فكان احتلال السويس ضروريا لوصول التجارة القادمة من البحر الأحمر، ولتأمين الحجاج، ولقطع المواصلات مع إبراهيم بك ومن معه في سوريا، فلذلك انتخب نابوليون فئة من العلماء وأوفد الجنرال «بون» بفرقته ليكون في مقدمة الحملة على السويس وأصدر له أمرا مطولا بالتعليمات التي يتبعها، وهي محفوظة في مكاتبات نابوليون نمرة 3697 وكلها تعليمات عسكرية لا نرى ضرورة لتعريبها، وفي يوم 24 ديسمبر عسكر نابوليون ومن معه من الجنود والقواد والعلماء في بركة الحج، ثم وصل بلده «اجرود» بعد ظهر اليوم التالي وسار منها إلى السويس فوصلها في الليل وبات في خيمة.
وكانت السويس في ذلك الزمن فرضة صغيرة يقيم فيها بضع مئات من الناس في غير موسم الحج، وكان الماء ينقل إليها على ظهور الجمال من عيون موسى وليس فيها من الصهاريج التي تحفظ فيها المياه إلا عددا قليلا قد تخرب أكثره، وكان يصل عدد سكانها إلى نحو الألفين أو ثلاثة آلاف في أيام موسم الحج وحركة التجارة ، ولما وصلها نابوليون في 27 ديسمبر أصدر أمره بإقامة المعاقل والحصون وعزم على زيارة عيون موسى، وهذا البيان ملخص من بيان طويل أملاه نابوليون وطبع في كتاب «حروب مصر وسوريا للجنرال براتران».
والجبرتي يقول في حوادث 16 رجب: «إن ساري عسكر بونابرته سافر إلى السويس وأخذ صحبته السيد أحمد المحروقي وإبراهيم أفندي كاتب البهار «ديوان البن والبضائع التي ترد من البحر الأحمر» وأخذ معه بعض المديرين والمهندسين والمصورين وجرجس الجوهري وأنطون أبو طاقية وغيرهم، وعدة كثيرة من عساكر الخيالة والمشاة وبعض مدافع وعربات وتختروان، وعدة جمال لحمل الذخيرة والماء والقومانية «المأكولات».
وروى أيضا أنه لما عاد السيد أحمد المحروقي ومن معه من السويس حكوا أن أهل السويس لما بلغهم مجيء الفرنساوية «أي: الفرقة التي ذهبت مع الجنرال بون لاحتلال الثغر قبل وصول نابوليون» هربوا وأخلوا البلدة فذهب بعضهم إلى الطور وبعضهم إلى عرب البادية، فنهب الفرنساويون ما وجدوه في البندر من البن والمتاجر والأمتعة وهدموا الدور وكسروا الأخشاب وخوابي المياه.» ثم قال: «فلما حضر كبيرهم وكان متأخرا عنهم كلمه التجار الذاهبون معه، وأعلموه أن هذا الفعل غير صالح فاسترد من العسكر بعض الذي أخذوه ووعدهم باسترجاع الباقي أو دفع ثمنه بمصر.» وقال الجبرتي أيضا: «إن نابوليون في مدة إقامته بالسويس سار يركب ويتأمل النواحي وجهات ساحل البحر ليلا ونهارا.»
ولا شك أن نابوليون كان ينظر إلى أمواج البحر الأحمر وهو يحرق الارم لعدم وجود السفن التي تقله وتحمل جيوشه إلى البلاد الهندية ليأخذ بثأره من الإنكليز! فكأنما كانت هاتيك الأمواج تجيبه بتلاطمها على الصخور، وحفيفها بالرمال «إن أولئك الذين تحقد عليهم سيحاربونك وتحاربهم، ويخذلونك وتخذلهم، ثم يكون، بما لهم من السيطرة على هذه المياه، القول الفصل في شأنك لهم، فيأخذونك إلى سانت هيلانة، وتعيش فيها كئيبا لا مؤنس لك غير مثل هذه الأصوات، من مثل هذه الأمواج والمستقبل لله! والملك لله!» ولو كشف له قناع المستقبل وهو ينظر ويتأمل شواطئ البحر الأحمر، لرأى كما يرى النائم في حلمه، خيالات السفن مارة من البحر الأبيض المتوسط إلى البحر الأحمر، حاملة رايات الزينة المصرية والفرنساوية، وفي وسط إحدى هاتيك السفن رجل من بني جنسه يشير بإصبعه قائلا: «إنني أفتح الطرق للأمم»
6
ثم يرى بعد ذلك خيال المدرعات الإنكليزية والمدافع البريطانية مع سفن بلاده وأبناء قومه وعشيرته يقفون كتفا لكتف مع أولئك الذين صدوه وقبروه ليحفظوا لهم هذه الديار،
7
بعد أن أخرجوهم منها منذ قرن من الزمان! فيفيق من سباته مذعورا، وهو يقول في سره مباكتا نفسه: كلا لا يمكن أن يكون هذا صحيحا! إنما هي أضغاث أحلام، وخيالات من خيالات هذه البلاد المشهور بالطلاسم والسحر في غابر الأيام! أولم يضرب موسى بعصاه البحر في هذا المكان فانفلق وعبر هو وبنو إسرائيل، وغرق فرعون فكان من الهالكين ...؟
كأني بنابوليون وقد أفاق من غيبوبة كهذه فقال لمن معه من العلماء والمفكرين: «هلموا نعبر البحر حيث عبره موسى وبنو إسرائيل»!
Bilinmeyen sayfa