ونزل عن عينيها يوما حجاب التساهل، ونظرت إلى نفسها وإلى الحقائق حولها، فإذا بها منفردة متروكة.
ذهب الحلم الذهبي، ومر الحب كالبرق الخاطف لا تكاد تشعر به حتى يختفي ... وتلك القبلات المذيبة، وتلك الأنفاس الحارة، وتلك اللغة السماوية كله ذهب وبقي ذاهبا ...
لم هذا الجفاء؟ لم هذا السكوت القاتل، والبرودة الخرساء، والنظرات المظلمة التي تقع على كل شيء، وتهتم بكل شيء - إلا بها. عبثا جربت أن تعلم، فلم تعلم سوى أن الرجل الذي اختارته رفيقا وصديقا وركنا تستند إليه نبذها في زاوية بيته كإحدى الأثريات التي جاء بها من الشرق.
ويوما عرضت لها حاجة، فدخلت إلى غرفة التماثيل - وكانت قد هجرتها منذ شهور - فرأته جالسا إلى أقدام فتاة في الخامسة عشرة من عمرها، وسمعته يقول: «أنت أجمل من كل التماثيل التي صنعها النحات.»
فهربت مسرعة إلى غرفتها، وأخذت رأسها بين يديها، وبكت عمرها الضائع، وشبابها المكروه.
آه! ما أبرد تلك الجدران، وأسخف ما عليها من بدائع الفن وثمين الأقمشة! كم هي غريبة وسط تلك التحف الغالية، وكم هي موحشة تلك القاعات العديدة تمر فيها أمام المراءات الكبيرة، فترجع إليها خيال وحدتها وانفرادها الوجيع. ومضت الأيام والشهور والسنون وذلك البيت يضم غريبين يجتمعان حينا على المائدة، ووحينا في زيارة لازمة لتثبيت المركز الاجتماعي.
كل ما في الحياة كان قريبا منه، وهي، هي كانت البعيدة البعيدة، كل الغريبات كن أليفات حزنه وأنسه، كان رفيقا لكلهن، وحبيبا لكثيرات منهن. أمامهن كانت تحل عقدة لسانه - وهو المحادث الخلاب - فيتكلم الساعات في الفلسفة والعلم، والفن، والسياسة، وتدبير المنزل وكل شيء.
أما ابنهما الوحيد ... فكبر غريبا بين غريبين. •••
من رآها وقد جمد شعورها وتصخر قلبها، وانقلبت حياتها المشبعة بالرواء والشباب إلى حياة هرمة، صماء، خرساء؟
تركت الزينات النسائية كلها، ولمن عساها أن تتزين؟ وهجرت «الصالونات» وما فيها من الزهو والظهور، ولمن عساها أن تظهر، ومن يهمها بعد في هذا الوجود؟ وما عساه أن يبهج قلبها الدفين الحي؟ مدنية الغرب؟ إنها تعرفها وتعرف ما فيها من الدواهي! عوالم الفن الواسعة؟ كل ما في الفن من جمال وتعبير ليس سوى رموز لما في نفوسنا من العواطف المختلفة، أية عاطفة بقيت لها حتى ترسمها بالخطوط والألوان؟ آيات البلاغة منزلة سطورا؟ كم لعنت هذه الآيات! وكم تمنت لو بقيت جاهلة وتزوجت برجل جاهل!
Bilinmeyen sayfa