Nefha Zakiyya
النفحة الزكية في تاريخ مصر وأخبار الدولة الإسلامية
Türler
فلما تم له فتوح مصر أظهر في أول الأمر علو الهمة والرأفة بالرعية والشفقة عليها، وسلك مسلك الأمن والراحة فلم يخل براحة البلاد وأمنيتها، بل أبقاها على عبادتها، وميز من بقي من المصريين بعلامات الامتياز، وقرب منه أمناء الديانة المصرية، ليتعلم ما اشتهروا به من العلوم والحكمة، ثم أراد أن يجعل مصر أساسا وطيدا لمشروعه، وهو أن يفتتح جميع بلاد أفريقية، فأرسل لغزو جمهورية قرطاجنة سفنا أعدها ببحرية من الفينيقيين، وكان هؤلاء الفينيقيون هم الذين عمرت قبائلهم مدينة قرطاجنة، فامتنعوا عن محاربة القرطاجيين بسبب القرابة التي بينهم، ووجه فرقة من جيشه تبلغ 50 ألف مقاتل لمحاربة واحة سيوة، فضلوا عن الطريق وتاهوا في الصحراء، فهبت عليهم ريح السموم فأهلكتهم عن آخرهم ولم ينج منهم أحد، وسار بنفسه لمحاربة بلاد الإثيوبية، واتخذ طريقه من الصحراء لكونها أقرب طريق، فانحرف عن شواطئ النيل، وأوغل بعساكره في الصحراء، فنفد زاده ولحق جيشه القحط والجوع حتى أكل بعضهم بعضا بالاقتراع من كل عشرة أنفار واحد ممن تقع عليه القرعة، فخسر خسائر عظيمة، وخاف على نفسه الهلاك فالتزم بالعودة إلى مصر بباقي جيوشه بعد أن فقد منهم كثير، فلما رجع إلى مصر استعمل مع أهلها القسوة بدل الرأفة وصارت أفعاله من يومئذ كلها اختلالات ومفاسد؛ فإنه لما وصل إلى مدينة طيبة أراد تعويض تلك الخسائر الجسيمة ، فسلب أمتعة الهياكل وزينتها وذخائرها . ولما وصل إلى منف صادف دخوله فيها يوم الاحتفال بموسم إقامة العجل المسمى أبيس على التخت المعد لإقامته، فظن أنهم فرحون مستبشرون بهزيمته فقتل الكهان وأمراء الأديان وأرباب الحل والعقد دون أن يسألهم عن الأسباب، وطعن أيضا العجل معبودهم بخنجر فأدماه، ثم دخل معبد منف وسخر بتماثيل تلك العجول، ونهب جميع ما كان في المقابر القديمة، فنبش القبور طمعا فيما يوجد بها من النفائس القديمة، ولم يسلم من أعماله الذميمة قومه ولا أهله؛ فقد قتل كثيرا من أمراء العجم ودفن البعض حيا، وقتل أخاه وأخته التي تزوج بها على خلاف عادتهم، وقتل ابن أحد وزرائه ليبرهن لأبيه على صحوه مهما تعاطى من الشراب وغير ذلك، ثم خرج من مصر يريد الرجوع إلى بلاده، فمات ببلاد الشام قبل الوصول إليها بعد أن حكم سبع سنوات وخمسة أشهر.
ثم اجتهد المصريون مرارا من بعده في الخروج عن طاعة العجم والاستقلال بأنفسهم، حتى تمكنوا من ذلك سنة 1028ق.ه لاختلال مملكة فارس في ذاك الحين، فاستقلوا بحكم أنفسهم نحو الستين سنة (1028-962ق.ه)، فقام بمصر في تلك المدة ثلاث عائلات مصرية؛ وهي الثامنة والعشرون والتاسعة والعشرون والثلاثون، واجتهد المصريون في تحصين حدودهم تحصينا عظيما خوفا من العجم. غير أن ذلك لم يجد نفعا؛ حيث لم يمكنهم مقاومة العجم عندما أغاروا عليها في المرة الثانية، بل إن آخر ملوكهم المدعو نقطنبو الثاني بعد أن قاوم العجم مقاومة شديدة جمع أمواله وهرب إلى بلاد النوبة، فدخلت مصر حينئذ تحت حكم العجم ثانيا، فأسسوا فيها العائلة الحادية والثلاثين، ومنهم انتقلت إلى اليونانيين بظهور الإسكندرية الأكبر حيث أغار عليها سنة 954ق.ه، وأخذها من يد دارا الثالث آخر ملوك العجم.
الباب الثاني
في ذكر مصر تحت حكم اليونان، وفيه فصلان
لما أفرغت دولة العجم في دولة الإسكندر الأكبر بإغارته عليها صارت مصر كباقي دول الشرق القديمة التي كانت تحكم حكم العجم جزءا من دولته، ثم مكثت تحت حكم اليونانيين مدة 302 سنة (954-652ق .ه)، فأسسوا فيها عائلتين: الثانية والثلاثين، وهي الدولة المقدونية ؛ أي مدة تبعيتها لدولة الإسكندر الأكبر، والثالثة والثلاثين، وهي الدولة البطليموسية؛ أي مدة استقلالها تحت حكم عائلة بطليموس أحد قواده.
الفصل الأول
في الإسكندر الأكبر وفتوح اليونانيين لمصر
قد كان الإسكندر الأكبر ملك مقدونية إحدى أقسام بلاد اليونان الشمالية رجلا عالي الهمة شديد الذكاء حميد الخصال جميل الصورة، وقد أكفل أبوه بتربيته الفيلسوف الشهير أرسطاطاليس فأحسن تربيته، واستخلفه على الملك وعمره سبع عشرة سنة مدة تغيبه في حرب طراسة، فقام بأعباء الملك، وكانت تلوح عليه من صغره سمة الفطنة والشجاعة، فلما مات والده، فيلبش ملك مقدونية استولى على المملكة وعمره عشرون سنة، فلم يلبث أن خرج عليه بعض الأمم التي أخضعها أبوه ببلاد اليونان وشواطئ الدانوب؛ أي الطونة، فأرجعهم إلى الطاعة بعد أن هزمهم شر هزيمة، حتى ارتجفت منه بقية المدن اليونانية، وأذعنت له بالطاعة بكل خضوع، ثم عزم على محاربة العجم فعبر بوغاز الدردانيل المسمى قديما هلسبونت بجيش مؤلف من 35000 مقاتل، وتلاقى بجيوش العجم عند نهر جرانيقة، فهزمها واستولى على جميع آسيا الصغرى بدون أدنى مقاومة، أما ملك العجم دارا الثالث فجهز جيشا مؤلفا من 500000 مقاتل، وحضر لملاقاته فقابله عند مدينة أسوس، وحصلت بينهما واقعة عظيمة انهزم فيها دارا وهرب في داخل بلاده، وترك أمه وأخته وامرأته وأولاده في المعركة فوقعن أسرى في يد الإسكندر، فعاملهن أحسن المعاملة، ثم اتجه إلى بلاد الشام كي يتملك على جميع الشواطئ البحرية، ودخل بلاد فينيقية ففتحت له جميع مدنها أبوابها إلا مدينة تير وهي صور؛ فإنه لم يتمكن من فتحها إلا بعد حصارها سبعة أشهر، ثم تملك على غزة أيضا، ودخل مصر من طريق بيلوز وهي الفرما، فخضعت له بكل سهولة لبغضها لحكم العجم، ولما وصل إلى مدينة منف أخذ يتفرج في داخل البلاد، وعامل أهلها بالحلم والعدل، ورتب إدارتها ونظم سياستها، ولم يغير شيئا من عوائد أهلها القديمة، ثم نزل النيل حتى وصل إلى قرية راقودة الواقعة بالبرزخ المحصور بين بحيرة مريوط والبحر الأبيض المتوسط، فاستحسن جدا موقع هذا البرزخ، واختاره موضعا لمدينة الإسكندرية، فخطط بنفسه أساساتها سنة 954ق.ه، وأناط المعمار المسمى دينوقراطس بإجراء العمل، ودخلت راقودة في سورها، وبقي اسم راقودة لخطة بالإسكندرية بنيت على آثارها، ثم توجه الإسكندر من هناك إلى معبد آمون في واحة سيوة واستجوب الكهانة، ولم يظهر نفسه، فعرفه الكهان وأعلنوا بأنهم يعهدون أنه ابن المشتري، وقد خضعت له مستعمرة كيرينة اليونانية أيضا، وهي طرابلس الغرب الآن حينما توجه إلى واحة سيوة.
وأما دارا فقد جمع بوادي الدجلة والفرات جيشا ضعف جيشه الأول الذي انهزم في واقعة أسوس، فخرج الإسكندر من مصر، ورجع على عقبه إلى بلاد الشام، ثم عبر نهري الفرات والدجلة، وتلاقى معه في سهل إربل، فهزمه أيضا، وهرب دارا إلى مدينة أكبتان، وهي همذان، فلم يقتف الإسكندر أثره، بل اتجه جنوبا، وتملك على بابل وسوس وبرسيبوليس وباسارجاد من عواصم مملكة العجم، ثم اتجه شمالا حينئذ ليقتفي أثره، فوصل إلى مدينة أكبتان. غير أن دارا كان قد خرج منها والتجأ إلى ولاية بكتريان من ولايات مملكته، وهي قسم بخارة الآن، فقتله واليها بسوس، فلم يلبث الإسكندر أن حضر إلى مدينة بكتر، وهي بلخ، تخت هذه الولاية، وقبض على بسوس بعد أن اقتفى أثره خلف نهر أكسوس، وهو نهر جيحون، وسلمه إلى أخي دارا فأماته في العذاب الأليم.
ثم قصد الإسكندر نهر السند، فعبر هذا النهر، وأراد أن يتوغل في بلاد الهند فلم تطاوعه عساكره فنزل فيه إلى مصبه، ورجع إلى مدينة بابل من طريق صحراء جدروزية، وهي بلوجستان، فأراد أن يجعلها عاصمة دولته، وينظم أمور المملكة فأدركته فيها الوفاة سنة 945ق.ه، وله من العمر ثلاث وثلاثون سنة، فمات أثناء فتوحاته قبل أن يتمم جميع مشروعاته العظيمة التي لم تخطر على قلب بشر، وترك له من الصيت والشهرة ما ملأ أقطار العالم، وكانت دولته إذ ذاك ممتدة من البحر الأدرياتيقي والبحر الداخل؛ أي البحر الأبيض المتوسط غربا، إلى جبال إيجود؛ أي جبال هماليا ونهير هيفاز ونهر السند غربا، ومن نهر الدانوب وهو الطونة وبحر بونت لوكسن؛ أي البحر الأسود وجبال القوقاز وبحر الخزر ونهر ياكسارت؛ أي نهر سيحون شمالا إلى بحر أريطرة؛ أي بحر عمان وخليج العجم وصحراء بلاد العرب وشلال أصوان جنوبا، فاقتسمها قواد جيوشه، فكانت مصر من نصيب أحدهم المدعو بطليموس، فأسس فيها عائلة ملوكية جديدة، وهي دولة البطالسة.
Bilinmeyen sayfa