وأنت قد رأيت أن للنهضات الوطنية لغة خاصة بها، وخطابة لازمة لها، وأساليب من الكلام تغلي مراجل النفوس لسماعها، فإذا سكنت الزوبعة، وعدت تقرأها في كتاب، لم تجد لها طلاوة، ولا رأيت عليها روعة، ولا ألفيت نفسك متحمسة لوقعها؛ بل تكاد ترى عليها برودة كلام الموتى، وتقطع أنفاس المرضى في محضر المنون.
وهذه اللغة التي يمشي على موسيقاها جموع الناس للقاء المدفع والنار، ويثب الحشد على وقعها لبذل نفوسهم مسترخصة، لا تتفق مع لغة العقل، ولا تجري عليها سنن المنطق، ولا تماشي الاستنتاج الصحيح، وتتفق والتعليل السديد، فهي ليست لغة صحيحة تثقل في الميزان اللغوي، وليست لغة أدب؛ إذ لا جمال للأدب عليها، وإن عيوبها اللغوية لتمر فلا تدركها الجماهير، ولا تكتشفها آذان الجماعات، إذ كان العصر الذي تقال فيه عهد الهزء بالقوانين، والسخرية من النظام؛ وليس أسهل على الوطني أن ينحرف عن أساليب الكتابة، والخروج عن أنظمة اللغة؛ ويكسر قوانين الأدب بتلك السهولة عينها التي يخرج بها عن الآداب الاجتماعية، وأنظمة الأخلاق، ويكسر القوانين المشروعة.
وليس أمام الوطني الكاتب أو الخطيب إلا الاحتيال حتى بالكذب، والمغالطة على التأثير في نفوس سامعيه أو قرائه؛ كما كان ديدن أحد خطباء الثورة الفرنسية؛ إذ قال في ندوة الثوريين: «إن شجرة الحرية - كما قال أحد الكتاب الأقدمين - لا تنمو ولا تفرع، ولا تطول إلا إذا رويت وسقيت من دماء الطغاة الظالمين!»
وقد قلب الذين كتبوا عن تلك الثورة بطون التاريخ القديم؛ ليستدلوا على اسم ذلك الفيلسوف اليوناني، أو الكاتب الروماني الذي اقتبس خطيب الثورة تلك الكلمة من كلمه، فلم يجدوا له أثرا، ولا لتلك الكلمة أصلا، ولم يعثروا بشجرات للحرية ترويها «مرشات» مفعمة بالدماء؛ إذ لم يكن من ديدن خطباء اليونان، ولا مذهب كتاب الرومان أن يستخدموا مثل هذا التصوير، أو يعمدوا إلى وحشية ذلك التعبير.
وأكبر ظننا أن الخطيب إنما أراد بكذب هذا الإسناد أن يزيد في رهبة كلمته وقسوتها وتأثيرها، ولم يكن الناس يومذاك يحفلون بالرجوع إلى الكتب حتى يتحققوا، أو يقتنعوا مما يقال لهم، فمرت هذه الكلمة حلوة في آذانهم، صادقة لا ظل للريبة على حقيقة اقتباسها، وصحة الرواية فيها.
وفعلت الكلمة ما أريد منها، وما كان الخطيب يقصد إليه من قولها، وهل كان لكلمة يوما ما كان لتلك من التأثير، وما أدت إليه من النتائج، وأي تأثير لعمرك لكلمة كان معدل القتلى من فعلها ثلاثمائة مشنوق في الأسبوع!!
وقد كان خليقا بثورتنا التي هبت ريحها منذ أعوام ثلاثة أن تحدث ثورة في الآداب، ونهضة في اللغة، وتطورا في الفنون، وأن تحطم المبادئ البالية، وتهدم معاقل الجمود الاجتماعي، وتعفي على أثر العقائد الفاسدة، والآراء العفنة، وأنظمة الحياة الضالة الموبوءة؛ وتترك أثرا لها في الأسرة؛ والزواج، والصحافة، والبيت، والمعهد، والسوق.
ولكن وا أسفاه لم تفعل شيئا من ذلك، فقد مضينا نزيل قضبان السكك الحديدية، ونخرب الدور؛ ونهدم المحطات، وتوقف القطارات؛ فحطمنا ما كان يجب أن نترك، وتركنا ما كان أولى بنا أن نحطم، فظللنا كما كنا قبل النهضة أذهانا ونقوسا، وعقائد ومبادئ، بل لقد انتشرت الفوضى في الأدب، فخرج إلى الناس جرذان قذرة تحمل أقلاما تسود بها أنهار الصحف، واختفى الكتاب الحقيقيون أمام الأوغال الأوكال، وقبالة غلمان لم يكونوا يوما كتابا، وإنما جعلتهم الفوضى كذلك، ولم نلبث أن سمعنا بأسماء لم نكن نعلم بها، وبألقاب جديدة منحوها، أو سيقت لهم.
فكل من نشرت له صحيفة من الصحف أسطرا ضئيلة المعنى، خجلة في وسط بقية أنهار الصحيفة، صبية لا عقل لها، ظن أنه الكاتب الذي سيفتح بقلمه مغاليق الفكر، وسيأتي بالاستقلال «غير مشكوك» في «أنه التام»، ومشى بالمقالة إلى مشارب الحانات، وسقائف القهاوي، يدل عليها صحابه، وأخذها صحابه إلى صحابهم، ودارت في الحي الذي يسكنه، ومن ذلك الحي إلى العطفة المقابلة، والشارع الملاصق، وكذلك تكتسب منه الصحيفة، ويكسب هو من ورائها شهرة في وطنية كاذبة، وكذبا في شهرة زائلة، ولقد كانت كثرة أولئك المحسوبين على الكتاب المرفوضين من الوظائف، والمتبطلين والعاطلين الذين يجوبون سحابة النهار طرق المدينة متلفتين متلددين، هي التي أدت إلى ذلك الخطب العظيم الذي تعاني منه البلاد، وإلى تلك الفرقة في الصفوف، والثغرة في البنيان المرصوص، وأولئك هم الذين قسموا الناس في الحق الواضح الأبلج أقساما، وأشاعوها شيعا، وجعلوا الأمة تركب رأسها لا تدري أي الحزبين في مبدأ الأمر أجدى لها، وأحق بالنضح عنها، وهم الذين أفسدوا علينا أذهاننا، وعكروا صفاء نفسيتنا، وانتقصوا في العالم الذي ينظر إلينا من كرامتنا، وأزاغوا أبصار العامة، فلا تبصر من الحق غير وجهة واحدة، ولا تريد أن يزحزحها مزحزح عن عقيدة ضالة لديها، وهم الذين شوهوا حركة الأدب، وجعلوا كبار الكتاب يسكنون إلى نفوسهم، فلا يخرج من أقلامهم شيء من مادة ذلك الوحي الإلهي الذي ترسله السماء ينزل على أفئدتهم، وقد انصرمت هذه الأعوام خرساء لم يسمع فيها تغريد عصفور من تلك الأطيار الجميلة، ولم يخرج كتاب واحد يستحق خلودا؛ واضطجعت الكتب القيمة على رفوف المكاتب، فلا تمد إليها الأيدي، ولا تفتح صدورها، حتى تستنشق الهواء، وحتى ترسل في الأذهان تلك الحدة التي تنمو بفضلها، فنحن اليوم راكدون آسنون، تقتلنا قتلا بطيئا تلك الأمواه العفنة التي تقدم إلينا لشرابنا، وشفاء غلتنا، ولو أنك علمت بعدد الطلبات، والعرائض التي ركمت في الحكومة نائمة هادئة في أماكنها، والملتمسات التي يطمع بها أصحابها أن ينالوا من أولي الشأن في البلاد إجازات، ورخصا ليكونوا صحفيين، وأصحاب مجلات ونشرات وصحف، وهي تفوق العد، ولا يتناولها الحصر، وتستغرق سجلا ضخما لتدوينها؛ لأدركت هذه اللوثة المختفية التي أخذت بأدمغة فريق من هذه الأمة عجزوا عن سد أرماقهم من طريق العمل الجدي، والدأب على الحياة، فجعلوا الوطنية مرتزقا، وأداة عيش، وأسلوبا من أساليب الشعوذة، والحيل الهندية.
وكذلك حق علينا قانون الطبيعة الذي لا يخطئ ولا يضل، فإن هذه الرجعى التي نحن اليوم فيها، لا نزال نرى لها أثرا في المحسوسات، فكما يمضي «بندول» الساعة منطلقا في ناحية، تراه مهتزا قدر ما اهتز في الناحية الأخرى، وكما يتلو نشوة المساء أمام مائدة الشراب، وأقداح المشمولة الصهباء، خمار الصباح، ونومة الضحى، وألم الغداة.
Bilinmeyen sayfa