مصر قبل الحملة الفرنسية
قبل الدخول في الكلام على الحملة الفرنسية على مصر وأسبابها، وكل ما يتعلق بها مما هو موضوع هذا الكتاب، نرى من الواجب علينا أن نستفتحه بمقدمة وافية عن الحالة التي كانت عليها مصر قبل تلك الحملة.
فنقول: كانت الديار المصرية منذ منتصف القرن الثالث عشر، إلى نهاية القرن الثامن عشر الميلادي؛ أي: إلى يوم سقوطها في يد نابوليون، تحكمها وتتحكم في رقاب أهلها، طبقة المماليك من بقايا الطبقة الثانية منهم، ولكي نوفي التاريخ حقه يجب علينا أن نشرح للقارئ، بإيجاز يليق بالمقام، من هم المماليك، وما هو أصل نشأتهم، وأسباب قوتهم، وبقاء سطوتهم، ونوضح بقدر الاستطاعة، الدور الذي لعبوه، في تاريخ الشرق والإسلام إلى يوم انقراضهم.
يبتدئ تاريخ المماليك بإقبال أواخر خلفاء الفاطميين على شراء المماليك الشبان بكثرة من قارة آسيا لاتخاذهم عبيدا وحراسا وبطانة، واستمرت هذه الحال حتى زمن الدولة الأيوبية، وقد استفاد بهم صلاح الدين أعظم الفوائد، فإنه ألف من أولئك المماليك الأشداء الأقوياء جيوشا قهر بها أوروبا في جميع الحروب الصليبية، ولكن خلفاءه ضعفوا عن أن يستخدموهم كما استخدمهم صلاح الدين، حتى إذا ولي الحكم الملك الصالح، أكثر من ابتياع المماليك، وجعل منهم أمراء دولته وخاصة بطانته، فصار لهم من النفوذ ما جعلهم يتخذون لهم دورا خاصة، في جهات منيعة تحكم على المدينة «في جزيرة الروضة بالمنيل»، ومن أجل ذلك لقبوا «بالمماليك البحرية» ثم أشتد ساعدهم، وقوي جاههم، وفعلوا بالدولة الأيوبية على ضفاف النيل، مثل ما فعل أشباههم، وأبناء نوعهم، في الدولة العباسية على ضفاف الدجلة؛ إذ انتهى الأمر بهم إلى قتل آخر ملوك الدولة الأيوبية وهو السلطان «نوران» المعظم في نفس الوقت الذي كان فيه لويس الحادي عشر - الذي يلقبه كتاب الإفرنج بالقديس لويس - يحاول بعد حبسه أن يعقد معهم اتفاقية سياسية في عام 1350 ميلادية. •••
مثل المماليك في تاريخ الدول الإسلامية، والمماليك الشرقية، دورا مهما جعل من الواجب على المؤرخين، أن يضعوا له بحثا خاصا، وتحقيقا دقيقا، ليظهروا ما كان لتلك الطبقة من الأثر الطيب أو السيئ، وليشرحوا أيضا ما إذا كان في ظهورهم، وتقوية شأنهم، بل وفي ذكائهم ونشاطهم، وقوة بأسهم، فائدة للأمم الإسلامية، بحيث استطاعت أن تردد وقتا ما بأولئك المماليك غارات الأمم المسيحية، من القرن الثالث عشر إلى القرن التاسع عشر؟ أو هل كان ظهور أولئك المماليك على مسرح السياسة الشرقية الإسلامية، سواء في آسيا، أو شمال إفريقيا سببا في اضمحلال النهضة العربية الإسلامية الصحيحة، وقضاء على الحياة العلمية الفكرية، التي ابتدأت في الأزهار على شواطئ دجلة والفرات والنيل، في عهد الدول الأموية والعباسية، والفاطمية، وما تفرع من الدول العباسية من الدول الصغيرة، كدول بني بويه وحمدان وغيرهما.
إن الجواب الصحيح على هذه الأسئلة يحتاج إلى بحث مفصل، وتحليل دقيق، في مؤلف خاص بهذا الموضوع، وهو ما لا يحتمله هذا الكتاب الذي وضع لغرض آخر، وزمن أحدث، ولكنني أغتنم هذه الفرصة لألفت إليه نظر محبي المباحث التاريخية: وفي رأيي أن الحكم في هذا الباب مجازفة لا تصح، قبل عرض جميع الحوادث ونتائجها، وأسبابها، ومسبباتها، ومن وجوهها المختلفة.
على أن الذي يهمني من بحثي هذا من الوجهة المصرية الوطنية القومية، هو أنني أميل إلى الرأي، بأن المماليك وخصوصا الطبقة الثانية منهم كانوا سببا في بلاء هذه الديار، وعذاب أهلها مدة طويلة من الزمان؛ إذ صيروا وادي النيل، ميدانا للسلب والنهب والمظالم، كما سترى ذلك مفصلا في بابه. •••
كلمة «مملوك» اسم مفعول من «ملك»، وهو ظاهر المعني لا يحتاج لإيضاح وقد ذكر المؤرخون أن منشأ المماليك في جهات «قفجان» من شمالي آسيا، وأنه لما غزا المغول تلك الأصقاع تحت قيادة بانوخان حفيد جنكيز خان، سلموا أهلها الذل، وفتكوا بهم فتكا ذريعا، حتى هاجر سكان الولايات القسبينية والقوقاسية ديارهم، فضعفت قبائلهم وتشتت في بلاد آسيا الصغرى، وكانت تجارة الرقيق الأبيض والأسود في شدة انتشارها، فكان النخاسون يبتاعون أحسن أبنائهم وأجملهم وأقواهم، من أقاربهم أو آبائهم، أو كانوا يختطفونهم فيبيعونهم لمن أرادوا من أمراء وأغنياء الديار السورية والعربية والمصرية، فيشب الفتى وقد نسي قومه وجنسيته، واندمج في سلك أمثاله المماليك تحت رعاية كبير منهم، أو أمير من أمراء العرب أو غيرهم، يقربونهم إليهم، ويحبونهم لجمالهم وذكائهم وولائهم في خدمتهم، فيرقونهم بعد أن يشتد ساعدهم في بطانتهم، وعند ذلك تتطلع نفوسهم إلى مراتب العز ومنازل الإمارة والشرف بل إلى الملك ذاته؛ لأنهم كانوا يعرفون أن أمثالهم من المماليك الأرقاء الذين ابتيعوا صغارا، وربوا في أحضان أسيادهم وملوكهم، شبوا على الفروسية والإقدام، ووصلوا إلى أرقى مناصب الملك والسيادة، ولم يكن يخفى على صغيرهم قبل كبيرهم أن سلاطين المماليك - بعد الدولة الأوروبية - من عهد الملك الظاهر بيبرس، فالملك المنصور قلاوون، فالسلطان حسن، وبرقوق، وبرس باي، وقايتباي، وجميع ملوك هذه الدولة وسلاطينها لم يكونوا إلا مماليك، أو أبناء مماليك مثلهم، ولقد روى الإسحاقي في تاريخه رواية وهي وإن تكن من قبيل الأقاصيص التي لا يعتمد عليها المؤرخ، إلا أنها مثال للتصورات العقلية، والآمال النفسية، التي كانت تدور بخلد المملوك وهو رقيق صغير، روى الإسحاقي عن عبد الملك الأشرف قايتباي المحمودي، أنه لما جنبه الخواجا «كذا» محمود إلى مصر وكان معه رقيقه أحد المماليك الذي جلب معه تحدثا مع الجمال «قائد الجمل» الذي يحملهما إلى مصر في ليلة مقمرة، فقالا: لعل هذه الليلة هي ليلة القدر التي يستجاب فيها الدعاء، فليدع كل منا بما يحبه، فأما قايتباي فقال: أنا أطلب من الله تعالى سلطنة مصر، وقال الثاني: وأنا أطلب من الله أن أكون أميرا كبيرا، أما الجمال فقال: أما أنا فأطلب «حسن الخاتمة» فصار قايتباي سلطانا وصاحبه أميرا، فكانا إذا اجتمعا يقولان «فاز «الجمال» من بيننا!!»، فانظر كيف كانت تحدث المملوك نفسه بالرقي إلى مصاف الملوك!! فهل كان هذا رقا واستعبادا؟
لم يكن «الرق» الذي ينسبونه إلى المماليك إلا كلمة لا معنى لها؛ لأنهم لم يكونوا هم الأرقاء بحق البيع والشراء، بل كان الأرقاء، في الواقع ونفس الأمر، هم المصريون من جميع طبقاتهم ... •••
يقسم المؤرخون الحديثون من كتاب الشرق تاريخ المماليك في مصر إلى دولتين يسمون الأولى دولة «المماليك البحرية» وقد سموا بهذا الاسم؛ لأنهم في مدة حكم الملك الصالح، ابتنوا دورا كبيرة، ومعاقل متينة، عند الروضة حيث يتفرع نهر النيل إلى فرعين، ويسمى بالبحر الكبير، فلقبوا لذلك بالمماليك البحرية، ومادتهم على هذا التقسيم من سنة 1250 إلى 1381 ميلادية، ويسمون المماليك الذين خلفوهم من أول السلطان برقوق من سنة 1381 إلى 1517؛ أي: إلى الفتح العثماني، بدولة المماليك البرجية، «نسبة إلى الأبراج»، أو الشراكسة «نسبة إلى أصلهم».
Bilinmeyen sayfa