Nefha Zakiyya
النفحة الزكية في تاريخ مصر وأخبار الدولة الإسلامية
Türler
المطلب الأول في الدولة الفاطمية
قد نشأت هذه الدولة ببلاد المغرب حين اضطربت أحوال الدولة الأغلبية بها؛ فإن قوما من الشيعة منهم أبو عبد الله الشيعي تمكنوا من إشهار الدعوة لآل البيت بتلك البلاد بمساعدة الأدارسة لهم، وبايعوا رجلا يدعى عبيد الله من قبيلة كتامة القاطنة بجوار مدينة سلجماسة في الغرب الأقصى، يدعي أنه المهدي وأنه ينتسب إلى علي وفاطمة، فنبغت هذه الدولة الفاطمية أو العلوية المسماة أيضا بالعبيدية بالقيروان سنة 296ه بعد قلب دولة الأغالبة في أيام الخليفة العباسي المقتدر بالله، وقد عزا عبيد الله لنفسه الأحقية في الخلافة فتلقب بأمير المؤمنين، وعمل على محو إمامة العباسيين؛ فبعد أن وطد سلطته على صقلية وسردينيا المفتتحتان في أيام الدولة الأغلبية، وضرب الجزية على أمير الأدارسة بالغرب الأقصى وعلى العائلات المستقلة بمكناسة وسلجماسة وغيرهما، وجه أنظاره إلى مصر. غير أنه لم يمكنه أن يتملك على أكثر من صحراء ليبيا وبرقة، وترك إتمام مشروعه إلى خلفائه؛ فاهتم القائم بأمر الله ثم المنصور في أخذها من الإخشيديين فلم يمكنهما؛ غير أنهما تملكا على بعض بلادها ، فلما خلفهما المعز لدين الله تمكن من فتوح مصر على يد قائده جوهر سنة 358ه، فكان هو أول الخلفاء الفاطميين بمصر ورابعهم بالمغرب، وهم أربعة عشر، استقر منهم بمصر أحد عشر؛ من أول المعز حيث انتقل إليها بعائلته، وأما الثلاثة الأول فكان مركز حكومتهم بالمهدية التي أسسها عبيد الله المهدي بعد أن تملك على القيروان على بعد خمسة وخمسين فرسخا من تونس، وانتقل إليها، وقد امتدت سلطة هذه الدولة بعد تملكها على مصر والشام على جزء من أرض الجزيرة ومن بلاد العرب. وقد أحسن المعز لدين الله ثم ابنه العزيز بالله التصرف.
وأما الحاكم بأمر الله الذي خلفهما فكان من أسوأ الملوك؛ قضى على رعيته في مدة الأربع والعشرين سنة التي حكمها بأدنى الطاعة وأذل الخضوع؛ فقد كان الكل يرتجف أمامه لوجود العبيد مسلحة حوله مستعدة لقتل كل من يقع منه ما لا يستحسنه، وكان رديء السيرة؛ كل أفعاله محض اختلال؛ فقد أمر مرة بإحراق القاهرة ليتمتع بمشاهدة مدينة تحترق، وأخرى سمح لعساكره بنهب المدينة، وكثيرا ما كان يضطهد اليهود والنصارى حتى يخرجوا عن أديانهم ثم يسمح لهم بالعود إليها، وقد أمر الناس بسب الصحابة ثم منع سبهم وعاقب من يسبهم أشد العقاب، وهكذا كانت أفعاله تشهد عليه بالجنون والزندقة، وله في الأضاليل مذهب معروف؛ وهو الذي بنى الجامع المسمى باسمه بالقرب من باب الفتوح، وقد قتل بالجبل المقطم سنة 411ه، فخلفه ابنه الظاهر لإعزاز دين الله، ثم المستنصر بالله بن الطاهر وله من العمر سبع سنوات، فطالت مدته ومكنت نحو الستين سنة، وهي مدة لم يحكمها خليفة غيره؛ إلا أن أيامه كانت أسوأ الأيام وأشدها على الأهالي ضنكا وبؤسا؛ فإنها كانت كلها فتن وحروب داخلية وخارجية وقحط وغلاء، وفيها انفصل عن مصر الشام وغيرها من الولايات التابعة لها، وكانت أمه جارية سوداء باعها إلى الخليفة الظاهر رجل يهودي يدعى أبا سعيد سهل، فلما تولى الخلافة ابنها أدخلت بائعها في الملك، واتخذته مستشارا لها، وصارت تعمل معه الدسائس على خلع الوزراء وتوليتهم ، فكثر تغييرهم، فأهملت الأشغال وصار ينقص إيراد الحكومة يوما فيوما وتزداد مصاريفها، وصارت جميع ولايات المملكة في حالة يرثى لها من الفقر ونقص السكان، ومما أوقع مصر في الاضمحلال الكلي والفاقة الكبرى المشاجرات التي وقعت بين العساكر وخفراء القاهرة، وكان ذلك الخفر مكونا من عساكر عبيد تحت حمى الملكة أم الخليفة ومن عساكر أتراك مكونين لمعظم الجيش، وكان المستنصر في كل سنة في زمن الحج يظهر أنه يريد الحج فيخرج من القاهرة مصحوبا بكثير من الرجال والنساء ومعه الأبواق والنوبات، ويذهب إلى بركة الحج مجمع الحجاج فيفرق على عساكره نبيذا ويبيتون سكارى ثم يعود إلى قصره؛ ففي بعض السنين بينما هم في هذا الانهماك إذ ضرب أحد العسكر الأتراك السكارى واحدا من العبيد، فقبض أصحاب العبد على التركي وقتلوه، فانتشبت الحرب بين الأتراك والعبيد، ووقعت بينهم حروب عديدة كانت نتيجتها أن أفنى الأتراك العبيد واستولوا على السلطة، وصار الخليفة حقيقة هو رئيسهم ناصر الدولة، وضيقوا على الخليفة؛ فلا زالوا يطلبون منه زيادة ماهياتهم حتى نفدت جميع أمواله، فنهبوا قصره حينئذ، وأخذوا ما فيه من أمتعة وحلي، وكان الخليفة ووزيره يحضران هذا السلب باكيي العين، ولم يجسر أحدهما أن يتكلم، وقد خربوا الكتبخانة العظيمة؛ فأعدموا منها مائة وعشرين ألف كتاب من الكتب النفيسة التي بخط اليد، وأخذ العربان كثيرا من المجلدات الحسنة التجليد، وصاروا يعملون من جلدها نعالا.
وانتزعت الشوكة من المستنصر كلية، فلم يبق تحت طاعته عسكر واحد ولا في تصرفه دينار واحد، ولم يكتف ناصر الدولة بذلك، بل أراد أن يجعله من الخلافة أيضا، غير انه اختلف عليه بعض الأتراك وتحزبوا مع المستنصر، فحاربه المستنصر بهم وهزمه، فالتجأ إلى الإسكندرية واستقل بالوجه البحري وخطب فيه للعباسيين، ثم وقع بمصر غلاء كثير ومجاعة عظيمة كانت شدتها سنة 462ه، فبيع الأردب القمح بمائة دينار والبيضة بدينار والقط بثلاثة دنانير والكلب بخمسة، حتى تعذر على الأغنياء فضلا عن الفقراء الحصول على أقل المأكولات، وصار أهالي القاهرة يأكل بعضهم بعضا، وقد لحق القحط الخليفة كغيره؛ فباع ما بقي عند من الجواهر والحلي حتى ملابس حريمه بأبخس الأثمان من شدة الجوع، وقد صحب هذا القحط الطاعون كما هي العادة؛ فكانت الأموات تعد بالألوف حتى خلت القاهرة من سكانها؛ فإن من بقي له مقدرة على المشي ترك المدينة، وذهب إلى الخلاء قاصدا جهة الشام.
أما ناصر الدولة فقد حجز غلال الوجه البحري عن القاهرة، ثم أتى لمحاصرتها بعد أن حرق كل ما في طريقه، فلم يقدر الخليفة على مقاومته فخضع له، فلما دخل ناصر الدولة القاهرة عزم على أن يلزم الخليفة بغرامة الحرب، فاستقبله المستنصر في قصر متخرب جالسا على حصير خشن وليس عليه إلا قفطان قديم، وما عنده من الخدم سوى ثلاثة عبيد عرايا قد بلغوا من العمر أرذله، وقال له: ما تريد مني؟! أنت تعلم أنك لم تبق لي شيئا، فإن أردت ثيابي الرثة وحصيري وعبيدي الثلاثة فخذهم أيضا، فخجل ناصر الدولة، ورتب له مائة دينار شهريا لمؤنته. واستمر ناصر الدولة في السلطة حتى قتله صهره الدقوز واستولى هو عليها، فلما تعب المستنصر من الأتراك دعا بدر الجمالي أمير دمشق بالحضور إلى مصر ليسلمه أمورها فحضر من الشام بمن انتخبهم من جنوده من طريق البحر الأبيض المتوسط، ولما وصل إلى القاهرة صنع وليمة، وعزم فيها رؤساء الأتراك، وأجرى فيهم مذبحة عظيمة، ثم أمر بقتل كل من كان تحزب معهم أو ساعدهم، فخلع عليه المستنصر خلع الوزارة، ولقبه أمير الجيوش، وقلده وزارة مصر الإدارية والعسكرية، فعدل في الرعية وأصلح البلاد ورد إليها رونقها القديم؛ فقد وجه أنظاره إلى التجارة والزراعة؛ فأعاد الفلاحين إلى زراعتهم، ورفع عنهم الضرائب مدة ثلاث سنين حتى ترجع للأرض خصوبتها، وشجع الصناع والتجار، فعادوا إلى المدينة بعد أن كانوا خرجوا منها، وهو الذي شيد بالقاهرة باب زويلة وباب النصر وباب الفتوح والسور المتصل بها، ثم مات هو والمستنصر في ذي الحجة سنة 487ه، فمن بعدهما ابتدأت الحروب الصليبية؛ فكانت هي الشاغل الوحيد للخلفاء الفاطميين المستعلي بالله والآمر بالله والحافظ لدين الله والظافر بأمر الله والفائز بنصر الله والعاضد لدين الله، ولوزرائهم الذين لا تزال السلطة في مصر بأيديهم إلى أن انقرضت الدولة سنة 567ه في أيام العاضد لدين الله آخر خلفائها؛ فقامت بمصر حينئذ الدولة الأيوبية بظهور صلاح الدين يوسف بن أيوب.
المطلب الثاني
في استيلاء الفاطميين على مصر وتأسيس القاهرة والجامع الأزهر
قد كان استيلاء الفاطميين على مصر في عهد المعز لدين الله معد أبي تميم رابع خلفائهم بالمغرب، الذي تولى الخلافة بعد موت أبيه المنصور سنة 341؛ وذلك أنه لما كتب له أعيان مصر في التملك عليها سير إليها جوهر الصقلي قائد الجيوش الفاطمية، فانتهز جوهر فرصة الشقاق الذي كان بين الأمراء الإخشيديين، واستعد لفتوح باقي البلاد المصرية بالقوة والغلبة، فقدم مصر في شعبان سنة 358، ولما وصل الجيزة عبر الجسر ونزل في شمال الفسطاط بموضع القاهرة، وأناخ هناك بمن معه من الجند، ففتح له أهالي الفسطاط أبوابها، فتملك على المدينة في شهر رمضان من تلك السنة وأقام الخطبة للمعز لدين الله في الجامع العتيق جامع عمرو في شهر شوال من السنة المذكورة، فكان ذلك دلالة على تمام فتوح مصر، فلما تم له فتوح مصر بلا ضرب ولا طعن واستقر بها وثبت قدمه فيها أغار على بلاد الشام، وضمها إلى ممالك المعز التي كانت تمتد بأفريقيا من مصر إلى الأقيانوس الأطلانطيقي وبجزائر البحر الأبيض المتوسط، فاتسعت حينئذ دائرة ملك الدولة الفاطمية وعظمت شوكتها.
ولما استتبت الراحة والأمن بأرض مصر شرع أبو الحسن جوهر في تشييد عاصمة جديدة لها ليفاخر بني العباس ببنائهم بغداد، فأخذ في تخطيط القاهرة سنة 359 هجرية، فأدار على مناخه الذي نزل فيه بالعسكر سورا يبتدئ من حدود الفسطاط ويتجه إلى الشمال متباعدا عن الشاطئ الشرقي للنيل، ثم يتجه إلى الجنوب لغاية أسفل الجبل المقطم حتى يعود إلى حدود الفسطاط ثانيا، فكان بداخله الجهات المسكونة قبلا؛ القطائع والعسكر وطولون، وبنى بالمدينة قصرين سكنهما الخلفاء الفاطميون، وكان تمام بنائهما سنة 361ه، فعزم المعز لدين الله على ترك ممالكه المغربية والانتقال إلى بلاد مصر ليتمتع بفتوحاته، فركب البحر في أواخر شوال من هذه السنة، ونزل على سردينيا أولا ثم على صقلية وكانتا من ضمن ممالكه، وبعد أن مكث بضعة أشهر في هاتين الجزيرتين ونظم أحكامهما ارتحل إلى طرابلس الغرب، ثم سافر إلى الإسكندرية ومنها إلى القاهرة، فدخلها في رمضان سنة 362ه، وسكنها بجميع أولاده وأهله، وجعلها مركز حكومته، واتخذ جوهرا وزيرا له، فأسس الجامع الأزهر وأسس فيه كتبخانة عظيمة، وجعله مدرسة للعلم الشريف تدرس فيه جميع العلوم النقلية والعقلية، حتى صار أشهر مدرسة في الشرق، وأبهج مكان يؤمه الناس من سائر الأقطار الإسلامية لطلب العلم، وصارت القاهرة مقر المعارف. أما المعز لدين الله فلم يمكث زمنا طويلا في عاصمة بلاده الجديدة؛ فقد توفي بها في ربيع الآخر سنة 365 وعمره خمس وأربعون سنة ونصف، بعد أن حكم ثلاثا وعشرين سنة ونصفا؛ منها ثلاث تقريبا بمصر والباقي بالمغرب، وقد كان المعز عالما فاضلا جوادا شجاعا حسن السيرة منصفا للرعية.
الفصل الثاني
Bilinmeyen sayfa