أيتها المرأة إذا كنت قرأت «رواية وردة الهاني» قبل أن تقع أبصارك على هذه السطور، فأول ما يطرأ على فكرك هو الاقتدا بها بكسر قيودك المقدسة والتحرر من ربقة عبوديتك الشريفة، وليست هذه النتيجة التي أريد الوصول إليها؛ لأنني لا أنادي باستعمال دواء هو أشد هولا من العلة، لا أريد أن تكسر السلاسل؛ بل أريد أن أعلم الأسير الباكي كيف يحرك قيوده لتسمعه رنينا مطربا، أنا لا أنادي بهدم السجن الذي قدسته الشريعة ورضي به السجين، ولا أطلب أن أملأ سوريا بأطفال بلا أم وبنساء بلا حياء ... بل أريد أن أقول للمرأة المعذبة بأن في فؤادها ينابيع عواطف لا تنضب، وأنها تقدر أن تخرج منه ما يخفف قيودها ويذهب جدران سجنها، إن فقدت الجنة على الأرض بفقدان الحب، فقد بقي بوسعها أن تحول وادي الدموع إلى مسكن عفاف ووقار، إلى مقر سكينة وسلام.
بكل زواج رفرف عليه الويل وضرب فيه سوس الشقا يوجد ضعف بالثقة والاعتبار أكثر مما يوجد برودة في الحب، وإذا برد الحب فما يحتاج أكثر من نظرة لامعة وكلمة ذائيبة لتدب في ثلجه حرارة الصيف، ولكن إذا زالت الثقة ومات الاعتبار فالطامة كبرى والصعوبة أشد، مركز الحب في العاطفة في القلب، وما أخف قلب الإنسان وأغرب تقلباته، كل سنة كل شهر بل وكل يوم، أما الاعتبار والثقة فمركزهما في نور الوجدان في الفكر في الدماغ في ميزان الأعمال البشرية ومبدأ الضمير الحي، ولهذا لا يمكن أن يوجد حب يثبت بوجه العاصفة ما لم يكن كشجرة عظيمة أصولها في الدماغ وأزهارها في القلب.
فيا امرأة سوريا، إن قلبك خال من الأزهار التي تغطي الحياة؛ لأن أصول شجرة الحب ضعيفة في دماغك، وأفكارك لا ترطبها بذلك السائل الذي لا يكون الإنسان بدونه إنسانا، وهو الإرادة، لقد جار عليك الرجل من وراء جور الوسط الاقتصادي عليه؛ فوضعك موضع الآلة التي لا عقل ولا إرادة لها؛ فرضيت بما أراد، زينك بالأقراط والحلي والفساطين كي يغوي بك الحيوان الذي يلذ به، ويميت روحك اللطيفة التي لم يتعلم أن يفهمها بعد، رضيت بهذا الهوان، ولم يقم أحد ليناديك بأن الرجل أضلك، وأنت مسرورة بالضلال كالشارب من المبرد ينهل من دمه ولا يرتوي.
لو كنت أنا من جنسك وكنت عقيلة ذات بعل وأتاني الرجل بالملابس الفاخرة والحلي الثمينة ليجمل بها جسدي، لو رأيت بعينه بريقا حين لبسي لهذه الحلي، ولم يكن هذا اللمعان من قبل لرميت الفسطان بوجه الرجل وقلت له: «اذهب فأنت تحب جسدي فقط، وأنا لي قلب تجول فيه الروح، وأنت تحتقر روحي كأنني حيوان ...»
إذا كان الرجل يتعامى عن نفس المرأة ولا يريد أن يرى بها غير لذة جسمه، أفليس من واجبات المرأة أن تعلن قوة تلك النفس بالصبر والثبات والتعقل واحتقار الأمجاد الكاذبة، إذا كانت المرأة بكل ظرف وحالة تبرهن للرجل عن تعلقها بالزخرفة وتحول عاطفتها إلى كل ما هو لامع وكاذب، أفلا يعذر الرجل إذ ذاك إذا حسب الجنس اللطيف في بيته إناء أو رياشا وضع للزخرفة والتبرج؟ أنت يا امرأة سوريا تشكين من رجلك أمرين؛ أولهما: عدم اندغام نفسه بنفسك، والثاني: كسره لقيود الأمانة وهو يشددها عليك، تشكين منه وتبكين، وقد عمدت إلى مداواة العلة مرارا فلم ينجع الدواء، لماذا؟ ذلك لأنك ضللت بتشخيص العلة ولم يسدد نظرك لمعرفة مركزها.
تريدين أن تدغمي روحك بروحه؛ فتعمدين إلى التزلف إليه بالدلال والغنج، وقد غرب عنك أن زمان التوله قد مضى وقضت روحه مع أحلام الشبيبة المتوارية وراء العمر، يخال لك أن التحبب يولد اندغام الروح، فأنت على ضلال بظنك، وأنا أقول لك بأنك كلما تحببت إلى زوجك بالدلال فإنما أنت تزيدين اقتراب جسمه لجسمك، وتمددين المجال الذي يفصل عاطفتك عن عاطفته، فاتحة هوة هائلة بين روحه وروحك.
اعلمي يا أختي بأن أرواح البشر متماثلة من حيث الجوهر فقط، وهي تختلف بعاطفتها من حيث القوى التي تربحها في جهاد الحياة، وما الدنيا إلا مدرسة النفوس تمر بها أشباحا لتخرج من الباب الأخير، وفي نفس كل منا ما انطبع عليها وكون ذاتيتها، النفوس مخلوقة في الأزل لحياة الأرض، والأرض تخلقها خلقا جديدا للأبدية، ومن أجل هذا نجد الأرواح المترامية بالأجساد على هاوية القبر تسير كلها بالحياة على نسق واحد من حيث المادة، ولكنها تنقسم إلى ما لا نهاية له من حيث الداخليات المكونة وسم النفس، فمنها من تتلائم لبلوغها درجة متشابهة فتتفاهم، ومنها من تلتقي بالمادة وبينها وبين رفيقتها بون عظيم من حيث الداخليات، فتتدافع بخشونة وألم فلا يمكن لها أن تتفاهم.
وهذا التدافع والانضمام نشاهده بكل مظاهره بين رجل ورجل، ولكنه أشد وضوحا وأكبر مفعولا بين الرجل والمرأة، ذلك لأن نفس المرأة وإن تكن من المصدر الذي خرجت منه نفس الرجل فهما مختلفان بالنوع، وإن توحدتا بالجنس، ليست الامرأة أنثى بالجسد فقط، فهي امرأة بنفسها أيضا، وليس الرجل ذكرا بجسده فقط، فهو بنفسه أيضا، ويتضح هذا من اهتزاز روحين يقتربان إلى بعضهما بقوة الحب الجنسي قبل أن تنتبه في الجسد قوة الجنس الحيواني، فإن الاضطراب الذي يشعر به اليافع حين اتحاد روحه بروح من يهوى، لهو مخالف بالنوع عن الاضطراب الذي يهز نفسه عند لقيا الصديق، فمع هذا يشعر بارتياح الشيء إلى مماثله، ومع تلك تشعر الروح (الرجل) الإيجابية بانجذاب للروح (المرأة) السلبية؛ فتتولد قوة التجاذب من انضمام مختلفتين.
ولولا كون الرجل رجلا أبديا بروحه، والمرأة امرأة بروحها الأبدية؛ لكان اختلاف الجنس محصورا بالجسد الترابي فقط، وخلت الأرض من ذلك الانعطاف المتين العرى الذي لا يمكن أن يتولد عن غير التجاذب في الأنفس المختلفة جنسا والمتلائمة عاطفة.
حب الحيوان يتولد عن وجوب التناسل الأرضي فهو زائل، الحيوان يحب بفصول معلومة من السنة أي شبيه له جمعته به الصدفة، فميله الغريزي بالمادة أقوى من إرادته، أما الإنسان فحر بعاطفته لا تحكمه ظروف ولا تقيده فصول، لا يحكم الجسم على روحه بأميالها؛ لأن الإنسان خلق وفي ذاته قوتان؛ قوة حب الجسد لتنازع البقا وإبقاء النوع، وقوة حب النفس بترقية النفس للأبد بالعواطف السامية، ولهذا لا بد لكل إنسان أن يشعر بأن في عاطفته حبين؛ حب للأرض، وحب للسماء.
Bilinmeyen sayfa