بقينا سبعة أشهر وأسبوعا معا، كانت هي أجمل أيام حياتي، كل شيء فيها كان مثاليا، تراسلنا، وتحدثنا، لعبنا ومشينا كثيرا وركضنا، أكلنا وشربنا وتنزهنا، ثم رحلت.»
عندها رن جرس الهاتف، كان أبي يسأل عني، نظرت إلى ساعة يدي فوجدتها الثامنة والربع مساء، لم أشعر بمرور الوقت هنا، قال جدو: «عليكما الرحيل، والدك قلق عليك.» أجبته بأسى: «لكنك لم تكمل لي ما حدث معك.» قال: «لاحقا، ربما لاحقا.» وأردف: «خذي هذا الكتاب حتى لا تعودي خالية اليدين.» وناولني كتابا دسسته في حقيبتي وخرجنا عائدتين إلى البيت.
استقبلني أبي بغضب كبير، وأخذ يعنفني على تأخري وندمه في أن سمح لي بالذهاب، وتوعدني بألا أعود إليه مجددا، واختتم كلامه بقوله: «عار عليك، ماذا سيتحدث عنا الجيران الآن؟» وما دخل الجيران فينا؟ وعن أي عار يتحدث؟ وماذا فعلت لأستحق هذا؟ دلفت إلى غرفتي والقهر يخنقني، بكيت قليلا، كنت أظن أن أبي على حق؛ فقد تأخرت فعلا، ثم تذكرت قصة جدو نور، كان الفضول لمعرفة ما حدث معه الشاغل الأكبر لتفكيري. لم أتمكن ليلتها من النوم سريعا، أخذت أتخيل رندة وجدو عندما كان شابا، شعرت أنني أحسدها على تحررها وجرأتها، على حبها له وحبه لها، كيف لي أن أحب أحدا؟ وأنا لا أرى ولا يراني أحد؟ وها قد حرمت رؤية جدو نور أيضا! ثم أخذت أتخيل رندة بتنورتها الطويلة المزركشة، بشعرها الكستنائي المجعد، وتضع وشاحا سماويا طويلا، أين رحلت؟ ولماذا؟ كانت جميلة وممتلئة بحب صادق، لكن ما أدراني؟ وهل أعرف الحب أنا؟ كتبت في صفحتي على الفيسبوك:
Bilinmeyen sayfa