Nefha Zakiyya
النفحة الزكية في تاريخ مصر وأخبار الدولة الإسلامية
Türler
فقاموا بالأمر من بعده على التعاقب مدة ثلاثين سنة نشروا في أثنائها الديانة المحمدية نشرا عظيما، وأوسعوا الدولة الإسلامية اتساعا غريبا؛ فقد كانت مدتهم أعظم المدد الإسلامية في تعظيم الدين ونشره بالفتوحات خصوصا خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه هو الذي فتح معظم فتوحات تلك المدة؛ فإن أبا بكر لقصر مدته وخروج معظم قبائل العرب في مبدأ الأمر عن طاعته لم يتمكن إلا من فتوح بلاد العراق وجزء صغير من بلاد الشام، فإنه بعد أن رد القبائل المرتدة إلى الطاعة وأوجد وحدة بلاد العرب على يد خالد بن الوليد وغيره من الأمراء أمر هذا القائد بالمسير إلى بلاد العراق فافتتحها، وتملك على الحيرة والأنبار، ثم سيره أبو بكر رضي الله عنه من هناك إلى بلاد الشام لمساعدة أبي عبيدة بن الجراح الذي كان أرسله لفتوح تلك البلاد، فافتتحا بعض بلادها، فلما تولى الخلافة عمر بن الخطاب أتم فتوحها على أيدي هذين القائدين وذهب بنفسه للمعاهدة مع بطريرق بيت المقدس، ثم افتتح أرض الجزيرة، فصارت حينئذ جميع قبائل العرب بدون استثناء أمة واحدة خاضعة لأمير واحد، ثم دخلت جيوشه بلاد أرمينية، ووصلت إلى بلاد القوقاز، وقد سير عمرو بن العاص لفتوح مصر ففتحها، وضم إليها برقة وبلاد النوبة، وأرسل سعد بن أبي وقاص لفتوح بلاد العجم، فوصل العرب إذ ذاك إلى حدود بلاد الهند، ودخل في حوزتهم خراسان وخوارزم، ثم زاد عثمان بن عفان رضي الله عنه على ذلك أفريقية التي افتتحها عبد الله بن أبي سرح عامله على مصر، وجزائر قبرص وكريد وكوس ورودس بالبحر الأبيض المتوسط التي افتتحها معاوية عامله على الشام، فصارت مملكة العرب ممتدة حينئذ من حدود بلاد الهند شرقا إلى البحر الأبيض المتوسط وبلاد أفريقية غربا، ومن شواطئ نهر جيحون وبحر الخزر شمالا إلى الأقيانوس الهندي وبلاد النوبة جنوبا.
هذا ومع عظم هذه الدولة وما كان عليه هؤلاء الخلفاء من السلطة والشوكة، فإنهم لم يخرجوا عن حالة الزهد والقناعة التي كانوا عليها أيام النبي
صلى الله عليه وسلم ؛ فلم يلتفتوا إلى زينة أو فخار أو ثروة، بل استمروا على عيش الكفاف والأخذ بناصر الضعيف والنظر إلى الفقراء والمساكين؛ فإن عمر رضي الله عنه لما سافر من المدينة إلى فلسطين للتملك على بيت المقدس لم يصحب معه سوى غلام له، وكان راكبا على ناقة يتناوبها مع غلامه حاملا على مقدم رحلها حقيبتين مملوءة إحداهما دقيقا والأخرى تمرا، ومعلقا عليه مزادة ماء، وكان يتصدق من ذلك على من صادفه في طريقه. وقد كان هؤلاء الخلفاء رضي الله عنهم يقضون في الأحكام بغاية الحكمة والعدالة ؛ فإنهم كانوا يسوون بين الغنى والفقير، والرفيع والحقير؛ يؤيد ذلك ما وقع في أيام عمر رضي الله عنه؛ حيث قال لجبلة بن الأيهم ملك الغسانيين حين اشتكاه إليه رجل: إما أن ترضيه بالمال أو يلطمك كما لطمته. فقال له جبلة: ألا يفضل عندكم ملك على سوقة؟ قال: كلا، بل كلاهما في الحق سواء. وقد بويع لهم جميعا بالمدينة فاتخذوها مركزا لحكومتهم، إلا عليا رضي الله عنه؛ فإنه انتقل منها إلى الكوفة ببلاد العراق ليتمكن من إقماع الذين خرجوا عن طاعته، ولم يزل بها حتى قتل، فبويع لابنه الحسن بها، فلم يلبث أن تنازل عن الخلافة لمعاوية أمير الشام، فانتقلت الخلافة حينئذ إلى بني أمية.
المطلب الثاني
في ذكر عمرو بن العاص وفتوح العرب لمصر
قد كان فتوح العرب لمصر في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب؛ فإنه بعد أن عاد إلى المدينة من فتوح بيت المقدس رد معه من جيش الشام عمرو بن العاص ليسيره إلى مصر، وكان عمرو بن العاص هو الذي يحرض أمير المؤمنين عمر بن الخطاب على فتوحها، وكانت مصر إذ ذاك تابعة لمملكة الرومانيين الشرقية التي كان تخت ملكها بمدينة القسطنطينية، وكان عليها عاملان من قبل هرقل قيصر الرومانيين؛ أحدهما وهو الحاكم على الأقاليم البحرية كان من القسطنطينية ومقيما بسكندرية، والآخر وهو الحاكم على أقاليم مصر الوسطى كان يدعى المقوقس ومقيما بمدينة منف، وكان يوناني الأصل مصري المولد.
فلما أمر عمر بن الخطاب عمرو بن العاص بالمسير إلى مصر جهز له جيشا مؤلفا من أربعة آلاف رجل، فسار عمرو بهذا الجيش قاصدا أرض مصر سنة 18ه، فلما بلغ رفح، وهي قرية تبعد عن العريش بعشر ساعات، وصله كتاب من أمير المؤمنين يأمره فيه بالانصراف عن مصر إن لم يكن قد دخلها، فلم يفتحه عمرو بن العاص حتى وصل إلى العريش، ففتحه وتلاه على الجمهور بعد صلاة الفجر، ثم سار حتى وصل إلى مدينة الفرما، فحاصرها شهرا وتملك عليها، ثم تقدم إلى بلبيس وتملك عليها بعد أن حاصرها نحو شهر أيضا، وأسر بها أرمانوسة بنت المقوقس، وسيرها إلى أبيها مكرمة في جميع مالها، ثم سار قاصدا مدينة منف فوصل إلى حصن بابل، وهو حصن على الشاطئ الأيمن للنيل، بينه وبين الجبل المقطم في الشمال الشرقي لمنف، متصل بجزيرة الروضة بواسطة جسر من الخشب، كما أن هذه الجزيرة متصلة بالشاطئ الغربي بواسطة جسر آخر، وكان المقوقس قد تحصن فيه بعساكر المصريين لمقاومة العرب، فنزل عمرو برجاله فيما بين الحصن والجبل المقطم، وأخذ في المهاجمة عليه مدة فأبطأ عليه فتحه، فكتب إلى الخليفة يستمده فأمده بأربعة آلاف عليهم أربعة من القواد؛ وهم الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود وعبادة بن الصامت ومسلمة بن مخلد أو خارجة بن حذافة، على القولين، وشدد الحصار على الحصن، فلما رأى المقوقس إقدام العرب وصبرهم على القتال ورغبتهم فيه، خاف أن يظهروا على رجاله، فعمد برجاله إلى باب الحصن الغربي على ضفة النيل، وعبروا على الجسر إلى الجزيرة تاركين نفرا قليلا في الحصن، أما العرب فقد تسوروا الحصن، وفي مقدمتهم الزبير بن العوام، فهرب من بقي فيه، فنزل الزبير وأصحابه إلى باب الحصن ففتحوه، وتملكوا على الحصن بعد أن حاصروه سبعة أشهر، ثم عمدوا إلى الجسر فتعقبوا القبط إلى الجزيرة، فسار هؤلاء إلى منف عاصمة ولايتهم، وبعد أن عبروا النيل رفعوا الجسر عنه فتوقف العرب عن تعقبهم؛ حيث لم يستطيعوا عبور النيل، فأخذ المقوقس حينئذ في مكاتبة عمرو بأمر الصلح، فبعث إليه عمرو عشرة أنفار في مقدمتهم عبادة بن الصامت للمخابرة معه على أن يقبلوا واحدة من ثلاث: إما الإسلام أو الجزية أو الجهاد، ثم اجتمع عمرو والمقوقس وعقدوا معاهدة الصلح على أن يعطى للمصريين الأمان على أنفسهم وأموالهم وأولادهم، وهم يدفعون الجزية للمسلمين.
ولما تم التعاهد بين المسلمين والقبط هاجر جميع من كان بين هؤلاء من الروم ملتجئين إلى الإسكندرية، أما عمرو فعزم على النزول على الإسكندرية، وكانت محصنة تحصينا عظيما، وبها كثير من العسكر، فأمر عسكره بالرحيل إليها، فبينما هم يحملون للمسير وإذا بعمرو قد أخبر بأن زوج يمام قد باض على خيمته وأشرف على الفقس، فأمر عمرو بترك المخيمة قائمة إلى حين رجوعه من فتوح الإسكندرية، ثم سار قاصدا هذه المدينة، فحاصرها المسلمون أشهرا وهم لا يتمكنون من فتحها لشدة تحصينها، ثم ضيق عمرو الحصار عليها حتى التزم المحاصرون بعقد الصلح بعد مدافعة شديدة، فسلموا المدينة بعد حصارها أربعة عشر شهرا، فدخل عمرو مدينة الإسكندرية في أول يوم جمعة من شهر المحرم سنة 20 هجرية وقت صلاة الجمعة، ثم كتب لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب يخبره بفتوحها وما تحتوي عليه، فكتب إليه عمر يهنئه بالظفر، وولاه عاملا على الديار المصرية، فوضع الحرس الكافي في الإسكندرية، ورجع إلى الموضع الذي كان ترك فيه خيمته وعسكر هناك بجيوشه على شاطئ النيل، فبنت العسكر في أول الأمر حول الخيمة أكواخا صغيرة، ثم شيدت الأمراء ورؤساء الجيوش قصورا مشيدة، فتكون من مجموع هذه المباني مدينة عظيمة سميت بالفسطاط، ومعناه الخيمة؛ حفظا لذكر الحادثة التي كانت سببا في تأسيسها، فجعلها عمرو عاصمة مصر، واتخذها مركزا لإقامته، وبنى بها جامعه الموجود باسمه في مصر العتيقة الآن، وتفرغ حينئذ لترتيب الحكومة، فقسم مصر إلى مقاطعات، وجعل على الإسكندرية المقوقس، وعلى الوجه القبلي عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وتولى بنفسه صلات خراجها، وكان قد جعل على كل فرد من الأهالي دينارين جزية، خلا الشيوخ والنساء ومن لم يبلغ الحلم، فجبى من الأموال سنويا 12 مليون دينار، وقد أمره عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأن يحفر خليجا من الفسطاط إلى البحر الأحمر لسهولة النقل إلى مكة والمدينة، فحفره وسماه خليج أمير المؤمنين، ولم يزل عاملا على مصر حتى عزله عثمان بن عفان سنة 26 هجرية، وولى مكانه عبد الله بن أبي سرح، فثقل الضرائب على الأهالي حتى وصلت إلى 14 مليون دينار سنويا، ثم تولى عليها قيس بن سعد ثم محمد بن أبي بكر من قبل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم عاد إليها عمرو سنة 38 هجرية من قبل معاوية ، فلم يزل واليا عليها حتى مات سنة 43 هجرية.
الفصل الثاني
وفيه مطلبان:
Bilinmeyen sayfa