1
متسلط على جسمي، أغالبه ويغالبني، وأطارده ويطاردني، حتى أراد الله ولا راد لإرادته، أن يندلع لهيب الحرب الأوروبية الكبرى في شهر أغسطس سنة 1914.
وكنت في ذلك الوقت أتولى رياسة تحرير جريدة المؤيد بعد وفاة مؤسسها المرحوم الشيخ علي يوسف، وكان المؤيد لسان حال السراي الخديوية، وصلتي الشخصية والعمومية بسمو الخديو السابق عباس حلمي باشا معروفة، ولها في تاريخ مصر السياسي صحيفة ذات قيمة عظيمة لم يؤن بعد أوان نشرها، فكان من مقتضى هذه العلاقة، أن يصيبني رشاش من النكبة التي أصابته بفقدان عرشه وملكه، ففقدت كل ما لدي، وكل عمل أتكسب منه، فتركت تحرير المؤيد، ونار الحرب مشتعلة، والظروف قاسية، والريبة بين الناس فاشية، وسيف السلطة العسكرية مصلت على الرقاب، ولي زوج وأولاد صغار، أخشى أن يحال بيني وبينهم بالنفي أو الاعتقال، فاخترت العزلة، مع التلطف والاحتيال، وانتقلت بأسرتي إلى الإسكندرية، ثم قضت بعد ذلك السلطة العسكرية الإنجليزية بأن لا أبرح ذلك الثغر، وأن أبقى فيه تحت إشرافها وسيطرتها، حتى تضع الحرب أوزارها.
وحمدت الله، «الذي لا يحمد على مكروه سواه» على الخلاص من النفي أو الأسر أو الاعتقال، إلى غير ذلك من ضروب الاضطهاد التي لاقاها المشتغلون بالسياسة الوطنية، وخصوصا كل من كانت لهم علاقة مثل علاقتي، أو أقل منها بكثير، مع سمو عباس باشا حلمي الخديوي السابق.
ومع أنني كنت في بيتي، مع زوجي وولدي في مدينة واسعة الأكناف، إلا أنني كنت مع هذا أقاسي ألم الاعتقال والضغط على الحرية، ورضوخي للاستبداد، واضطراري إلى الانتقال عن الحياة العمومية، الصحفية والسياسية.
فتحرك في صدري ذلك «الشيطان الأدبي»، وذكرني بكتاب تاريخ مصر في القرن التاسع عشر، ووسوس إلي بأن الاشتغال بتأليف هذا الكتاب مما يساعد على قطع رقبة الفراغ بسيف العمل، فكان من أثر ذلك أنني استعنت بالله وبدأت في وضع الهيكل الذي يشاد عليه بناء الكتاب، وقسمته في الهيكل إلى أربعة أجزاء بحيث يكون في كل جزء رجل أو رجلان كبيران، الأول عن الحملة الفرنسية حتى خروج الفرنسيين من مصر بيد الترك والإنجليز، وبطلا هذا الجزء نابوليون بونابرت وكليبر، والثاني من خروج الفرنسيين إلى وفاة محمد علي وبطلاه محمد علي وإبراهيم، والثالث من وفاة محمد علي إلى الاحتلال الإنجليزي، ورجله إسماعيل، والرابع من الاحتلال البريطاني إلى الحرب الأوروبية وبطلاه عباس وكروم.
هكذا كان الهيكل، وهكذا كانت النية! •••
وبدأت أبحث وأنقب، وأجمع وأرتب، ثم بدأت أكتب، فرأيت أنه لا بد لبيان الحالة السياسية والاقتصادية والأدبية والاجتماعية، التي كانت عليها مصر قبل قدوم الحملة الفرنسية، من أن أضع مقدمة وافية، واستطردت في ذلك، وخصوصا لما وقعت في يدي كتب قيمة قديمة لم أكن قد قرأتها، وفيها معلومات غريبة، مثل كتاب «ثورة علي بك الكبير» المشار إليها في هذا الكتاب، وغيره من كتب السياح مثل قولني، وبروس، وبراون، وسونيتي، وسافاري، ودينون، فطال البحث حتى بلغ في المقدمة أربعا وستين صحيفة من هذه الطبعة بحرفها الصغير هذا.
ثم رأيت من الضروري أن أضع للقارئ العربي مقدمة أخرى عن تاريخ «فكرة الحملة الفرنسية» على مصر، وأسبابها السياسية والدولية، وكيف تطورت الفكرة في عصور مختلفة، وكان لا بد كذلك من فصل موجز واف عن نشأة وتاريخ نابوليون الذي فتح مصر للعالم الأوروبي، وكان له في هذه الديار، وفي العالم أجمع شأن عظيم.
ولا بد من بيان كيف اختمرت فكرة الحملة في رأسه، وهل جاء مصر راغبا أو مكرها، واستغرق هذا البحث وذاك ما يقرب من مائة صحيفة.
Bilinmeyen sayfa