ولقد ذكرنا في هذه المقدمة عند الإشارة إلى الفتح العثماني، أن السلطان سليما أخطأ في عدم قضائه على سلطة ونفوذ المماليك مع مقدرته عليهم إذ ذاك، ولكن فاتت العثمانيين الفرصة وندموا عليها، خصوصا وقد قويت شوكة البكوات بما كانوا يشترونه من المماليك الجدد، وبما وصل إلى أيديهم من أموال الأمة المغلوبة على أمرها، ولم يعد الدولة العثمانية، ولا لواليها هيبة ولا سلطان، ليت شعري لو أن السلطان سليما فعل ما نهذب إليه من إبادة المماليك ومنعهم عن استجلاب الرقيق من الممالك، إلى أن يضمحل حالهم في زمن قريب، ووضعت الديار المصرية تحت حكم الدولة العثمانية مباشرة، أكان يكون حالها بعد ثلاثة قرون، من الزمان، أصلح مما وصلت إليه من الخراب والدمار؟؟؟ فقد كان من الممكن والمتصور أن لا يقع ما وقع فيها من تلك الحوادث المشئومة، التي أتت على الحرث والنسل من جراء مظالم المماليك ومطاحناتهم، وكانت رتبت نظاماتها على حال أرقى وأصلح من تلك النظامات، وعمرت البلاد، ونما النسل، وحفظت الثروة، وتحسنت التجارة، بل وحصنت شواطئ البلاد، ولم تصبح في حال من الفوضى بحيث استطاع نابوليون غزوها على أسهل ما يمكن ...
الحكم في هذا صعب جدا، فإن تاريخ الدولة في ممالكها الأخرى، كالشام والعراق، لا يضع في نفس المؤرخ أملا أوسع، بأن تكون أحوال مصر أرقى وأصح، ولكن ربما قيل في هذا أن موارد مصر وخيراتها الطبيعية، ونيلها الذي يجري بالبركة في كل عام، وسلاسة أخلاق أهلها، كانت تساعد على ترقيتها، ونموها أكثر مما جاز للدولة في بلادها الأخرى، وعلى كل حال فكل ما أصيبت به مصر في تلك المدة لا يصح عدلا أن يلقى ذنبه كله على أكتاف المماليك، بل تتحمل الدولة منه جزءا كبيرا؛ لأنها أخطأت في توجيه همتها إلى الفتوحات في أوروبا، بدلا من توجهها إلى الشرق، لوضع سيادتها البحرية على المياه الهندية، لتحول تيار التجارة الشرقية إلى طريق مصر والشام، بدلا من ذهابها إلى أوروبا، حول إفريقية، ولأن الدولة لم تتبع سياسة رشيدة مع المماليك بالقضاء عليهم مرة واحدة، بدلا من خطة الإيقاع بينهم، ويترك باب الاسترقاق بشراء المماليك مفتوحا، ولكن الجزء الأكبر من ذنب سقوط مصر واضمحلالها، يلقى عدلا على أكتاف المماليك ومظالمهم وبلاياهم في هذه الديار.
في فجر القرن الثامن عشر وجه الباب العالي همته إلى القضاء على المماليك ولكن لا بمحاربتهم، ولا إبادتهم؛ إذ يظهر أن ذلك كان متعذرا على الدولة وقتئذ، أو أنه لم ترده خوفا من مروق القائد، الذي تبعث به عن طاعتها، واستبداده بملك مصر، فاختارت خطة إيقاع النفرة والمنافسات بين البكوات وبعضهم بواسطة ولاتها، ويظهر للمتمعن في تاريخ هذه الفترة؛ أي: من سنة 1700 إلى حين الاحتلال الفرنسي، في سنة 1798، أنه وجد بين المماليك، وبين الباب العالي حرب سرية، فكان المماليك يعرفون أن الدولة تسعى لإبادتهم بإغرائهم على بعضهم، ولكنهم كانوا في الدهاء والسياسة أقل كفاءة من مناظريهم الأتراك، وكان نفوذ الدولة الديني والسياسي مساعدا لرجال الدولة على المماليك، وزد على ذلك أن مطامعهم الشخصية، وشهواتهم الذاتية، وفساد أخلاق بعضهم، وقلة ولائهم لأسيادهم وأقرانهم، إلى غير ذلك من صفات الشره والأنانية، كانت من أكبر الأسباب التي ساعدت الدولة عليهم فأضعفت شوكتهم، وإن لم تقض عليهم، ولا نرى بدا من الإشارة إلى الحوادث والوقائع التي تبرهن على استنتاجنا هذا؛ لأني لم أجد من المؤرخين من صرح بهذا الرأي مع الإيضاح الكافي ، أو وضع النقطة على العين «كما يقولون»!!
فقد حدث في سنة 1119ه في أيام حكم السلطان أحمد «1114-1143ه/ 1702-1730م» أن ولي مصر حسن باشا، وهو الذي بدأ بإلقاء بذور الشقاق بين القاسمية والفقارية، وقد كانت المنافسات والمحاربات، بين هاتين الطائفتين من المماليك، سببا في شقاء مصر وخرابها، وفي هذا يقول الجبرتي - «وإن كان قد أخطأ في حكايته الطويلة الخرافية عن أصل القاسمية والفقارية» - «ولم يزل الأمر - أمر الخلاف - يفشو ويزيد، ويتوارثه السادة والعبيد، حتى تجسم ونما، وأهريقت له دما، فكم خربت بلاد، وقتلت أمجاد، وهدمت دور، وأحرقت قصور، وسبيت أحرار، وقهرت أخيار.» ا.ه.
وحدث في سنة 1147ه و1734م «في أيام حكم السلطان محمود 1143-1168ه و1730-1754م» أن عين بكير باشا واليا للدولة في مصر، ويظهر أنه كانت لديه أوامر بالإيقاع بالمماليك، قال عنه المؤرخون: أنه لما وصل إلى القاهرة في يوم السبت 14 شوال سنة 1147 وصعد إلى القلعة، في موكب حافل، فلما مر من وسط المدينة صاح الناس في وجهه، وعلا صراخ العامة من ثقل المغارم والكلف، وفساد العملة، فلم يحفل بصراخهم وصار حتى وصل القلعة ولم يلبث طويلا حتى أخذ يدس الدسائس بين الأمراء لإفساد أمورهم، وتفريق كلمتهم، ثم شغله تفشي الطاعون في البلاد عن تنفيذ مآربه مدة، ولكنه بعد ذلك استغوى بعضهم، ودبر معه مكيدة للقضاء على بقية البكوات، فاستدعاهم بدعوى النظر في أمور الخزينة، إلى بيت الدفتردار، وهناك وقعت مذبحة دموية تعد صورة مصغرة لمذبحة محمد علي المشهورة بالقلعة، عام «1811»؛ أي: بعد ذلك الميعاد بنحو ثمانين سنة، «قال فيها الجبرتي» «قتل فيها أحد عشر من كبار أمراء المماليك وسبب بذلك فتنة اندلع لسان لهيبها في القاهرة وضواحيها.» وقال المؤرخون لهذه الفترة: ولما شاع الخبر بما جرى سار صالح الكاشف، رأس هذه الفتنة «أحد آلات الوالي» إلى بكير باشا ليلا من باب الميدان، وأعلمه بما جرى، فخلع عليه رتبة الإمارة، فطلب منه مالا يفرقه على العسكر المجتمعين معه، فوعده بأن يرسل له ما طلب، فنزل صالح إلى جامع السلطان حسن، فوجد محمدا كتخدا الجاويشية وأتباعه وجماعة آخرون فلبث معهم ينتظر المال، وصعد عمر جلبي، ابن علي بك قيطاس «منافس صالح المذكور» بطائفة من قومه إلى بكير باشا، يطلب بثأر أبيه «محمد بك قيطاس أحد كبار البكوات الذين قتلوا في المذبحة المشار إليها»، وكان وصوله بعد نزول صالح كاشف فخلع عليه الباشا إمارة أبيه،! ورسم له بقتال قاتلي أبيه ومن معهم، وكان الباشا يود لو أنهم يقطعون بعضهم بعضا، فنزل ابن قيطاس وأصحابه، وأمامهم بيرق من المحجر، خلف جامع المحمودية وبيت الحصري وزاوية الرفاعي، وعملوا متاريس على باب الدرب قبالة جامع السلطان حسن، وجعلوا يطلقون بنادقهم، على كل من يمر بهم من الخصوم، وعلى من هم بجامع السلطان حسن ... ثم قال: ولما رأي كبار الوجاقات ما بلغت إليه هذه الفتنة وإنها إنما هي بإيعاز من بكير باشا، قاموا على قدم وساق، وأحاطوا بالقلعة، وأنزلوا بكير باشا، ذليلا مقهورا وسجنوه، وكتبوا إلى دار السلطنة، بما وقع وطلبوا إرسال وال آخر، فأرسل السلطان الأمير مصطفى باشا أمير ياخور لضبط أموال من قتلوا في هذه الفتنة ... إلخ، وقد أحسنت الدولة معاملة بكير باشا هذا وعينته في أرقى وظائف الدولة.
ثم أرادت الدولة إتمام خطتها السياسية، فعينت في سنة 1152 سليمان باشا الشامي المعروف بابن العظم، وكان أول عمل له في مصر إيقاد نار الفتنة بين البكوات، فوقعت فتن بين أمراء المماليك فقتلوا بعضهم بعضا، ولكن لما اتضح لهم أمر الوالي، أنزلوه وعين بعده وال آخر، وتعاقب ثلاثة من الولاة مدة ست سنوات، ثم هبت الدولة مرة ثانية للقضاء على المماليك، فعينت محمد رجب باشا واليا، قال المؤرخون: فلما استقرت به الولاية أخذ يدبر الحيل لقتل من بقي من الأمراء، ثم استمال إليه حسين بك الخشاب وكاشفه بما في نفسه، وأقسما الأيمان على أن لا يخونا بعضهما، وأعلن أن السلطان محمود يريد قطع دابر القطامشة والدمايطة وهم أصحاب الكلمة يومئذ ... ثم دبر لهم مؤامرة كالتي دبرها قبله بكير باشا، ولكن هذه المرة في القلعة في ديوان الوالي، ليشرف بنفسه على هلاكهم، وهي أشبه بمذبحة محمد علي أيضا من حيث وقوعها في القلعة، وإشراف الوالي، كما أشرف محمد علي عليها، ولكنهم لم ينجحوا هذه المرة أيضا، كما يؤملون ... حقيقة قتل بضعة من كبار الأمراء ولكن إبراهيم جاويش، وهو سيد علي بك الكبير ومربيه، أخذ عدته وأدرك المكيدة، فجمع قومه وانتهت هذه الفتنة كما انتهت مثيلاتها بإنزال الباشا وعزله».
وعلت كلمة إبراهيم بك كما سبق لنا بيانه في موضع آخر من هذه المقدمة؛ ولكن الدولة بقيت مصرة على تنفيذ سياستها بتلك الخطة العقيمة، خطة تقليبهم على بعضهم، ولو خربت البلاد، وأبيدت العباد، فمن ذلك أن حمزة باشا الوالي في سنة 1198ه في أوائل ظهور نجم علي بك الكبير، أراد الفتك بالبكوات في القلعة كما فعل الولاة أسلافه، قال مؤرخو هذه الفترة: وجاءت أيام عيد الفطر فركب الأمراء في ثاني يوم شوال إلى قرة ميدان ليهنئوا حمزة باشا بالعيد ... فلما حضروا في ذلك اليوم وهنئوا الباشا، وخرجوا إلى دهليز القصر يريدون الانصراف إلى بيوتهم، برزت لهم طائفة من الجند وسيوفهم بأيديهم مسلولة، وآخرون يحملون البنادق واندفعوا عليهم، فأطلقوا البنادق، وأعملوا السيوف فأصيب عثمان بك الجرجاوي بضربة سيف في وجهه، وأصيب حسين بك كشكش بطلق ناري في خاصرته، وجرح كثيرون جراحا بليغة، فعند ذلك ارتفعت الأصوات وعلت الجلبة، وصاح الأمراء بمماليكهم، فاقتحموا الدهليز والسيوف بأيديهم، وحالوا بينهم وبين المتآمرين، وانتهت هذه المؤامرة الدنيئة، كما انتهت سابقاتها بإنزال الباشا وعزله!! وولي بعد حمزة باشا، محمد راقم باشا سنة 1182ه فبينا تراه يعضد خصوم علي بك، الذي لقب بالكبير بعد، ويساعد على إرسال حملة لمقاومته تحت رئاسة حسين بك كشكش، ويجمع لهذه الحملة المال بمصادرة التجار والأهالي، نجده يقابل علي بك، بعد انتصاره على جيش حسين بك كشكش المشار إليه، ودخول الأول القاهرة ظافرا، فيخلع عليه ويقره شيخا للبلد، وكان ذلك مبدأ نفوذ علي بك وعلو نجمه، وكان قد حلب أشطر الدهر، وعرف أن لا أمانة له مع هذه السياسة العثمانية، فعزل الوالي وأعلن استقلاله بمصر، ولكنه لم ينج من فخ الدولة والسقوط في الهوة التي اتقاها؛ إذ تمكن رجال الدولة من التأثير على مملوكة محمد أبو الذهب كما سبق لنا بيانه، واستمر الحال على هذا المنوال، حتى زمن مراد بك وإبراهيم بك مملوكي محمد أبو الذهب، فإن الدولة أرادت هذه المرة أن تتخذ خطة حاسمة، تليق بشرف الملك وشرف السياسة، فأصدر السلطان عبد الحميد الأول أمره بإرسال قوة إلى مصر لتخليصها من أيدي المماليك، فوصلت القوة العثمانية في عمارة كبيرة تحت قيادة قبودان حسن باشا إلى ثغر الإسكندرية سنة1200ه؛ أي: قبل الحملة الفرنسية بثلاثة عشر عاما، فصمم مراد بك - كعادته من العناد، وحب الاستقلال - على مقاومة القوة العثمانية، قال المؤرخون: فسار مراد بك بمن معه ونزلوا الرحمانية، فلاقتهم الجنود العثمانية «كما لاقت بعد ثلاثة عشر سنة في هذه البقعة العساكر الفرنسية» فانذعرت جنود المماليك، من قنابل العثمانيين فشتت شملهم، وفر مراد بك وإبراهيم بك كذلك إلى الصعيد، كالعادة، ودخل حسن باشا، الذي لقب بالغازي لفتحه مصر من جديد فتحا لم يدم أكثرمن سنة واحدة؛ لأن حسن باشا استدعي للأستانة بسبب الحرب مع الروسيا فترك الأحكام في مصر في يد إسماعيل بك أحد المماليك يشاركه في الحكم حسن بك الجداوي، كما كان مراد وإبراهيم، ولم تستفد مصر من هذه الحملة العثمانية شيئا، اللهم إلا ما ذكره المؤرخون من أن الجيش العثماني أعاد فعاله المعتادة؛ إذ خربت العساكر كل ما مروا به من المدن والقرى، ونهبوا ما فيها، ولولا همة حسن باشا نفسه ما أبقوا على شيء فإنه كان يتهدد الجنود حتى اضطر إلى رمي بعضهم بالرصاص ليردعهم عن أعمالهم الوحشية.
وبعد أربع سنوات عاد مراد بك وإبراهيم بك إلى السيادة الفعلية على البلاد، وبقيا يسومان أهلها الذل والاستعباد، حتى داهمتهما الحملة الفرنسية، كما سيأتي لك بيانه، في مكانه.
ويصح لنا أن نقول هنا من إتمام الفائدة في موضعها أن الباب العالي حاول بعد جلاء الفرنسيين عن مصر القضاء على البقية الباقية من المماليك لتخليص مصر من شرهم، ولكن لم تنجح سياسة تركيا حتى استطاع محمد علي في مذبحة القلعة أن يخلص مصر من المماليك، ويستخلصها لنفسه.
الأوبئة التي فتكت بأهل مصر في عهد المماليك
Bilinmeyen sayfa