ولكن أعجب ما يروقنا منها، ويقع من نفوسنا عند قراءتها روح الفكاهة، وعبقرية اللعب بالألفاظ، والسخرية والتهكم المرير، فإنك لتتبين من خلال سطورها قطعة من روح المزاح الفكه السخار من الإنسانية، ومضاعفها، ومناقصها، ومعايبها، شارلز ديكنز، الذي أراد أن يبكي الناس، فإذا العبرات مستهلة، والشؤون مستدرة، منهلة لقراءة كتبه، ثم عجب لهم يبكون منه ويستعبرون، ثم لا يضحكون؛ فوقع في نفسه أنه لا بد مضحكهم مدخل السرور على نفوسهم، فلم يلبث أن واتاه ذلك؛ فدخل على القوم من أبواب متفرقة من التهكم والعبث، والسخرية والمزاح، فكان أقدر الناس على ذلك، وأبلغ الكتاب مزاحا، وفكاهة وسرورا.
والروح الفرحة لا تزال تدخل على العظيم، وتختلط بخلقه، وتستقر في قرارة نفسه، ونحن رأينا كثيرين من العظماء سخارين من الدنيا جميعا، حتى من أنفسهم، هزائين بالحياة، وسخافة ما اجتمعت عليه، وقامت فوق أساسه، أما العظمة المتجهمة العابسة المتكبرة التي تخشى أن تبتسم للناس، فيدنون منها غير خائفين شيئا من جلالها، واكفهرار طلعتها، ويقتربون في سكون أعصابهم، لا رهبة في نفوسهم، ولا جزع يتغلغل إلى إضعاف أفئدتهم، فتلك عظمة مقفلة موصدة الأبواب، معتزلة تحرق نفسها في جوفها، وتتأكل بعضها، وتعيش في صحراء من نفسها، وقد تضل طريقها في تلك الصحراء، ويبلغ منها الظمأ والجوع؛ فتقضي نحبها، ولم يسمع الناس عنها نبأ، أو تموت منقوصة العمر، أو فاقدة حقها من تقدير الإنسانية، وإكبار الجيل، وحب العصر.
ولكن ذلك التواضع الذي يقع لطائفة من عظماء النفوس، وتلك المائية في روضة أخلاقهم، وحديقة أرواحهم، وذلك الصفاء الذي يعم ذهنيتهم، ويتبدى في مزاح لبق، ونكتة طريفة، وكلمة حلوة، وضحكة متفتحة ضاجة ثوارة موسوسة، وابتسامة تملأ الحياة أملا، وتشع على الدنيا رجاء، وفرحا وطربا، كل أولئك سجايا طيبة لو أتيحت للعظيم ملك ناصية القلوب، واستأسر الأفئدة، وجعل الجيل كله الذي يظهر فيه فرحا مشرقا بما يحبوه من التواضع الجميل، الذي يتلقى أصغر الناس بأجمل ما يتلقى كبارهم، وأهل الخطر والمكانة فيهم.
ولقد اجتمعت كل تلك الشيم في صاحب هذه الترجمة، واختلطت بشخصيته، وامتزجت بخلقه، فما شئت من سماحة ووداعة ولين عريكة، وتفتح صدر لأصغر الناس شأنا، وما أردت من رقة حاشية، وفرحة أدب، وتظرف، وعذوبة محضر، وإنه ليفيض على المجلس من فكاهاته، وخفة روحه، ورياض أدبه، وتهكمه في رفق، وعبثه في تأدب واحتشام؛ حتى ليكاد سامعوه ينسون جلال منصبه، ورهبة مكانته في الحكومة، وعظمة نفوذه وسلطانه، وكأنما يجلسون إلى رجل نفض يده من شؤون الشعب، وتحلل من كثرة العمل، وأقال ذهنه من التفكير في صالح الجماهير، والاهتمام بما يجدي على الأمة في حياتها، ومستقبل شأنها، وكأنهم في حضرة رجل منهم، وفرد بسيط اعتيادي من صفوفهم، وقد بدا ذلك كله كما قدمنا في تلك المرافعة الكبرى التي حشدها في قضية الورداني، وفي تلك الفكاهات، والعبارات الرقيقة؛ والوصف الدقيق، والتهكم بالمجرم، والعبث بخلقه، وتصوير طبيعته، ورسم شخصيته، ونزعاته حتى ليقرأها الإنسان اليوم فلا يني يرى عليها طلاوة الجديد، وملاحة الشيء المستطرف الذي خرج لتوه وساعته من فم قائله، ويلوح لنا أن تلك الروح التهكمية المزاحة تكاد تشبه ما وقع للكثيرين من الساسة العظماء، والأدباء الكبار؛ إذ كانوا يضحكون من الحوادث حتى في أحرج المواقف، وأخطر المواطن، وأبعثها على الوجوم والألم، والحيرة والارتباك.
وكذلك مضى صاحب الترجمة في منصب النائب العمومي نشيطا دؤوبا، مالئا مكانه، مرسلا عليه جلال شخصيته، جامعا بين خطورة المنصب وخطورة ذلك الذهن المتقد بشعلة الذكاء، ومتانة ذلك الخلق القوي المكين.
حتى إذا كان شهر إبريل سنة 1914 قبل نشوب الحرب الكبرى ببضعة أشهر عهد إلى صاحب الدولة الرجل الخطير المفعم بالعاطفة، الممتلئ وجدانا، السريع إحساسا، الشفاف روحا، حسين رشدي باشا بتشكيل وزارة جديدة؛ فدفع إلى المترجم به وزارة الحقانية.
فكان في مسند الوزارة هو هو يوم كان في كرسي النائب دأبا وعظمة، ورهبة واتساعا لكل ما يتطلبه المنصب، واضطلاعا بكل أعباء تلك الوظيفة السامية؛ فظل بجانب ذلك الرئيس الوطني الجليل، وزميلا لصديقه الوفي الأمين، كما قال عنه في خطبته بفندق الكونتنتال صاحب الدولة عدلي باشا يكن.
ونحن نسجل في كتاب تاريخ البسالة الوطنية إباء تلك الوزارة السكوت على حق وطنها، ونضحها عن مطالب بلادها، والتشدد في المطالبة، والاستمساك بالمبدأ، فلم تتقبل في حق البلاد هوادة، ولم ترتض مصانعة ولا تسويفا، وسارت على هدي وجدانها، مسترشدة بضميرها، تعمل وتناوئ، وتجد وتتشدد، حتى إذا حالت حكومة البريطان بينها وبين ما تريد، ووقفت في طريقها دون ما تود أن تبديه للأمة، وتعلنه لعامة الشعب، كانت تلك الاستقالة المخلدة لها العظيمة منها، النبيلة الأثر في تاريخ نهضة هذه البلاد.
الحياة الجديدة
ما كادت تخفت نار تلك الحرب التي أرسلت شعلتها في جوانب العالم كله، وهزت حضارة الإنسانية من القواعد، حتى ارتفع من هذه القطعة من الدنيا صوت رهيب، يتردد في أنحاء المجتمع الإنساني كافة، ونهضت هذه الأمة تريد أن يكون لها مكانها في صف الأمم التي تنعم بحريتها، وتعيش طليقة اليد في حياتها بعد أن ساقت إلى سوح الحرب جموعا عظيمة من أذرعها القوية، وسوقها الحديدية، وأنفسها الشابة الفتية؛ لتعين أمما على أمم، وتقاتل في جانب الحلفاء ضد الإنسانية المجنونة بالعظمة العظيمة في جنونها، وبعد أن طاح الردى بالألوف من أبنائها في سبيل نصرة الشعوب التي تزهى بأنها كانت تحارب في سبيل الحق، وتناضل في سبيل حرية الأمم المستضعفة.
Bilinmeyen sayfa