12
وقبل أن يبرح مكانه استعرض الجيش في ميلانو «14 نوفمبر» وخاطب الجنود بكلمات تثير في صدورهم الحماسة وتذكرهم به على الدوام، فقال في خطابه لهم:
أيها الجنود، سأذهب في مساء غد إلى راستاد، ولا أجد تعزية على فراقكم، إلا في أملي بأني سأجتمع بكم عن قريب للدفاع ضد أخطار جديدة، أيها الجنود، كيفما كانت الوظائف التي تسندها الحكومة إلى رجال هذا الجيش، فإنهم سيكونون دائما جديرين برفع رايات الحرية، والمحافظين على مجد فرنسا وشرفها، أيها الجنود، إن تحدثتم بالملوك والأمراء الذين قهرناهم، وبالأمم التي خلصتموها من ربقة الاستبداد، في ميدانين «إيطاليا والنمسا» فاعلموا أنكم ستفعلون أكثر من ذلك في ميدانين آخرين.
وفي الإشارة الأخيرة كان نابوليون ينطق بما يكن فؤاده نحو مصر والشرق، لا نتبع نابوليون في سيره إلى راستاد، ولا عودته إلى باريس، واحتفال الحكومة به، ولا لزوم لنشر خطابه الذي أشعل به قلب الأمة الفرنسية، ولا رحلته لارتياد الشواطئ الفرنسية لفكرة غزو إنكلترا، فكل ذلك خارج عن موضوعنا، مهما بلغت قيمته من الفائدة التاريخية، ولكننا ننقل عن لسان صديقه، وكاتب مذكراته، بوريين، بعد عودته مع نابوليون من سياحة الشواطئ التي أشرنا إليها، العبارة الآتية: «وما رأي مولاي القائد في رحلته.» فهز نابوليون رأسه وقال: «إنني لا أرى أملا في غزو إنكلترا، إني لا أجازف بمستقبل فرنسا الجميلة.» وقال بوريين في مكان آخر من مذكراته: «وأخذت افكار نابوليون تتوجه إلى مسألة غزو مصر، فصارت موضوع فكره ليل نهار.» قال لي مرة: «إن أوروبا بأسرها ليست إلا جحر فأر، وما صدرت الشهرة العالية، وما دوى من الصيت الخالد، إلا من الشرق وفي الشرق.» والخلاصة أن نابوليون وحكومته فرنسا عدلوا عن غزو إنكلترا لاستحالة نقل الجيش الفرنسي في مضيق المانش، وفكروا في أن أحسن وسيلة لقهر إنكلترا، هي بالاستيلاء على مصر، فإن كان المانش متعذرا، فإن السير في البحر الأبيض متيسر، ومتى امتلكت فرنسا مصر، عطلت تجارة إنكلترا في الشرق، وخيل لنابوليون أنه يستطيع، بالاتفاق مع راجات الهند، الذين احتلت إنكترا بلادهم، طرد الإنكليز من تلك الديار، كما أن احتلال فرنسا لمصر يقضي عليها بتحويل معظم أساطيلها إلى البحر الأبيض المتوسط، فتستطيع فرنسا أن تعبر المانش بجيش تغزو به تلك الدولة الرابضة على أمواج البحار.
وكان لا بد لفرنسا من الارتكاز على حجة تبرر بها حملتها على مصر وهي من أملاك الدولة العثمانية، تلك الحكومة السلطانية الوحيدة التي لم تكن على عداء مع فرنسا، وكانت أول من اعترف بالجمهورية فكان من الأعذار التي قالت بها فرنسا، وما ورد في خطاب نابوليون لتاليران وزير الخارجية، من أن مصر ليست في حيازة تركيا؛ لأن المماليك استبدوا بالأمر فيها، ثم وجدت فرنسا من تقارير قنصلها في مصر، مسيو ماجاللون
Magallon - تلك التقارير التي أظهر فيها مر الشكوى من معاملة المماليك للتجار الفرنسيين سواء في إسكندرية ورشيد ودمياط والقاهرة - حجة ترتكن عليها.
نابوليون بونابرت حوالي العهد الذي افتتح فيه القطر المصري «نقلا عن صورة للمصور «أبياني».
ويذهب بعض المؤرخين إلى أنه قد كان من أكبر الأسباب التي حملت الحكومة الفرنسية على تقرير الحملة على مصر، رغبتها في الخلاص من نابوليون بونابرت بإبعاده عن باريس، وأن نابوليون بعد تحمسه لمشروع الحملة على مصر، بردت نار حماسته، لما أدرك ما وراء هذا الإبعاد، من الرغبة في القضاء على شهرته، قبل أن تمتد يده لإدارة الأحكام في فرنسا، ولكنه كان قد تورط في مشروع الحملة، فلم يعد في إمكانه الانسحاب منه، وشهادة «بوريين» في مذكراته تؤيد رأي هذا الفريق فقد قال ما نصه: «ولقد يلوح لي من جميع ما رأيته ووعيته، أن الرغبة في الخلاص من شاب طموح، ولدت شهرته الحسد في قلوب الزعماء، هي التي تغلبت على خطر تجريد فرنسا، لمدة غير معلومة، من جيش عظيم، مع ما كان كثير الاحتمال، من تحطيم الأسطول الفرنسي، وأما نابوليون فلم يبق أمامه إلا أن يختار بين قيادة حملة غير مأمونة العواقب، أو القضاء على مستقبله، ولما كانت حملة مصر، هي الوسيلة الوحيدة لإبقاء علم شهرته خافقا، لم يتردد في قبول القيادة العامة التي صدر له بها الأمر في 12 إبريل سنة 1798.»
13
وأما الفريق الثاني من المؤرخين، فيقول: إن رجال الحكومة لم يريدوا إبعاد نابوليون، وفي مقدمتهم وأكثرهم عنادا كان لاريفاليير ليبو
Bilinmeyen sayfa