قال جورجي زيدان: في سلطنة «قانصو» الغوري «من 1501-1516» ما نصه: «ثم كانت الحوادث السياسية فتوقف الغوري عن إتمام ما كان يقصده من البناء والتحسين «في جامعه ومدرسته في أول شارع الغورية»؛ لأن البرتغاليين لما استولوا على بعض بلاد الهند أثقلوا على العلاقات التجارية بينها وبين مصر فجهز قانصو الغوري إلى محاربتهم حملة عظيمة ذهبت غنيمة باردة لجيوش الإفرنج في البحر الأحمر.» ا.ه.
بهذه العبارة الخفيفة مر المؤرخ جورجي زيدان على أكبر حادث في تاريخ «مصر الحديث» دون أن يقدر له قيمته، فأولا لم يذكر لنا كيف بعث الغوري بهذه الحملة العظيمة برا أم بحرا ... وقوله أثقلوا على العلاقات التجارية، لا يدخل في ذهن القارئ نورا يضيء له سلسلة الحوادث، وتأثير وجود البرتغاليين في الهند على ثروة مصر، بل وثروة الشرق كله؛ لأن الدولة العثمانية لم تدرك الخطر المحيق بأملاكها في مصر وآسيا من استيلاء الأوروبيين على البلاد الهندية، ولو أراد الله وأؤتي رجال الدولة العثمانية منعة في المدار السياسية، لفضلوا الاستيلاء على شواطئ الهند الغربية، على التوغل في أوربا فكانوا بذلك يمنعون المتاجر الهندية من الذهاب إلى أوروبا، قبل أن تمر ببلادهم، مصر أو سوريا، ثم كانوا ينشرون الدين الإسلامي في بقية البلاد الهندية، وكان الترك، بدلا من محاربتهم لجمهورية البندقية، واستيلائهم على جزر البحر الأبيض - تلك الجزر التي لم تبق في يدهم طويلا، وكلفت من الأموال والرجال ما لا يدخل تحت حصر - يتفقون مع فينيسيا على عدوهم وعدوها، وهو الاستعمار الأوروبي في آسيا.
ويرى الباحث من هذا أن سوء سياسة الدولة العثمانية كانت سببا في الإضرار بمصلحة مصر وثروتها، كما كانت من بعد سببا في تركها في أيدي مماليك الطبقة الثانية يسومون أهلها سوء العذاب، حتى صارت إلى ما صارت إليه، عند قدوم الحملة الفرنسية تحت قيادة نابوليون بونابرت.
والحق يقال أن جمهورية فينيسيا كانت أعرف بالخطر المحيق بثروتها وثروة مصر من الأتراك، فإنها هي التي حرضت السلطان الغوري على إرسال تلك الحملة إلى المياه الهندية، وهي التي أرسلت له بالأخشاب اللازمة لبناء السفن في البحر الأحمر، وكانت هذه الأخشاب تنقل على ظهور الجمال من الإسكندرية إلى السويس ويتولى عمال مهرة من الفينيسيين إنشاء السفن، ويؤكد السير بردوود في تقريره الذي سبقت الإشارة إليه، أن الفينيسيين اشتركوا بجيوش في الحملة المصرية البحرية، وذكر: أن ذلك الأسطول المصري سافر من السويس والتقى بالأسطول البرتغالي على شواطئ بومباي، وأن الأسطول المصري قهر البرتغالي وحطم سفنه ومات قائده واسمه «لورانزو المائيدا» “Lorenzo da Al Maeyda”
وهو ابن حاكم الولايات البرتغالية في الهند الغربية، وأخذ الهنود يقاومون البرتغاليين، ويقلبون لهم ظهر المجن، فخاف البرتغاليون العاقبة وجمعوا أسطولا جديدا قهروا به الأسطول المصري الفينيسي، في شهر فبراير سنة 1509 على مقربة من جزيرة ديو (Dio)
ولا شك أن هذه المعركة البحرية كانت من المعارك الفاصلة في التاريخ؛ إذ لو أتيح للمصريين الفوز الأخير، لقضي على الاستعمار الأوروبي في الهند إلى زمن طويل، ولبقيت مصر، وبلاد الدولة العثمانية، تتمتعان بثمار التجارة الهندية.
وعلى مثل هذه الحوادث الكبرى يمر مؤلفو تاريخ مصر، الحديث، مرورا غير لائق بمقام التأليف.
وكانت نتيجة تحويل التجارة الآسيوية عن طريق مصر عظيمة في إدارة البلاد ونظاماتها وثروتها، إلى درجة أدت إلى خراب مصر؛ إذ بقي المماليك، وبقي بذخهم، وبقي تعودهم على الترف والنعيم، وقل الوارد من الخارج، فتحولوا إلى امتصاص دماء المصريين حتى أوصلوهم إلى ما يقرب من الفناء، كما سيمر على القارئ فيما يلي:
الفتح العثماني لمصر
بعد ثمانية أعوام مرت على تلك المعركة البحرية في المياه الهندية أقبل السلطان سليم العثماني على مصر بجيش جرار وبعد وقائع ومعارك مع السلطان الغوري في مرج دابق، قرب حلب - وبعد معارك مع خلفه «طومان باي» بالقرب من الخانكة - دخل القاهرة «في شهر يناير سنة 1517» عنوة ولاقت العاصمة من جيوش العثمانيين الأمرين؛ إذ دار القتال في شوارعها وحاراتها، وأمعنوا فيها قتلا وسلبا، ونهبا وحرقا، حتى لقد بلغ عدد من قتل من جنود المماليك، ومن أهالي المدينة، أكثر من خمسين ألفا بشهادة مؤرخي الترك أنفسهم.
Bilinmeyen sayfa