ولكن لمجد أؤثله.
فالمعنيان اللذان ينبئان عن اكتفاء الإنسان باليسير في الشعرين متوافقان، والزيادة في الشعر الأول، التي دل بها على بعد همته، ليست تنتقض واحدًا منهما ولا تنسخه.
وأرى أن هذا العائب ظن أمرأ القيس قال في أحد الشعرين: إن القليل يكفيه، وفي الآخر: إن القليل لا يكفيه.
وقد ظهر بما قلناه أن هذا الشاعر لم يقل شيئًا من ذلك ولا ذهب إليه، ومع ذلك فلو قاله وذهب إليه ما كان عندي مخطئًا من أجل أنه لم يكن في شرط شرطه يحتاج إلى أن لا ينقض بعضه بعضًا، ولا في معنى سلكه في كلمة واحدة، ولو كان فيه لم يجر مجرى العيب، لأن الشاعر ليس يوصف بأن يكون صادقًا، بل إنما يراد منه، إذا أخذ في معنى من المعاني كائنًا ما كان أن يجيده في وقته الحاضر، لا أن يطالب بأن لا ينسخ ما قاله في وقت آخر.
ومع ما قدمته، فإني لما كنت آخذًا في استنباط معنى لم يسبق إليه من يضع لمعانيه وفنونه المستنبطة أسماء تدل عليها، احتجت أن أضع لما يظهر من ذلك أسماء اخترعتها، وقد فعلت ذلك، والأسماء لا منازعة فيها إذ كنت علامات، فإن قنع بما وضعته وإلا فليخترع لها كل من أبى ما وضعته منها ما أحب، فليس ينازع في ذلك.
وإذ قدمت ما احتجت إلى تقديمه فأقول: إنه لما كان الشعر على ما قلناه لفظًا موزونًا مقفى يدل على معنى، وكان هذا الحد مأخوذًا من جنس الشعر العام له وفصوله التي تحوزه عن غيره، كانت معاني هذا الجنس والفصول موجودة فيه، كما يوجد في كل محدود معاني حده، لأن الإنسان مثلًا يحد بأنه حي ناطق ميت، فمعنى الحياة التي هي جنس للإنسان موجود في الإنسان، وهو التحرك والحس، وكذلك معنى النطق - الذي هو فصله مما ليس بناطق - موجود فيه، وهو التخيل والذكر والفكر، ومعنى الموت - الذي في حد الإنسان - وهو قبول بطلان الحركة، فكذلك أيضًا معنى اللفظ الذي هو جنس للشعر موجود فيه، وهو حروف خارجة بالصوت متواطئًا عليها، وكذلك معنى الوزن، ومعنى التقفية، ومعنى ما يدل عليه اللفظ.
وإذ كان ذلك كما قلنا، فالشعر إنما هو ما اجتمع من هذه الأسباب التي يحيط بها حده.
ولما كان كل مجتمع، وكل مؤلف من أمور، وللأمور تألف من بعضها مع بعض، يزيد عددها فيه وينقص على حسب كثرة الأمور وقلتها، وجب أن يكون الشعر أيضًا لما كان مجتمعًا من
1 / 6